من أسرار التعبير القرآني- د أيوب جرجيس العطية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د.أيوب جرجيس العطية
    • 30-01-2011
    • 1

    من أسرار التعبير القرآني- د أيوب جرجيس العطية

    من أسرار التعبير القرآني

    مقدمة:
    لا خلاف بين أهل العلم أن التعبير القرآني تعبير فريد في علوه وسموه وأنه أعلى كلام وأرفعه ، وأنه بهر العرب فلم يستطيعوا مداناته والإتيان بمثله مع أنه تحدَّاهم أكثر من مرة .
    وأكد التحدي بقوله تعالى : ] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [(الإسراء:88) .
    دعا القرآن العرب إلى أن يأتوا بسورة من مثله ويشمل هذا التحدي قصار السور كما يشمل طوالها ، ومن المعلوم أن العرب لم يحاولوا أن يفعلوا ذاك فقد كانوا يعلمون عجزهم عنه ، ورأوا أن سبيل الحرب والدماء وتجميع الأحزاب أيسر عليهم من مقابلة تحدي القرآن .
    ومن الثابت أن القرآن الكريم كان يأخذهم بروعة بيانه وأنهم لا يملكون أنفسهم عن سماعه ولذلك سعوا إلى أن يحولوا بين القرآن وأسماع الناس ، سعوا إلى أن لا يصل إلى الأذن لأنهم يعلمون أن مجرد وصوله إلى السمع يُحدثُ في النفس دوياً هائلاً وهزة عنيفة وقد حكى الله عنهم هذا الأسلوب فقال تعالى : ] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [(فصلت:26) .
    وكان صنايد قريش وأعتاهم محاربة للرسول وأشدهم كيداً له ونيلاً منه لا يملكون أنفسهم عن سماعه ، فقد كان كل من أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق يأخذ نفسه خلسة لسماعه في الليل والرسول في بيته لا يعلم بمكانهم ولايعلم أحد منهم بمكان صاحبه حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ، ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا([1]) . وقد أخبر الله نبيه بهذا الأمر فقال تعالى : ] نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً [(الإسراء:47) .
    وما قول الوليد بن المغيرة بِسِرِّ . فقد اجتمع إليه نفر من قريش ليُجمعوا على رأي واحد يصدرون عنه يقولونه للناس في الموسم فقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : كاهن ، وقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : مجنون ، فكان يرد هذه الأقوال ويفندها ثم قال : ( والله إن لقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليعلو وما يعلى عليه )([2]) .
    إن التعبير القرآني تعبير فني مقصود ، كل لفظة بل كل حرف فيه وُضع وضعاً فنياً مقصوداً ، ولم تُراعي ، في هذا الوضع الآية وحدها ولا السورة وحدها بل رُوعي في هذا الوضع التعبير القرآني كله ، ومما يدل على ذلك الإحصاءات التي أظهرتها الدراسات الحديثة التي بينت بوضوح أن القرآن الكريم إنما حُسب لكل حرف فيه حسابه وأنه لا يمكن أن يزاد فيه أو يحذف منه حرف واحد .
    ألم تقرأ ما كتب عن البسملة ومفرداتها ؟
    إن عدد حروف البسملة 19 حرفاً ولقد تكررت كل كلمة من كلماتها في القرآن الكريم تسع عشر مرة أو ما هو مضاعف التسع عشرة .
    فقد تكررت كلمة ( اسم ) في القرآن الكريم 19 مرة .
    وتكرر ( الرحمن ) 57 مرة أي 3×19 .
    وتكرر ( الرحيم ) 114 مرة أي 6×19 .
    وتكرر ( الله ) 2698 مرة أي 142×19 .
    وتكررت البسملة كلها 114 مرة أي 6×19 .
    فأي إحصاء هذا وأية دقة هذه ؟ أيمكن أن يكون هذا من قبيل المصادفات في التعبير أم هو القصد والتدبير والإعجاز ؟
    ثم ألم تقرأ ما كتب عن الأحرف المقطعة التي تبدأ بها بعض السور في القرآن الكريم مثل ( الم ) و ( حم ) و ( ص ) ونحوها ؟ إنها مُحصاةٌ إحصاءً دقيقاً عجيباً .
    لقد تبين أن السور التي تبدأ بهذه الأحرف تتكرر فيها هذه الأحرف بمقدار مضاعفات التسعة عشر أيضاً شأن قوله تعالى : ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [.
    فالبسملة هي افتتاح سور القرآن الكريم عموماً وهذه الأحرف هي افتتاح هذه السور خصوصاً فما أجمل تناظر الافتتاحين .
    فـ ( ق ) في سورة ق تكررت 57 مرة أي 3×19 .
    و ( ص ) تكررت في السور التي يرد في الأحرف المقطعة الحرف صاد 152 مرة أي 8×19 .
    و ( ن ) في سورة القلم تكررت 133 مرة أي 7×19 .
    و ( طه ) في سورة طه تكرر 342 مرة أي 18×19 .
    و ( يس ) تكررت في سورة يس 285 مرة أي 15×19 .
    و ( ألمر ) تكررت حروفها 1501 مرة أي 79×19 .
    وقل مثل ذلك عن بقية السور ، أفترى أن هذه مصادفة من مصادفات التعبير أم هو القصد والإعجاز ؟
    ألا ترى أن كل ما جاء في القرآن الكريم هو ( قوم لوط ) مثل قوله تعالى : ] إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [(هود: من الآية70) . ومثل قوله تعالى : ] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ [(الحج:42-43) .
    وغيرها وغيرها إلا في سورة ( ق ) فقد جاءت ( إخوان لوط ) لا ( قوم لوط ) ؟ في سورة ( ق) التي تتكرر فيها القافات و الكلمات القافية وردت ( إخوان لوط ) لا ( قوم لوط ) إذ المفروض أن يقال ( قوم لوط ) مع الكلمات القافية ، ولكن الإحصاء يأبى ذلك فلو قال : ( قوم لوط ) لزادت القافات حرفاً ولأصبحت ثمانية وخمسين حرفاً ولم تكن من مضاعفات التسعة عشر فأبدل ( الأخوان ) بـ ( القوم ) فقال تعالى : ] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ [.
    ثم ألا ترى كيف قال تعالى ( بصطة ) بالصاد في سورة الأعراف فقال تعالى : ] وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [(الأعراف: من الآية69) . بينما في سورة البقرة بالسين قال تعالى : ] وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [(البقرة: من الآية247) ، وذلك لأن سورة الأعراف تبدأ بـ ( المص ) و سورة البقرة تبدأ بـ ( الم ) ولو وردت في الأعراف بالسين كما في البقرة لأختل الإحصاء ، علماً بأن السين هو الأصل فقالها بالسين على الأصل في البقرة وقالها بالصاد في الأعراف مراعاة للإحصاء . ثم هل لهذا العدد عدد التسعة عشر علاقة بعدد ملائكة النار المذكورة في القرآن الكريم قال تعالى : ] عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [(المدثر:30) .
    لقد انتبه القدماء إلى أن السور التي تبدأ بالحروف المفردة بنيت على ذلك الحرف ، فإن الكلمات القافية ترددت في سورة ( ق ) كثيراً و الكلمات الصادية ترددت في سورة ( ص ) كثيراً وهكذا .
    وليس هذا كل شيء في الإحصاء بل هناك شيء آخر وربما أشياء . أفلم تقرأ الإحصاءات الأخرى في كتاب الله العزيز لترى العجب ؟
    لقد تبين أنه لم توضع الألفاظ عبثاً ولا من غير حساب ، بل هي موضوعة وضعاً دقيقاً بحساب دقيق دقيق .
    لقد تبين :-
    أن ( الدنيا ) تكررت في القرآن الكريم بقدر ( الآخرة ) فقد تكرر كل منهما 115 مرة .وأن ( الملائكة ) تكررت بقدر ( الشياطين ) فقد تكرر كل منهما 88 مرة .
    وأن ( الموت ) ومشتقاته تكرر بقدر ( الحياة ) فقد تكر ر كل منهما 145 مرة وهل الموت إلا للأحياء ؟
    وأن ( الصيف ) و الحر تكرر بقدر لفظ ( الشتاء ) والبرد فقد تكرر كل منهما خمس مرات . وأن لفظ ( السيئات ) ومشتقاتها تكرر بقدر لفظ ( الصالحات ) ومشتقاتها فقد تكرر كل منهما 167 مرة .
    وأن لفظ ( الكفر ) تكرر بقدر لفظ ( الإيمان ) فقد تكرر كل منهما 17 مرة .
    وتكرر لفظ ( كفراً ) بقدر لفظ ( إيماناً ) فقد تكر كل منهما ثماني مرات.
    وأنه تكرر ذكر ( إبليس ) بقدر لفظ ( الاستعاذة ) فقد تكرر كل منهما 11 مرة .
    وأن ذكر ( الكافرين ) تكرر بنفس عدد ( النار ) وهل النار إلا للكافرين ؟ .
    وأن ذكر ( الحرب ) تكرر بعدد ( الأسرى ) .
    وأن لفظ ( قالوا ) تكرر 332 مرة ( ومن عجب أن يتساوى هذا مع لفظ ( قل ) الذي هو أمر من الله إلى خلقه ، فسبحان من قال ( قل ) ، 332 مرة فكان القول 332 مرة ) .
    وأن لفظ ( الشهر ) تكرر 12 مرة بعدد شهور السنة .
    وأن لفظ ( اليوم ) تكرر 365 مرة بعدد أيام السنة.
    وأن لفظ ( الأيام ) تكرر 30 مرة بعدد أيام الشهر.
    وقد تقول : ولِمَ لم يعكس فيذكر اليوم ثلاثين مرة بقدر أيام الشهر و ( الأيام ) 365 مرة بقدر أيام السنة ؟
    والجواب أن العرب تستعمل الجمع تمييزاً لأقل العدد وهو من ثلاثة إلى عشرة فإذا زاد على العشرة وصار كثرة جاءت بالمفرد فتقول : عشرون رجلاً ، ومائة رجل ، وألف رجل . فالجمع يوقعونه تمييزاً للقلة والمفرد يوقعونه تمييزاً للكثرة .
    وكثيراً ما يوقعون المفرد للكثرة بخلاف الجمع من ذلك الوصف بالمفرد والوصف بالجمع .
    فالوصف بالمفرد يدل على الكثرة ، والوصف بالجمع يدل على القلة فقولك ( أشجار مثمرات ) يدل على أن عدد الشجرات قليل بخلاف ما لو قلت ( أشجار مثمرة) فإنه يدل على أن الأشجار كثيرة .
    ويوقعون ضمير المفرد للكثرة وضمير الجمع للقلة . ألا ترى أن قولك : ( الرماح تكسّرن ) يعني أن الرماح قليلة وذلك لمجيء نون النسوة بخلاف قولك : ( الرماح تكسَّرتْ ) فإنها تعني أن الرماح كثيرة . والنون في الأصل للجمع والتاء للمفرد .
    ألا ترى في قوله تعالى : ] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [(التوبة:36) .
    كيف لما قال : ( اثنا عشر شهراً ) قال : ( منها ) .، ولما قال : ( أربعة ) قال : ( فيهن ) فاستعمال المفرد ( منها ) للكثرة والجمع ( فيهن ) للقلة . وغير ذلك .
    فهو جرى على سنن كلام العرب في التعبير ، والقرآن الكريم أُنزل بلسان عربي مبين وغير ذلك وغيره ، فأي إعجاز هذا أيها الناس ! أي إعجاز هذا أيها العلماء ! أي إعجاز هذا أيها المفتونون بالعلم ! .


    أولاً : خصوصيات التعبير القرآني
    للقرآن خصوصيات في استعمال الألفاظ : فقد أختص كثيراً من الألفاظ باستعمالات خاصة به مما يدل على القصد الواضح في التعبير فمن ذلك أنه :-
    1- استعمل ( الرياح ) حيث وردت في القرآن الكريم في الخير و الرحمة واستعمل ( الريح ) في الشر والعقوبات قال تعالى : ] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [(الأعراف: من الآية57) .
    وقال تعالى : ] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [(الروم: من الآية46) .
    في حين قال تعالى : ] كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ[(آل عمران: من الآية117) .
    وقال تعالى : ] رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [(الأحقاف: من الآية24) ، وقال تعالى : ] فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [(الحاقة: من الآية6) ، وغير ذلك وغيره .ولم يستعمل الريح في الخير إلا في موطن واحد أعقبها بالشر وهو قوله تعالى : ] إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [(يونس: من الآية22) ، وهي خاتمة غير حميدة .
    2- ومن ذلك ذكر المطر فإنك ( لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام )([3]) بخلاف الغيث الذي يذكره القرآن في الخير ، قال تعالى : ] وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [ (النمل:58) ، وقال تعالى : ] وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [(الأعراف:84) وقال تعالى : ] وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [(الفرقان: من الآية40) .
    في حين قال تعالى : ] وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [(الشورى:28) ، وقال تعالى : ] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [(يوسف:49) .
    3- ومن ذلك ما اختص به القرآن الكريم في استعمال العيون والأعين . فلم يستعمل العيون إلا لعيون الماء ، وقد وردت كلمة (العيون) في القرآن الكريم في عشرة مواطن كلها بمعنى الماء من مثل قوله تعالى : ] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [(الحجر:45) ، وقوله تعالى : ] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [(المرسلات:41) .
    في حين جمع العين الباصرة على أعين([4]) مثل قوله تعالى : ] الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً [(الكهف:101). وقوله تعالى : ] سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [(الأعراف: من الآية116). وقوله تعالى : ] تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [(المائدة: من الآية83).


    ثانياً : البنية في التعبير القرآني
    يستعمل القرآن الكريم بنية الكلمة استعمالاً في غاية الدقة والجمال :-
    1- استعمال الفعل والاسم :
    فمن المعلوم أن الفعل يدل على الحدوث والتجدد والاسم يدل على الثبوت([5]) تقول : هو يتعلم وهو متعلم . فـ (يتعلم ) يدل على الحدوث والتجدد أي : هو آخذ في سبيل التعلم بخلاف : ( متعلم ) فإنه يدل على الأمر تم وثبت وأن الصفة تمكنت في صاحبها . ومثله : هو يحفظ وهو حافظ ، فـ ( يحفظ ) يدل على الحدوث والتجدد و ( حافظ ) يدل على ثبات الأمر واستقراره في صاحبه ومثله : هو يجتهد ومجتهد .
    وربما كان الأمر لم يحدث بعد ومع ذلك يؤتى بالصيغة الاسمية للدلالة على أن الأمر بمنزلة الحاصل المستقر الثابت وذلك نحو قولك : أتراه سيفشل في مهمته ؟ فتقول : هو فاشل وذلك لوثوقك بما قررته أي : كأن الأمر تم وحصل وإن لم يحدث فعلاً ، ومن هذا الضرب قوله تعالى : ] إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [(البقرة: من الآية30) فهو لم يجعله بعد ولكن ذكره بصيغة اسم الفاعل للدلالة على أن الأمر حاصل لا محالة فكأنه تم واستقر وثبت ، ومثله قوله تعالى لنوح عليه السلام قال تعالى : ] وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [(هود: من الآية37) ، فلم يقل : سأغرقهم أو أنهم سيغرقون ، ولكنه أخرجه مخرج الأمر الثابت أي : كأن الأمر استقر وانتهى ، ومثله قوله تعالى في قوم لوط عليه السلام قال تعالى : ] وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ [(العنكبوت:31) ، ولم يقولوا : سنُهلك ، فذكرها بالصيغة الاسمية للدلالة على الثبات أي : كأن الأمر انتهى وثبت .
    فخلاصة الأمر أن الفعل يدل على الحدث والتجدد والاسم يدل على الثبوت والاستقرار . وقد استعمل القرآن الكريم الفعل والاسم استعمالاً فنياً في غاية الفن فمن ذلك قوله تعالى:] قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [(آل عمران:26-27) .
    في حين أن السياق في سورة الأنعام مختلف وليس السياق في التغييرات وإنما هو في صفات الله تعالى وقدرته وتفضله على خلقه قال تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ (الأنعام:95-96) .
    فالسياق مختلف ولذا تتوالى الأفعال في هذه الآية ، فوضع كل صيغة في المكان اللائق بها .
    ومن ذلك قوله تعالى : ] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ [(الأعراف:193) .
    ففرق بين طرفي التسوية فقال : ( أدعوتموهم ) بالفعل ثم قال : ( أم أنتم صامتون ) بالاسم ولم يسوّ بينهما فلم يقل : أدعوتموهم أم صمتّم بالفعلية . أو : أأنتم داعوهم أم صامتون .
    وذلك أن الحالة الثابتة للإنسان هي الصمت وإنما يتكلم لسبب يعرض له ، ولو رأيت إنساناً يكلم نفسه لاتَّهمته في عقله ، فالكلام طارئ يحدثه الإنسان لسبب يعرض له ولذا لم يسوَّ بينهما بل جاء للدلالة على الحالة الثابتة بالاسم : ( صامتون ) وجاء للدلالة على الحالة الطارئة بالفعل : ( دعوتموهم ) أي : أأحدثتم لهم دعاء أم بقيتم على حالكم من الصمت .
    ومثل ذلك قوله تعالى : ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [(الأنفال:33) .
    فقد جاء في صدر الآية بالفعل : ( ليعذبهم ) وجاء بعده بالاسم : ( معذبهم ) وذلك أنه جعل الاستغفار مانعاً ثابتاً من العذاب بخلاف بقاء الرسول بينهم – أي العذاب – موقوت ببقائه بينهم ، فذكر الحالة الثابتة بالصيغة الاسمية و الحالة الموقوتة بالصيغة الفعلية وهو نظير قوله تعالى : ] وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [(القصص: من الآية59) ، فالظلم من الأسباب الثابتة في إهلاك الأمم فجاء بالصيغة الاسمية للدلالة على الثبات ، ثم انظر كيف جاءنا بالظلم بالصيغة الاسمية أيضاً دون الفعلية فقال : ( وأهلها ظالمون ) ولم يقل : ( يظلمون ) وذلك معناه أن الظلم كان وصفاً ثابتاً لهم مستقراً فيهم غير طارئ عليهم فاستحقوا الهلاك بهذا الوصف السيء .
    فانظر كيف ذكر أنه يرفع العذاب عنهم باستغفارهم ، ولو لم يكن وصفاً ثابتاً فيهم ، وأنه لا يهلكهم إلا إذا كان الظلم وصفاً ثابتاً فيهم ، فإنه جاء بالاستغفار بالصيغة الفعلية ( يستغفرون ) وجاء بالظلم بالصيغة الاسمية ( ظالمون ) ، فانظر إلى رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه .
    ومن ذلك قوله تعالى في وصف المنافقين قال تعالى : ] وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [(البقرة:14) .
    فقد فرق بين قولهم للمؤمنين وقولهم لأصحابهم فقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث ( آمنا ) ، وخاطبوا جماعتهم بالجملة الاسمية المؤكدة الدالة على الثبوت والدوام ( إنا معكم ) ولم يسوّ بينهما فلم يقولوا : ( إنا مؤمنون ) كما قالوا : ( إنا معكم ) وذلك إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس من عقائدهم باعث ومحرك ، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة ... وأما مخاطبة إخوانهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للمتكلم به وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم فكان مظنة للتحقيق .

    2- التغاير في الصيغ :
    ومن ذلك أنه يستعمل صيغة جمع في مكان ثم يستعمل صيغة جمع أخرى في مكان آخر يبدو شبيهاً بالأول وذلك نحو قوله تعالى : ] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [(البقرة:261) .
    وقوله تعالى : ] إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ [(يوسف: من الآية43) .
    فأنت ترى أن العدد في الآيتين واحد هو سبع ، ولكن استعمل معه : ( سنبلات ) مرة ومرة أخرى : ( سنابل ) وسر ذلك أن سنابل جمع كثرة وسنبلات جمع قلة ، وقد سيقت الآية الأولى في مقام التكثير ومضاعفة الأجور فجيء بها على ( سنابل ) لبيان التكثير .
    وأما قوله : ( سبع سنبلات ) فجاء بها على لفظ القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير ، فجاء لكل موضع بما يقتضيه السياق . ومن لطيف استعمال القلة و الكثرة ما جاء في قوله تعالى : ] إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [(النحل:120-121) .
    وقوله تعالى : ] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [(لقمان:20) .
    فجمع النعمة في آية سورة النحل جمع قلة ( أنعُم ) وجمعها في لقمان جمع كثرة ( نِعمَه ) وذلك أن نعم الله لا تحصى ، فلا يطيق الإنسان شكرها جميعها ، ولكن قد يشكر قسماً منها ، ولذلك لما ذك إبراهيم وأثنى عليه قال : إنه شاكر لأنعمه ، ولم يقل : لنعمه ، لأن شكر النعم ليس في مقدور أحد ، بل إن إحصاءها ليس في مقدور أحد فكيف بشكرها ؟ قال تعالى : ] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [(النحل:18) ، وأما الآية الثانية فهي في مقام تعداد نعمه وفضله على الناس فقال تعالى : ] وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [(لقمان: من الآية20) ، فذكرها بزنة جمع الكثرة .

    ثالثاً : التقديم والتأخير
    يمكننا تقسيم أحوال التقديم والتأخير على قسمين :-
    الأول :تقديم اللفظ على عامله نحو : ( خالداً أعطيت ) و : ( بمحمد اقتديت ) .
    الثاني :تقديم الألفاظ بعضها على بعض في غير العامل وذلك نحو قوله تعالى : ] وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [(البقرة: من الآية173) ، وقوله تعالى : ] وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [(المائدة: من الآية3) ، مثل : ( أعرت خالداً كتابي ) و : ( أعرت كتابي خالداً ) .
    1- تقديم اللفظ على عامله :
    ومن هذا الباب تقديم المفعول به على فعله ، وتقديم الحال على فعله ، وتقديم الظرف والجار والمجرور على فعلهما ، وتقديم الخبر على المبتدأ ونحو ذلك ، وهذا التقديم في الغالب يفيد الاختصاص فقولك : ( أنجدت خالداً ) يفيد أنك أنجدت خالداً ولا يفيد أنك خصصت خالداً بالنجدة بل يجوز أنك أنجدت غيره أو لم تنجد أحداً معه ، فإذا قلت : ( خالداً أنجدت ) أفاد ذلك أنك خصصت خالداً بالنجدة وأنك لم تنجد أحداً آخر .
    ومثل هذا التقديم في القرآن الكريم كثير .
    فمن ذلك قوله تعالى : ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [(الفاتحة:5-6) ، فقد قدم المفعول به ( إياك ) على فعل العبادة وعلى فعل الاستعانة دون فعل الهداية قال تعالى : ] بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [(الزمر:66) ، فلم يقل : ( إيانا اهد ) كما في الأولين ؛ وسبب ذلك أن العبادة والاستعانة مختصتان بالله تعالى ، فلا يعبد أحد غيره ولا يستعان به ، وهذا نظير قوله تعالى : ] بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [(الزمر:66) ، وقوله تعالى : ] وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [(البقرة: من الآية172) ، فقدم المفعول به على فعل العبادة في الموضعين وذلك لأن العبادة مختصة بالله تعالى .
    ومثل التقديم على فعل الاستعانة قوله تعالى : ] وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [(آل عمران: من الآية122) ، وقوله تعالى : ] عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا [ (لأعراف: من89 الآية) ، وقوله تعالى : ] عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [ (هود: من الآية88)، فقدم الجار و المجرور للدلالة على الاختصاص وذلك لأن التوكل لا يكون إلاّ على الله وحده والإنابة ليست إلا إليه وحده .
    ولم يقدم مفعول الهداية على فعله فلم يقل : ( إيانا أهد ) كما قال : ( إياك نعبد ) وذلك لأن طلب الهداية لا يصح فيه الاختصاص إذ لا يصح أن تقول : اللهم أهدني وحدي ولا تهد أحداً غيري أو خصّني بالهداية من دون الناس ، وهو كما تقول اللهم ارزقني واشفني وعافني ، فأنت تسأل لنفسك ذلك ولم تسأله أن يخصك وحدك بالرزق و الشفاء والعافية فلا يرزق أحداً غيرك ولا يشفيه ولا يعافيه .
    ومن هذا النوع من التقديم قوله تعالى : ] قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [(الملك: من الآية29) ، فقدم الفعل ( آمنا ) على الجار و المجرور ( به ) وأخر ( توكلنا ) عن الجار و المجرور ( عليه ) وذلك أن ( الإيمان لما لم يكن منحصراً في الإيمان بالله ، بل لا بد معه من رسله وملائكته وكتبه و اليوم الآخر وغيره مما يتوقف صحة الإيمان عليه ، بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة و العلم القديمين الباقيين ، قدم الجار و المجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره لأن غيره لا يملك ضراً ولا نفعاً فيتوكل عليه )([6]) .
    ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : ] أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [(الشورى: من الآية53) ، لأن المعنى أن الله تعالى مختص بصيرورة الأمور إليه دون غيره ، ونحو قوله تعالى : ] إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [(الغاشية:25-26) . فإن الإياب لا يكون إلا إلى الله ، وهو نظير قوله تعالى : ] إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ [(الرعد: من الآية36) ، وقوله تعالى : ] إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [(القيامة:30) ، فالمساق إلى الله وحده لا إلى ذات أخرى ، وهذا ليس من التقديم من أجل مراعاة المشاكلة لرؤوس الآي كما ذهب بعضهم([7]) بل هو لقصد الاختصاص نظير قوله تعالى : ] إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [(يونس: من الآية4) ، وقوله تعالى : ] وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [(هود: من الآية123) ، وقوله تعالى : ] كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُون [(الأنبياء: من الآية93) ، وغير ذلك من الآيات .
    ومن هذا الباب قوله تعالى : ] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ [(فصلت: من الآية47) فعلم الساعة مختص بالله وحده لا يعلمه أحد غيره ونحوه قوله تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ[(لقمان: من الآية34) فقدم الظرف الذي هو الخبر على المبتدأ وهو نظير الآية السابقة .

    رابعاً : الذكر و الحذف :
    وقد يزيد كلمة أو أكثر في موضع ، ولا يذكرها في موضع آخر ، كل ذلك حسبما يقتضيه المعنى و السياق .
    فمن ذلك قوله تعالى : ] وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً [(النساء:22) .
    وقوله تعالى : ] وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [(الإسراء:32) .فقد زاد قوله : ( ومقتاً ) في آية سورة النساء وذلك أن ( متزوج امرأة أبيه فاعل رذيلة يمقت فاعلها ويشنأ وتستخسه الطباع السليمة ، فوصفت فعلته بالمقت ، وساوت الزنى فيما وراء ذلك ) .

    خامساً :- التوكيد في القرآن الكريم
    من المعلوم أنه يؤتى بالألفاظ المؤكدة بحسب الحاجة إليه ، فقد يكون الكلام لا يحتاج إلى توكيد ، وقد يحتاج إلى مؤكد واحد أو أكثر بحسب ما يقتضيه المقام ، وقد راعى القرآن الكريم ذلك أدق المراعاة في جميع ما ورد من مواطن التوكيد ، فهو في غاية الدقة في اختيار الألفاظ المؤكدة في وضعها في الموضع المناسب بحسب طريقة فنية متقنة .
    إن التوكيد القرآني كله وحدة متكاملة منظور إليه نظرة شاملة وقد روعيت في ذلك جميع مواطنه فهو يؤكد في موطن ما مراعياً موطناً آخر قرب أو بعد ، فتدرك أنه أكد في هذا الموطن لسبب اقتضى لتوكيد ولم يؤكد في موطن آخر يبدو شبيهاً به لانعدام موجبه ، وترى أنه هنا أكد بمؤكدين وأكد في موطن آخر يبدو شبيهاً به بمؤكد واحد لسبب دعا إلى استعمال كل تعبير في موطنه المناسب له ، وكذلك في اختيار المؤكدات فهو يؤكد هنا بالنون المخففة مثلاً وفي موطن آخر بالنون الثقيلة . وهنا بإنَّ المشددة وفي موطن آخر بإن المخففة ويستبدل حرفاً بحرف كل ذلك بحسب منظور فني متكامل في كل القرآن الكريم ، فجاء التوكيد كله في القرآن كله كأنه لوحة فنية واحدة فيها من عجائب الفن – وليس فيها إلا العجيب – ما يجعل أمهر الفنانين يقف مبهوراً دهشاً مقراً بعجز الخلق أجمعين عن استخلاص عجائبه فضلاً عن الإتيان بمثله ، فمن ذلك عل سبيل المثال قوله تعالى : ] وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [(البقرة: من الآية193) . وقوله تعالى : ] وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [(الأنفال: من الآية39) .
    فأكد الدين بلفظ ( كل ) في الأنفال بخلاف البقرة وذلك لأن القتال في البقرة مع أهل مكة فحسب ، أما في الأنفال فمع جميع الكفار ولذا عمم.
    قال تعالى : ] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [( البقرة الآية 191-194) .
    ألا ترى على قوله تعالى : ] وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [(البقرة: من الآية191) ، و المسجد الحرام في مكة ، ولم يذكر القتال عند المسجد الحرام في سورة الأنفال بل جعله عاماً فقال تعالى : ] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [(الأنفال:38-39) .
    فلما كان القتال ههنا عاماً عمم الدين فقال : ( كله ) .

    سادساً : التشابه والاختلاف:
    في القرآن الكريم آيات وتعبيرات تتشابه مع تعبيرات أخرى ولا تختلف عنها إلا في مواطن ضئيلة كأن يكون الاختلاف في حرف أو كلمة ، أو نحو ذلك .
    وإذا تأملت هذا التشابه والاختلاف وجدته أمراً مقصوداً في كل جزئية من جزئياته قائماً على أعلى درجات الفن والبلاغة والإعجاز ، وكلما تأملت في ذلك ازددت عجباً وانكشف لك سر مستور أو كنز مخبوء من كنوز هذا التعبير العظيم .
    ومن هذا الباب قوله تعالى : ] يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [(المائدة: من الآية41) . وقوله تعالى : ] يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا [(المائدة:من الآية13) .
    فقد قال في الآية الأولى : ( عن مواضعه ) وفي الثانية : ( من بعد مواضعه ) وذلك أن الكلام في الآية على أوائل اليهود الذين حرفوا التوراة ، وفي الثانية على اليهود الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين حرفوها بعد أن وضعها الله مواضعها وعرفوها وعملوا بها زماناً. فقد قال في الآية قال تعالى : ] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [(المائدة:12) .
    وقال في الآية الثانية قال تعالى : ] وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ [(المائدة: من الآية41) .
    فجاء في الثانية بكلمة ( بعد ) لأنها ( قد تكون لما تأخر عن زمانه بأزمنة كثيرة وبزمن واحد و ( عن ) لما جاوز الشيء إلى غيره ملاصقاً زمنه لزمنه ) .
    وجاء في الأولى بـ ( عن ) لأن الزمن ملاصق ، فوضع كل لفظ في المكان الذي هو أليق به .

    سابعاً : فواصل الآيات:
    من المعلوم أن الآيات القرآنية الكريمة تنتهي بفواصل منسجمة موسيقياً بعضها مع بعض مثل : ( تعلمون ، تؤمنون ، تتقون ) ومثل ( خبيراً ، كبيراً ، عليماً ، حكيماً ) .
    ومن الملاحظ أن القرآن الكريم يعنى بهذا الانسجام عناية واضحة لما لذلك من تأثير كبير على السمع ووقع مؤثر في النفس ، فقد ترى أنه مرة يقدم كلمة ومرة يؤخرها انسجاماً مع فواصل الآيات ، فمثلاً يقول مرة قال تعالى : ] قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [(الشعراء:47-48) ، بتقديم موسى على هرون ، فيجعل كلمة (هرون ) نهاية الفاصلة انسجاماً مع الفواصل السابقة واللاحقة ، ومرة يقول تعالى : ] آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [(طـه: من الآية70) ، بتقديم هارون وجعل ( موسى ) نهاية الفاصلة لأن الألف فيها هي التي تناسب فواصل الآي في سورة طه .
    وقد ترى أنه يحذف شيئاً من الكلم لتنسجم مع فواصل الآي ، إذ لو أبقى المحذوف لم ينسجم ، وذلك نحو قوله تعالى : ] قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [(الشعراء:72-73) ، إذا الأصل : ( أو يضرونكم ) مقابل : ( ينفعونكم ) ولكنه حذف المفعول به من ( يضروكم ) ، إذ لو أبقاه لم تنسجم فاصلة الآية مع بقية الآيات . وقد يزيد شيئاً في الكلمة للغرض نفسه و ذلك نحو قوله تعالى : ] وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [(الأحزاب:67) ، فقد مد فتحة ( السبيل ) لتنسجم الفاصلة مع فواصل الآي المتقدمة والمتأخرة .
    وقد نرى أنه يبدل كلمة بكلمة أخرى مع أن الآيتين متشابهتان ، ذلك لأن فواصل الآي في كل من الموطنين مختلفة ، فيجعل في نهاية كل آية ما ينسجم موسيقياً مع أخواتها وذلك نحو قوله تعالى : ] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [(ابراهيم: من الآية34) ، وقوله تعالى : ] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [(النحل:18) ، فأنت ترى أن الآيتين متشابهتان إلا في خواتم الآي ، فإن فاصلة آية سورة إبراهيم وهو قوله : ( كفار ) منسجمة مع فواصل الآيات قبلها وبعدها ( الأنهار ، النهار ، كفار ، الأصنام ) .
    وقد تظن أنه ختم آية إبراهيم بقوله : ( كفار ) مراعاة لفواصل الآي في هذه السورة ، وختم آية النحل بـ ( رحيم ) مراعاة لفواصل الآي فيها .
    ولا شك أن خاتمة كل من الآيتين تنسجم موسيقياً مع الآيات فيهما ، ولكن السياق أيضاً يقتضي الفاصلة التي فصلت فيها كل آية من الآيتين ، ذلك أن الآية في سورة إبراهيم في سياق وصف الإنسان وذكر صفاته فختم الآية بصفة الإنسان ، وأن الآية في سورة النحل في سياق صفات الله تعالى فذكر صفاته ، فقد قال في سورة إبراهيم ، قال تعالى : ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [ فاقتضى ذلك ختم الآية بصفة الإنسان .
    وقال في سورة النحل ، قال تعالى : ] وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [ . فأنت ترى أن الكلام على صفات الله ونعمه على الإنسان فختمه بصفته . و خص سورة إبراهيم بوصف المنعَم عليه وسورة النحل بوصف المنعِم ، لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات ألوهيته .


    ([1]) تفسير ابن كثير 3/44 ، سيرة ابن هشام 1/207-208 .

    ([2]) تفسير ابن كثير 4/442-443 ، سيرة ابن هشام 1/174-175 .

    ([3]) انظر البرهان 4/9-10 .

    ([4]) انظر دراسات في اللغة لإبراهيم السامرائي 91 .

    ([5]) أنظر معاني الأبنية في العربية ، د.فاضل السامرائي ، باب ( الاسم والفعل ) .

    ([6]) البرهان 2/412 .

    ([7]) انظر الطراز 2/71 .
  • محمد جابري
    أديب وكاتب
    • 30-10-2008
    • 1915

    #2
    الأستاذ د.أيوب جرجيس؛
    رغم ما لمست من صدق طويتك وجدية نهجك في كتابة موضوعك، أبدأ بادئ ذي بدء بملاحظات أراها جوهرية وربما لم تلتفت لها ولم تقف عندها مليا:

    1- عن قولك " دعا القرآن العرب إلى أن يأتوا بسورة من مثله ويشمل هذا التحدي قصار السور كما يشمل طوالها ، ومن المعلوم أن العرب لم يحاولوا أن يفعلوا ذاك فقد كانوا يعلمون عجزهم عنه ، ورأوا أن سبيل الحرب والدماء وتجميع الأحزاب أيسر عليهم من مقابلة تحدي القرآن "
    أقول :
    أ- فالقرآن تحدى الفصحاء بالإتيان بحديث مثله {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور : 34] وما التحدي بالسورة إلا إحدى التحديات المرفوعة في وجه الإنس والجن؛ ولا غرو فالتحدي بحديث مثله قد يكون آية من مثله أو ببعض آية، أو بكلمة منه، وهنا لا بد لنا أن نتساءل ألم تستطع العرب الإتيان بكتابات جليلة وجميلة، ذوقا وإيقاع حرف، وموسيقى كلام، وفن تعبير؟
    وأجيب كلا لقد استطاع العرب ذلك؛ وكان هذا الأمر كافيا لردعنا عن دعوى الإعجاز اللفظي وفن القول، ومن لم يقف مليا مع قوله تعالى:
    {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة : 24]؛
    يدخل المجال بغير زاد علمي دقيق، ذلك بأن الله نفى الفعل في الماضي وفي الاستقبال أما محاولة مضاهات الكتاب فقد تمت على يد الكثيرين من المشركين وحتى من المؤمنين، ألم يحاول مسيلمة الكذاب وسجاح و... ولا يخلو كتاب من كتب علوم القرآن من الحديث عن مضاهات المؤمنين لقوله تعالى { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة : 179] وهو الشيء الذي ينفيه القرآن كلية. وهذا النفي كاف ليصدنا عن البحث عن أسرار إعجازه ومكمن تحديه؟ حيث تأكد لنا بأن اللغة والتعبير والتركيب اللفظي ليس هو المراد والمقصود في الإعجاز؛ وذلك لأن الكتاب جاءنا للاحتكاك ببلاغته وتعلمها:

    {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة : 2]

    فالإعجاز القرآني لا يرشدنا إليه إلا الله سبحانه تعالى وقرآنه الكريم:

    {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا [الشورى : 52]؛

    فبالروح تحدنا القرآن الكريم في عدة مواطن: والله جل وعلا علوا كبيرا اختص بالخلق وبالأمر وفي كلتا الحالتين تحدانا عن الخوض في اختصاصه:
    ففي الخلق تحدانا بقوله:

    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج : 73]

    والخلق هو بعث الروح في المخلوقات، كما أن الموت هو خروج الروح من المخلوقات وفيه أيضا جاء التحدي:

    {فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران : 168]

    أما في الأمر - ومن أوامره كل ما جاء في القرآن الكريم - فقد سبق بيان التحدي بحديث مثله.

    أليس هذا كافيا ليصدنا عن القول بإعجاز القرآن اللفظي، وأما بلاغته فلك أن تطرق باب البلغاء لتجدهم يتحدثون بأن بلاغة القرآن ثلاث مستويات انظر على سبيل المثال الرماني والخطابي في كتابيهما عن الإعجاز...؟ ثم ألم تتحدث عن إعجازه التأثيري ؟ ولم لم تقف عن بيان كيفية ومصدر تأثيره؟.

    وبهذا البيان الشافي أكون قد كشفت عكس ما رميت إليه بقولك "فقد كانوا يعلمون عجزهم عنه ، ورأوا أن سبيل الحرب والدماء وتجميع الأحزاب أيسر عليهم من مقابلة تحدي القرآن.

    ب- أما عن العدد تسعة عشر، فأخشى أن نفتح بابا لدخول البهائيين علينا بترهاتهم حيث:
    " قدس البهائيون العدد 19، والسنة عندهم 19 شهراً، وكل شهر 19 يوماً، مخالفين السنة الكونية والشرعية المتمثلة فى قوله سبحانه "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً فى كتاب الله يوم خلق السموات والأرض"، والسؤال الذى يطرح نفسه ما هذا الدين الذى يقدس رقم ويقلب سنن الكون الذى سن الله إياها وأرستها كل الديانات السماوية."
    http://www.mhammed-jabri.net/

    تعليق

    يعمل...
    X