على كرسيّ المصحف
لم تكد تنته المشاكل بين الخاطبين حتى طالب الأقارب بالزفاف، منعاً لتكرار الخلافات.
تمّ الأمر رغماً عن الخطيب (المتعلم) الذي قبل خطوبة طويلة على ابنة أربعة عشر عاماًً بشرط تأجيل الزفاف لأكثر من ثلاث سنوات كحد أدنى. لم تسعفه ثقافته، ولا حججه بثنيهم عن القرار العائلي (بالقدَر المحتوم).
ربّاها على يديه تطبيقاً للمثل الشائع.. فحملت من الأسبوع الأول.. عانت طفولتها التي لم تكد تدركها، لتغادرها مسرعة نحو الأمومة، حلم كل فتاة، تمارسه مع دماها وألعابها، حتى يكون واقعاً تختال به على قريناتها العازبات حين تجتمع بهن.. تعضّ شفاهها حين تكون وحيدة من آلام الحمل، ومن قَدَر سيقت إليه مرغمة بمزيج من ضغوط الأهل، و إغراءات بهرجة زينة النسوة وبالتالي كسب مقعد بين المتزوجات. رغبةٌ لم تداعب خيالها كثيراً لتصبح حقيقة ضاغطة.
أما زوجها الذي أثقلت تكاليف الحياة كاهله مبكراً، بحمل مسؤولية أسرة كبيرة تركها والده أمانة في عنقه، بعدما أخذ الله أمانته، فأراد تعبئة الفراغ الكبير في حياتهم, بإرضاء أشقائه وإشباع رغباتهم كما لو كان الوالد حياً.. وتلبية رغبات الوالدة الأرملة، التي ضحّت بشبابها لأجل شبابها(أولادها).
رضخ مرغماً لرغبتها بزواجه العاجل، الذي لم يكن ليقبله بهذه الشروط، وهو من حمل مثاليات حياة نموذجية منذ بداية وعيه، ورسم مستقبلاً على ورق مسحت تفاصيله الجليّة ظروف صعبة بممحاة الأقدار الصلبة.
مرّت تسعة شهور كأنها تسعة دهور على مشروع الأمّ الصغيرة..آلام و وحام .. وأثقال إلى أثقال. حان وقت المخاض بمشاقّه التي ُتبكي لشدّتها مسانِداتها اللاتي يتحلقن حولها لدعمها.. فإذا بهنّ ينتحبن مع كل صرخة، ببكاء المآتم.. أو كمن يحضر احتضاراً، لتزداد حالتها فزعاً و رعباً. فالطلق عسير، والطبيبة منهمكة مع مساعداتِها.. بعمليات الشدّ والكبس.. فتهدئها تارةً لتصرخ في وجهها تارة أخرى. تجربة المخاض تلك التي أخرجت خديجها إلى الحياة بعد برزخ الرحم، أخرجتها أيضاً من عالم طفولتها إلى عالم الراشدات بحكم خبرة الألم، ولذة إنجابٍ أعلن عنه صراخ وليدها الذي تحول إلى بوق يعلم الحاضر والغائب بأنه أقبل إلى الحياة، وأصبح على استعداد لاكتساب كامل حقوقه.
كان كامل الخَلق وأجمل من أجمل الدمى، التصقت به أمّه.. وأمّها تمسح عرقها ودموعها.. و دموعها!!
نصح الطبيب بوضعه في الحاضنة من باب الاحتياط. تشبثت به إلى قلبها وامتنعت عن تسليمه.
تدخّل زوجها بهدوئه، وقبّلها على جبينها مباركاً وبلهجة إقناع: هو لك ولن يأخذه أحد منك.. الطبيب ينصح بذلك لأن هناك زرقة حول شفاهه، وهذا يعني نقصاً في (الأوكسجين).. يقول الطبيب.. الأمر ليس إلزامياً بل من باب الاحتياط. قَبِلت تسليمه على مضض بعد وعود بأخذها لإرضاعه ثلاث مرات في اليوم، وقد يكفيه يوم أو اثنان ليشفى.
كانت تعدّ الدقائق لموعد الرضاع.. ترتدي ثياب الخروج قبل وقت طويل، مع تحمّلها لمشاكل النفاس. تركض في حالة تتوكأ فيه بقية النفاسى من الألم إلاها، وكأن موعد القطار سيفوتها.
تنظر إليه في الحاضنة غير مدركة لمحيطها، وحين يحملونه إليها كانت متلهّفة بشوق لاحتضانه وكأنه مغترب من ربع قرن عائد إلى أحضان أمه.
تغلق عينيها وتضمّه إلى صدرها ثم لا تزيح ناظريها عنه وهي ترضعه، حتى يملّ زوجها انتظاراً وبعد أن تقتلع الممرضة الصغير منها وتعيده إلى حاضنته.
استمر الأمر أربعة أيام، بعد تمديد بسبب يرقان ولاديّ ظهر عليه، جعله يحتاج إلى التعرض للأشعة فوق البنفسجية لتساعده على التخلص منه. المشهد يتكرر و فترة اللقاء تطول ليزداد تعلّقها.. فتزيد الممرضة جهدها لانتزاعه منها. يراقب الوالد المشهد.. تكتنفه مشاعر أبوّة تتصاعد يوماً بعد يوم.. محاولاً تفسير العلاقة الجديدة بينه وبين القادم الذي ملأ حياتهم صخباً.. فسلب أوقاتهم وعقولهم.
صور تأتي وتغيب، عن مستقبل ولده.. تعليمه.. خدمته الإلزامية.. زواجه.. كلّها قبل أوانها لكنها تراود أباً (ولداً) حلم بتلك اللحظة طويلاً ليصبح (أبو يحيى) بحقّ بعد أن كان اسماً مجازياً يحمله بحكم العادات الاجتماعية، كونه بكر أبيه.
ألصقته إليها وهي تعود به إلى المنزل بعد سماح الطبيب. وضعته في سريره، تحيطه الألعاب المشتراة قبل أن ينبض قلبه، ليصبح أحبَّ الدمى بين دمى أصغر.
يداعبه والده ليطير بابتساماته الملائكية، مكتشفاً منعكساته الطبيعية بالدغدغة، فيضع سبّابته في الكفّ الصغير ليطبق عليها ويسحبها والده فيشد الصغير قبضته بإحكام، ويتركها ليعيد الحركة كرّات ومرّات، يسبّح الخالق فيما صنع ويتأمّل إبداعه، وتعتريه الأسئلة الأزلية عن الدجاجة والبيضة، وسيرورة الحياة. أخيراً لقد أصبح أباً.
بعد ثلاثة أيام تقيّأ الصغير دماً، عاد إلى الحاضنة من جديد. بعد التحاليل جاءت النتيجة أنه أصيب (بالتهاب السحايا). من وراء الكواليس أخبره أحدهم أنها ربما هي عدوى من طفل قبله كان مصاباً بها وربما لم تعقّم الحاضنة من بعده.
ثلاثة أيام كانت الأم تائهة، يصحبها زوجها الحائر بين تطمينات وتحذيرات.. قد يشفى إنما بعاهة.. كل الاحتمالات واردة.. لم يستطع أحد إبلاغ الأمّ بالمحاذير كما هي.. الكلّ قلقٌ.. وأكثرهم زوجها.
بعد ثلاث أخرى في الحاضنة، أعلن الأطباء زوال الخطر. بات ليلة الخميس مطمئنّاً، ومطمئناً زوجته والجميع، أنه سيعود به يوم الجمعة بإذن الله، بعد الصلاة.
بعد الصلاة وصل إلى المشفى فوجد الطاقم ملتفّاً حول الحاضنة يجري الإسعافات لطفله، تنفّس اصطناعي وحقن، و... تلتفت الممرضة الخمسينية إلى الوالد وتقول بحسرة وخجل من لحظة لا بد منها:"العوض بسلامتك، مازلت شاباً، وامرأتك صغيرة، والله سيعوضكم عنه".
لفّ الصغير بملاءة استعارها من المشفى، ونزل حائراً وحيداً لا يلوي على شيء. لم يستطع الذهاب به إلى المنزل... ولم يستطع ألا يفعل. هل يترك أمّ الطفل تودعه للمرة الأخيرة؟... أم يعتمد على فراق لمدة ثلاثة أيام لم يدَعوها تراه خلالها، لتساعده في مهمة إعلامها؟ّ.
تبخّرت الصور التي رسمها لمستقبل طفله، ليحل محلّها لوحة رمادية، تشبه طقس ذلك اليوم (الكانونيّ) المتلبّد بالغيوم الكثيفة.
سار مسافة طويلة باحثاً عن سيارة أجرة، يحمل ولده كما القربان يقدمه على مذبح القَدَر... ورجلاه متثاقلتان يجرّهما... حالَ المحكوم بالإعدام يساق إلى حتفه!!
لم يسأله سائق الأجرة الفطن عن الوضع بل واساه ببعض الكلمات، لمّا رأى الدموع تبلّل الملاءة البيضاء بصمت لتغرقها. توجّه إلى منطقة المقابر بعد أن أومى له برأسه موافقاً.
في الطريق إليها استدرك حلقة الذكر التي تعقد بعد صلاة الجمعة، عرّج عليها أملاً بمساعدة من أحد، فهو لا يعرف ماذا يفعل، ولا يعرف بيت التُربي!!
داخل الزاوية... أجواء الإنشاد تملأ المكان هيبة وخشوعاً، لتبعث طمأنينة بتوليفة عجيبة من أصوات المنشدين المختلطة بأصوات الطبلة التي ُتضرب بجلدة صغيرة، وصنجات النحاس تضبط الإيقاع بتميزها عن بقية المضارب من طبل ودفوف. وينشد الذاكرون دور (اسق العطاش) بعد امتناع المطر عن الهطول لأكثر من ستة أسابيع.
رآه الحاج (عبدالله) عبر النافذة ولم يعتد رؤيته في حلقة الذكر.. هرع إليه، وعلم ما في الأمر
وأشار إليه ليتبعه إلى غرفته. صعدا عبر الدرجات العالية الملساء، و المجوّرة بفعل السنين، الملتوية صعوداً كدرج المئذنة، يمسك (أبو يحيى)ولده بيمناه، وحبل الإسناد المربوط بحلقات إلى الأحجار الكبيرة التي تشكّل المكان بيسراه.
ولجا الغرفة العتيقة الخالية إلا من فرشة ورفّ كتب، وإبريق ماء من التوتياء.. صحن فارغ وكرسي مصحف. وضع وليده عليه بانتظار الحاج(عبد الله) الذي خرج لتسخين الماء لغُسل الصغير، والذي تطهره بقعة دم على رأسه الحليق جزئياً لوضع المصل. كان غُسل الصغير الميت اجتهاداً ارتجالياً من الوالد و الحاج (عبد الله).
على كرسيّ المصحف بدأ يتأمل (يحيى)الذي لم يأخذ من اسمه نصيباً.. سوى بمعنى حياته في ذاكرة حياتهم. بدأ يمسح على رأسه، يداعب خصلات شعره الناعم، ووضع سبابته في الكفّ الصغيرة دون أن تقبض عليها، كانت الكفّ باردة ومطبقة نصف إطباق، يرفعها إلى أعلى كما اعتاد أن يفعل لتسقط من جديد. يمرّر اليد الصغيرة الناعمة على وجهه، وذقنه الخشنة التي نسي حلاقتها لأيام, ويمررها على شفتيه، اللتين تتابعا مسيرهما على الجسد الغضّ، وأنفه يخزّن ما استطاع من رائحة أزكى من عطر المسك. كان يتأمل الوجه الملائكي، يبتسم.. فيردّ الابتسامة و الدموع تغسل الدموع.. وكأن الصغير يعد أباه إن صبر فالجنة لقاءهما، هكذا تصوّر (أبو يحيى) حواراً دار مع ولده.
دخل الحاج (عبد الله) ومعه الماء الساخن..منشفة.. وعاء من النحاس لسكب الماء،وقماشة بيضاء. بدأ طقوس الغُسل، لتعبق المكان رائحة الورد، بينما يضفي بخار الماء المنسكب إلى المشهد أجواءً سماوية، فتختلط أصوات الذاكرين للفظ الجلالة(اللهم.. اللهم) القادمة من ردهة السلم، ومن باحة الزاوية التي تطلّ عليها الغرفة، مسبغة حالة صخب هادىء. تعكس حال دموع الأب السخية الصمّاء التي تتلألأ في عينيه لتعكس شعاع نور يسقط من نافذة قريبة من سقف الغرفة المدعّم بجذوع الخشب، ليتراقص النور والصورة في عينين لا تريدان للوقت انتهاءً... وكيف للوقت أن يتوقف.. وقد صمت المنشدون وتفرّق الذاكرون؟.
استدرك الأب أن الوقت قد انتهى فعلاً حين سمع صوت تمزيق قطع من الكفن الصغير لتكون رباطاً لمنطقة الرأس والرجلين والوسط. كفن لفّ الجسد الصغير الطاهر، والوجه الملائكي، ولفّ معه آمالاً، و أبوةً لم تستمرّ لأكثر من عشرة أيام، ولفّ معه دمية لأمّ ودّعت طفولتها، لكنها دمية من لحم ودم.
في طريقه سيراً إلى المقبرة القريبة، استجاب الله لدعاء الذاكرين... وهطل المطر بسخاء
محمود عادل بادنجكي
لم تكد تنته المشاكل بين الخاطبين حتى طالب الأقارب بالزفاف، منعاً لتكرار الخلافات.
تمّ الأمر رغماً عن الخطيب (المتعلم) الذي قبل خطوبة طويلة على ابنة أربعة عشر عاماًً بشرط تأجيل الزفاف لأكثر من ثلاث سنوات كحد أدنى. لم تسعفه ثقافته، ولا حججه بثنيهم عن القرار العائلي (بالقدَر المحتوم).
ربّاها على يديه تطبيقاً للمثل الشائع.. فحملت من الأسبوع الأول.. عانت طفولتها التي لم تكد تدركها، لتغادرها مسرعة نحو الأمومة، حلم كل فتاة، تمارسه مع دماها وألعابها، حتى يكون واقعاً تختال به على قريناتها العازبات حين تجتمع بهن.. تعضّ شفاهها حين تكون وحيدة من آلام الحمل، ومن قَدَر سيقت إليه مرغمة بمزيج من ضغوط الأهل، و إغراءات بهرجة زينة النسوة وبالتالي كسب مقعد بين المتزوجات. رغبةٌ لم تداعب خيالها كثيراً لتصبح حقيقة ضاغطة.
أما زوجها الذي أثقلت تكاليف الحياة كاهله مبكراً، بحمل مسؤولية أسرة كبيرة تركها والده أمانة في عنقه، بعدما أخذ الله أمانته، فأراد تعبئة الفراغ الكبير في حياتهم, بإرضاء أشقائه وإشباع رغباتهم كما لو كان الوالد حياً.. وتلبية رغبات الوالدة الأرملة، التي ضحّت بشبابها لأجل شبابها(أولادها).
رضخ مرغماً لرغبتها بزواجه العاجل، الذي لم يكن ليقبله بهذه الشروط، وهو من حمل مثاليات حياة نموذجية منذ بداية وعيه، ورسم مستقبلاً على ورق مسحت تفاصيله الجليّة ظروف صعبة بممحاة الأقدار الصلبة.
مرّت تسعة شهور كأنها تسعة دهور على مشروع الأمّ الصغيرة..آلام و وحام .. وأثقال إلى أثقال. حان وقت المخاض بمشاقّه التي ُتبكي لشدّتها مسانِداتها اللاتي يتحلقن حولها لدعمها.. فإذا بهنّ ينتحبن مع كل صرخة، ببكاء المآتم.. أو كمن يحضر احتضاراً، لتزداد حالتها فزعاً و رعباً. فالطلق عسير، والطبيبة منهمكة مع مساعداتِها.. بعمليات الشدّ والكبس.. فتهدئها تارةً لتصرخ في وجهها تارة أخرى. تجربة المخاض تلك التي أخرجت خديجها إلى الحياة بعد برزخ الرحم، أخرجتها أيضاً من عالم طفولتها إلى عالم الراشدات بحكم خبرة الألم، ولذة إنجابٍ أعلن عنه صراخ وليدها الذي تحول إلى بوق يعلم الحاضر والغائب بأنه أقبل إلى الحياة، وأصبح على استعداد لاكتساب كامل حقوقه.
كان كامل الخَلق وأجمل من أجمل الدمى، التصقت به أمّه.. وأمّها تمسح عرقها ودموعها.. و دموعها!!
نصح الطبيب بوضعه في الحاضنة من باب الاحتياط. تشبثت به إلى قلبها وامتنعت عن تسليمه.
تدخّل زوجها بهدوئه، وقبّلها على جبينها مباركاً وبلهجة إقناع: هو لك ولن يأخذه أحد منك.. الطبيب ينصح بذلك لأن هناك زرقة حول شفاهه، وهذا يعني نقصاً في (الأوكسجين).. يقول الطبيب.. الأمر ليس إلزامياً بل من باب الاحتياط. قَبِلت تسليمه على مضض بعد وعود بأخذها لإرضاعه ثلاث مرات في اليوم، وقد يكفيه يوم أو اثنان ليشفى.
كانت تعدّ الدقائق لموعد الرضاع.. ترتدي ثياب الخروج قبل وقت طويل، مع تحمّلها لمشاكل النفاس. تركض في حالة تتوكأ فيه بقية النفاسى من الألم إلاها، وكأن موعد القطار سيفوتها.
تنظر إليه في الحاضنة غير مدركة لمحيطها، وحين يحملونه إليها كانت متلهّفة بشوق لاحتضانه وكأنه مغترب من ربع قرن عائد إلى أحضان أمه.
تغلق عينيها وتضمّه إلى صدرها ثم لا تزيح ناظريها عنه وهي ترضعه، حتى يملّ زوجها انتظاراً وبعد أن تقتلع الممرضة الصغير منها وتعيده إلى حاضنته.
استمر الأمر أربعة أيام، بعد تمديد بسبب يرقان ولاديّ ظهر عليه، جعله يحتاج إلى التعرض للأشعة فوق البنفسجية لتساعده على التخلص منه. المشهد يتكرر و فترة اللقاء تطول ليزداد تعلّقها.. فتزيد الممرضة جهدها لانتزاعه منها. يراقب الوالد المشهد.. تكتنفه مشاعر أبوّة تتصاعد يوماً بعد يوم.. محاولاً تفسير العلاقة الجديدة بينه وبين القادم الذي ملأ حياتهم صخباً.. فسلب أوقاتهم وعقولهم.
صور تأتي وتغيب، عن مستقبل ولده.. تعليمه.. خدمته الإلزامية.. زواجه.. كلّها قبل أوانها لكنها تراود أباً (ولداً) حلم بتلك اللحظة طويلاً ليصبح (أبو يحيى) بحقّ بعد أن كان اسماً مجازياً يحمله بحكم العادات الاجتماعية، كونه بكر أبيه.
ألصقته إليها وهي تعود به إلى المنزل بعد سماح الطبيب. وضعته في سريره، تحيطه الألعاب المشتراة قبل أن ينبض قلبه، ليصبح أحبَّ الدمى بين دمى أصغر.
يداعبه والده ليطير بابتساماته الملائكية، مكتشفاً منعكساته الطبيعية بالدغدغة، فيضع سبّابته في الكفّ الصغير ليطبق عليها ويسحبها والده فيشد الصغير قبضته بإحكام، ويتركها ليعيد الحركة كرّات ومرّات، يسبّح الخالق فيما صنع ويتأمّل إبداعه، وتعتريه الأسئلة الأزلية عن الدجاجة والبيضة، وسيرورة الحياة. أخيراً لقد أصبح أباً.
بعد ثلاثة أيام تقيّأ الصغير دماً، عاد إلى الحاضنة من جديد. بعد التحاليل جاءت النتيجة أنه أصيب (بالتهاب السحايا). من وراء الكواليس أخبره أحدهم أنها ربما هي عدوى من طفل قبله كان مصاباً بها وربما لم تعقّم الحاضنة من بعده.
ثلاثة أيام كانت الأم تائهة، يصحبها زوجها الحائر بين تطمينات وتحذيرات.. قد يشفى إنما بعاهة.. كل الاحتمالات واردة.. لم يستطع أحد إبلاغ الأمّ بالمحاذير كما هي.. الكلّ قلقٌ.. وأكثرهم زوجها.
بعد ثلاث أخرى في الحاضنة، أعلن الأطباء زوال الخطر. بات ليلة الخميس مطمئنّاً، ومطمئناً زوجته والجميع، أنه سيعود به يوم الجمعة بإذن الله، بعد الصلاة.
بعد الصلاة وصل إلى المشفى فوجد الطاقم ملتفّاً حول الحاضنة يجري الإسعافات لطفله، تنفّس اصطناعي وحقن، و... تلتفت الممرضة الخمسينية إلى الوالد وتقول بحسرة وخجل من لحظة لا بد منها:"العوض بسلامتك، مازلت شاباً، وامرأتك صغيرة، والله سيعوضكم عنه".
لفّ الصغير بملاءة استعارها من المشفى، ونزل حائراً وحيداً لا يلوي على شيء. لم يستطع الذهاب به إلى المنزل... ولم يستطع ألا يفعل. هل يترك أمّ الطفل تودعه للمرة الأخيرة؟... أم يعتمد على فراق لمدة ثلاثة أيام لم يدَعوها تراه خلالها، لتساعده في مهمة إعلامها؟ّ.
تبخّرت الصور التي رسمها لمستقبل طفله، ليحل محلّها لوحة رمادية، تشبه طقس ذلك اليوم (الكانونيّ) المتلبّد بالغيوم الكثيفة.
سار مسافة طويلة باحثاً عن سيارة أجرة، يحمل ولده كما القربان يقدمه على مذبح القَدَر... ورجلاه متثاقلتان يجرّهما... حالَ المحكوم بالإعدام يساق إلى حتفه!!
لم يسأله سائق الأجرة الفطن عن الوضع بل واساه ببعض الكلمات، لمّا رأى الدموع تبلّل الملاءة البيضاء بصمت لتغرقها. توجّه إلى منطقة المقابر بعد أن أومى له برأسه موافقاً.
في الطريق إليها استدرك حلقة الذكر التي تعقد بعد صلاة الجمعة، عرّج عليها أملاً بمساعدة من أحد، فهو لا يعرف ماذا يفعل، ولا يعرف بيت التُربي!!
داخل الزاوية... أجواء الإنشاد تملأ المكان هيبة وخشوعاً، لتبعث طمأنينة بتوليفة عجيبة من أصوات المنشدين المختلطة بأصوات الطبلة التي ُتضرب بجلدة صغيرة، وصنجات النحاس تضبط الإيقاع بتميزها عن بقية المضارب من طبل ودفوف. وينشد الذاكرون دور (اسق العطاش) بعد امتناع المطر عن الهطول لأكثر من ستة أسابيع.
رآه الحاج (عبدالله) عبر النافذة ولم يعتد رؤيته في حلقة الذكر.. هرع إليه، وعلم ما في الأمر
وأشار إليه ليتبعه إلى غرفته. صعدا عبر الدرجات العالية الملساء، و المجوّرة بفعل السنين، الملتوية صعوداً كدرج المئذنة، يمسك (أبو يحيى)ولده بيمناه، وحبل الإسناد المربوط بحلقات إلى الأحجار الكبيرة التي تشكّل المكان بيسراه.
ولجا الغرفة العتيقة الخالية إلا من فرشة ورفّ كتب، وإبريق ماء من التوتياء.. صحن فارغ وكرسي مصحف. وضع وليده عليه بانتظار الحاج(عبد الله) الذي خرج لتسخين الماء لغُسل الصغير، والذي تطهره بقعة دم على رأسه الحليق جزئياً لوضع المصل. كان غُسل الصغير الميت اجتهاداً ارتجالياً من الوالد و الحاج (عبد الله).
على كرسيّ المصحف بدأ يتأمل (يحيى)الذي لم يأخذ من اسمه نصيباً.. سوى بمعنى حياته في ذاكرة حياتهم. بدأ يمسح على رأسه، يداعب خصلات شعره الناعم، ووضع سبابته في الكفّ الصغيرة دون أن تقبض عليها، كانت الكفّ باردة ومطبقة نصف إطباق، يرفعها إلى أعلى كما اعتاد أن يفعل لتسقط من جديد. يمرّر اليد الصغيرة الناعمة على وجهه، وذقنه الخشنة التي نسي حلاقتها لأيام, ويمررها على شفتيه، اللتين تتابعا مسيرهما على الجسد الغضّ، وأنفه يخزّن ما استطاع من رائحة أزكى من عطر المسك. كان يتأمل الوجه الملائكي، يبتسم.. فيردّ الابتسامة و الدموع تغسل الدموع.. وكأن الصغير يعد أباه إن صبر فالجنة لقاءهما، هكذا تصوّر (أبو يحيى) حواراً دار مع ولده.
دخل الحاج (عبد الله) ومعه الماء الساخن..منشفة.. وعاء من النحاس لسكب الماء،وقماشة بيضاء. بدأ طقوس الغُسل، لتعبق المكان رائحة الورد، بينما يضفي بخار الماء المنسكب إلى المشهد أجواءً سماوية، فتختلط أصوات الذاكرين للفظ الجلالة(اللهم.. اللهم) القادمة من ردهة السلم، ومن باحة الزاوية التي تطلّ عليها الغرفة، مسبغة حالة صخب هادىء. تعكس حال دموع الأب السخية الصمّاء التي تتلألأ في عينيه لتعكس شعاع نور يسقط من نافذة قريبة من سقف الغرفة المدعّم بجذوع الخشب، ليتراقص النور والصورة في عينين لا تريدان للوقت انتهاءً... وكيف للوقت أن يتوقف.. وقد صمت المنشدون وتفرّق الذاكرون؟.
استدرك الأب أن الوقت قد انتهى فعلاً حين سمع صوت تمزيق قطع من الكفن الصغير لتكون رباطاً لمنطقة الرأس والرجلين والوسط. كفن لفّ الجسد الصغير الطاهر، والوجه الملائكي، ولفّ معه آمالاً، و أبوةً لم تستمرّ لأكثر من عشرة أيام، ولفّ معه دمية لأمّ ودّعت طفولتها، لكنها دمية من لحم ودم.
في طريقه سيراً إلى المقبرة القريبة، استجاب الله لدعاء الذاكرين... وهطل المطر بسخاء
محمود عادل بادنجكي
تعليق