تيار الوعي
رؤية نفسية زمانية مكانية
مع دراسة تطبيقية على رواية " يحدث أمس "لإسماعيل فهد لإسماعيل
بقلم / د. مصطفى عطية جمعة
ربما يكون المفهوم المبسط لمصطلح " تيار الوعي " ، هو المفهوم الذي قدمته " فرجينيا وولف " في مؤلفها الشهير " القاريء العادي " ، حيث لمسنا تحديدًا للمصطلح بشكل مبسط ، صاغته مترجمة الكتاب بقولها : " إنه أسلوب التسلسل العفوي " ، وحددته أكثر بـ " أنه أسلوب الشيء بالشيء يُذكر "( )وهو في ظاهره مبسط ، ولكنه ينطوي على جوهر هذا الأسلوب الفني ، الذي أضحى من سمات القصص بخاصة ، والفن بشكل عام في القرن العشرين . فعندما يذكر أحد الأمور ، فإن العقل سرعان ما يتداعى إليه – بشكل عفوي – ما يتصل بهذا الأمر ، سواء مما يحبه الفرد أو ما يكرهه . وفي تلك اللحظة ، فإن قرار الفرد أو سلوكه سيتحدد بناء على تلك الخلفية المتداعية . وقد يكون الأمر جديدًا عليه ، وحينئذ تتوزعه أيضًا مجموعة من المشاعر التي تتباين بين الرغبة في المعرفة والخوف من الجديد .
وهذا لا شيء فيه على صعيد الواقع الإنساني المعتاد منذ فجر الخليقة ، فما الجدل – إذن - إزاء ذلك المصطلح ؟ مشروعية السؤال تأتت من المعرفة المبسطة السابقة ، ولكن على مستوى الفن القصصي – بخاصة – كان الأمر جد مختلف . فالقص موضوعه منذ الأزل علاقة الإنسان مع أخيه ، أو مع الطبيعة . وتلك العلاقة لم تكن مجرد سلوكيات ، بل سبقتها دوافع ونوازع متعددة ، ترسبت في داخل الإنسان ، وحركت توجهاته . إلا أن القص كان يتوقف عند الوصف السلوكي الظاهري والتركيز على البعد الاجتماعي أو الظاهري في المسألة دون التعمق فيه . وبقي الإنسان – كنفس ونزوع – في عزلة عن السياق القصصي . فالقاص يعرض النتيجة دون ذكر العمق النفسي الذي يكمن وراءها . ولكن مع اقتراب أو انكفاء الإنسان على ذاته في عصر الثورة الصناعية ، حيث كان القلق والخوف والإحساس بالتلاشي يسيطر عليه ، أمام جبروت المدنية بمصانعها ومداخنها ، بدأ يتأمل تلك النفس التي يحتويها جسده . ومن ثم كانت مكتشفات " فرويد " حول العقد الغريزية واللاوعي التي تحرّك الكثير من السلوكيات الظاهرة للفرد . ومحاولات "برجسون" لدراسة وشرح كل ما هو صادر عن الشعور . وثبت الأمر أكثر في دراسات " ليفي برول " وكشفه عن عقلية ما قبل المنطق عند الفطريين أو الإنسان البدائي ( ). فكان ذلك فرجة لدراسة النفس وقراءة السلوك بطريقة مختلفة ، حاولت أن تتوازى مع العلم المعاصر الذي انصب على الطبيعة يتحداها ويصارعها ، ولم يستطع أن يكتشف إلا النذر القليل من نفس هذا الكائن الآدمي ، الذي يريد مجابهة الكون . ومن هنا كانت محاولات " جيمس جويس " ، هذا الأديب القلق في حياته ، المتمرد على كل ما يحيطه ، والذي أدار السجال حول نزعاته وشبقاته ، مثلما فجره بأعماله القصصية ، فكانت أعماله نماذج مصغرة لواقعه المعاش ، وبعضها كان تصويرًا لكل نزعاته المتقلبة . أي أنه راح يقرأ ذاته بطريقة تختلف عن القصاصين السابقين ، وهذا هو سر تفرده ، منذ روايته " صورة للفنان كشاب " 1916، ثم " الفينيقيون يستيقظون " 1939 ، وأخيرًا " عوليس " التي حوت قمة رؤاه الفنية وتمرده. لقد أراد أن يكتب رواية تصور الحياة المدركة وغير المدركة ( ). والأولى تعني السلوك الظاهري الذي يحكمه الزمان والمكان والمادة ، أما الثانية فهي الخلفيات والنوازع – الواعية وغير الواعية – التي تكمن وراء هذا . وبالتالي كان الأمر يُعَد فتحًا على مستوى القص ، فهناك تجارب وحالات نفسية لا نستطيع التعبير عنها ، وحتى اللغة ذاتها لا تملك مصطلحات نقلها ، وهناك لحظات بين اليقظة والنوم ، والوعي والجنون ، كلها تحرّك السلوك ( )وتلك هي الثورة التي فجرها " جويس" ، وأجاد بناء قواعدها في قصصه ، فكان النحت وإيلاج كلمات جديدة من لغات عدة ( )، وكان التعامل مع الأسطوري والشاذ والتراكمي . وفي الوقت الذي قد نخجل من طرحها وتسييلها على الورق ، فكان لابد من مجابهة الأديب لذاته ، كما يجابه الفيزيائي الكون ، وإن كان البعض ، توقف عند أطروحات " جويس " وتفجيره لللذات الجنسية بصراحة تصل لحد التنفير ، وتتبع كل ما هو غير مألوف في العلاقات الجنسية ، فكانت النظرة المضادة له تنبع من الجانب الخلقي ، وهي تمتلك الكثير من المشروعية ، فلا الجنس هو المحرّك الغريزي الأوحد – كما يرى فرويد - ، ولا الحياة الإنسانية تتوقف عند الأعضاء الوسطى من الجسد ، وليس التحرر الحقيقي ، عندما يصبح إشباعها هو نهاية الأرب . فالقيم والمباديء والمثل لها أيضًا لذتها ، فكما تجنح النفس للشهوة الحسية ، تجنح أيضًا للفضيلة اللاحسية . وهذا هو سبب الاختلاف مع " جويس " ، بجانب الأسباب الفنية الأخرى ، المتمثلة في كسر المألوف من الحكي القصصي واللغوي . وفي هذا يكون للفن والنقد كلمتهما التي لها الكثير من المشروعية أيضًا .
كما وجدنا – أيضًا - تقنيات القص التي مزجت المونتاج السينمائي ( )، لا باعتباره من الحيل الإبداعية ، بل باعتباره عملية نفسية ذاتية في المقام الأول ، فكل منّا يخضع ما يدور من أمور حوله إلى رؤية نفسه ، فيرى الأشخاص وفق زمانه ومكانه وبيئته وأيضًا أسطورته وفهمه لدينه ولخالقه . وحركات الارتداد "الفلاش باك " تتم في الوعي قبل أن تنقلها الكاميرات السينمائية . فـ" جويس " يتأمل ويستبطن اختلاجات جوانحه "من خلال عمليات عديدة : صريحة ومضمرة ، ذهنية ودافعية ، مزاجية وإدراكية، انعكاسية وتراكمية ، متروية ومتسرعة ، بطيئة ومتلاحقة .." ( ) كما يوظف علوم وثقافات عصره في إبداعه. وكان البناء الفني الذي قدمه في أعماله ، لا يقوم على حبكة واضحة ، بقدر ما يقوم على الفهم المتعدد للقص في العمل الأدبي ، الذي لا يلين من القراءة الأولى ، بل يتأتى من القراءات المتتالية .
وتبعًا لذلك ، أصبح المفهوم الجديد للفن لا يقوم على تقديم الأمل ووصف انتصار الخير ضد الشر وإن كان هذا يحدث ، بل سعى الفن إلى تقديم المزيد والدقيق عن الحالة والواقع الإنساني في لحظات الحكي ، تقديمًا عميقًا دون تزييف ( ) ، ويترك الأمر بعد ذلك للقاريء يستنتج ما يريد من خلال تجربته هو كقاريء . فتحول القاريء إلى مبدع إيجابي غير مسترخ . وهذا بالطبع كان يحدث على درجات عديدة في الآداب والدراميات السابقة ، ولكنه أضحى مع رؤية المبدع المعاصر ، من الأمور التي تصاحب المبدع في لحظات إبداعه ، كما هي تصاحب القاريء في تلقيه .
فالفهم لذات الإنسان ، لم يقف عند الذات المبدعة فقط ، ولا عند تشريح شخوص القص ، بل تعداه إلى إشراك المتلقي في النشاط الإبداعي ـ على اعتبار أن الإبداع لا يُفسَّر من ركن واحد ، ولامن رؤية مسبقة ، بل هو جزء من الفعل الإنساني الذي لا يخضع لدافع نفسي واحد أيضًا .
وبذلك صارت وظيفة الفن كما يقول " أرنست فيشر " : " فتح الأبواب المغلقة ، لا ولوج الأبواب المفتوحة " ، أي البحث عن المستغلق في أعماقنا ومكنوناتنا ، وهذا ما دفع " ماركيز " إلى أن يؤكد عليه بقوله :" يجب دفع القص إلى أقصى حد ، ليتجاوز كل واقع " ( ) والواقع هنا – كما أرى – كل رؤية لا تتعمق الظاهر والسلوك ، وتكتفي برصده فقط .
ولذا نرى أن مصطلح " تيار الوعي " ليس دقيقًا ؛ فهو يقصر التداعي على ما يعن للعقل في لحظة وقوع الحدث، فلا المتداعي من الوعي يكون بوعي أو بمنطق من صاحبه الفرد ، بل إن لحظة التداعي هي حرة في تكوينها ، تتخطى مشاعر الحب و الكره ، وتتآلف مع اللاوعي في تكوين الدافع والسلوك ، وهذا ما وجدناه ونجده في الإبداع ، حيث تتقاذف العقل والنفس عشرات من الأمور العقلية واللاعقلية ، ومن هنا يكون مصطلح " تيار التداعي " أدق وأشمل ، فهو يشتمل حركة وتماوج النفس بين الوعي واللاوعي ، والعقلي والسلوكي .
أما عن الزمان ، في هذه التقنية ، فإننا نلحظ أن هناك زمنين ، زمن الحدث الواقع ، و" زمن التداعي "، فالأول هو كائن ثابت خاضع للمقياس العقلي البشري ، نستطيع تسجيله ورصده والتحكم فيه ، أما الثاني " زمن التداعي " فهو يتخطى كل المقاييس المنطقية ، ليحلّق في الزمن المطلق، لأن الحدث المتداعي هو البطل ، وهو الذي يجمع في تداعيه أشتاتًا من الطفولة والشباب والشيخوخة ، بل ويجمع الأمنيات المستقبلية لصاحبه ، كل هذا يتم في لحظات قد تكون دقائق – وفقًا للمقياس البشري – أو ساعات ، ولكنه تمتد بامتداد العمر ، بل وتتخطى هذا العمر البشري ، حين يتداعى على العقل والنفس ما توارثه من أساطير وعادات وقيم وخرافات ، وفي هذا ، يكون الزمن ممتد عبر الرصيد الإنساني بكل ما عرف وترسب في أعماق الفرد .
ونفس الأمر يكون مع المكان ، فهناك المكان الواقعي ، الذي يكون الحدث الظاهر يحدث فيه ، وهناك " مكان التداعي " ، وهو يشكل الخلفية المادية المكانية للأحداث المتداعية في النفس عند استثارتها بالحدث الخارجي ، وقد نراه – في النفس – واضحًا بتفاصيله وموجوداته ، أو غير واضح حينما يكون المتداعي من الأساطير أو الكوابيس أو المشاعر المحبة أو الكارهة .
إذن ، يكون " تيار التداعي " ليس مطلقًا في كل الأحوال ، فهناك تيار زماني متداعٍ مقيد، وهناك آخر مطلق ، فالمقيد يكون مقيدًا باللحظة الزمانية الواقعية التي استدعته ، مثلما أن يرى الفرد حدثًا لثورة ، فيذكّره بكل ما اختزنه من الأحداث الثورية التي عاشها في حقبات من حياته ، سواء اتفق أم اختلف إزاءها فهذا هو المقيد . في حين عندما يخلد الفرد نفسه إلى ذاته ، تكون هناك الكثير من الأمور المتداعية ، دون رابط موضوعي أو زماني محدد ، وكما يحدث في النوم والأحلام ، تترك النفس على سجيتها فيكون التداعي هنا مطلقًا دون قيد .
وينصرف الأمر بالتالي على المكان ، وهو مصاحب للزمان والحدث ، لأنه يمثّل الإطار المادي الذي يحتويهما ، وقد يكون مقيدًا أو واضح المعالم والقسمات ( كما في الحدث الثوري السابق ، حين يذكر الفرد ما رآه بعينيه من مظاهرات ومسيرات في أماكن بعينها ) أو يكون المكان غير واضح المعالم ، بل هلاميًا .
وتتبقى الأشياء والجمادات في الحدث الواقعي ، والحدث المتداعي ، حيث نرى أن ثمة ترابطات بين الشيء الواقعي وهو مجرد جزء ، قد يستدعي جزءًا آخر يشابهه من أعماق النفس ، وقد يستعي أيضًا كلاً يشتمل هذا الجزء .
وفي نفس الوقت ، فإن التحاور العقلاني يكون واردًا أيضًا لحظة التداعي ، أي أن العقل يكون حاضرًا بأشكال مختلفة ، سواء بعقد المقارنة بين الواقعي والمستدعى ، أو بالانتقاء من الأمور المستدعاة ، للربط بينها وبين الحدث الواقعي ، أو إقامة حوارًا بين الرؤية المترسبة في العقل ، وبين الحدث الواقعي .
تيار التداعي
دراسة تطبيقية على رواية " يحدث أمس " لاسماعيل فهد اسماعيل
لا يمكن أن نفصل في قراءتنا لجلّ الأعمال القصصية والشعرية المعاصرة عن البعد النفسي الذي يغلّف بنياتها ؛ فقد أصبح تيار التداعي ، بأبعاده النفسية والتقنية المتعددة ، وسيلة لفهم العمل الإبداعي ، وفهم طريقة المبدع في بناء وتشكيل عمله ، وطريقته في الغوص والكشف والتشريح لشخوصه . وهو يمثّل لدى الروائي " اسماعيل فهد اسماعيل " في معظم أعماله مدخلاً هامًا للقراءة والدرس ، فقد كان يسعى منذ مجموعاته الأولى إلى الاستفادة القصوى من تقنيات التداعي ، خاصة تقنية " الارتداد " أو " الفلاش باك " .
ووصل الأمر معه إلى الذروة في أعماله الروائية الأخيرة ، حيث أضحى التداعي من أبرز السمات التي تلوح للقاريء منذ ولوجه إلى النص .
ونموذجنا هنا رواية " يحدث أمس " ( ) ، حيث كان الهم النفسي أو تقنية التداعي هي المسيطرة منذ المفتتح . وهذا طبيعي ، ويتسق مع المضمون المطروح ، والمتمثل في عودة البطل " سليمان " من غربة سبع سنوات في الكويت إلى بلده " البصرة " في العراق ، ومنذ المطلع ، نجد أن التداعي الحر ، بأشكاله المختلفة جاثمًا على نفسية البطل ، وعلى السرد الروائي . وقد اتخذ أنماطًا عدة تتمثل في :
- التلازم الشيئي :
أي الترابطية التي تستدعي أشياء متجاورة ، فالبطل يستذكر الماضي وهو يشاهد أشياء من الحاضر، ويلح في ذلك كنوع من الاستمتعاع العقلي المعتاد لدينا ، كلما رأينا ما يذكّرنا بما نحب ، وقد كان على امتداد الصفحات ، وخاصة في الفصول الأولى .
" غابات النخيل تترامى حيث لا حصر ، ولا ترى منها … غير جذوعها العملاقة ، لدى اصطفافها على جانبي الطريق . يذكر عن طفولته ، أنه كان يسوّد فراغات كراريسه المدرسية برسومات متنوعة للنخلة . الإنسان والنخلة يولدان – في البصرة – متلازمين ، كما العِشرة والمصير .." ( )
غابات النخيل ، رسومات الكراريس عن النخيل ، شيء بشيء ، ولكن الأول مألوف في بيئة زراعية كالبصرة ، إلا أن الاستدعاء جاء بشيء فيه متعة للبطل الآيب ، فاختار مشهد طفولي ، يحمل الإحساس بحميمية المكان والأشياء لدى البطل منذ نعومته . فهي علاقة متناغمة في التداعي .
- المقارنة :
بين شيئين ، في مكانين وزمانين مختلفين ، وتلك يقيمها العقل ، كنوع من التلذذ عندما ينتصر للمكان الذي يحبه . فبينما يسير بمفرده في الطريق إلى قريته ، يسمع..
" نقيق ضفدع متوحدة ، يُسمع في الجوار . يتملكه إحساس رائق بالألفة . سبع سنوات ، لم يسمع خلالها أيما نقيق . " الكويت بلا ضفادع " . ضفدع أخرى تستجيب للأولى ، الليل له أصواته"( ) فرغم أن نقيق الضفادع مما يضايق النفس ، فإنه أصبح كنغم وتيمة مميزة للبصرة ، ولا تمّيز الكويت ، لأن الضفدع يميل للعيش في المكان الزراعي ، حيث الماء والخضرة . فهنا مقارنة ، غير مباشرة بين الرمل والزرع .
- المنولوج الذاتي :
ويكون بين الواقعي والمتداعي ، حيث البطل لا يكف عن المنولوج الذاتي مع المكان والغربة ، والأشياء . فمع شعور اللذة بالعودة ، ينتابه الخوف .." أحس كما لو أن هناك من يترصده . عيناه كانتا اعتادتا الظلام أكثر … " الضفادع ما عادت تنق " ، يرهف أذنيه . لا نأمة ، ولا ما يؤكد له شعور الترصد . أهي الحساسية المترتبة على سنواته في الكويت ، حيث لا غابات ولا نخيل ولا منعطفات لدروب زراعية .. .. " لم يبق الكثير عن البيت " …"( )
فالخوف والأمل في لقاء الأهل ، والمقارنة مع الكويت – كاغتراب – يتفاعل في الوعي ، ومع اللاوعي ، حيث الشعور بالترصد الذي يصاحب البطل ، وهو يسير في الدروب المنحنية ، يخشى من المنعطفات أن يكون خطرًا ، وهو الذي يرى كل شيء واضحًا عندما كان يسير في صحراء الكويت المنبسطة .
- تقنية الارتداد :
وقد جاءت عفوية ممتزجة مع السرد ، دون فواصل ، وفي تداعٍ حر لم يستوجبه شيء أو مكان ، بل هو التداع الناتج عن استحضار الوعي لكل ما مضى .. ، فقد كان سائرًا في الدرب إلى بيت أهله
" أيام كان في الكويت ، وفي اللحظات التي يمضّه فيها الحنين إلى الوطن ، تحضره - دون غيرها – صورة هذا الدرب ، لتحتل بانطباع حاد ذاكرته كلها ..
- ذكرى جميلة أشبه بلوحة تأثيرية .
ذاك ما عقبت به نجوى ، عندما كاشفها حالة حنينه تلك .." ( )
فـ " الفلاش باك " جاء وهو يتذكر الحنين في الكويت بينما هو سائر في الدرب إلى بيت أهله . إنه يقدّم أمام عقله ، كل ما كان يقلقه ويضابقه ، كأنه يستحضر التعب وقت الحصول على الأجر . فهو ارتداد تلقائي واعٍ من البطل .
- الحلم :
فبعدما سقط في أسر المجموعات التي اعترضت طريق عودته ، كان بين إغفاءة وصحو " لحظات خليط ، يتداخل فيها زمن النوم بزمن اليقظة ، لتتأتى عنهما حالة من الحضور المعلق . …. كان يصارع مياه شط العرب . يسبح منذ أمد لا أول له . المياه نوع من الجيلاتين الثقيل . " من أين جاء؟" . أصدقاؤه يصطفون واقفين على الساحل …" ( )
جاء الحلم معبرًا عن الحيرة التي يعشيها البطل وهو في سجنه ، وقد جسّد الكثير من الرموز التي جمعت المكان " شط العرب " ، وأثارت التساؤل العميق عن المجيء . فكان إيراد الحلم ممثلاً لإكمال حالة النفس البشرية في جميع أحوالها .
هذه التقنيات فرضت أشكالاً سردية ، مثّلت تميزًا في الأسلوب السردي للرواية ، فالكاتب معنيٌ بحشد كل التفاصيل عن المكان الذي يصفه ، وعن محتلف الأمكنة والأحداث المتداعية ، بأسلوب يقترب من الوصف المجرد ، المعتمد على الفنيات المتعددة التي يفرضها تيار التداعي ، وهي غنية في بنياتها ، مثلما هي غنية في دلالاتها ، وكان من أبرز السمات السردية :
- الحوار المزدوج :
أي الذي يجمع بين التخاطب الخارجي والمنولوج الداخلي ، والأخير ظهر محددًا في علامات تنصيص سردية . " - .. كان الأحرى بي ألا أتورط في هذه التوصيلة !
سليمان مع نفسه ، يجد تبريرًا .
" له الحق ، ما دام غريبًا على المنطقة " ……. " ( )
وهذا الشكل نراه في أعمال الروائي بشكل عام ، و على امتداد تلك الرواية بشكل خاص . وهذا مطلب يستلزمه العمل ، الذي يحلل الأشياء والأفعال من رؤية البطل لها .
- التكرار :
ويظهر كتيمة أسلوبية ، تمثّل إلحاح القاص على أمر بعينه ، وينسجم هذا مع الإحساس بالمكان والزمان والأشياء من حوله .
" الدرب مألوفة ، لولا هاجس التوقع الطاريء . " البيت هناك . لا بد من المتابعة " . الدرب مألوفة، لكن شعورًا قاتمًا بالهامشية يبدأ يترسب في فمه .." ( )
فالتكرار عبر بدقة عن حالة الرهبة التي أضفاها المكان ( الدرب ) بكل منعطفاته واسوداده ، وما أحدثه من حوار ذاتي مع البطل ، كأنه يطمئن نفسه ، حتى لا تنسى لذة العودة .
- الحذف :
وهو ينقل توترات السرد ، الذي يعكس حال البطل أو يجتذب المتلقي لإكمال العبارة أو الكلمة المحذوفة . " في المدرسة … عانيتُ يومها من جوع شديد . لكني وأنا أدلف إلى البيت ظهرًا ، ركضت إلى المطبخ . طعام الغذاء لم يكن قد …. فسارعت إلى مخزون التمر …. " ( )
فالنقاط تشي بالمحذوف ، بل وتنقلنا حركيًا ونفسيًا مع البطل / الطفل ، وهو يفكر فيما سيأكله .
وعندما كان رهن التحقيق والاعتقال :" صوته ، كما خُيّل إليه ، غريب على أذنيه . بدا وكأنه يحاول إثبات صدق ادعائه لنفسه . وهما لم يعنيا .. لم يسمعا … لم …. – …لو سمعتم ! " ( )
فالتقطيع والحذف في الجمل ، يصور بوضوح الحالة النفسية التي عليها البطل ، حيث الحوار الخارجي، والمنولوج الداخلي .
* * * *
لاشك أن تيار " التداعي " سيظل عاملاً ومرشدًا هامًا في الأعمال الإبداعية ، في قراءة الشخوص والبنية وأيضًا يعطي صورة بشكل أو بآخر عن المؤلف المبدع ، وهذا ما لاينبغي إهماله بأي حال .
رؤية نفسية زمانية مكانية
مع دراسة تطبيقية على رواية " يحدث أمس "لإسماعيل فهد لإسماعيل
بقلم / د. مصطفى عطية جمعة
ربما يكون المفهوم المبسط لمصطلح " تيار الوعي " ، هو المفهوم الذي قدمته " فرجينيا وولف " في مؤلفها الشهير " القاريء العادي " ، حيث لمسنا تحديدًا للمصطلح بشكل مبسط ، صاغته مترجمة الكتاب بقولها : " إنه أسلوب التسلسل العفوي " ، وحددته أكثر بـ " أنه أسلوب الشيء بالشيء يُذكر "( )وهو في ظاهره مبسط ، ولكنه ينطوي على جوهر هذا الأسلوب الفني ، الذي أضحى من سمات القصص بخاصة ، والفن بشكل عام في القرن العشرين . فعندما يذكر أحد الأمور ، فإن العقل سرعان ما يتداعى إليه – بشكل عفوي – ما يتصل بهذا الأمر ، سواء مما يحبه الفرد أو ما يكرهه . وفي تلك اللحظة ، فإن قرار الفرد أو سلوكه سيتحدد بناء على تلك الخلفية المتداعية . وقد يكون الأمر جديدًا عليه ، وحينئذ تتوزعه أيضًا مجموعة من المشاعر التي تتباين بين الرغبة في المعرفة والخوف من الجديد .
وهذا لا شيء فيه على صعيد الواقع الإنساني المعتاد منذ فجر الخليقة ، فما الجدل – إذن - إزاء ذلك المصطلح ؟ مشروعية السؤال تأتت من المعرفة المبسطة السابقة ، ولكن على مستوى الفن القصصي – بخاصة – كان الأمر جد مختلف . فالقص موضوعه منذ الأزل علاقة الإنسان مع أخيه ، أو مع الطبيعة . وتلك العلاقة لم تكن مجرد سلوكيات ، بل سبقتها دوافع ونوازع متعددة ، ترسبت في داخل الإنسان ، وحركت توجهاته . إلا أن القص كان يتوقف عند الوصف السلوكي الظاهري والتركيز على البعد الاجتماعي أو الظاهري في المسألة دون التعمق فيه . وبقي الإنسان – كنفس ونزوع – في عزلة عن السياق القصصي . فالقاص يعرض النتيجة دون ذكر العمق النفسي الذي يكمن وراءها . ولكن مع اقتراب أو انكفاء الإنسان على ذاته في عصر الثورة الصناعية ، حيث كان القلق والخوف والإحساس بالتلاشي يسيطر عليه ، أمام جبروت المدنية بمصانعها ومداخنها ، بدأ يتأمل تلك النفس التي يحتويها جسده . ومن ثم كانت مكتشفات " فرويد " حول العقد الغريزية واللاوعي التي تحرّك الكثير من السلوكيات الظاهرة للفرد . ومحاولات "برجسون" لدراسة وشرح كل ما هو صادر عن الشعور . وثبت الأمر أكثر في دراسات " ليفي برول " وكشفه عن عقلية ما قبل المنطق عند الفطريين أو الإنسان البدائي ( ). فكان ذلك فرجة لدراسة النفس وقراءة السلوك بطريقة مختلفة ، حاولت أن تتوازى مع العلم المعاصر الذي انصب على الطبيعة يتحداها ويصارعها ، ولم يستطع أن يكتشف إلا النذر القليل من نفس هذا الكائن الآدمي ، الذي يريد مجابهة الكون . ومن هنا كانت محاولات " جيمس جويس " ، هذا الأديب القلق في حياته ، المتمرد على كل ما يحيطه ، والذي أدار السجال حول نزعاته وشبقاته ، مثلما فجره بأعماله القصصية ، فكانت أعماله نماذج مصغرة لواقعه المعاش ، وبعضها كان تصويرًا لكل نزعاته المتقلبة . أي أنه راح يقرأ ذاته بطريقة تختلف عن القصاصين السابقين ، وهذا هو سر تفرده ، منذ روايته " صورة للفنان كشاب " 1916، ثم " الفينيقيون يستيقظون " 1939 ، وأخيرًا " عوليس " التي حوت قمة رؤاه الفنية وتمرده. لقد أراد أن يكتب رواية تصور الحياة المدركة وغير المدركة ( ). والأولى تعني السلوك الظاهري الذي يحكمه الزمان والمكان والمادة ، أما الثانية فهي الخلفيات والنوازع – الواعية وغير الواعية – التي تكمن وراء هذا . وبالتالي كان الأمر يُعَد فتحًا على مستوى القص ، فهناك تجارب وحالات نفسية لا نستطيع التعبير عنها ، وحتى اللغة ذاتها لا تملك مصطلحات نقلها ، وهناك لحظات بين اليقظة والنوم ، والوعي والجنون ، كلها تحرّك السلوك ( )وتلك هي الثورة التي فجرها " جويس" ، وأجاد بناء قواعدها في قصصه ، فكان النحت وإيلاج كلمات جديدة من لغات عدة ( )، وكان التعامل مع الأسطوري والشاذ والتراكمي . وفي الوقت الذي قد نخجل من طرحها وتسييلها على الورق ، فكان لابد من مجابهة الأديب لذاته ، كما يجابه الفيزيائي الكون ، وإن كان البعض ، توقف عند أطروحات " جويس " وتفجيره لللذات الجنسية بصراحة تصل لحد التنفير ، وتتبع كل ما هو غير مألوف في العلاقات الجنسية ، فكانت النظرة المضادة له تنبع من الجانب الخلقي ، وهي تمتلك الكثير من المشروعية ، فلا الجنس هو المحرّك الغريزي الأوحد – كما يرى فرويد - ، ولا الحياة الإنسانية تتوقف عند الأعضاء الوسطى من الجسد ، وليس التحرر الحقيقي ، عندما يصبح إشباعها هو نهاية الأرب . فالقيم والمباديء والمثل لها أيضًا لذتها ، فكما تجنح النفس للشهوة الحسية ، تجنح أيضًا للفضيلة اللاحسية . وهذا هو سبب الاختلاف مع " جويس " ، بجانب الأسباب الفنية الأخرى ، المتمثلة في كسر المألوف من الحكي القصصي واللغوي . وفي هذا يكون للفن والنقد كلمتهما التي لها الكثير من المشروعية أيضًا .
كما وجدنا – أيضًا - تقنيات القص التي مزجت المونتاج السينمائي ( )، لا باعتباره من الحيل الإبداعية ، بل باعتباره عملية نفسية ذاتية في المقام الأول ، فكل منّا يخضع ما يدور من أمور حوله إلى رؤية نفسه ، فيرى الأشخاص وفق زمانه ومكانه وبيئته وأيضًا أسطورته وفهمه لدينه ولخالقه . وحركات الارتداد "الفلاش باك " تتم في الوعي قبل أن تنقلها الكاميرات السينمائية . فـ" جويس " يتأمل ويستبطن اختلاجات جوانحه "من خلال عمليات عديدة : صريحة ومضمرة ، ذهنية ودافعية ، مزاجية وإدراكية، انعكاسية وتراكمية ، متروية ومتسرعة ، بطيئة ومتلاحقة .." ( ) كما يوظف علوم وثقافات عصره في إبداعه. وكان البناء الفني الذي قدمه في أعماله ، لا يقوم على حبكة واضحة ، بقدر ما يقوم على الفهم المتعدد للقص في العمل الأدبي ، الذي لا يلين من القراءة الأولى ، بل يتأتى من القراءات المتتالية .
وتبعًا لذلك ، أصبح المفهوم الجديد للفن لا يقوم على تقديم الأمل ووصف انتصار الخير ضد الشر وإن كان هذا يحدث ، بل سعى الفن إلى تقديم المزيد والدقيق عن الحالة والواقع الإنساني في لحظات الحكي ، تقديمًا عميقًا دون تزييف ( ) ، ويترك الأمر بعد ذلك للقاريء يستنتج ما يريد من خلال تجربته هو كقاريء . فتحول القاريء إلى مبدع إيجابي غير مسترخ . وهذا بالطبع كان يحدث على درجات عديدة في الآداب والدراميات السابقة ، ولكنه أضحى مع رؤية المبدع المعاصر ، من الأمور التي تصاحب المبدع في لحظات إبداعه ، كما هي تصاحب القاريء في تلقيه .
فالفهم لذات الإنسان ، لم يقف عند الذات المبدعة فقط ، ولا عند تشريح شخوص القص ، بل تعداه إلى إشراك المتلقي في النشاط الإبداعي ـ على اعتبار أن الإبداع لا يُفسَّر من ركن واحد ، ولامن رؤية مسبقة ، بل هو جزء من الفعل الإنساني الذي لا يخضع لدافع نفسي واحد أيضًا .
وبذلك صارت وظيفة الفن كما يقول " أرنست فيشر " : " فتح الأبواب المغلقة ، لا ولوج الأبواب المفتوحة " ، أي البحث عن المستغلق في أعماقنا ومكنوناتنا ، وهذا ما دفع " ماركيز " إلى أن يؤكد عليه بقوله :" يجب دفع القص إلى أقصى حد ، ليتجاوز كل واقع " ( ) والواقع هنا – كما أرى – كل رؤية لا تتعمق الظاهر والسلوك ، وتكتفي برصده فقط .
ولذا نرى أن مصطلح " تيار الوعي " ليس دقيقًا ؛ فهو يقصر التداعي على ما يعن للعقل في لحظة وقوع الحدث، فلا المتداعي من الوعي يكون بوعي أو بمنطق من صاحبه الفرد ، بل إن لحظة التداعي هي حرة في تكوينها ، تتخطى مشاعر الحب و الكره ، وتتآلف مع اللاوعي في تكوين الدافع والسلوك ، وهذا ما وجدناه ونجده في الإبداع ، حيث تتقاذف العقل والنفس عشرات من الأمور العقلية واللاعقلية ، ومن هنا يكون مصطلح " تيار التداعي " أدق وأشمل ، فهو يشتمل حركة وتماوج النفس بين الوعي واللاوعي ، والعقلي والسلوكي .
أما عن الزمان ، في هذه التقنية ، فإننا نلحظ أن هناك زمنين ، زمن الحدث الواقع ، و" زمن التداعي "، فالأول هو كائن ثابت خاضع للمقياس العقلي البشري ، نستطيع تسجيله ورصده والتحكم فيه ، أما الثاني " زمن التداعي " فهو يتخطى كل المقاييس المنطقية ، ليحلّق في الزمن المطلق، لأن الحدث المتداعي هو البطل ، وهو الذي يجمع في تداعيه أشتاتًا من الطفولة والشباب والشيخوخة ، بل ويجمع الأمنيات المستقبلية لصاحبه ، كل هذا يتم في لحظات قد تكون دقائق – وفقًا للمقياس البشري – أو ساعات ، ولكنه تمتد بامتداد العمر ، بل وتتخطى هذا العمر البشري ، حين يتداعى على العقل والنفس ما توارثه من أساطير وعادات وقيم وخرافات ، وفي هذا ، يكون الزمن ممتد عبر الرصيد الإنساني بكل ما عرف وترسب في أعماق الفرد .
ونفس الأمر يكون مع المكان ، فهناك المكان الواقعي ، الذي يكون الحدث الظاهر يحدث فيه ، وهناك " مكان التداعي " ، وهو يشكل الخلفية المادية المكانية للأحداث المتداعية في النفس عند استثارتها بالحدث الخارجي ، وقد نراه – في النفس – واضحًا بتفاصيله وموجوداته ، أو غير واضح حينما يكون المتداعي من الأساطير أو الكوابيس أو المشاعر المحبة أو الكارهة .
إذن ، يكون " تيار التداعي " ليس مطلقًا في كل الأحوال ، فهناك تيار زماني متداعٍ مقيد، وهناك آخر مطلق ، فالمقيد يكون مقيدًا باللحظة الزمانية الواقعية التي استدعته ، مثلما أن يرى الفرد حدثًا لثورة ، فيذكّره بكل ما اختزنه من الأحداث الثورية التي عاشها في حقبات من حياته ، سواء اتفق أم اختلف إزاءها فهذا هو المقيد . في حين عندما يخلد الفرد نفسه إلى ذاته ، تكون هناك الكثير من الأمور المتداعية ، دون رابط موضوعي أو زماني محدد ، وكما يحدث في النوم والأحلام ، تترك النفس على سجيتها فيكون التداعي هنا مطلقًا دون قيد .
وينصرف الأمر بالتالي على المكان ، وهو مصاحب للزمان والحدث ، لأنه يمثّل الإطار المادي الذي يحتويهما ، وقد يكون مقيدًا أو واضح المعالم والقسمات ( كما في الحدث الثوري السابق ، حين يذكر الفرد ما رآه بعينيه من مظاهرات ومسيرات في أماكن بعينها ) أو يكون المكان غير واضح المعالم ، بل هلاميًا .
وتتبقى الأشياء والجمادات في الحدث الواقعي ، والحدث المتداعي ، حيث نرى أن ثمة ترابطات بين الشيء الواقعي وهو مجرد جزء ، قد يستدعي جزءًا آخر يشابهه من أعماق النفس ، وقد يستعي أيضًا كلاً يشتمل هذا الجزء .
وفي نفس الوقت ، فإن التحاور العقلاني يكون واردًا أيضًا لحظة التداعي ، أي أن العقل يكون حاضرًا بأشكال مختلفة ، سواء بعقد المقارنة بين الواقعي والمستدعى ، أو بالانتقاء من الأمور المستدعاة ، للربط بينها وبين الحدث الواقعي ، أو إقامة حوارًا بين الرؤية المترسبة في العقل ، وبين الحدث الواقعي .
تيار التداعي
دراسة تطبيقية على رواية " يحدث أمس " لاسماعيل فهد اسماعيل
لا يمكن أن نفصل في قراءتنا لجلّ الأعمال القصصية والشعرية المعاصرة عن البعد النفسي الذي يغلّف بنياتها ؛ فقد أصبح تيار التداعي ، بأبعاده النفسية والتقنية المتعددة ، وسيلة لفهم العمل الإبداعي ، وفهم طريقة المبدع في بناء وتشكيل عمله ، وطريقته في الغوص والكشف والتشريح لشخوصه . وهو يمثّل لدى الروائي " اسماعيل فهد اسماعيل " في معظم أعماله مدخلاً هامًا للقراءة والدرس ، فقد كان يسعى منذ مجموعاته الأولى إلى الاستفادة القصوى من تقنيات التداعي ، خاصة تقنية " الارتداد " أو " الفلاش باك " .
ووصل الأمر معه إلى الذروة في أعماله الروائية الأخيرة ، حيث أضحى التداعي من أبرز السمات التي تلوح للقاريء منذ ولوجه إلى النص .
ونموذجنا هنا رواية " يحدث أمس " ( ) ، حيث كان الهم النفسي أو تقنية التداعي هي المسيطرة منذ المفتتح . وهذا طبيعي ، ويتسق مع المضمون المطروح ، والمتمثل في عودة البطل " سليمان " من غربة سبع سنوات في الكويت إلى بلده " البصرة " في العراق ، ومنذ المطلع ، نجد أن التداعي الحر ، بأشكاله المختلفة جاثمًا على نفسية البطل ، وعلى السرد الروائي . وقد اتخذ أنماطًا عدة تتمثل في :
- التلازم الشيئي :
أي الترابطية التي تستدعي أشياء متجاورة ، فالبطل يستذكر الماضي وهو يشاهد أشياء من الحاضر، ويلح في ذلك كنوع من الاستمتعاع العقلي المعتاد لدينا ، كلما رأينا ما يذكّرنا بما نحب ، وقد كان على امتداد الصفحات ، وخاصة في الفصول الأولى .
" غابات النخيل تترامى حيث لا حصر ، ولا ترى منها … غير جذوعها العملاقة ، لدى اصطفافها على جانبي الطريق . يذكر عن طفولته ، أنه كان يسوّد فراغات كراريسه المدرسية برسومات متنوعة للنخلة . الإنسان والنخلة يولدان – في البصرة – متلازمين ، كما العِشرة والمصير .." ( )
غابات النخيل ، رسومات الكراريس عن النخيل ، شيء بشيء ، ولكن الأول مألوف في بيئة زراعية كالبصرة ، إلا أن الاستدعاء جاء بشيء فيه متعة للبطل الآيب ، فاختار مشهد طفولي ، يحمل الإحساس بحميمية المكان والأشياء لدى البطل منذ نعومته . فهي علاقة متناغمة في التداعي .
- المقارنة :
بين شيئين ، في مكانين وزمانين مختلفين ، وتلك يقيمها العقل ، كنوع من التلذذ عندما ينتصر للمكان الذي يحبه . فبينما يسير بمفرده في الطريق إلى قريته ، يسمع..
" نقيق ضفدع متوحدة ، يُسمع في الجوار . يتملكه إحساس رائق بالألفة . سبع سنوات ، لم يسمع خلالها أيما نقيق . " الكويت بلا ضفادع " . ضفدع أخرى تستجيب للأولى ، الليل له أصواته"( ) فرغم أن نقيق الضفادع مما يضايق النفس ، فإنه أصبح كنغم وتيمة مميزة للبصرة ، ولا تمّيز الكويت ، لأن الضفدع يميل للعيش في المكان الزراعي ، حيث الماء والخضرة . فهنا مقارنة ، غير مباشرة بين الرمل والزرع .
- المنولوج الذاتي :
ويكون بين الواقعي والمتداعي ، حيث البطل لا يكف عن المنولوج الذاتي مع المكان والغربة ، والأشياء . فمع شعور اللذة بالعودة ، ينتابه الخوف .." أحس كما لو أن هناك من يترصده . عيناه كانتا اعتادتا الظلام أكثر … " الضفادع ما عادت تنق " ، يرهف أذنيه . لا نأمة ، ولا ما يؤكد له شعور الترصد . أهي الحساسية المترتبة على سنواته في الكويت ، حيث لا غابات ولا نخيل ولا منعطفات لدروب زراعية .. .. " لم يبق الكثير عن البيت " …"( )
فالخوف والأمل في لقاء الأهل ، والمقارنة مع الكويت – كاغتراب – يتفاعل في الوعي ، ومع اللاوعي ، حيث الشعور بالترصد الذي يصاحب البطل ، وهو يسير في الدروب المنحنية ، يخشى من المنعطفات أن يكون خطرًا ، وهو الذي يرى كل شيء واضحًا عندما كان يسير في صحراء الكويت المنبسطة .
- تقنية الارتداد :
وقد جاءت عفوية ممتزجة مع السرد ، دون فواصل ، وفي تداعٍ حر لم يستوجبه شيء أو مكان ، بل هو التداع الناتج عن استحضار الوعي لكل ما مضى .. ، فقد كان سائرًا في الدرب إلى بيت أهله
" أيام كان في الكويت ، وفي اللحظات التي يمضّه فيها الحنين إلى الوطن ، تحضره - دون غيرها – صورة هذا الدرب ، لتحتل بانطباع حاد ذاكرته كلها ..
- ذكرى جميلة أشبه بلوحة تأثيرية .
ذاك ما عقبت به نجوى ، عندما كاشفها حالة حنينه تلك .." ( )
فـ " الفلاش باك " جاء وهو يتذكر الحنين في الكويت بينما هو سائر في الدرب إلى بيت أهله . إنه يقدّم أمام عقله ، كل ما كان يقلقه ويضابقه ، كأنه يستحضر التعب وقت الحصول على الأجر . فهو ارتداد تلقائي واعٍ من البطل .
- الحلم :
فبعدما سقط في أسر المجموعات التي اعترضت طريق عودته ، كان بين إغفاءة وصحو " لحظات خليط ، يتداخل فيها زمن النوم بزمن اليقظة ، لتتأتى عنهما حالة من الحضور المعلق . …. كان يصارع مياه شط العرب . يسبح منذ أمد لا أول له . المياه نوع من الجيلاتين الثقيل . " من أين جاء؟" . أصدقاؤه يصطفون واقفين على الساحل …" ( )
جاء الحلم معبرًا عن الحيرة التي يعشيها البطل وهو في سجنه ، وقد جسّد الكثير من الرموز التي جمعت المكان " شط العرب " ، وأثارت التساؤل العميق عن المجيء . فكان إيراد الحلم ممثلاً لإكمال حالة النفس البشرية في جميع أحوالها .
هذه التقنيات فرضت أشكالاً سردية ، مثّلت تميزًا في الأسلوب السردي للرواية ، فالكاتب معنيٌ بحشد كل التفاصيل عن المكان الذي يصفه ، وعن محتلف الأمكنة والأحداث المتداعية ، بأسلوب يقترب من الوصف المجرد ، المعتمد على الفنيات المتعددة التي يفرضها تيار التداعي ، وهي غنية في بنياتها ، مثلما هي غنية في دلالاتها ، وكان من أبرز السمات السردية :
- الحوار المزدوج :
أي الذي يجمع بين التخاطب الخارجي والمنولوج الداخلي ، والأخير ظهر محددًا في علامات تنصيص سردية . " - .. كان الأحرى بي ألا أتورط في هذه التوصيلة !
سليمان مع نفسه ، يجد تبريرًا .
" له الحق ، ما دام غريبًا على المنطقة " ……. " ( )
وهذا الشكل نراه في أعمال الروائي بشكل عام ، و على امتداد تلك الرواية بشكل خاص . وهذا مطلب يستلزمه العمل ، الذي يحلل الأشياء والأفعال من رؤية البطل لها .
- التكرار :
ويظهر كتيمة أسلوبية ، تمثّل إلحاح القاص على أمر بعينه ، وينسجم هذا مع الإحساس بالمكان والزمان والأشياء من حوله .
" الدرب مألوفة ، لولا هاجس التوقع الطاريء . " البيت هناك . لا بد من المتابعة " . الدرب مألوفة، لكن شعورًا قاتمًا بالهامشية يبدأ يترسب في فمه .." ( )
فالتكرار عبر بدقة عن حالة الرهبة التي أضفاها المكان ( الدرب ) بكل منعطفاته واسوداده ، وما أحدثه من حوار ذاتي مع البطل ، كأنه يطمئن نفسه ، حتى لا تنسى لذة العودة .
- الحذف :
وهو ينقل توترات السرد ، الذي يعكس حال البطل أو يجتذب المتلقي لإكمال العبارة أو الكلمة المحذوفة . " في المدرسة … عانيتُ يومها من جوع شديد . لكني وأنا أدلف إلى البيت ظهرًا ، ركضت إلى المطبخ . طعام الغذاء لم يكن قد …. فسارعت إلى مخزون التمر …. " ( )
فالنقاط تشي بالمحذوف ، بل وتنقلنا حركيًا ونفسيًا مع البطل / الطفل ، وهو يفكر فيما سيأكله .
وعندما كان رهن التحقيق والاعتقال :" صوته ، كما خُيّل إليه ، غريب على أذنيه . بدا وكأنه يحاول إثبات صدق ادعائه لنفسه . وهما لم يعنيا .. لم يسمعا … لم …. – …لو سمعتم ! " ( )
فالتقطيع والحذف في الجمل ، يصور بوضوح الحالة النفسية التي عليها البطل ، حيث الحوار الخارجي، والمنولوج الداخلي .
* * * *
لاشك أن تيار " التداعي " سيظل عاملاً ومرشدًا هامًا في الأعمال الإبداعية ، في قراءة الشخوص والبنية وأيضًا يعطي صورة بشكل أو بآخر عن المؤلف المبدع ، وهذا ما لاينبغي إهماله بأي حال .
تعليق