وأطلقتُ سراحي
ثبتُّ قدميّ, أخذت نفسا عميقا, ووقفت أتأمل الطيور من حولي وهي ترفرف في فضاءات محدودة بقضبان من حديد. جاهدت في تمزيق طيف عصفوري المهروس الذي عشش في ذاكرتي طويلا, وفرخ كثيرا من العصافير المهروسة, بدت كسرب انطلق وحجب عني العصافير التي كانت أمام عينيّ فأغمضتهما. فكرت أنني الرجل وقد شارفت على أبواب الأربعين, من غير اللائق برجولتي أن أبقى محجوزا بين قضبان الذاكرة, أسيرا لذاك العصفور الذي كان يرافقني أينما ذهبت, يرفرف حولي في مدارات طفولتي, فيتناثر الفرح قصاصات زينت تلك الأيام.
مازلت أذكر بداية قصتي معه, يوم فتح والدي كفه لتنفرج عن عصفور صغير مبلل بالمطر يرتجف, لم نعرف كيف وصل إلى شرفة منزلنا, مسحت على ريشه, سرى تيار الرجفان إلى يدي فانتفضت, وانتفض معها الحب في قلبي. لأيام طويلة بقي شغلي الشاغل, أطعمه, أسقيه, أزقزق معه وأرفرف بأجنحة خفية. كان ما يزال يحبو في عالم الطيران, وعندما أبحر فيه, كان حبلا متينا مجدولا من خيوط الحب والأمان قد ربط قلب العصفور إلى قلبي, فصار يحلق في الأعالي, ويعود إلى كتفي الصغير, الذي صار ميناء يرسو عليه عندما تتعب الأجنحة, لكن كتفي تحول ذات ليلة إلى حجر رحى انهرس تحتها, عندما كان نائما بجانبي على السرير.
في تلك الليلة الصيفية الحارة, أخذته من القفص حيث سرير نومه, وضعته على حافة النافذة, وشرعتها للنسمات, لهمسات النجوم, ولضوء القمر. على أجنحة الأحلام غرقت في نوم عميق, أراد عصفوري أن يحلق معي على تلك الأجنحة فطار إليّ, نام بجانبي على السرير, وانزلق حلما بين أجفاني. لوقت ليس بالقصير رفرف معي في أحلامي, ثم انهرس تحتي بينما كنت أتقلب في فراشي, فتحولت أحلامي إلى كوابيس, افترشت لياليّ في ذاك الصيف, ولزمن طويل بقيت أشعر أن كتفي عجلة سيارة انسحقت تحتها أجمل أفراحي.
أيقظني صوت البائع من شرودي, فانتبهت إلى بحر الزقزقة الهائج حولي, شعرت بالأجنحة التي تصطفق أمامي كفوفا تضرب وجهي وتوقظني من كابوس طويل. ولسبب لا أدريه عاد النبض إلى عصفوري, فانتفض وراح يرفرف في فضاء رأسي, ثم اخترقه وانزلق بين قضبان الحديد طيفا انسدل على أحد العصافير, امتدت يد البائع إليه, ووضعته في قفص جميل. مددت أصابعي المرتبكة بين القضبان فراح ينقرها ويشحنها عزيمة للمتابعة, تجرأت وفتحت باب القفص, طاردته يدي في ذاك الفضاء الضيق, وعندما أمسكت به, اتقدت شرارة في كفي, غسلت ذاكرتي من حزنها القديم. أرجعته إلى القفص, أوصدت الباب بإحكام, أنقدت البائع ثمنه وخرجت من المحل, القفص في يميني, وابتسامة ابنتي الملونة بكل ألوان الطيف ومشتقاته تتسع وتلون كل شيء حولي.
تعليق