في الغربة ،، تبدو لك لأول وهلة ،، كل المشاعر تجاه الآخرين وكأنها شيء محدود الصلاحية تود أن تستهلكه قبل فوات الأوان.
تخاف من التوغل فيمسام الأحاسيس ،، تكتفي بالمشي على أطراف جداولها خوف الإنزلاق ،،
تمد يديك و تغترفلتشرب ، فتبلل شفتيك دون أن ترتوي ،، تغمر رجليك بالماء ، و لكن تخاف أن تسبح وتتوغل في أحشاء البحر. تتحسس مشاعرك بأطراف أصابعك ،، تخشى أن ترتاح يداك على كتفهافتتوسدها و تنام.
خرجت بهذه القناعة منذ أول وهلة في غربتي ، و لازمتني طوالأيام التسكع في دهاليز الغربة ، المضيئة منها و المعتمة.
( بطسبيرج ،،،بنسلفانيا ) ،، تبهرني أنهارها الخمس ،، و أحس في جوها الحار بأنني لم أبتعدكثيرا.
إعتدت إرتياد ذلك المقهى الذي يعج بالأفارقة الأمريكان .
تغيرتْ بشرةبعض الأفارقة هناك ،، إتخذتْ لونا خمريا خلابا ،، زاد من حلاوته الشعر الأكرتالمتموج بفعل ( كريمات الشعر ).
أحب تلك اللكنة التي يتكلمون بها اللغةالإنجليزية ،، فهي ممطوطة و مختصرة و قوية النبرات.
يعرفونك ،، فتمتد أواصرالصداقة حتى بيوتهم و أسرهم.
الفتاة ذات العشرين ربيعا تعشق لبس بنطال الجينزالذي يتشبث بتفاصيلها ، معانقا جسدها كنبات اللبلاب ،،، يلتف به بحميمية و كأنهيخشى عليه من نظرات هذا القادم من صحراء أفريقيا الذي لا ينفك يسترق النظر و هو يرشف فنجال قهوتهبتأن و روية حتى يتاح له الزمن الكافي لملء ناظريه من هذا القوام الملفوف كثمرةباباى ممتلئة رحيقا و عصارة تعلن عن نضوج مبكر.
لا أدري لماذا ذكرني وجهها بوجهمنقوش على إحدى العملات الأوروبية القديمة.
عنق ممدود طويلا يسخر من ( طويلةمهوى القرط ) ،، فالأقراط عندها يمكنها أن تتدلى و تتدلى و تتدلى...
و شفاهأفريقية غليظة كصدفة انفرجت عن أكوام من اللؤلؤ المكنون.
تنظر إليها دون أن تملأو تكل.
تبتسم ،، فترتفع حواف وجنتيها إلى أعلى لتغطي جزءا من إتساع عينيها ،فيزيدها هذا سحرا على سحر.
عندما سمعتها أول مرة تضحك ،، أطلت النظر إليهامأخوذا ،، خيل إلى أن أجراس كنيسة تقرع مجلجلة صباح يوم أحد ،، فمازحني النادلالعجوز قائلا و هو يغمز بعينه :
ألا تود أن تعلقها تعويذة في مقدمة سيارتك. ؟
معجبوها كثيرون ،، كنت أخاف أن أقترب منها ،، فأنا لا أدري من يكون هذا أوذاك.
إكتفيت لفترة طويلة أن أنظر إلى هذه التحفة الإلهية من على البعد.
أوميءبرأسي فقط ،، فترد تحيتي بنفس الطريقة ،، و تبتسم تلك الإبتسامة التي تجعل من قهوتيسائلا لا طعم له و لا رائحة ،، فأعاود الطلب مرة أخرى و العجوز يرمقني بمكر و هوينصحني ضاحكا بشرب قهوتي قبل أن تفاجأني الفتاة بإبتسامتها.
كان يلاحظ متابعتيلها.
فاجأتني يوما و هي تقف منحنية على طاولتي :
ألا تدعوني إلى طاولتك؟
أحسست أن طاولتي إمتدت لتسع المكان كله.
عطر رقيق يضوع منها ،، عطر يذكركبأنك إبن أمك الأرض ،،، ملأت رئتي منها
قالت و هي تنظر إلى و كأنها تعرف مدىتأثير سحرها علي : قل شيئا يا رجل.
قلت : ضاع مني الكلام.
و أطلقت أجراسهاترن و تملأ المكان فرحا و صليلا . و أنا أغوص في مقعدي متشبثا ببعض الثبات الكاذب .
جلستْ و هي تمضغ علكة تنفخها هواءا فأحس بأن أنفاس رئتي قد إختزنتها تلكالعلكة ،، فتعيد العلكة إلى فمها فأحس بطعم النعناع في جوفي. مجرد إحساس قوي و مفعمأحْدثه وجودها الصاخب أمامي.
من أين أنت ؟
أنا من تراب أرضك البكر ،، منأفريقيا.
نعم ،، عرفت هذا من أول وهلة .
هل كنت تلاحظين وجودي كل يوم؟
نعم
لم ؟
لا أدري ،، شيء ما شدني إليك ،، ربما نفس الدماء التي تجري فيعروقنا ،، و ربما شيء آخر...... نفس أسبابك ربما.
و إبتسمت تلك الإبتسامة التيتجهض كل محاولات تماسكي و تصيبه بالنزف الفاضح.
هلا أخبرتيني عن هذا الشيء الآخر؟
لا تكن ملحاحا ،، هذه أول مرة أحادثك فيها ،، أنا نفسي لا أعرف كنه السبب. أحسه و لا أعرفه.
هل لديك صديق ؟
أصدقائي كثيرون ،، و لكن ليس لي صديق حميمبالمعنى المفهوم.
لم ؟ فأنت في غاية الجمال.
أنا أفرِق بين من يريدني لجمالي،، و من يغوص في روحي. أكثر الرجال الآن يستعجلون دعوة الفتاة لإشباع غريزتهم قبلأن يعرفوا من هي و كيف تفكر. هذا ما أعتقده و أؤمن به.
معنى هذا أنه لم يفهمكأحد إلى الآن؟
ليس بهذا الشكل. و لكن أريد شخصا يحاورني و يتآلف مع ما أفكر بهقبل أن تنزلق عيناه إلى جسدي.أريد رجلا يذوب عقله في عقلي قبل أن تلتهمني نظراتهبنهم. أتفهم ما أعنيه ؟
بالطبع ،، بالطبع أفهم.
أحسست بشيء من الخجل ،،فكأنها أصابت هدفا بسهم صراحتها.
سبابتها تدور على أطراف الكأس بشكل دائري و هيتنظر إلي نظرات ذات مغزى،، كأنها تفصح عن حيرتها أمام شخص لا يمت إلىعالمها.
أريد أن أتجول في المدينة ،، أيمكنك أن ترافقينني ؟
أومأتْ برأسهاموافقة.
طيلة مدة مرافقتها لي ،، كنت أسألها نفس السؤال : ما هو الشيء الذي شدكإليَ ؟
تماطل أحيانا ،، و أحيانا تغضب ،، أرضيها بدعوة لمشاهدة فيلم ،، أو عشاءفي مطعم فاخر.
ذهبنا لزيارة والديها في مصبغة ملابس يملكانها.
قابلوني بتوجس،، و بترحاب حذر.
ثم إنفردا بها في غرفة داخلية ،، سمعت بعض الحديث ،، كانايسألانها عن مدى علاقتها بي ،، و ماذا تنوي أن تفعل . إرتفعت أصواتهم ثمهدأتْ.
في طريق العودة ،، ظللت صامتا.
قالت : ما بك ؟
لا شيء
هل سمعتحديثنا ؟
بعضا منه.
قالت ضاحكة : يحسب والداى بأنني سأهرب معك إلى بلدك.
ومن أين أتتهما هذه الفكرة ؟
من صديق غيور خاصمته قبل أن أخرج معك.
يالها منطريقة للتخلص مني. ما رأيك أن تأتي معي لبلدي بالفعل؟
لم لا تبق أنت معي ،، فعلىالأقل أنت هنا الآن ؟
أفحمتني بطلبها.
في ركن منزو في ملهى ليلي ،،، حاولتْأن تجعلني أنسى محادثتها مع والديها.
ملأتْ صحو الجو سحب داكنة كسحب خريفأفريقيا ،،، كدخان أزرق يعشعش في الرأس فيصيب الخدر أطراف الجسم ،، و زمجر الرعدمعربدا ،،، كغريزة أُطلقتْ من عقالها فانفلتت تعدو كثور في مستودع الخزف ،، وتساقطت قطرات من المطر بصوت مكتوم ينقر على زجاج النافذة ،، فتسيل القطرات مخلِفةخطوطا متعرجة ،، و ومْض البرق يشق جوف الليل ،،، في التحام و تجانس بين النار والماء ، بين الرغبة الجامحة و انكسارها ،، و للأمطار في النفوس فعل السحر ،، و تكسوالأجساد بنداوة قطرات الندى المنزلقة على أوراق الشجر ذات صباح بهي في غابة صنوبرية(............
رغم صغر سنها ،، فقد أدهشتني بغزارة معلوماتها.
تتحدث عن مارتنلوثر كنج و تتلو على من ذاكرتها مقتطفات من أقواله.
تتحدث عن تاريخ الجازالأمريكي بتفاصيل دقيقة ،، حدثتني عن سامي ديفس ، و عن جيمي براون ،، إنتهاءابالروك و رقصة الفالس و بحيرة البجع ،، و الحرب الأهلية في أمريكا ، و عن الحربالباردة ،،و عن نضال السود في أمريكا ،،الذي تذكر كل مجرياته باليوم و التاريخ وأسماء الأشخاص.
تتحدث عن كل شيء في كل شيء ،، موسوعة متحركة.
بهرتني تماما. كنت أظنها ستكون فتاة معجبة بجمالها ،، و تتكيء على هذا الإعجاب الذي يغمرها به كلمن حولها.
رغم أنني لم أستطع مجاراتها في كل شيء ،، إلا أنها كانت سعيدةبمحاورتي لها. كانت مستغربة بمعرفتي عن مارتن لوثر و عن نضال السود و بمعلوماتيالمتواضعة عن الموسيقى و تاريخ الأوبرا.
لا تؤمن بالديمقراطيين و لا بالجمهوريين،، تقول أن الحزبين في نفاق مستمر لليهود و لهث وراء المصالح الخاصة. تحلم بحزب يضمالمسحوقين من الشعوب الأمريكية يقوده أحد أبناء جلدتها.
طيلة الأيام التالية ،،و بشكل مفاجيء ،، كانت منطوية على نفسها قليلا ،، لم تعد تلك الفتاة المنطلقة علىسجيتها. كسا محياها حزن عميق.
ذهبت كعادتي للقهوة لأقابلها ،، ناولني العجوزمظروفا أنيقا معطرا ،، نظرت إليه ، كان منها ، فتحته بيد مرتعشة ،، و قرأت :
أعذرني لأنني سافرت غربا إلى أوهايو دون أن أودعك.
سأكون عند عمتي لمتابعةدراستي التي إنقطعت.
يقولون أن شمس أفريقيا ساطعة و محرقة ،، و أن غاباتها رائعةو دائمة الإخضرار ،، و أن لها سحرا أخاذا يجذب المرء إليه ليعود و يزورها مرات ومرات.
و شاهدت كل هذا بعد أن رأيتك.... أحسست به تماما . رأيت أفريقيا بعيونك. لفحتني شمسها عندما وضعت يدي بين يديك.
طوال الأيام الفائتة كنت أصارع مشاعر شتىلا أستطيع أن أذكرها لك هنا.
و لكنني رأيت كيف أنه يمكنك أن تعيش هنا معي سعيدا .
أنا أيضا يمكنني أن أعيش معك في أي ركن من أركان الدنيا دون أي مبالغة.
ولكنك تدري أن طموحي في مواصلة الدراسة لا يحده حد.
و لي تطلعات كبيرة ،، تعرفبعضها جيدا.
أرجوك ،،، إبق معي و لا تعد إلى هناك ،، على الأقل الآن ،، أرجوك ..
لك حبي.. و قبلاتي..
رفعت نظري ،، العجوز يرمقني بتحفز ،، عرفت أنهاقد حدثته بالأمر كله فقد كانت تثق به و تحبه كوالدها تماما،، نظراته كانت تقول أنهينتظر إجابتي.
وضعت الخطاب في جيبي .
قرأته عدة مرات حتى كدت أن أحفظه عن ظهرقلب. لأيام طويلة أخرج الخطاب من جيبي و أقرؤه ثم أعيده.
عدت للقهوة.
قلتللعجوز : لا أريد أن أقول لك وداعا ،، فهي كلمة صعبة على القلب.
أهذا وداع أخير؟
أخشى أن يكون كذلك.
هي أيضا لن تأتي ،، أنا أعرفها تماما ،، سأفتقدكما حقا. هل ستذهب إليها ؟
ربما. لا أدري تماما.
أمسك بكلتا يدي طويلا ، ثم قال و هويربت على كتفي :
كنت في شبابي ،، أتبع صوت عقلي دائما في كل أموري ،، و لم أندم . المرة الوحيدة التي سمعت فيها صوت قلبي ،، حدث شرخ لم أستطع أن أجبره رغم كل هذهالسنوات. أتمنى لك حظا طيبا يا بنى.
ثم إنسحب إلى الداخل .
نظرت إلى مقعدهاالخالي ،،
موسيقى كلاسيكية هادئة تغمر المحل ،، ضحكاتها ترن في أذني كأنها تنطلق منكل مكان في المقهى كروح معذبة تهيم بين المقاعد و على الطاولات ،،
و عطرها كأنه لايزال ملء الرئتين.
تخاف من التوغل فيمسام الأحاسيس ،، تكتفي بالمشي على أطراف جداولها خوف الإنزلاق ،،
تمد يديك و تغترفلتشرب ، فتبلل شفتيك دون أن ترتوي ،، تغمر رجليك بالماء ، و لكن تخاف أن تسبح وتتوغل في أحشاء البحر. تتحسس مشاعرك بأطراف أصابعك ،، تخشى أن ترتاح يداك على كتفهافتتوسدها و تنام.
خرجت بهذه القناعة منذ أول وهلة في غربتي ، و لازمتني طوالأيام التسكع في دهاليز الغربة ، المضيئة منها و المعتمة.
( بطسبيرج ،،،بنسلفانيا ) ،، تبهرني أنهارها الخمس ،، و أحس في جوها الحار بأنني لم أبتعدكثيرا.
إعتدت إرتياد ذلك المقهى الذي يعج بالأفارقة الأمريكان .
تغيرتْ بشرةبعض الأفارقة هناك ،، إتخذتْ لونا خمريا خلابا ،، زاد من حلاوته الشعر الأكرتالمتموج بفعل ( كريمات الشعر ).
أحب تلك اللكنة التي يتكلمون بها اللغةالإنجليزية ،، فهي ممطوطة و مختصرة و قوية النبرات.
يعرفونك ،، فتمتد أواصرالصداقة حتى بيوتهم و أسرهم.
الفتاة ذات العشرين ربيعا تعشق لبس بنطال الجينزالذي يتشبث بتفاصيلها ، معانقا جسدها كنبات اللبلاب ،،، يلتف به بحميمية و كأنهيخشى عليه من نظرات هذا القادم من صحراء أفريقيا الذي لا ينفك يسترق النظر و هو يرشف فنجال قهوتهبتأن و روية حتى يتاح له الزمن الكافي لملء ناظريه من هذا القوام الملفوف كثمرةباباى ممتلئة رحيقا و عصارة تعلن عن نضوج مبكر.
لا أدري لماذا ذكرني وجهها بوجهمنقوش على إحدى العملات الأوروبية القديمة.
عنق ممدود طويلا يسخر من ( طويلةمهوى القرط ) ،، فالأقراط عندها يمكنها أن تتدلى و تتدلى و تتدلى...
و شفاهأفريقية غليظة كصدفة انفرجت عن أكوام من اللؤلؤ المكنون.
تنظر إليها دون أن تملأو تكل.
تبتسم ،، فترتفع حواف وجنتيها إلى أعلى لتغطي جزءا من إتساع عينيها ،فيزيدها هذا سحرا على سحر.
عندما سمعتها أول مرة تضحك ،، أطلت النظر إليهامأخوذا ،، خيل إلى أن أجراس كنيسة تقرع مجلجلة صباح يوم أحد ،، فمازحني النادلالعجوز قائلا و هو يغمز بعينه :
ألا تود أن تعلقها تعويذة في مقدمة سيارتك. ؟
معجبوها كثيرون ،، كنت أخاف أن أقترب منها ،، فأنا لا أدري من يكون هذا أوذاك.
إكتفيت لفترة طويلة أن أنظر إلى هذه التحفة الإلهية من على البعد.
أوميءبرأسي فقط ،، فترد تحيتي بنفس الطريقة ،، و تبتسم تلك الإبتسامة التي تجعل من قهوتيسائلا لا طعم له و لا رائحة ،، فأعاود الطلب مرة أخرى و العجوز يرمقني بمكر و هوينصحني ضاحكا بشرب قهوتي قبل أن تفاجأني الفتاة بإبتسامتها.
كان يلاحظ متابعتيلها.
فاجأتني يوما و هي تقف منحنية على طاولتي :
ألا تدعوني إلى طاولتك؟
أحسست أن طاولتي إمتدت لتسع المكان كله.
عطر رقيق يضوع منها ،، عطر يذكركبأنك إبن أمك الأرض ،،، ملأت رئتي منها
قالت و هي تنظر إلى و كأنها تعرف مدىتأثير سحرها علي : قل شيئا يا رجل.
قلت : ضاع مني الكلام.
و أطلقت أجراسهاترن و تملأ المكان فرحا و صليلا . و أنا أغوص في مقعدي متشبثا ببعض الثبات الكاذب .
جلستْ و هي تمضغ علكة تنفخها هواءا فأحس بأن أنفاس رئتي قد إختزنتها تلكالعلكة ،، فتعيد العلكة إلى فمها فأحس بطعم النعناع في جوفي. مجرد إحساس قوي و مفعمأحْدثه وجودها الصاخب أمامي.
من أين أنت ؟
أنا من تراب أرضك البكر ،، منأفريقيا.
نعم ،، عرفت هذا من أول وهلة .
هل كنت تلاحظين وجودي كل يوم؟
نعم
لم ؟
لا أدري ،، شيء ما شدني إليك ،، ربما نفس الدماء التي تجري فيعروقنا ،، و ربما شيء آخر...... نفس أسبابك ربما.
و إبتسمت تلك الإبتسامة التيتجهض كل محاولات تماسكي و تصيبه بالنزف الفاضح.
هلا أخبرتيني عن هذا الشيء الآخر؟
لا تكن ملحاحا ،، هذه أول مرة أحادثك فيها ،، أنا نفسي لا أعرف كنه السبب. أحسه و لا أعرفه.
هل لديك صديق ؟
أصدقائي كثيرون ،، و لكن ليس لي صديق حميمبالمعنى المفهوم.
لم ؟ فأنت في غاية الجمال.
أنا أفرِق بين من يريدني لجمالي،، و من يغوص في روحي. أكثر الرجال الآن يستعجلون دعوة الفتاة لإشباع غريزتهم قبلأن يعرفوا من هي و كيف تفكر. هذا ما أعتقده و أؤمن به.
معنى هذا أنه لم يفهمكأحد إلى الآن؟
ليس بهذا الشكل. و لكن أريد شخصا يحاورني و يتآلف مع ما أفكر بهقبل أن تنزلق عيناه إلى جسدي.أريد رجلا يذوب عقله في عقلي قبل أن تلتهمني نظراتهبنهم. أتفهم ما أعنيه ؟
بالطبع ،، بالطبع أفهم.
أحسست بشيء من الخجل ،،فكأنها أصابت هدفا بسهم صراحتها.
سبابتها تدور على أطراف الكأس بشكل دائري و هيتنظر إلي نظرات ذات مغزى،، كأنها تفصح عن حيرتها أمام شخص لا يمت إلىعالمها.
أريد أن أتجول في المدينة ،، أيمكنك أن ترافقينني ؟
أومأتْ برأسهاموافقة.
طيلة مدة مرافقتها لي ،، كنت أسألها نفس السؤال : ما هو الشيء الذي شدكإليَ ؟
تماطل أحيانا ،، و أحيانا تغضب ،، أرضيها بدعوة لمشاهدة فيلم ،، أو عشاءفي مطعم فاخر.
ذهبنا لزيارة والديها في مصبغة ملابس يملكانها.
قابلوني بتوجس،، و بترحاب حذر.
ثم إنفردا بها في غرفة داخلية ،، سمعت بعض الحديث ،، كانايسألانها عن مدى علاقتها بي ،، و ماذا تنوي أن تفعل . إرتفعت أصواتهم ثمهدأتْ.
في طريق العودة ،، ظللت صامتا.
قالت : ما بك ؟
لا شيء
هل سمعتحديثنا ؟
بعضا منه.
قالت ضاحكة : يحسب والداى بأنني سأهرب معك إلى بلدك.
ومن أين أتتهما هذه الفكرة ؟
من صديق غيور خاصمته قبل أن أخرج معك.
يالها منطريقة للتخلص مني. ما رأيك أن تأتي معي لبلدي بالفعل؟
لم لا تبق أنت معي ،، فعلىالأقل أنت هنا الآن ؟
أفحمتني بطلبها.
في ركن منزو في ملهى ليلي ،،، حاولتْأن تجعلني أنسى محادثتها مع والديها.
ملأتْ صحو الجو سحب داكنة كسحب خريفأفريقيا ،،، كدخان أزرق يعشعش في الرأس فيصيب الخدر أطراف الجسم ،، و زمجر الرعدمعربدا ،،، كغريزة أُطلقتْ من عقالها فانفلتت تعدو كثور في مستودع الخزف ،، وتساقطت قطرات من المطر بصوت مكتوم ينقر على زجاج النافذة ،، فتسيل القطرات مخلِفةخطوطا متعرجة ،، و ومْض البرق يشق جوف الليل ،،، في التحام و تجانس بين النار والماء ، بين الرغبة الجامحة و انكسارها ،، و للأمطار في النفوس فعل السحر ،، و تكسوالأجساد بنداوة قطرات الندى المنزلقة على أوراق الشجر ذات صباح بهي في غابة صنوبرية(............
رغم صغر سنها ،، فقد أدهشتني بغزارة معلوماتها.
تتحدث عن مارتنلوثر كنج و تتلو على من ذاكرتها مقتطفات من أقواله.
تتحدث عن تاريخ الجازالأمريكي بتفاصيل دقيقة ،، حدثتني عن سامي ديفس ، و عن جيمي براون ،، إنتهاءابالروك و رقصة الفالس و بحيرة البجع ،، و الحرب الأهلية في أمريكا ، و عن الحربالباردة ،،و عن نضال السود في أمريكا ،،الذي تذكر كل مجرياته باليوم و التاريخ وأسماء الأشخاص.
تتحدث عن كل شيء في كل شيء ،، موسوعة متحركة.
بهرتني تماما. كنت أظنها ستكون فتاة معجبة بجمالها ،، و تتكيء على هذا الإعجاب الذي يغمرها به كلمن حولها.
رغم أنني لم أستطع مجاراتها في كل شيء ،، إلا أنها كانت سعيدةبمحاورتي لها. كانت مستغربة بمعرفتي عن مارتن لوثر و عن نضال السود و بمعلوماتيالمتواضعة عن الموسيقى و تاريخ الأوبرا.
لا تؤمن بالديمقراطيين و لا بالجمهوريين،، تقول أن الحزبين في نفاق مستمر لليهود و لهث وراء المصالح الخاصة. تحلم بحزب يضمالمسحوقين من الشعوب الأمريكية يقوده أحد أبناء جلدتها.
طيلة الأيام التالية ،،و بشكل مفاجيء ،، كانت منطوية على نفسها قليلا ،، لم تعد تلك الفتاة المنطلقة علىسجيتها. كسا محياها حزن عميق.
ذهبت كعادتي للقهوة لأقابلها ،، ناولني العجوزمظروفا أنيقا معطرا ،، نظرت إليه ، كان منها ، فتحته بيد مرتعشة ،، و قرأت :
أعذرني لأنني سافرت غربا إلى أوهايو دون أن أودعك.
سأكون عند عمتي لمتابعةدراستي التي إنقطعت.
يقولون أن شمس أفريقيا ساطعة و محرقة ،، و أن غاباتها رائعةو دائمة الإخضرار ،، و أن لها سحرا أخاذا يجذب المرء إليه ليعود و يزورها مرات ومرات.
و شاهدت كل هذا بعد أن رأيتك.... أحسست به تماما . رأيت أفريقيا بعيونك. لفحتني شمسها عندما وضعت يدي بين يديك.
طوال الأيام الفائتة كنت أصارع مشاعر شتىلا أستطيع أن أذكرها لك هنا.
و لكنني رأيت كيف أنه يمكنك أن تعيش هنا معي سعيدا .
أنا أيضا يمكنني أن أعيش معك في أي ركن من أركان الدنيا دون أي مبالغة.
ولكنك تدري أن طموحي في مواصلة الدراسة لا يحده حد.
و لي تطلعات كبيرة ،، تعرفبعضها جيدا.
أرجوك ،،، إبق معي و لا تعد إلى هناك ،، على الأقل الآن ،، أرجوك ..
لك حبي.. و قبلاتي..
رفعت نظري ،، العجوز يرمقني بتحفز ،، عرفت أنهاقد حدثته بالأمر كله فقد كانت تثق به و تحبه كوالدها تماما،، نظراته كانت تقول أنهينتظر إجابتي.
وضعت الخطاب في جيبي .
قرأته عدة مرات حتى كدت أن أحفظه عن ظهرقلب. لأيام طويلة أخرج الخطاب من جيبي و أقرؤه ثم أعيده.
عدت للقهوة.
قلتللعجوز : لا أريد أن أقول لك وداعا ،، فهي كلمة صعبة على القلب.
أهذا وداع أخير؟
أخشى أن يكون كذلك.
هي أيضا لن تأتي ،، أنا أعرفها تماما ،، سأفتقدكما حقا. هل ستذهب إليها ؟
ربما. لا أدري تماما.
أمسك بكلتا يدي طويلا ، ثم قال و هويربت على كتفي :
كنت في شبابي ،، أتبع صوت عقلي دائما في كل أموري ،، و لم أندم . المرة الوحيدة التي سمعت فيها صوت قلبي ،، حدث شرخ لم أستطع أن أجبره رغم كل هذهالسنوات. أتمنى لك حظا طيبا يا بنى.
ثم إنسحب إلى الداخل .
نظرت إلى مقعدهاالخالي ،،
موسيقى كلاسيكية هادئة تغمر المحل ،، ضحكاتها ترن في أذني كأنها تنطلق منكل مكان في المقهى كروح معذبة تهيم بين المقاعد و على الطاولات ،،
و عطرها كأنه لايزال ملء الرئتين.
تعليق