طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • mmogy
    كاتب
    • 16-05-2007
    • 11282

    المكتبة العلمية والثقافية طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

    طبائع الاستبداد
    و
    مصارع الاستعباد


    وهي كلمة حق و صرخة في واد
    إن ذهبت اليوم مع الريح
    لقد تذهب غداً بالأوتاد












    عبد الرحمن الكواكبي


    يتبع
    إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
    يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
    عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
    وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
    وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
  • mmogy
    كاتب
    • 16-05-2007
    • 11282

    #2

    بسم الله الرحمن الرحيم

    فاتحة الكتاب




    الحمد للّه ، خالق الكون على نظامٍ محكم ٍ متين ، والصّلاة والسّلام على أنبيائه العظام ، هداة الأمم إلى الحقّ المبين، لاسيما منهم على النبيّ العربيّ الذي أرسله رحمة ً للعالمين ليرقى بهم معاشاً ومعاداً على سلّم الحكمة إلى علّيين.

    أقولُ وأنا مسلم عربي مضطر للاكتتام شأن الضّعيف الصّادع بالأمر، المعلن رأيه تحت سماء الشرق ، الرّاجي اكتفاء المطالعين بالقول عمًّن قال : وتعرف الحقّ في ذاته لا بالرجال ، إنني في سنة ثماني عشر وثلاثمائة وألف هجرية هجرتُ دياري سرحاً في الشّرق ، فزرتُ مصر ، واتخذتها لي مركزاً أرجع إليه مغتنماً عهد الحرّيّة فيها على عهد عزيزها حضرة سميًّ عم النّبي ( العباس الثاني ) النّاشر لواء الأمن على أكناف ملكه ، فوجدتُ أفكار سراة القوم في مصر كما هي في سائر الشّرق خائضةٌ عباب البحث في المسألة الكبرى ، أعني المسألة الاجتماعية في الشّرق عموماً وفي المسلمين خصوصاً ، إنما هم كسائر الباحثين ، كلّ ٌ يذهب مذهباً في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء.

    وحيثُ إني قد تمحّص عندي أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي ودواؤه دفعه بالشّورى الدّستورية . وقد استقرَّ فكري على ذلك كما أنّ لكُلّ نبأ مستقراً ـ بعد بحث ثلاثين عاماً ... بحثاً أظنّهُ يكاد يشمل كلّ ما يخطرُ على البال من سبب يتوهّمُ فيه الباحث عند النظرةِ الأولى ، أنهُ ظفر بأصل الدّاء أو بأهمّ أصوله ، ولكنْ ؛ لا يلبث أنْ يكشف له التّدقيق أنّه لم يظفر بشيء ، أو أنّ ذلك فرعٌ لا أصل ، أو هو نتيجة لا وسيلة .

    فالقائلُ مثلاً : إنّ أصل الدّاء التّهاون في الدّين ، لا يلبث أنْ يقف حائراً عندما يسأل نفسه لماذا تهاون النّاس في الدّين ؟ والقائل : إنّ الدّاء اختلاف الآراء ، يقف مبهوتاً عند تعليل سبب الاختلاف . فإن قال : سببه الجهل ، يَشْكُلُ عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشدّ ... وهكذا ؛ يجد نفسه في حلقة مُفرغة لا مبدأ لها ، فيرجع إلى القول : هذا ما يريده الله بخلقه ، غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأنّ الله حكيمٌ عادلٌ رحيمٌ ...

    وإنّي، إراحةً لفكر المطالعين ، أعدّد لهم المباحث التي طالما أتعبتُ نفسي في تحليلها ، وخاطرتُ حتّى بحياتي في درسها وتدقيقها ، وبذلك يعلمون أنّي ما وافقتُ على الرّأي القائل بأنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي إلا بعد عناءٍ طويل يرجحُ قد أصبتُ الغرض.

    وأرجو الله أنْ يجعل حُسنَ نيَّتي شفيع سيئاتي ، وهاهي المباحث :
    إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
    يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
    عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
    وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
    وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

    تعليق

    • mmogy
      كاتب
      • 16-05-2007
      • 11282

      #3

      في زيارتي هذه لمصر، نشرتُ في أشهر جرائدها بعض مقالات سياسية تحت عنوانات الاستبداد : ما هو الاستبداد وما تأثيره على الدّين ، على العلم ، على التّربية على الأخلاق ، على المجد ، على المال ... إلى غير ذلك .

      ثم في زيارتي إلى مصر ثانيةً أجبتُ تكليف بعض الشبيبة ، فوسّعتُ تلك المباحث خصوصاً في الاجتماعيات كالتربية والأخلاق ، وأضفت إليها طرائق التخلُّص من الاستبداد ، ونشرتُ ذلك في كتاب سمَّيته ( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ) وجعلته هديةً مني للنّاشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيُمْنِ نواصيهم . ولا غروَ، فلا شباب إلا بالشباب .

      ثمّ في زيارتي هذه ، وهي الثالثة ، وجدتُ الكتاب قد نفد في برهةٍ قليلة ، فأحببتُ أن أعيد النّظر فيه ، وأزيده زيداً مما درستُهُ فضبطتُه ، أو ما اقتبستُه وطبَّقتُه ، وقد صرفتُ في هذا السبيل عمراً عزيزاً وعناءً غير قليل ...

      وأنا لا أقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومةً وأمَّة مخصصة ، وإنما أردتُ بيان طبائع الاستبداد وما يفعل ، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه ...

      ولي هناك قصدٌ آخر؛ وهو التنبيه لمورد الداء الدّفين ، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم ، أنهم هم المتسببون لما حلَّ بهم ، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفَقْدِ الهمم والتّواكل .. وعسى الذين فيهم بقية رمقٍ من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات ...

      وقد تخيّرتُ في الإنشاء أسلوب الاقتضاب ، وهو الأسلوب السّهل المفيد الذي يختاره كُتَّاب سائر اللغات ، ابتعاداً عن قيود التعقيد وسلاسل التّأصيل والتّفريغ .

      هذا وإنّي أخالف أولئك المؤلِّفين، فلا أتمنى العفو عن الزلل؛ إنما أقول :
      هذا جهدي، وللناقد الفاضل أن يأتي قومه بخير منه. فما أنا إلا فاتح باب صغير من أسوار الاستبداد . عسى الزمان يوسِّعه ، والله وليُّ المهتدين.



      1320هـ- 1902م
      إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
      يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
      عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
      وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
      وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

      تعليق

      • mmogy
        كاتب
        • 16-05-2007
        • 11282

        #4
        مقدمة

        لا خفاء أنّ السّياسة علمٌ واسعٌ جدّاً ، يتفرّعُ إلى فنون كثيرة ومباحثَ دقيقة شتّى . وقلّما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم ، كما أنّه قلّما يوجد إنسان لا يحتكُّ فيه .

        وقد وُجد في كلِّ الأمم المترقية علماءُ سياسيون ، تكلّموا في فنون السّياسة و مباحثها استطراداً في مدوّنات الأديان أو الحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب . ولا تُعرف للأقدمين كتبٌ مخصوصة في السّياسة لغير مؤسِّسي الجمهوريات في الرّومان واليونان ، وإنّما لبعضهم مُؤلّفات سياسية أخلاقية ككليلة ودمنة ورسائل غوريغوريوس ، ومحرّرات سياسية دينية كنهج البلاغة وكتاب الخراج .

        وأما في القرون المتوسطة فلا تؤثر أبحاث مُفصّلة في هذا الفن لغير علماء الإسلام ؛ فهم ألّفوا فيه ممزوجاً بالأخلاق كالرّازي ، والطّوسي ، والغزالي ، والعلائي ، وهي طريقة الفُرْسِ ، وممزوجاً بالأدب كالمعرّي ، والمتنبّي ، وهي طريقة العرب ، وممزوجاً بالتاريخ كابن خلدون ، وابن بطوطة ، وهي طريقة المغاربة .

        أمّا المتأخِّرون من أهل أوروبا ، ثمَّ أمريكا ، فقد توسَّعوا في هذا العلم وألّفوا فيه كثيراً وأشبعوه تفصيلاً، حتَّى إنّهم أفردوا بعض مباحثه في التّأليف بمجلّدات ضخمة ، وقد ميّزوا مباحثه إلى سياسة عمومية ، وسياسة خارجية ، وسياسة إدارية ، وسياسة اقتصادية ، وسياسة حقوقية ، إلخ . وقسّموا كلاً منها إلى أبواب شتَّى وأصول وفروع .

        وأمّا المتأخِّرون من الشرقيين ، فقد وُجد من التّرك كثيرون ألّفوا في أكثر مباحثه تآليف مستقلّة وممزوجة مثل : أحمد جودة باشا ، وكمال بك ، وسليمان باشا ، وحسن فهمي باشا ، والمؤلّفون من العرب قليلون ومقلّون ، والذين يستحقّون الذكر منهم فيما نعلم : رفاعة بك ، وخير الدّين باشا التّونسي ، وأحمد فارس ، وسليم البستاني ، والمبعوث المدني .

        ولكنْ ؛ يظهر لنا أنّ المحرِّرين السّياسيين من العرب قد كثروا ، بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات في مواضع كثيرة . ولهذا ، لاح لهذا العاجز أنْ أُذكّر حضراتهم على لسان بعض الجرائد العربية بموضوع هو أهمّ المباحث السّياسية ، وقلَّ من طرق بابه منهم إلى الآن ، فأدعوهم إلى ميدان المسابقة في خير خدمة ينيرون بها أفكار إخوانهم الشرقيين وينبِّهونهم ـ لاسيما العرب منهم ـ لما هم عنه غافلون، فيفيدونهم بالبحث والتّعليل وضرب الأمثال والتّحليل ( ما هو داء الشّرق وما هو دواؤه ؟ ) .

        ولمّا كان تعريف علم السّياسة بأنّه هو « إدارة الشّؤون المشتركة بمقتضى الحكمة » يكون بالطّبع أوّل مباحث السّياسة وأهمّها بحث ( الاستبداد ) ؛ أي التّصرُّف في الشّؤون المشتركة بمقتضى الهوى .

        وإنّي أرى أنّ المتكلِّم في الاستبداد عليه أن يلاحظ تعريف وتشخيص (( ما هو الاستبداد ؟ ما سببه ؟ ما أعراضه ؟ ما سيره ؟ ما إنذاره ؟ ما دواؤه ؟ ))
        إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
        يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
        عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
        وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
        وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

        تعليق

        • mmogy
          كاتب
          • 16-05-2007
          • 11282

          #5
          وكلُّ موضوع من ذلك يتحمّل تفصيلات كثيرة ، وينطوي على مباحث شتّى من أمهاتها :
          ما هي طبائع الاستبداد ؟
          لماذا يكون المستبدُّ شديد الخوف ؟
          لماذا يستولي الجبن على رعية المستبدّ ؟

          ما تأثير الاستبداد

          على الدّين ؟
          على العلم ؟
          على المجد ؟
          على المال ؟
          على الأخلاق ؟
          على التَّرقِّي ؟
          على التّربية ؟
          على العمران ؟
          مَنْ هم أعوان المستبدّ؟
          هل يُتحمّل الاستبداد؟
          كيف يكون التّخلص من الاستبداد؟
          بماذا ينبغي استبدال الاستبداد؟

          قبل الخوض في هذه المسائل يمكننا أن نشير إلى النّتائج التي تستقرُّ عندها أفكار الباحثين في هذا الموضوع ، وهي نتائج متَّحدة المدلول مختلفة التعبير على حسب اختلاف المشارب والأنظار في الباحثين ، وهي :

          يقول المادي : الدّاء : القوة ، والدّواء : المقاومة.
          ويقول السّياسي : الدّاء : استعباد البرية ، والدّواء : استرداد الحرّيّة .
          ويقول الحكيم : الدّاء : القدرة على الاعتساف ، والدّواء : الاقتدار على الاستنصاف .
          ويقول الحقوقي : الدّاء : تغلّب السّلطة على الشّريعة ، والدّواء : تغليب الشّريعة على السّلطة .
          ويقول الرّبّاني : الدّاء : مشاركة الله في الجبروت ، والدّواء : توحيد الله حقّاً .
          وهذه أقوال أهل النظر ،

          و أمّا أهل العزائم:
          فيقول الأبيُّ : الدّاء : مدُّ الرّقاب للسلاسل ، والدّواء : الشّموخ عن الذّل .
          ويقول المتين : الدّاء : وجود الرّؤساء بلا زمام ، والدّواء : ربطهم بالقيود الثّقال .
          ويقول الحرّ : الدّاء : التّعالي على النّاس باطلاً ، والدّواء : تذليل المتكبّرين .
          ويقول المفادي : الدّاء : حبُّ الحياة ، والدّواء : حبُّ الموت .
          إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
          يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
          عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
          وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
          وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

          تعليق

          • mmogy
            كاتب
            • 16-05-2007
            • 11282

            #6
            ما هو الاستبداد

            الاستبدادُ لغةً هو : غرور المرء برأيه ، والأنفة عن قبول النّصيحة ، أو الاستقلال في الرّأي وفي الحقوق المشتركة .
            ويُراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصّةً ؛ لأنّها أعظم مظاهر أضراره التي جعلتْ الإنسان أشقى ذوي الحياة . وأما تحكّم النّفس على العقل ، وتحكُّم الأب والأستاذ والزّوج ، ورؤساء بعض الأديان ، وبعض الشركات ، وبعض الطّبقات ؛ فيوصف بالاستبداد مجازاً أو مع الإضافة .

            الاستبداد في اصطلاح السّياسيين هو : تَصَرُّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة ، وقد تَطرُق مزيدات على هذا المعنى الاصطلاحي
            فيستعملون في مقام كلمة ( استبداد ) كلمات : استعباد ، واعتساف ، وتسلُّط ، وتحكُّم . وفي مقابلتها كلمات : مساواة ، وحسّ مشترك ، وتكافؤ ، وسلطة عامة .
            ويستعملون في مقام صفة ( مستبدّ ) كلمات : جبّار، وطاغية ، وحاكم بأمره ، وحاكم مطلق . وفي مقابلة ( حكومة مستبدّة ) كلمات : عادلة ، ومسؤولة ، ومقيّدة ، ودستورية.
            ويستعملون في مقام وصف الرّعية ( المستَبَدّ عليهم ) كلمات : أسرى ، ومستصغرين ، وبؤساء ، ومستنبتين ، وفي مقابلتها : أحرار، وأباة ، وأحياء ، وأعزّاء .

            هذا تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات ،

            وأمّا تعريفه بالوصف فهو : أنّ الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً ، التي تتصرّف في شؤون الرّعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَين .
            وتفسير ذلك هو كون الحكومة إمّا هي غير مُكلّفة بتطبيق تصرُّفها على شّريعة ، أو على أمثلة تقليدية ، أو على إرادة الأمّة ، وهذه حالة الحكومات المُطلقة.
            أو هي مقيّدة بنوع من ذلك ، ولكنّها تملك بنفوذها إبطال قوّة القيد بما تهوى ، وهذه حالة أكثر الحكومات التي تُسمّي نفسها بالمقيّدة أو بالجمهورية .

            وأشكال الحكومة المستبدّة كثيرة ليس هذا البحث محلُّ تفصيلها. ويكفي هنا الإشارة إلى أنّ صفة الاستبداد، كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولّى الحكم بالغلبة أو الوراثة ، تشمل أيضاً الحاكم الفرد المقيَّد المنتخب متى كان غير مسؤول ، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخباً ؛ لأنَّ الاشتراك في الرّأي لا يدفع الاستبداد ، وإنَّما قد يعدّله الاختلاف نوعاً ، وقد يكون عند الاتّفاق أضرّ من استبداد الفرد .
            ويشمل أيضاً الحكومة الدّستورية المُفرَّقة فيها بالكُلِّيَّة قوَّة التشريع عن قوَّة التَّنفيذ وعن قوَّة المراقِبة ؛ لأنَّ الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية ، فيكون المُنَفِّذُون مسؤولين لدى المُشَرِّعين ، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمَّة ،
            إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
            يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
            عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
            وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
            وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

            تعليق

            • mmogy
              كاتب
              • 16-05-2007
              • 11282

              #7
              تلك الأمَّة التي تعرف أنَّها صاحبة الشّأن كلّه، وتعرف أنْ تراقب وأنْ تتقاضى الحساب.

              وأشدّ مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشّيطان هي حكومة الفرد المطلق ، الوارث للعرش ، القائد للجيش ، الحائز على سلطة دينية . ولنا أنْ نقول كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف ؛ خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب الموقت المسؤول فعلاً . وكذلك يخفُّ الاستبداد ـ طبعاًـ كلّما قلَّ عدد نفوس الرَّعية، وقلَّ الارتباط بالأملاك الثّابتة، وقلَّ التّفاوت في الثّروة وكلّما ترقَّى الشّعب في المعارف.

              إنَّ الحكومة من أيّ نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد؛ ما لم تكن تحت المراقبة الشَّديدة والاحتساب الّذي لا تسامح فيه ، كما جرى في صدر الإسلام في ما نُقِم على عثمان ، ثمَّ على عليّ رضي الله عنهما ، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النّياشين وبناما ودريفوس.

              ومن الأمور المقرَّرة طبيعةً وتاريخاً‌ أنَّه ؛ ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها إلاّ وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد، وبعد أنْ تتمكَّن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين : جهالة الأمَّة ، والجنود المنظَّمة. وهما أكبر مصائب الأمم وأهمّ معائب الإنسانية، وقد تخلَّصت الأمم المتمدُّنة ـ نوعاً ما ـ من الجهالة ، ولكنْ ؛ بُليت بشدة الجندية الجبرية العمومية ؛ تلك الشّدة التي جعلتها أشقى حياةً من الأمم الجاهلة ، وألصق عاراً بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد ، حتَّى ربَّما يصحّ أن يقال : إنَّ مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشّيطان ؛ فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أنْ ينتقم! نعم؛ إذا ما دامت هذه الجندية التي مضى عليها نحو قرنَيْن إلى قرن آخر أيضاً تنهك تجلُّد الأمم ، وتجعلها تسقط دفعة واحدة. ومن يدري كم يتعجب رجال الاستقبال من تَرَقِّي العلوم في هذا العصر ترقِّياً مقروناً باشتداد هذه المصيبة التي لا تترك محلاً لاستغراب إطاعة المصريين للفراعنة في بناء الأهرامات سخرة؛ لأنَّ تلك لا تتجاوز التّعب وضياع الأوقات،

              وأمّا الجندية فتُفسد أخلاق الأمّة ؛ حيثُ تُعلِّمها الشّراسة والطّاعة العمياء والاتِّكال ، وتُميت النّشاط وفكرة الاستقلال ، وتُكلِّف الأمّة الإنفاق الذي لا يطاق ؛ وكُلُّ ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم : استبداد الحكومات القائدة لتلك القوَّة من جهة ، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى .

              ولنرجع لأصل البحث فأقول : لا يُعهد في تاريخ الحكومات المدنية استمرار حكومة مسؤولة مدَّة أكثر من نصف قرن إلى غاية قرن ونصف ، وما شذَّ من ذلك سوى الحكومة الحاضرة في إنكلترا ، والسّبب يقظة الإنكليز الذين لا يُسكرهم انتصار، ولا يُخملهم انكسار، فلا يغفلون لحظة عن مراقبة ملوكهم ، حتَّى أنَّ الوزارة هي تنتخب للملك خَدَمَهُ وحَشَمَهُ فضلاً عن الزّوجة والصّهر، وملوك الإنكليز الذين فقدوا منذ قرون كلَّ شيء ما عدا التّاج ، لو تسنّى الآن لأحدهم الاستبداد لَغَنِمَهُ حالاً ، ولكنْ ؛ هيهات أنْ يظفر بغرة من قومه يستلم فيها زمام الجيش .

              أمّا الحكومات البدويّة التي تتألَّف رعيتها كلّها أو أكثرها من عشائر يقطنون البادية ، يسهل عليهم الرّحيل والتَّفرّق متى مسَّتْ حكومتُهم حرّيّتهم الشّخصية ، وسامتْهم ضيماً، ولم يقووا على الاستنصاف؛
              إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
              يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
              عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
              وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
              وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

              تعليق

              • mmogy
                كاتب
                • 16-05-2007
                • 11282

                #8
                فهذه الحكومات قلّما اندفعت إلى الاستبداد . وأقرب مثال لذلك أهل جزيرة العرب ، فإنَّهم لا يكادون يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبّع وحُميْر وغسان إلى الآن إلاّ فترات قليلة.
                وأصل الحكمة في أنَّ الحالة البدوية بعيدة بالجملة عن الوقوع تحت نير الاستبداد ، وهو أنَّ نشأة البدويّ نشأة استقلالية ؛ بحيث كلُّ فرد يمكنه أنْ يعتمد في معيشته على نفسه فقط ، خلافاً لقاعدة الإنسان المدنيّ الطبع ، تلك القاعدة التي أصبحت سخرية عند علماء الاجتماع المتأخِّرين ، القائلين بأنَّ الإنسان من الحيوانات التي تعيش أسراباً في كهوف ومسارح مخصوصة ، وأمّا الآن فقد صار من الحيوان الذي متى انتهت حضانته ؛ عليه أنْ يعيش مستقلاً بذاته ، غير متعلّق بأقاربه وقومه كلّ الارتباط ، ولا مرتبط ببيته وبلده كلّ التّعلُّق ، كما هي معيشة أكثر الإنكليز والأمريكان الذين يفتكر الفرد منهم أنَّ تعلُّقه بقومه وحكومته ليس بأكثر من رابطة شريك في شركة اختيارية ، خلافاً للأمم التي تتبع حكوماتها حتى فيما تدين .

                النّاظر في أحوال الأمم يرى أنَّ الأُسراء يعيشون متلاصقين متراكمين، يتحفَّظُ بعضهم ببعض من سطوة الاستبداد ، كالغنم تلتفُّ حول بعضها إذا ذعرها الذّئب ، أمّا العشائر والأمم الحرّة المالك أفرادها الاستقلالَ النّاجز فيعيشون مُتَفرِّقين .

                وقد تكلَّم بعض الحكماء ـ لا سيَّما المتأخِّرون منهم ـ في وصف الاستبداد ودوائه بجمل بليغة بديعة تُصوِّر في الأذهان شقاء الإنسان ، كأنَّها تقول له هذا عدوَّك فانظر ماذا تصنع ، ومن هذه الجمل قولهم :

                « المستبدّ : يتحكَّم في شؤون النّاس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم ، ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب المتعدِّي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من النَّاس يسدُّها عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمطالبته » .

                « المستبدّ : عدوّ الحقّ ، عدوّ الحّيّة وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرّيّة أمّهم ، والعوام صبية أيتام لا يعلمون شيئاً ، والعلماء هم إخوتهم الرّاشدون ، إنْ أيقظوهم هبّوا، وإنْ دعوهم لبّوا ، وإلا فيتَّصل نومهم بالموت » .

                « المستبدّ: يتجاوز الحدّ ما لم يرَ حاجزاً من حديد، فلو رأى الظّالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظّلم ، كما يقال : الاستعداد للحرب يمنع الحرب » .

                « المستبدّ : إنسانٌ مستعدٌّ بالطّبع للشّر وبالإلجاء للخير، فعلى الرّعية أنْ تعرف ما هو الخير وما هو الشّر فتلجئ حاكمها للخير رغم طبعه ، وقد يكفي للإلجاء مجرَّد الطَّلب إذا علم الحاكم أنَّ وراء القول فعلاً . ومن المعلوم أنَّ مجرد الاستعداد للفعل فعل يكفي شرَّ الاستبداد » .

                « المستبدّ : يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً ، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ ، وإنْ ضُرِبت شَرست ، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصّيد كلِّه ، خلافاً للكلاب التي لا فرق عندها أَطُعِمت أو حُرِمت حتَّى من العظام . نعم ؛ على الرّعية أن تعرف مقامها : هل خُلِقت خادمة لحاكمها ، تطيعه إنْ عدل أو جار ، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف ؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها ؟.. والرَّعية العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزّمام وإنْ صال ربطتْه».
                إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
                يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
                عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
                وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
                وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

                تعليق

                • mmogy
                  كاتب
                  • 16-05-2007
                  • 11282

                  #9

                  من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النّفس على العقل، ويُسمّى استبداد المرء على نفسه، وذلك أنَّ الله جلّتْ نعمه خَلَقَ الإنسان حرّاً، قائده العقل، فكفَرَ وأبى إلا أنْ يكون عبداً قائده الجهل. خَلَقَه وسخَّر له أمَّاً وأباً يقومان بأوده إلى أن يبلغ أشدّه، ثمَّ جعل له الأرض أمّاً والعمل أباً، فَكَفَر وما رضي إلا أن تكون أمَّتُه أمّه وحاكمه أباه. خَلَقَ له إدراكاً ليهتدي إلى معاشه ويتّقي مهلكه، وعيْنَيْن ليبصر، ورجليْن ليسعى، ويديْن ليعمل، ولساناً ليكون ترجماناً عن ضميره، فكَفَرَ وما أحبَّ إلا أنْ يكون كالأبله الأعمى، المقعد، الأشلّ، الكذوب، ينتظر كُلَّ شيْ من غيره، وقلَّما يطبق لسانه جنانه. خَلَقَهُ منفرداً غير متَّصل بغيره ليملك اختياره في حركته وسكونه، فكَفَرَ وما استطاب إلا الارتباط في أرض محدودة سمَّاها الوطن، وتشابك بالنّاس ما استطاع اشتباك تظالُم لا اشتباك تعاون... خَلَقَه ليشكره على جعله عنصراً حيّاً بعد أن كان تراباً، وليلجأ إليه عند الفزع تثبيتاُ للجنان، وليستند عليه عند العزم دفعاً للتردُّد، وليثق بمكافأته أو مجازاته على الأعمال، فكَفَرَ وأبى شُكْرَه وخَلَطَ في دين الفطرة الصّحيح بالباطل ليغالط نفسه وغيره. خَلَقَه يطلب منفعته جاعلاً رائده الوجدان، فكَفَرَ، واستحلَّ المنفعة بأي وجه كان، فلا يتعفّف عن محظور صغير إلا توصُّلاً لمُحرَّم كبير. خلقه وبذل له مواد الحياة، من نور ونسيم ونبات وحيوان ومعادن وعناصر مكنوزة في خزائن الطّبيعة، بمقادير ناطقة بلسان الحال، بأنَّ واهب الحياة حكيم خبير جعل مواد الحياة أكثر لزوماً في ذاته، أكثر وجوداً وابتذالاً، فكَفَرَ الإنسانُ نعمةَ الله وأبى أن يعتمد كفالة رزقه، فوكَّلهُ ربُّه إلى نفسه، وابتلاه بظلم نفسه وظُلْم جنسه، وهكذا كان الإنسان ظلوماً كفوراً.
                  الاستبداد: يَدُ الله القويّة الخفيّة يصفعُ بها رقاب الآبقين من جنّة عبوديَّته إلى جهنَّم عبودية المستبدِّين الذين يشاركون الله في عظمته ويعاندونه جهاراً، وقد ورد في الخبر: «الظّالم سيف الله ينتقم به، ثمَّ ينتقم منه»، كما جاء في أثرٍ آخر: «مَنْ أعان ظالماً على ظلمه سَلَّطَه الله عليه»، ولا شكَّ في أنَّ إعانة الظّالم تبتدئ من مجرَّد الإقامة على أرضه.
                  الاستبداد: هو نار غضب الله في الدّنيا، والجحيم هو نار غضبه في الآخرة، وقد خلق الله النّار أقوى المطهِّرات، فَيُطَهِّر بها في الدّنيا دَنَسَ منْ خلقهم أحراراً، وبَسَطَ لهم الأرض واسعة، وبذلَ فيها رزقهم، فكَفَروا بنعمته، ورضخوا للاستعباد والتَّظالم.
                  الاستبداد: أعظم بلاء، يتعجَّل الله به الانتقام من عباده الخاملين، ولا يرفعه عنهم حتَّى يتوبوا توبة الأنفة. نعم؛ الاستبداد أعظم بلاء؛ لأنَّه وباء دائم بالفتن وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وسيْلٌ جارفٌ للعمران، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي. وإذا سأل سائلٌ: لماذا يبتلي الله عبادَه بالمستبدِّين؟ فأبلغُ جواب مُسْكِت هو: إنَّ الله عادلٌ مطلقٌ لا يظلم أحداً، فلا يُولَّى المستبدّ إلا على المستبدِّين. ولو نظر السّائل نظرة الحكيم المدقِّق لوجد كُلَّ فرد من أُسراء الاستبداد مُستبدّاً في نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كُلَّهم، حتَّى وربَّه الذي خلقَهُ تابعين لرأيه وأمره. فالمستبدُّون يتولاهم مستبدّ، والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى: « كما تكونوا يُولَّى عليكم ».
                  ما أليقَ بالأسير في أرضٍ أن يتحوَّل عنها إلى حيثُ يملك حرّيّته، فإنَّ الكلب الطّليق خيرُ حياةً من الأسد المربوط.

                  إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
                  يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
                  عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
                  وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
                  وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

                  تعليق

                  • mmogy
                    كاتب
                    • 16-05-2007
                    • 11282

                    #10

                    الاستبداد والدّين

                    تضافرت آراء أكثر العلماء النّاظرين في التّاريخ الطّبيعي للأديان ، على أنَّ الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني ، والبعض يقول : إنْ لم يكنْ هناك توليد فهما أخوان ؛ أبوهما التَّغلب وأمّهما الرّياسة ، أو هما صنوان قويّان ؛ بينهما رابطة الحاجة على التّعاون لتذليل الإنسان ، والمشاكلة بينهما أنَّهما حاكمان ؛ أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب .

                    والفريقان مصيبان بحكمهما بالنّظر إلى مغزى أساطير الأوّلين ، والقسم التّاريخي من التّوراة ، والرّسائل المضافة إلى الإنجيل . ومخطئون في حقّ الأقسام التّعليمية الأخلاقية فيهما ، كما هم مخطئون إذا نظروا إلى أنَّ القرآن جاء مؤيّداً للاستبداد السّياسي . وليس من العذر شيء أنْ يقولوا : نحن لا ندرك دقائق القرآن نظراً لخفائها علينا في طيِّ بلاغته ، ووراء العلم بأسباب نزول آياته ؛ وإنَّما نبني نتيجتنا على مقدِّمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مُستبدِّيهم بالدِّين .

                    يقول هؤلاء المحرِّرون : إنَّ التَّعاليم الدّينية ، ومنها الكتب السَّماويّة تدعو البشر إلى خشية قوّة عظيمة لا تُدرك العقول كُنْهَها ، قوّة تتهدَّد الإنسان بكلّ مصيبة في الحياة فقط ، كما عند البوذية واليهودية ، أو في الحياة وبعد الممات ، كما عند النّصارى والإسلام ، تهديداً ترتعد منه الفرائص فتخور القوى ، وتنذهل منه العقول فتستسلم للخبل والخمول ، ثمَّ تفتح هذه التَّعاليم أبواباً للنّجاة من تلك المخاوف نجاة وراءها نعيم مقيم ، ولكنْ ؛ على تلك الأبواب حجّاب من البراهمة والكهنة والقسوس وأمثالهم الذين لا يأذنون للنّاس بالدّخول ما لم يعظِّموهم مع التّذلّلِ والصّغار ، ويرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران ، حتَّى إنَّ أولئك الحجَّاب في بعض الأديان يحجزون فيما يزعمون لقاء الأرواح بربِّها ما لم يأخذوا عنها مكوس المرور إلى القبور وفدية الخلاص من مطهر الأعراف .

                    وهؤلاء المهيمنون على الأديان كم يرهِّبون النّاس من غضب الله وينذرونهم بحلول مصائبه وعذابه عليهم ، ثمَّ يرشدونهم إلى أنْ لا خلاص ولا مناص لهم إلا بالالتجاء إلى سكان القبور الذين لهم دالة ، بل سطوة على الله فيحمونهم من غضبه .

                    ويقولون: إنَّ السّياسيين يبنون كذلك استبدادهم على أساسٍ من هذا القبيل ، فهم يسترهبون النّاس بالتّعالي الشّخصي والتّشامخ الحسّي ، ويُذلِّلونهم بالقهر والقوّة وسلبِ الأموال حتَّى يجعلونهم خاضعين لهم، عاملين لأجلهم، يتمتَّعون بهم كأنَّهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها، ويأكلون لحومها، ويركبون ظهورها، وبها يتفاخرون .

                    ويرون أنَّ هذا التَّشاكل في بناء ونتائج الاستبدادَيْن ؛ الدِّيني والسّياسي ، جعلهما في مثل فرنسا خارج باريس مشتركَيْن في العمل ، كأنَّهما يدان متعاونتان ، وجعلهما في مثل روسيا مشتبكَيْنِ في الوظيفة ، كأنَّهما اللوح والقلم يُسجِّلان الشقاء على الأمم .

                    ويُقرِّرون أنَّ هذا التَّشاكل بين القوّتَيْن ينجرُّ بعوام البشر ـ وهم السواد الأعظم ـ إلى نقطة أنْ يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحقّ وبين المستبدّ المُطاع بالقهر ، فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التَّشابه في استحقاق مزيد التَّعظيم ، والرِّفعة عن السّؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال ؛ بناءً عليه ؛ لا يرون لأنفسهم حقّاً في مراقبة المستبدّ لانتفاء النّسبة بين عظمته ودناءتهم ؛ وبعبارة أخرى : يجد العوام معبودهم وجبَّارهم مشتركَيْنِ في كثيرٍ من الحالات والأسماء والصِّفات ، وهم ليس من شأنهم أنْ يُفرِّقوا مثلاً بين ( الفعَّال المطلق) ، والحاكم بأمره ، وبين ( لا يُسأل عمّا يفعل ) وغير مسؤول ، وبين ( المنعم ) ووليّ النعم ، وبين ( جلَّ شأنه ) وجليل الشَّأن .

                    بناءً عليه؛ يُعظِّمون الجبابرة تعظيمهم لله، ويزيدون تعظيمهم على التَّعظيم لله ؛ لأنَّه حليمٌ كريم ، ولأنَّ عذابه آجلٌ غائبٌ ، وأمَّا انتقام الجبَّار فعاجلٌ حاضر. والعوام ـ كما يقال ـ عقولهم في عيونهم ، يكاد لا يتجاوز فعلهم المحسوس المُشاهَد ، حتَّى يصحّ أنْ يُقال فيهم : لولا رجاؤهم بالله ، وخوفهم منه فيما يتعلَّق بحياتهم الدّنيا ، لما صلّوا ولا صاموا ، ولولا أملهم العاجل ، لما رجَّحوا قراءة الدّلائل والأوراد على قراءة القرآن ، ولا رجَّحوا اليمين بالأولياء ـ المقرَّبين كما يعتقدون ـ على اليمين بالله .

                    وهذه الحال ؛ هي التي سهَّلت في الأمم الغابرة المنحطَّة دعوى بعض المستبدِّين الألوهية على مراتب مختلفة ، حسب استعداد أذهان الرَّعية ، حتَّى يُقال : إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله ، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله .

                    ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله ، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد ، تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً ، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها ، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ ، وهذه سياسة الإنكليز في المستعمرات ، لا يُؤيِّدها شيء مثل انقسام الأهالي على أنفسهم ، وإفنائهم بأسهم بينهم بسبب اختلافهم في الأديان والمذاهب .

                    ويُعَلِّلُون أنَّ قيام المستبدِّين من أمثال ( أبناء داود ) و ( قسطنطين ) في نشر الدِّين بين رعاياهم ، وانتصار مثل ( فيليب الثّاني ) الأسباني و (هنري الثّامن) الإنكليزي للدِّين ، حتَّى بتشكيل مجالس ( انكيزيسيون ) وقيام الحاكم الفاطميّ والسَّلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصُّوفيّة ، وبنائهم لهم التّكايا ، لم يكنْ إلا بقصد الاستعانة بممسوخ الدِّين وببعض أهله المغفَّلين على ظلم المساكين ، وأعظم ما يلائم مصلحة المستبدّ ويُؤيّدها أنَّ النّاس يتلقّون قواعده وأحكامه بإذعان بدون بحث وجدال ، فيودّون تأليف الأمّة على تلقّي أوامرهم بمثل ذلك ، ولهذا القصد عيْنه ، كثيراً ما يحاولون بناء أوامرهم أو تفريعها على شيءٍ من قواعد الدِّين .

                    إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
                    يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
                    عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
                    وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
                    وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

                    تعليق

                    • mmogy
                      كاتب
                      • 16-05-2007
                      • 11282

                      #11

                      ويحكمون بأنَّ بين الاستبدادَيْن : السّياسيّ والدّينيّ مقارنة لا تنفكُّ متى وُجِد أحدهما في أمّة جرَّ الآخر إليه ، أو متى زال ، زال رفيقه ، وإنْ صلح ، أي ضعف الأوّل ، صلح ، أي ضعف الثّاني .

                      ويقولون : إنَّ شواهد ذلك كثيرةٌ جدّاً لا يخلو منها زمانٌ ولا مكان . ويُبرهنون على أنَّ الدّين أقوى تأثيراً من السّياسة إصلاحاً وإفساداً ، ويُمثّلون بالسّكسون ؛ أي الإنكليز والهولنديين والأميركان والألمان الذين قبلوا البروتستنتيّة ، فأثر التّحرّر الدّيني في الإصلاح السّياسي والأخلاق أكثر من تأثير الحرّيّة المطلقة السّياسيّة في جمهور اللاتين ؛ أي الفرنسيين والطّليان والاسبانيول والبرتغال .

                      وقد أجمع الكتّاب السّياسيون المُدقِّقون ، بالاستناد على التّاريخ والاستقراء ، من أنَّ ما من أمّة أو عائلة أو شخص تَنَطَّعَ في الدّين أي تشدَّد فيه إلا واختلَّ نظام دنياه وخسر أولاده وعقباه .


                      والحاصل أنَّ كل المدقِّقين السّياسيين يرون أنَّ السّياسة والدّين يمشيان متكاتفَيْن ، ويعتبرون أنَّ إصلاح الدّين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السّياسي.

                      وربما كان أوّل من سلك هذا المسلك ؛ أي استخدم الدِّين في الإصلاح السّياسي ؛ هم حكماء اليونان ، حيث تحيَّلوا على ملوكهم المستبدِّين في حملهم على قبول الاشتراك في السّياسة بإحيائهم عقيدة الاشتراك في الألوهية ، أخذوها عن الآشوريين ، ومزجوها بأساطير المصريين بصورة تخصيص العدالة بإله ، والحرب بإله ، والأمطار بإله ، إلى غير ذلك من التّوزيع ، وجعلوا لإله الآلهة حقّ النّظارة عليهم ، وحقّ التّرجيح عند وقوع الاختلاف بينهم .

                      ثمَّ بعد تمكُّن هذه العقيدة في الأذهان بما أُلبست من جلالة المظاهر وسحر البيان سَهُلَ على أولئك الحكماء دفعهم النّاس إلى مطالبة جبابرتهم بالنّزول من مقام الانفراد ، وبأنْ تكون إدارة الأرض كإدارة السّماء ، فانصاع ملوكهم إلى ذلك مُكْرهين .

                      وهذه هي الوسيلة العظمى التي مكَّنت اليونان أخيراً من إقامة جمهوريات أثينا وإسبارطة، وكذلك فعل الرّومان. وهذا الأصل لم يزل المثال القديم لأصول توزيع الإدارة في الحكومات الملكية والجمهوريات على أنواعها إلى هذا العهد.


                      إنَّما هذه الوسيلة ؛ أي التَّشريك ، فضلاً عن كونها باطلة في ذاتها ، نَتَجَ عنها ردُّ فعلٍ أضرَّ كثيراً، وذلك أنَّها فتحتْ للمشعوذين من سائر طبقات النّاس باباً واسعاً لدعوى شيء من خصائص الألوهية، كالصّفات القُدْسيّة والتّصرُّفات الرُّوحيّة، وكان قبل ذلك لا يتهجّم على مثلها غير أفراد من الجبابرة، كنمرود وإبراهيم وفرعون وموسى، ثمَّ صار يدَّعيها البرهميّ والبادريّ والصُّوفيّ. ولملائمة هذه المفسدة لطباع البشر من وجوه كثيرة ـليس بحثنا هذا محلّهاـ انتشرت وعمّت وجنَّدت جيشاً عرمرماً يخدم المستبدِّين.

                      وقد جاءت التّوراة بالنَّشاط، فخلَّصتهم من خمول الاتِّكال بعد أن بلغ فيهم أنْ يُكلِّفوا الله ونبيّه يقاتلان عنهم، وجاءتهم بالنّظام بعد فوضى الأحلام، ورفعت عقيدة التّشريك، مُستبدلةً ـمثلاًـ أسماء الآلهة المتعدِّدة بالملائكة، ولكنْ؛ لم يرضَ ملوك آل كوهين بالتَّوحيد فأفسدوه. ثمَّ جاء الإنجيل بسلسبيل الدّعة والحِلْم، فصادف أفئدةً محروقةً بنار القساوة والاستبداد، وكان أيضاً مؤيّداً لناموس التّوحيد، ولكنْ؛ لم يقْوَ دُعاته الأوَّلون على تفهيم تلك الأقوام المنحطَّة، الذين بادروا لقبول النَّصرانيّة قبل الأمم المترقِّية، أنَّ الأبوّة والبنوّة صفتان مجازيَّتان يُعبَّر بهما عن معنى لا يقبله العقل إلا تسليماً؛ كمسألة القدر التي ورثت الإسلامية التّفلسف فيها عن أديان اليهود وأوهام اليونان. ولهذا؛ تلقَّت تلك الأمم الأبوّة والبنوّة بمعنى توالد حقيقيّ؛ لأنّه أقرب إلى مداركهم البسيطة التي يصعب عليها تناول ما فوق المحسوسات، ولأنّهم كانوا قد ألفوا الاعتقاد في بعض جبابرتهم الأوّلين أنَّهم أبناء الله، فكَبُرَ عليهم أنْ يعتقدوا في موسى عليه السّلام صفة هي دون مقام أولئك الملوك. ثمَّ لمّا انتشرت النّصرانية ودخلها أقوام مختلفون، تلبَّست ثوباً غير ثوبها، كما سائر الأديان التي سلفتها، فتوسَّعت برسائل بولس ونحوها، فامتزجت بأزياء وشعائر وثنية للرُّومان والمصريين مُضافة على شعائر الإسرائيليين وأشياء من الأساطير وغيرها، وأشياء من مظاهر الملوك ونحوها. وهكذا صارت النّصرانية تُعظِّم رجال الكهنوت إلى درجة اعتقاد النّيابة عن الله والعصمة عن الخطأ وقوَّة التَّشريع، ونحو ذلك ممّا رفضه أخيراً البروتستان؛ أي الرّاجعون في الأحكام لأصل الإنجيل.

                      ثمَّ جاء الإسلام مهذِّباً لليهوديّة والنّصرانيّة، مُؤسَّساً على الحكمة والعزم، هادماً للتّشريك بالكُلِّية، ومُحكِماً لقواعد الحرّيّة السّياسية المتوسّطة بين الدِّيموقراطية والأرستقراطية، فأسَّس التّوحيد، ونزعَ كلَّ سلطة دينية أو تغلّبيّة تتحكَّم في النّفوس أو في الأجسام، ووضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكلِّ زمان وقوم ومكان، وأوجد مدنيّة فطريّة سامية، وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الرّاشدين التي لم يسمح الزّمان بمثال لها بين البشر حتَّى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف؛ إلا بعض شواذ؛ كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العبّاسيّ ونور الدّين الشّهيد. فإنَّ هؤلاء الخلفاء الرّاشدين فهموا معنى ومغزى القرآن النّازل بلغتهم، وعملوا به واتَّخذوه إماماً، فأنشؤوا حكومة قضَتْ بالتّساوي حتَّى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمّة في نعيم الحياة وشظفها، وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية اشتراكية لا تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أبٍ واحد وفي حضانة أمٍّ واحدة، لكُلٍّ منهم وظيفة شخصية، ووظيفة عائلية، ووظيفة قومية. على أنَّ هذا الطّراز السّامي من الرّياسة هو الطِّراز النّبوي المُحمَّدي الذي لم يخلفه فيه حقّاً غير أبي بكر وعمر، ثمَّ أخذ بالتّناقص، وصارت الأمّة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان إلى الآن، وسيدوم بكاؤها إلى يوم الدِّين إذا لم تنتبه لاستعواضه بطراز سياسيّ شوريّ؛ ذلك الطّراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب؛ تلك الأمم التي، لربّما يصحُّ أنْ نقول، قد استفادت من الإسلام أكثر ممّا استفاده المسلمون.

                      وهذا القرآن الكريم مشحونٌ بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتّساوي حتّى في القصص منه؛ ومن جملتها قول بلقيس ملكة سبأ من عرب تُبَّع تخاطبُ أشراف قومها: )يا أيُّها الملأُ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تَشهَدون * قالوا نحن أولوا قوةٍ وأُولوا بأسٍ شديدٍ والأمر إليكِ فانظري ماذا تأمرين * قالت إنَّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذِلةً وكذلك يفعلون(.

                      فهذه القصة تُعلِّم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ؛ أي أشراف الرَّعية، وأن لا يقطعوا أمراً إلا برأيهم، وتشير إلى لزوم أن تُحفظ القوّة والبأس في يد الرّعية، وأن يخصص الملوك بالتّنفيذ فقط، وأن يكرموا بنسبة الأمر إليهم توقيراً، وتقبّح شأن الملوك المستبدين.

                      ومن هذا الباب أيضاً ما ورد في قصة موسى عليه السلام مع فرعون في قوله تعالى: )قال الملأ من قوم فرعون إنَّ هذا لساحرٌ عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون(؛ أي قال الأشراف بعضهم لبعض: ماذا رأيكم؟ (قالوا) خطاباً لفرعون وهو قرارهم: )أَرجِه وأخاه وأرسِل في المدائن حاشرين * يأتوك بكلِّ ساحرٍ عليم(؛ ثمّ وصف مذاكراتهم بقوله تعالى: )فتنازعوا أمرهم(؛ أي رأيهم )بينهم وأسرُّوا النجوى(؛ أي أفضت مذاكراتهم العلنية إلى النّزاع فأجروا مذاكرة سرية طبق ما يجري إلى الآن في مجالس الشورى العمومية.
                      بناءً على ما تقدّم؛ لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد مع تأسيسها على مئات الآيات البيِّنات التي منها قوله تعالى: )وشاورهم في الأمر(؛ أي في الشأن، ومن قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم(؛ أي أصحاب الرأي والشأن منكم، وهم العلماء والرؤساء على ما اتَّفق عليه أكثر المفسِّرين، وهم الأشراف في اصطلاح السياسيين. ومما يؤيِّد هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: )وما أمرُ فرعون(؛ أي ما شأنه، وحديث «أميري من الملائكة جبريل»؛ أي مشاوري.

                      وليس بالأمر الغريب ضياع معنى )وأُولي الأمر( على كثير من الأفهام بتضليل علماء الاستبداد الذي يحرِّفون الكَلِمَ عن مواضعه، وقد أغفلوا معنى قيد )منكم(؛ أي المؤمنين منعاً لتطرُّق أفكار المسلمين إلى التفكير بأنّ الظالمين لا يحكمونهم بما أنزل الله، ثمَّ التدرُّج إلى معنى آية )إن الله يأمر بالعدل(، أي بالتساوي؛ )وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل(، أي التساوي؛ ثمّ ينتقل إلى معنى آية:)ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون(. ثمَّ يستنتج عدم وجوب طاعة الظالمين وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعاً للفتنة التي تحصد أمثالهم حصداً. والأغرب من هذا جسارتهم على تضليل الأفهام في معنى (أمر) في آية: )وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمَّرناها تدميراً(؛ فإنهم لم يبالوا أن ينسبوا إلى الله الأمر بالفسق... تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، والحقيقة في معنى (أمرنا) هنا أنَّه بمعنى أمرِنا - بكسر الميم أو تشديدها-؛ أي جعلنا أمراءها مترفيها ففسقوا فيها (أي ظلموا أهلها) فحقّ عليهم العذاب؛ أي (نزل بهم العذاب).

                      والأغرب من هذا وذاك؛ أنَّهم جعلوا للفظة العدل معنىً عُرفياً؛ وهو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء؛ حتى أصبحت لفظة العدل لا تدلُّ على غير هذا المعنى، مع أنّ العدل لغةً للتسوية؛ فالعدل بين النّاس هو التسوية بينهم، وهذا هو المراد في آية: )إن الله يأمر بالعدل(، وكذلك القصاص في آية: )ولكم في القصاص حياةٌ( المتواردة مطلقاً، لا المعاقبة بالمثل فقط على ما يتبادر إلى أذهان الأُسراء، الذين لا يعرفون للتّساوي موقعاً في الدِّين غير الوقوف بين يدي القضاة.

                      وقد عدّد الفقهاء من لا تُقبَل شهادتهم لسقوط عدالتهم، فذكروا حتّى من يأكل ماشياً في الأسواق؛ ولكنّ شيطان الاستبداد أنساهم أن يُفسِّقوا الأمراء الظالمين فيردّوا شهادتهم. ولعلّ الفقهاء يُعذَرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين في مواقع أخرى؛ ولكن، ما عذرهم في تحويل معنى الآية: )ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر( إلى أنّ هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين؟ والمراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض؛ لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموفقة للخير؛ فخصّصت منها جماعات باسم مجالس نّواب، وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية، فتخلّصوا بذلك من شآمة الاستبداد. أليست هذه السيطرة وهذا الاحتساب بأهم من السيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكّام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصّبر عليهم إذا ظلموا، وعدّوا كلّ معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟!

                      اللهم؛ إنّ المستبدِّين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدِّين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوّة إلا بك!
                      كذلك ما عُذر الصوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياتهم أن يقولوا: لا يكون الأمير الأعظم إلا وليّاً من أولياء الله، ولا يأتي أمراً إلا بإلهام من الله، وإنه يتصرَّف في الأمور ظاهراً، ويتصرَّف قطب الغوث باطناً! ألا سبحان الله ما أحلمه!

                      نعم؛ لولا حُلم الله لخسف الأرض بالعرب؛ حيثُ أرسل لهم رسولاً من أنفسهم أسّس لهم أفضل حكومة أُسِّسَت في النّاس، جعل قاعدتها قوله: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته»؛ أي كلٌّ منكم سلطانٌ عام ومسؤول عن الأمة. وهذه الجملة التي هي أسمى وأبلغ ما قاله مشرِّع سياسي من الأولين والآخرين، فجاء من المنافقين من حرَّف المعنى عن ظاهره وعموميته؛ إلى أنَّ المسلم راعٍ على عائلته ومسؤول عنها فقط. كما حرَّفوا معنى الآية: )والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعض( على ولاية الشهادة دون الولاية العامة. وهكذا غيّروا مفهوم اللغة، وبدَّلوا الدِّين، وطمسوا على العقول حتى جعلوا النّاس ينسون لغة الاستقلال، وعزّة الحريّة؛ بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمّةٌ نفسها بنفسها دون سلطانٍ قاهر.

                      وكأنّ المسلمين لم يسمعوا بقول النّبي عليه السلام: «النّاس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربيٍّ على أعجمي إلا بالتّقوى». وهذا الحديث أصحُّ الأحاديث لمطابقته للحكمة ومجيئه مفسِّراً الآية )إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم(فإنَّ الله جلَّ شأنه ساوى بين عباده مؤمنين وكافرين في المكرمة بقوله: )ولقد كرَّمنا بنيَ آدم( ثمَّ جعل الأفضلية في الكرامة للمتَّقين فقط. ومعنى التَّقوى لغةً ليس كثرة العبادة، كما صار إلى ذلك حقيقة عُرفية غرسها علماء الاستبداد القائلين في تفسير (عند الله)؛ أي في الآخرة دون الدنيا؛ بل التَّقوى لغةً هي الاتِّقاء؛ أي الابتعاد عن رذائل الأعمال احترازاً من عقوبة الله. فقوله: )إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم( كقوله: إنَّ أفضل النّاس أكثرهم ابتعاداً عن الآثام وسوء عواقبها.

                      وقد ظهر مما تقدَّم أنَّ الإسلامية مؤسسة على أصول الحرّية برفعها كلّ سيطرة وتحكُّم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء، وبحضِّها على الإحسان والتحابب. وقد جعلت أصول حكومتها: الشّورى الأريستوقراطية؛ أي شورى أهل الحلِّ والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم. وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي؛ أي الاشتراكي حسبما يأتي فيما بعد. وقد مضى عهد النبي (عليه السلام) وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتمّ وأكمل صورها. ومن المعلوم أنّه لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقاً في غير مسائل إقامة شعائر الدين، ومنها القواعد العامة التشريعية التي لا تبلغ مائة قاعدة وحُكم، كلُّها من أجَلّ وأحسن ما اهتدى إليه المشرِّعون من قبل ومن بعد. ولكن؛ واأسفاه على هذا الدين الحرّ، الحكيم، السهل، السمح، الظاهر فيه آثار الرقي على غيره من سوابقه، الدين الذي رفع الإصر والأغلال، وأباد الميزة والاستبداد. الدين الذي ظلمه الجاهلون، فهجروا حكمة القرآن ودفنوها في قبور الهوان. الدّين الذي فقد الأنصار الأبرار والحكماء الأخيار، فسطا عليه المستبدون والمترشحون للاستبداد، واتَّخذوا وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيَعاً، وجعلوه آلهة لأهوائهم السياسية، فضيّعوا مزاياه، وحيّروا أهله بالتقريع والتوسيع، والتشديد والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل قبلهم أصحاب الأديان السائرة، حتى جعلوه ديناً حرجاً يتوهّم الناس فيه أنَّ كلَّ ما دوَنَّه المتفنون بين دفَّتي كتاب يُنسَب لاسم إسلامي هو من الدين، وبمقتضاها أن لا يقوى على القيام بواجباته وآدابه ومزيداته، إلا من لا علاقة له بالحياة الدنيا؛ بل أصبحت بمقتضاها حياة الإنسان الطويل العمر، العاطل عن كلِّ عمل، لا تفي بتعلُّم ما هي الإسلامية عجزاً عن تمييز الصحيح من الباطل من تلك الآراء المتشعبة التي أطال أهلها فيها الجدال والمناظرة؛ وما افترقوا إلا وكلٌّ منهم في موقفه الأول يظهر أنه ألزم خصمه الحجّة وأسكته بالبرهان؛ والحقيقة إنَّ كلاً منهم قد سكت تعباً وكلالاً من المشاغبة.

                      وبهذا التّشديد الذي أدخله على الدّين منافسو المجوس؛ انفتح على الأمّة باب التلوّم على النفس فضلاً عن محاسبة الحكام المنوط بهم قيام العدل والنِّظام. وهذا الإهمال للمراقبة، هو إهمال الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وقد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوزَ الحدود. وبهذا وذاك ظهر حُكم حديث: «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليستعملنّ الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب»، وإذا تتبعنا سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع الأمّة، نجد أنّهما مع كونهما مفطورَين خير فطرة، ونائلين التربية النبوية، لم تترك الأمة معهما المراقبة والمحاسبة، ولم تطعهما طاعةً عمياء.

                      وقد جمع بعضهم جملة مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن غيرهم، وليس هو من دينهم بالنّظر إلى القرآن والمتواترات من الحديث وإجماع السلف الأول فقال:
                      (اقتبسوا) من النصرانية مقام البابوية باسم الغوثية، و(ضاهوا) في الأوصاف والأعداد أوصاف وأعداد البطارقة، والكردينالية والشهداء والأساقفة، و(حاكوا) مظاهر القديسين وعجائبهم، والدعاة المبشّرين وصبرهم، والرّهبنات ورؤسائها، وحالة الأديرة وبادريتها. والرهبنات ورسومها والحميَّة وتوقيتها، و(قلّدوا) الوثنيين الرومانيين في الرّقص على أنغام الناي والتغالي في تطييب الموتى والاحتفال الزائد في الجنائز وتسريح الذبائح معها، وتكليلها وتكليل القبور بالزهور. و(شاكلوا) مراسم الكنائس وزينتها، والبِيَع واحتفالاتها، والترنّحات ووزنها، والترنُّمات وأصولها، وإقامة الكنائس على القبور، وشدّ الرِّحال لزيارتها، والإسراج عليها، والخضوع لديها، وتعليق الآمال بسكانها. و(أخذوا) التبرّك بالآثار: كالقدح والحربة والدستار، من احترام الذخيرة وقدسية العكاز، وكذلك إمرار اليد على الصّدر عند ذكر الصالحين، من إمرارها على الصدر لإشارة الصليب. و(انتزعوا) الحقيقة من السرّ، ووحدة الوجود من الحلول، والخلافة من الرّسم، والسّقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان، وتعليق ألواح الأسماء المصدَّرة بالنّداء على الجدران من تعليق الصّور والتماثيل، والاستفاضة والمراقبة من التوجّه بالقلوب انحناءً أمام الأصنام. و(منعوا) الاستهداء من نصوص الكتاب والسُنَّة كحظر الكاثوليك التفهّم من الإنجيل، وامتناع أحبار اليهود عن إقامة الدّليل من التوراة في الأحكام. و(جاءوا) من المجوسية باستطلاع الغيب من الفلك، وبخشية أوضاع الكواكب وباتِّخاذ أشكالها شعاراً للملك، وباحترام النار ومواقدها. و(قلّدوا) البوذيين حرفاً بحرف في الطريق والرياضة وتعذيب الجسم بالنار والسلاح، واللعب بالحيّات والعقارب وشرب السموم، ودقّ الطبول والصنوج وجعل رواتب من الأدعية والأناشيد والأحزاب، واعتقاد تأثير العزائم ونداء الأسماء وحمل التمائم، إلى غير ذلك مما هو مُشاهد في بوذيي الهند ومجوس فارس والسّند إلى يومنا هذا. وقد قيل إنّه نقله إلى الإسلامية: جون وست، وسلطان علي منلا، والبغدادي، وحاشية فلان الشيخ وفلان الفارسي، على أنّ إسناد ذلك إلى أشخاص معينين يحتاج إلى تثبيت. و(لفَّقوا) من الأساطير والإسرائيليات أنواعاً من القربات، وعلوماً سمّوها لدنيات.

                      كذلك يُقال عن مبتدعي النصارى، من أنّ أكثر ما اعتبره المتأخرون منهم من الشعائر الدينية- حتى مشكلة التثليث- لا أصل له فيما ورد عن نفس المسيح عليه السلام؛ إنما هو مزيدات وترتيبات قليلها مُبتدَع وكثيرها متَّبع. وقد اكتشف العلماء الآثاريون من الصفائح الحفرية الهندية والآشورية ومن الصّحف التي وُجدت في نواويس المصريين الأقدمين، على مآخذ أكثرها. وكذلك وجدوا لمزيدات التلمود وبدع الأحبار أصولاً في الأساطير والآثار والألواح الآشورية، وترقّوا في التطبيق والتدقيق إلى أن وجدوا معظم الخرافات المضافة إلى أصول عامة الأديان في الشرق الأدنى مقتبسة من الوضعيات المنسوبة لنحل الشرق الأقصى، وقد كشفت الآثار أنّ الاستبداد أخفى تاريخ الأديان وجعل أخبار منشئها في ظلام مطبق، حتّى إنَّ أعداء الأديان المتأخرين أمكنهم أن ينكروا أساساً وجود موسى وعيسى عليهما السلام، كما شوّش الاستبداد في المسلمين تاريخ آل البيت عليهم الرضوان؛ الأمر الذي تولّد عنه ظهور الفِرَق التي تشيَّعت لهم كالإمامية والإسماعيلية والزيدية والحاكمية وغيرهم.

                      والخلاصة أنّ البِدَع التي شوَّشت الإيمان وشوَّهت الأديان تكاد كُلُّها تتسلسل بعضها من بعض، وتتولّد جميعها من غرض واحد هو المراد، ألا وهو الاستعباد.
                      والنّاظر المدقّق في تاريخ الإسلام يجد للمستبدّين من الخلفاء والملوك الأولين، وبعض العلماء الأعاجم، وبعض مقلّديهم من العرب المتأخرين أقوالاً افتروها على الله ورسوله تضليلاً للأمة عن سبيل الحكمة، يريدون بها إطفاء نور العلم وإطفاء نور الله، ولكن؛ أبى الله إلا أن يتمّ نوره، فحفظ للمسلمين كتابه الكريم الذي هو شمس العلوم وكنز الحكم من أن تمسّه يد التحريف؛ وهي إحدى معجزاته لأنَّه قال فيها: )إنّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحافظون( فما مسّه المنافقون إلا بالتأويل، وهذا أيضاً من معجزاته، لأنه أخبر عن ذلك في قوله:)فأما الَّذين في قُلُوبهم زَيغٌ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله(.

                      وإني أُمثِّل للمطالعين ما فعله الاستبداد في الإسلام، بما حجر على العلماء الحكماء من أن يفسِّروا قسمَي الآلاء والأخلاق تفسيراً مدقِّقَاً، لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغُفَّل السالفين أو بعض المنافقين المقرَّبين المعاصرين، فيُكفَّرون فيُقتَلون. وهذه مسألة إعجاز القرآن، وهي أهم مسألة في الدِّين لم يقدروا أن يوفوها حقّها من البحث، واقتصروا على ما قاله فيها بعض السّلف قولاً مجملاً من أنَّها قصور الطاقة عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته، وأنّه أخبر عن أنّ الرّوم بعد غلبهم سيغلبون. مع أنه لو فُتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الرأي والتأليف، كما أُطلق عنان التخريف لأهل التأويل والحُكم، لأظهروا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات الإعجاز، ولرأوا فيه كلّ يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله:)ولا رَطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبين( ولجعلوا الأمة تؤمن بإعجازه عن برهان وعيان لا مجرد تسليم وإذعان.

                      ومثال ذلك: أنَّ العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة تُعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوربا وأمريكا؛ والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التّصريح أو التلميح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرناً؛ وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة بأنّه كلام ربٍّ لا يعلم الغيب سواه؛ ومن ذلك أنّهم قد كشفوا أنّ مادة الكون هي الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال: )ثمَّ استوى إلى السماء وهي دخان( وكشفوا أنّ الكائنات في حركة دائمة دائبة والقرآن يقول:)وآيةٌ لهم الأرض الميتةُ أحييناها( إلى أن يقول:)وكلٌّ في فلكٍ يسبحون(.

                      وحققوا أنَّ الأرض منفتقةً في النظام الشمسي، والقرآن يقول:)أنَّ السّموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما(.
                      وحققوا أنَّ القمر منشقٌّ من الأرض، والقرآن يقول: )أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها(. ويقول: )اقتربتِ السّاعة وانشقَّ القمر(.
                      وحققوا أنَّ طبقات الأرض سبع، والقرآن يقول: )الله الذي خلق سبع سمواتٍ ومن الأرض مثلهن(
                      وحققوا أنّه لولا الجبال لاقتضى الثّقل النوعي أن تميد الأرض؛ أي ترتجّ في دورتها، والقرآن يقول: )وألقى في الأرض رواسيَ أن تميد بكم(.
                      وكشفوا أنَّ سر التركيب الكيماوي- بل والمعنوي- هو تخالف نسبة المقادير وضبطها، والقرآن يقول: )وكلُّ شيءٍ عنده بمقدار(.
                      وكشفوا أنَّ للجمادات حياة قائمة بماء التبلور والقرآن يقول:)وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حي(.
                      وحققوا أنّ العالم العضوي، ومنه الإنسان، ترقّى من الجماد، والقرآن يقول:)ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طين(.
                      وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات، والقرآن يقول: )خلق الأزواج كلّها مما تنبت الأرض( ويقول: )فأخرجنا به أزواجاً من نباتٍ شتّى(، ويقول: )اهتزّت وربَت من كلِّ زوجٍ بهيج(. ويقول: )ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين(.
                      وكشفوا طريقة إمساك الظِّل؛ أي التصوير الشمسي، والقرآن يقول: )ألم تَرَ إلى ربِّك كيف مدَّ الظِّلَّ ولو شاء لجعله ساكناً ثمَّ جعلنا الشّمسَ عليه دليلاً(.
                      وكشفوا تسيير السّفن والمركبات بالبخار والكهرباء والقرآن يقول، بعد ذكره الدواب والجواري بالريح: )وخلقنا لهم من مثله ما يركبون(.
                      وكشفوا وجود الميكروب، وتأثيره وغيره من الأمراض، والقرآن يقول:)وأرسل عليهم طيراً أبابيل(؛ أي متتابعة متجمعة )ترميهم بحجارةٍ من سجّيل(؛ أي من طين المستنقعات اليابس. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية. وبالقياس على ما تقدَّم ذكره؛ يقتضي أنَّ كثيراً من آياته سينكشف سرُّها في المستقبل في وقتها المرهون، تجديداً لإعجازه عمّا في الغيب مادام الزمان وما كرَّ الجديدان؛ فلا بُدَّ أن يأتي يوم يكشف العلم فيه أنَّ الجمادات أيضاً تنمو باللقاح كما تشير إلى ذلك آية )ومن كلِّ شيءٍ خلقنا زوجين(.
                      إنْ أبْطـَأتْ غـَارَةُ الأرْحَامِ وابْـتـَعـَدَتْ، فـَأقـْرَبُ الشيءِ مِنـَّا غـَارَةُ اللهِ
                      يا غـَارَةَ اللهِ جـِدّي السـَّيـْرَ مُسْرِعَة في حَلِّ عُـقـْدَتـِنـَا يَا غـَارَةَ اللهِ
                      عَدَتِ العَادونَ وَجَارُوا، وَرَجَوْنـَا اللهَ مُجـيراً
                      وَكـَفـَى باللهِ وَلـِيـَّا، وَكـَفـَى باللهِ نـَصِيراً.
                      وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوكيلُ, وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

                      تعليق

                      • ركاد حسن خليل
                        أديب وكاتب
                        • 18-05-2008
                        • 5145

                        #12
                        أستاذنا الغالي محمد شعبان الموجي
                        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                        جميل ما تقدّمه هنا
                        سأنتظر حتى تكمل إلى النهاية
                        بعد ذلك سوف أنقل ذلك إن شاء الله إلى ملف pdf
                        وأجعل له رابط للتحميل ككتاب إليكتروني يستطيع من شاء أن يحتفظ به في حاسوبه ليستفيد من ما جاء فيه..
                        تقديري ومحبتي
                        ركاد أبو الحسن

                        تعليق

                        يعمل...
                        X