خيوط النور ..( من وحي ثورة الغضب في مصر )
" الثورة يصنعها الشرفاء و يرثها و يستغلها الأوغاد " تشي جيفارا قلبك غارقٌ في بركة من المشاعر فلم تعد تميّز شعورا من آخر . لم تعد تدري هل تفرح أم تحزن ..هل تبكي أم تضحك.. مؤكّد أنت سعيد لكن حرقة تفتّت كبدك و مرارة تجيش في حناياك . لا شيء يمكنه أن يواسيك أو يخمد النار التي تتأجّج في صدرك أو حتى يخفف عنك وطأة الإحساس بالأسف و بالعجز .. تقلّب القنوات , تعاود قراءة الجرائد , تتحدّث في الهاتف , تأتيك الأخبار أولا بأول من أبنائك و الأصدقاء و الجيران..و لكن ذلك لم يرو ظمأك للتمرّغ في قلب الثورة , لم ينسك حلمك القديم المتجدّد و أملك في أن تكون موجودا هناك وسط الحشود , تملأ رئتيك بالحياة , تلتحم بالناس , الذين تعرفهم و الذين لا تعرف عنهم سوى أنهم أسودٌ ضاقت بالأسر ..و نوارس لم تعد تطيق أن يكبّلها الطين و الوحل ..
لا شيء يقنعك.. لا المرض و لا السّن و لا حتى كرسيك المتحرك الذي يلازمك كجلدك من يوم خرجت من السجن جثةً تتنفس و كتلة من الغضب مغموسة في معين الخوف .
لازلتَ مندهشا , مأخوذا بما يحدث . لا تكاد تصدق . بعد كل هذا الزمن ؟ بعد كل هذا القهر و الظلم و الصمت المطبق على الشفاه و العقول يفعلها الأحرار ؟
كم تشعر بأنك بائس مسكين !..الكون بأسره واقف في خشوع , منصتٌ في إكبار و دهشة لأروع سيمفونية يعزفها تحت الشمس , الشرفاء من أبناء وطنك , و أنت هنا قابعٌ في الظل لا تملك سوى الدعاء و الدموع ..ترفع للسماء يديك الواهنتين . تصرخ بهم في أعماقك ..يا أبنائي .. يا أبناء الضياء و النقاء لا تتركوا الأوغاد يستبيحون ثورتكم , لا تتراجعوا , لا تدعوا الخونة المرتزقة أعداء النور و الحق يطعنون حلمكم..
- أخرجوني إلى الشرفة . أريد أن أرى الشارع .
حاولت الكلام بلطف و لكن العبارة خرجت من شفتيك حادة كأنها استغاثة .
زوجتك تترجاك أن لا تفعل ..
- البرد خطر عليك .أخاف أن تصيبك نوبة ربو أخرى .
ترفع رأسك نحوها . تقول بلهجة حانية رقيقة :
- لو أموت اليوم لا تبكيني بل زغردي .
- فال الله و لا فالك يا رجل .
اهتز جسدك النحيل ..ارتجفت شفتاك . كدت تجهش بالبكاء و أنت ترى المشهد . من بعيد بدت لك حشود المتظاهرين متلاحمة متلاصقة كأنها موج بشري هادر متأهبٌ لأن يدكّ أصلب القلاع . تلك الهتافات التي ظلت حبيسة الصدور.. ها أنت تسمعها الآن ..إنّها تمزق ستار الرهبة ..تتحدّى الحديد و النار و تصعد إلى ما وراء الأفق .
و تراءت لك الزنزانة الضيّقة العفِنة بحيطانها اللزجة و بلاطها المتّسخ ..و تناهى إلى سمعك صراخُ السجناء و أنينهم حين يعودون بهم من غرفة التعذيب ..
و تراءت لك صورة محمود ..
آه..محمود ..ليتك هنا معي لترى ما أراه !
يأتيك صوته يقطر سخرية كلما رآك مصرا على تدوين يومياتك في الجحيم , على ضوء ضئيل باهت لا يكاد يمكّنك من رؤية السطور :
- مازلت تكتب ؟..مازلت تؤمن بقوة الكلمة ؟
- الكلمة سلاح .
- الكلمة أوصلتنا إلى هنا .
- على الأقل حاولنا .
- ما الجدوى ..؟
ثم يضحك ضحكة هستيرية حتى ظننتَ أنه جُنّ :
- ما أروعك و أنت تحارب الظّلم بالقلم ‼
- أنا أحارب اليأس أيضا .
- لن يتغيّر شيء .
- بل سيتغير .
- أنت تحلم .
هل تذْكر آخر مرة رأيتَ فيها محمود ؟ فتحوا باب الزنزانة و دفعوه داخلها بقوة .ارتطم جسده بالبلاط .كان يبكي من شدة الألم فتختلط دموعه بالدماء القانية التي تصبغ وجهه المشوّه الملامح .
كان يصرخ ..
- آه ..يا أولاد الكلب...سأنتقم منكم يوما يا حثالة البشر .
غادر محمود السجن قبلك بأشهر .. محمولا على لوح خشبي . لم يمت بسبب التعذيب.. لم تقتله سياط الزبانية لكنهم قتلوا فيه الأمل فمات من الإحباط .. أنت لا ..لأنك آمنت بطلوع فجر الحق و انتصار النور على الظلام رغم العذاب و الألم و الحرمان من أبسط الحقوق , رغم سنين السجن المضنية , رغم الذلّ المتراكم فوق جفونك و الكبت المتغلغل بين جنبيك و الخوف المعشش في أحداقك .
أنت لم تيأس أبدا .
انظر محمود ..لستُ احلم الآن ..لستُ احلم ..
دخل أبناؤك الثلاثة . يريدون بطانيات و بعض المؤن للشباب الذين سيبيتون خارجا .
تململتَ في كرسيك . سحبتَ الغطاء من على نصف جسدك الميت .
- انتظروا ..خذوا بطانيتي أيضا ..
يتراجع الرفض في عيون زوجتك حين تبتسم لها و تقول :
- لا عليكِ ..لن أشعر بالبرد أبدا بعد الذي رأيتُ اليوم .
يخرج الأبناء مسرعين .
و يهبط ليل آخر على جبين أم الدنيا , غير أنه ليلٌ مختلف تماما عن كلّ الليالي ..ليلٌ ناصعٌ لا أثر فيه للعتمة أو القتامة . ليس سوى خيوطٌ من نور ترسم على المباني و الجدران , على التلال و الرمال و السهول , و على صفحة النيل الناعسة أشكالا جديدة لآتٍ أفضل .
08 فبراير 2011
تعليق