السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه أول قصة لي في هذا المنتدى الذي أحب القراءة فيه كثيرا، يسعدني ويشرفني أن أسمع آرائكم
بقلم.. سكينه علوي
يُقلِّب أحمد قنوات التلفاز متملمِلاً من تشابه أيامه .. التي لم تعد تختلف عن بعضها منذ أن طُرد من وظيفته، يحتضن الوسادة المجاورة، ويرتمي فوق قسمات الأريكة، فيجد النعاس طريقًا سهلاً إلى عينيه، ما إن غير القناة حتى تزلزل جسده مما سمعت أذناه، فنفضت عيناه آثار النعاس و قفز من مكانه صارخاً بفرحةٍ عارمة:
- أمي .. تعالي يا أمي واسمعي .. فعلها .. فعلها الأحرار!
تأتي الأم مسرعة من المطبخ، يساعدها عكازها الخشبي الصغير، تضعه جانباً لتمسح يديها عن بقايا قطرات ماء الغسيل بفوطة نظيفة، وترفع نظارتها السميكة إلى حيث عينيها وتقول:
- من فعل ماذا يا ابني؟! هل عادت طليقتك.. هل أقنعوها بذلك؟! هل وجد لك جارنا وظيفة جديدة؟! هل قبل المؤجر تأخير المبلغ حتى يتوفر لدينا؟! هل.. هل أحضروا جثة والدك؟!
يهز ابنها رأسه نافياً اعتقادات أمه الكثيرة، يدير وجهها إلى التلفاز وينزع المنديل المربوط فوق رأسها لتُحسن السمع، ويقول:
- اسمعي .. اسمعي جيداً يا أمي ..
يأتي صوت المذيع بنبأ انتصار شعب تونس وهروب رئيسهم خارج البلاد، فيستبشر وجهها وتتجه خطاها السعيدة ناحية باب الشقة الصغيرة، فتجد جاراتها قد سبقوها بالتبريكات والأحضان لجارتهم التونسية، تعود إلى ابنها ضاحكة:
- كم هي طيبة هذه المرأة .. أتصدق أنها أخذت على عاتقها صنع العشاء الليلة لكل الجيران فرحا بهذا النبأ العظيم ..
تتوقف قليلا عن الكلام لتقول مرة أخرى:
- ما هذا الضيق المرتسم على وجهك يا ابني .. لا وقت لهذه التعابير الآن دعنا نفرح مع إخواننا ..
يرد عليها بعد أن ثارت ملامح وجهه:
- و نحن يا أمي متى نفرح لأنفسنا؟ متى نترك الحياة تحت أقدام الطغاة الذين ينهشون من لحومنا؟ متى نرى النور من فوق القمم وليس من أسفل الوديان؟!
ترد عليه أمه التي أخذ الزمن منها ما أخذ:
- اعذرني يا ابني ولكني لم أفهم كلامك! دعك من كلام المدارس وخاطبني بحديثٍ أفهمه.
اقترب من أمه وأخذ يشرح لها عن قوة شعبهم، و أن الظلام لا يدوم مادام لشعلة النور أحياء يمسكون بها، يتَّحِدون في كيفية إشعالها ويُحسِنون توجهيها..
رفضت الأم كلام ابنها وقالت:
- نحن لسنا مرآةً لتونس .. إلا السياسة يا ابني .. لا تقترب منها أبداً ولا تُدخِلنا في متاهاتها .. دعهم يصنعوا ما يشاؤون في البلد فنحن لسنا بقوتهم ..
قال بنبرة حادة:
- إنه الخوف يا أمي .. الخوف الذي برعوا في صنع غيمته! تلك الغيمة التي تظللكم منذ عقود .. فتُسقط أمطارها ظلماً وفساداً وفقراً عليكم .. وأنتم مقتنعون بأنها غيمة ستقيكم حر الشمس! فظلَّ الصمت رفيقكم خوفاً من ألسنة شمس قد تكون أرحم لكم من غيث النظام ..
أخذت الأم صورة زوجها .. ومسحت ما علق بها من ذرات غبار بسيطة وقالت بصوتٍ هادئ .. حزين:
- وما جنى والدك من الكلام يا ابني؟ غير أن السجون والمعتقلات فتحت أذرعها استقبالاً له! وتراقصت أسواط التعذيب فوق ظهره! وعميت عينه عن النور بعصابات سوداء لا تعرف الرحمة! أنسيت يا ابني؟! أنسيت التشريد والألم لصوتٍ طالبَ بأبسط حقوق العيش! أنسيت ..........
لم تكمل كلامها فقد التفت خيوط العبرة حول حروفها إلى أن خنقتها، فراحت الدموع تسبح في فضاء عينيها، اقترب منها ابنها و ركع أمامها، ممسكا بيدها يقبلها ويقول:
- من أجل والدي يا أمي لابد أن نُشعِل النور، من أجل طفلي الذي تركتني أمه وهو في أحشائها لتغادر البلاد طلباً لمعيشة أفضل، طفلي الذي لا يكاد أن يتعرف علي إلا بعد فحص دقيق لتقاسيم وجهي، طفلي محمود الذي لا أراه إلا من خلال شاشات الكمبيوتر ولا أملك المال أو حتى جزءاً منه لأسافر إليه ..
قام من مكانه ليكمل حديثه في بقعة أخرى، فتح الباب وقال متألماً:
- من أجلها لابد من أن نشعل النور ..
استغربت الأم وأخذت تبحث بين الجموع خارج الشقة وقالت:
- أتقصد جارتنا التونسية .. أم أحد مهنئيها ..
أخذ يمسح دمعة صغيرة علقت برموشه منذ سنين .. سنين بعدد عمر الطفلة التي يشير إليها بإصبعه ويقول:
- لا يا أمي انظري خلفهم .. انظري إلى فاطمة المستندة على الجدار .. هذه الطفلة التي كرهت الحياة وباتت أيامها تلفزيوناً قديماً لا يبث إلا أبرد لونين .. منذ أن اُختطفت والدتها .. لا لشيء غير أنها ناشطة تكلمت بالحق .. فأضيفت إلى قائمة مجهولي المصير!
أمسك بيد أمه واختلط بين الجموع ثم أشار إلى أحد جيرانهم قائلاً:
- انظري إلى حسان الذي هرم في خدمة هذه البلاد .. هاهو مقعد على كرسيه بقدم واحدة دون أية حقوق أو تعويضات .. تريْنَه مبتسماً سعيداً لجارتنا .. إلا أنه في داخله يتلوَّى ألماً بانتظار لحظة موازية لفرحة جارتنا يسترد فيها حقه الشرعي في الحياة ومكافأة على جهوده التي استمتع من فوقَهُ بحصادها!
يتنقلون بين الجيران الذين ملؤوا ممرات العمارة احتفالاً بانتصار إخوانهم، حتى وصلوا إلى جارهم مصطفى، ألقوا عليه التحية، فردها عليهم متثاقلا، فقالت أم أحمد لابنها هامسة:
- هذا الولد لا يعجبني .. دائما ما أراه منغلقاً على نفسه .. لا يتحدث مع أحد .. ولا يشارك الناس أخبارهم .. حتى الابتسامة لا نكاد نراها على وجهه.. صَدَقَ من أسماهُ "أبو تكشيرة"!
جذب يد أمه وابتعدا عن مكانهما قليلا وقال:
- في رأيك يا أمي لماذا اختفت بسمة مصطفى عن وجهه .. وظل لقب مصطفى أبو تكشيرة يلاحقه منذ أكثر من ثلاث سنوات؟!
رفعت الأم اكتفاها إشارة لجهلها عن السبب فأجاب قائلا:
- فعلا من يرى مصيبة غيره ينسى مصيبته .. إذا كنتُ أنا عملت لعدة سنوات و فُصلت من وظيفتي دون سابق إنذار .. لتسُتبدل كفاءاتي بكفاءة المصاهرة مابين المدير وصهره عديم المنفعة الذي لم يجد له مكاناً شاغراً في الشركة .. فكانت رؤيته الحكيمة بأن يفصلني ويضعه مكاني! .. فمصطفى الذي أفنى خمسَ سنين من عمره في دراسة الكيمياء الحيوية.. لم تؤهله شهادته إلا لبيع المأكولات المنزلية في كشكٍ صغير عند آخر الشارع!.. وحقيقةً يا أمي يحق له أن تسوَدَّ الدنيا في عينيه .. وإن لم يتغير حالي فسينتهي بيَ المطاف مثلهُ أو أعظمَ منه!
واصل أحمد وأمه تنقلاتهما بين الجموع المهنئة وهو لا يزال يَذكُرلها قصة ماجدة وسعاد، وقصة رأفت و مازن، ثم يتوقف قليلاً في لحظةِ حداد عندما تذكَّر أحد الشباب يوم أن أخذتْهُ الشرطة وعذبته ضرباً لأنه رفض تفتيشهم الغير لائق حتى وافته المنية، ويمتعض وجهه أكثر عندما تذكر كيف أنهم زَيَّفوا الطريقةَ التي مات بها حمايةً لأنفسهم، ثم أمسك بكتف أمه وقال بحماس مفرط:
- من أجل هؤلاء يا أمي .. من أجلي .. ومن أجل مصر .. لابد أن نُشْعِلَ النُّور
أخذت الأم ابنها وعادت إلى داخل الشقة، أقفلت الباب، وقالت:
- لن يفيدك إلا النوم ..
أمسك بجهاز الكمبيوتر وارتفع صوته قائلا:
- نومٌ نومٌ نوم .. ألم تكفنا سنوات النَّومِ يا أمي؟!
أخذ يتصفح مواقع الإنترنت، حتى تهلَّلَ وجهُهُ بابتسامةٍ قلبت موازيين العقل لما قرأتهُ عيناه فقال لأمه:
- البشرى .. البشرى يا أمي ..
تعابير وجهها كانت كافية لتعلن الاستعجاب من كلامه، ما إن فتح فاه للحديث، حتى جاءت أصوات الهتافات من الخارج وتعالت الأصوات الرافضة لحكم النظام الفاسد، فقال مستبشرًا:
- إنها الثورة يا أمي .. إنها الثورة ..
قبَّل رأسها استعدادا للرحيل، فقالت في محاولةِ منعٍ غير مباشرة:
- الجيران مجتمعون في الخارج لن تستطيع المرور بينهم ونحن في الدور الرابع، لن تستطيع اللحاق بالمسيرة في الخارج، الحق بهم في المرة القادمة ..
تمتم مع نفسه وهو يدور بغير هدى حول الطاولة المنتصبة في وسط الصالة:
- معك حق يا أمي .. معك حق .. ستفوتني الثورة إن حاولت نزول السلالم .. لابد أن ألحق بالصفوف الأولى .. النافذة! النافذة أفضل طريق ..
صرخت الأم معبرة عن مشاق المشاركة مع المتظاهرين، وأنها قد لا تأتي بنتيجة، و ترجوه بحبه لوالده ألا ييتمها مرة أخرى بعد فقدها لزوجها في شِباك الحكومة، إلاَّ أنَّ تراكُمات السنين المُضنِية بدأت بالانفجار، فلم يعد للصبر مجال، حتى ثار الدم في جسده، و أسرع في التقاط علم بلاده المرتكز في إحدى الزوايا، وحمل أحَدَ الفوانيس القديمة، وقال لأمه:
- حان للظلام أن ينجلي يا أمي .. أعدك بالنصر تكريماً لوالدي .. وأعدك بالحرية لمستقبل أفضل لطفلي ..
خرج من نافذة الشقة يتسلق أحد الأنابيب الممتدة مسرعاً نحو الأرض، يرتعش جسده مع ملامسة الهواء البارد لجلد، يتجاهل الموضوع فما خرج له أكبر من يتأثَّر بلسعاتِ البرد القارص، ما إن وطأت أقدامُه الأرض حتى استنشق عبيرَ الحرِّية، وسمع نداءات أمه من الأعلى، تُلقي عليه ملابسَ دافئة وتدعو الله أن ينصرهم، ما إن ارتدى ملابسه حتى ثار راكضا مع الثوار، يهتف معهم ويردد بشعارات قصيرة متنوعة، تعبر عن سنوات الحرمان والظلم التي عاشوها، وعن مطالبهم السلمية في تحقيق حقوقهم المعيشية ..
يلحق بالصفوف الأولى، وتزداد الصفوف من خلفه تدريجيَّا، حتى امتلأت الشوارع والميادين بنداءات الحق، وبأصوات متحدة ترتعش منها الأبدان، وتذعن لها الآذان، وتخشع القلوب من هيبتها، إلا قلبًا واحداً احتمى خلف حجارة القصور، قلباً تحجَّر من عصر الناس واستهلاك طاقاتهم إرضاءً لرغَبَاته غير المنتهية على حساب الشعب، وكأنهم خُلقوا ليكونوا خدماً له حول مائدة ضيافته لأعداء البشرية، ضيوفَه وأحباءه الذين انعكست صورتهم فيه، فبات عميلاً لهم، واحد منهم، منعدم الضمير، لا يعرف للعروبة أو للإنسانية طريق..
حل الليل على الميادين، وأظلمت الدنيا إلا من فوانيس الثائرين .. حيث صرخ أحمد بأعلى صوته، فليرفع كل منكم فانوسه، وليشعل نور الحق الذي سيقمع الظالمين من جذورهم، فجاء صوت أحدهم:
- لكن أعمدة الإضاءة منيرة للميدان!..
فأجابه أحمد:
- هذه الأعمدة لا تنير.. فلنجمع فوانيسنا ولنشعلها بضياء قلوبنا و صفاء أرواحنا وسلمية مطالبنا .. فلنشعل نور الحق يا إخوان ..
وأشعلوا نورهم جماعة واحدة، وصوتًا واحداً وبكلمةٍ واحدةٍ وقفوا جسداً ملتحماً أمام حشود الشرطة التي تلقت أوامرها المُخزِية بأن أطْلِقُوا العنان لأسلحتكم، حتى برز أحمد من الميدان وقال مخاطباً بني بلده، الواقفين أمامه بلباس يُفتَرض به إعلان الأمن والأمان، وحماية الأُمَّة والممتلكات:
- لا تكونوا كالدُّمى المتحرِّكة .. يتحكَّمون في حركاتكم وإرادتكم كيفما شاؤوا..
ومد يده بأن انضموا إلينا، إلا أن أحدهم ضحك بسخرية قائلا:
- كل شيء بثمنه أيها الجاهل!
ورفع سلاحه إلى مستوى عينيه، أغلق إحداهما ليركز بالأخرى، حرك إصبعه قليلا لتنطلق رصاصة دامية اخترقت جسد أحمد في محاولة لإخراس أنفاسه، ولو علمت الرصاصة سبب إطلاقها لما خرجت لأجله، وتناثرت دماء أحمد على من حوله، حتى وقع على الأرض ينطق بالشهادتين ويربت بصعوبة على أكتاف من قدموا لإسعافه.. و يبشرهم بكلماته التي لم يقوى على إخراجها:
- النصر.. إن النصر لقريب.. فاسعوا إليه يأتي إليكم..
تحتضنه الأرض وتلبسه بلباس الشهادة، وعينه تلمح وجوه من حوله، ما بين خائف ومفزوع، وآخر يتمسك بكلماته الأخيرة ليحظى بالأمل، فأُغْلِقَت عينا أحمد عن هذه الدنيا، لتُفْتَحَ أعيُنُ ابنه محمود شابا يافعا واقفاً أمام صورة والده العريضة في قلب بيت جدته.. ويقول:
- يراودني سؤال كلما نظرت إلى صور والدي المنتشرة في المنزل ..
قالت الجدة اسأل عن ما تشاء يا عزيزي .. فقال:
- جدتي .. ما سر هذا الفانوس الذي أراه بجوار صور والدي؟!.. ولماذا هو مشتعل دائما؟!
ارتسمت الابتسامة الدافئة على محيا الجدة، واحتضنت حفيدها قائلة:
- إنها الشعلة التي اتحدت لنتحرر من أغلال الطغاة .. شعلة النور التي طمست عثرات الظلام .. إنها شعلة النصر التي لن تنطفأ يا عزيزي ..
تأمل محمود في معنى كلام جدته كثيرا حتى قال:
- ولكنكِ نسيتِ شيئاً مهما يا جدتي .. شيئاً سيفرح والدي في جنته ..
بانت نظرات الاستغراب على وجه الجده، فراح محمود يبحث في أغراض والده القديمة، ويتمتم مع نفسه " أين رأيتها .. أين؟!.. هاهي وجدتها!" والجدة في الخارج تنتظر ماذا يفعل حفيدها، حتى عاد إليها وبيده لوحة مماثلة لحجم صورة والده.. وثبتها إلى جوار الصورة والفانوس وقال:
- الآن اكتملت الصورة ..
فأظهرت الجدة استغرابها من جديد، فوضع نظارتها عند عينيها وأدار وجهها ناحية اللوحة و أشار لها بأن اقرئي ما خُط عليها، فراحت تتهأجأ الحروف الكبيرة بصوت مسموع وقالت:
- إذا الشعب يوما أراد الحياة .... فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بــد لليــل أن ينجـــلي .... ولابد للـقـيـد أن ينـكسـر
هذه أول قصة لي في هذا المنتدى الذي أحب القراءة فيه كثيرا، يسعدني ويشرفني أن أسمع آرائكم
شعلة النور - قصة قصيرة
(من وحي ثورة تونس، مصر وما لحقهما من ثورات)
(من وحي ثورة تونس، مصر وما لحقهما من ثورات)
بقلم.. سكينه علوي
يُقلِّب أحمد قنوات التلفاز متملمِلاً من تشابه أيامه .. التي لم تعد تختلف عن بعضها منذ أن طُرد من وظيفته، يحتضن الوسادة المجاورة، ويرتمي فوق قسمات الأريكة، فيجد النعاس طريقًا سهلاً إلى عينيه، ما إن غير القناة حتى تزلزل جسده مما سمعت أذناه، فنفضت عيناه آثار النعاس و قفز من مكانه صارخاً بفرحةٍ عارمة:
- أمي .. تعالي يا أمي واسمعي .. فعلها .. فعلها الأحرار!
تأتي الأم مسرعة من المطبخ، يساعدها عكازها الخشبي الصغير، تضعه جانباً لتمسح يديها عن بقايا قطرات ماء الغسيل بفوطة نظيفة، وترفع نظارتها السميكة إلى حيث عينيها وتقول:
- من فعل ماذا يا ابني؟! هل عادت طليقتك.. هل أقنعوها بذلك؟! هل وجد لك جارنا وظيفة جديدة؟! هل قبل المؤجر تأخير المبلغ حتى يتوفر لدينا؟! هل.. هل أحضروا جثة والدك؟!
يهز ابنها رأسه نافياً اعتقادات أمه الكثيرة، يدير وجهها إلى التلفاز وينزع المنديل المربوط فوق رأسها لتُحسن السمع، ويقول:
- اسمعي .. اسمعي جيداً يا أمي ..
يأتي صوت المذيع بنبأ انتصار شعب تونس وهروب رئيسهم خارج البلاد، فيستبشر وجهها وتتجه خطاها السعيدة ناحية باب الشقة الصغيرة، فتجد جاراتها قد سبقوها بالتبريكات والأحضان لجارتهم التونسية، تعود إلى ابنها ضاحكة:
- كم هي طيبة هذه المرأة .. أتصدق أنها أخذت على عاتقها صنع العشاء الليلة لكل الجيران فرحا بهذا النبأ العظيم ..
تتوقف قليلا عن الكلام لتقول مرة أخرى:
- ما هذا الضيق المرتسم على وجهك يا ابني .. لا وقت لهذه التعابير الآن دعنا نفرح مع إخواننا ..
يرد عليها بعد أن ثارت ملامح وجهه:
- و نحن يا أمي متى نفرح لأنفسنا؟ متى نترك الحياة تحت أقدام الطغاة الذين ينهشون من لحومنا؟ متى نرى النور من فوق القمم وليس من أسفل الوديان؟!
ترد عليه أمه التي أخذ الزمن منها ما أخذ:
- اعذرني يا ابني ولكني لم أفهم كلامك! دعك من كلام المدارس وخاطبني بحديثٍ أفهمه.
اقترب من أمه وأخذ يشرح لها عن قوة شعبهم، و أن الظلام لا يدوم مادام لشعلة النور أحياء يمسكون بها، يتَّحِدون في كيفية إشعالها ويُحسِنون توجهيها..
رفضت الأم كلام ابنها وقالت:
- نحن لسنا مرآةً لتونس .. إلا السياسة يا ابني .. لا تقترب منها أبداً ولا تُدخِلنا في متاهاتها .. دعهم يصنعوا ما يشاؤون في البلد فنحن لسنا بقوتهم ..
قال بنبرة حادة:
- إنه الخوف يا أمي .. الخوف الذي برعوا في صنع غيمته! تلك الغيمة التي تظللكم منذ عقود .. فتُسقط أمطارها ظلماً وفساداً وفقراً عليكم .. وأنتم مقتنعون بأنها غيمة ستقيكم حر الشمس! فظلَّ الصمت رفيقكم خوفاً من ألسنة شمس قد تكون أرحم لكم من غيث النظام ..
أخذت الأم صورة زوجها .. ومسحت ما علق بها من ذرات غبار بسيطة وقالت بصوتٍ هادئ .. حزين:
- وما جنى والدك من الكلام يا ابني؟ غير أن السجون والمعتقلات فتحت أذرعها استقبالاً له! وتراقصت أسواط التعذيب فوق ظهره! وعميت عينه عن النور بعصابات سوداء لا تعرف الرحمة! أنسيت يا ابني؟! أنسيت التشريد والألم لصوتٍ طالبَ بأبسط حقوق العيش! أنسيت ..........
لم تكمل كلامها فقد التفت خيوط العبرة حول حروفها إلى أن خنقتها، فراحت الدموع تسبح في فضاء عينيها، اقترب منها ابنها و ركع أمامها، ممسكا بيدها يقبلها ويقول:
- من أجل والدي يا أمي لابد أن نُشعِل النور، من أجل طفلي الذي تركتني أمه وهو في أحشائها لتغادر البلاد طلباً لمعيشة أفضل، طفلي الذي لا يكاد أن يتعرف علي إلا بعد فحص دقيق لتقاسيم وجهي، طفلي محمود الذي لا أراه إلا من خلال شاشات الكمبيوتر ولا أملك المال أو حتى جزءاً منه لأسافر إليه ..
قام من مكانه ليكمل حديثه في بقعة أخرى، فتح الباب وقال متألماً:
- من أجلها لابد من أن نشعل النور ..
استغربت الأم وأخذت تبحث بين الجموع خارج الشقة وقالت:
- أتقصد جارتنا التونسية .. أم أحد مهنئيها ..
أخذ يمسح دمعة صغيرة علقت برموشه منذ سنين .. سنين بعدد عمر الطفلة التي يشير إليها بإصبعه ويقول:
- لا يا أمي انظري خلفهم .. انظري إلى فاطمة المستندة على الجدار .. هذه الطفلة التي كرهت الحياة وباتت أيامها تلفزيوناً قديماً لا يبث إلا أبرد لونين .. منذ أن اُختطفت والدتها .. لا لشيء غير أنها ناشطة تكلمت بالحق .. فأضيفت إلى قائمة مجهولي المصير!
أمسك بيد أمه واختلط بين الجموع ثم أشار إلى أحد جيرانهم قائلاً:
- انظري إلى حسان الذي هرم في خدمة هذه البلاد .. هاهو مقعد على كرسيه بقدم واحدة دون أية حقوق أو تعويضات .. تريْنَه مبتسماً سعيداً لجارتنا .. إلا أنه في داخله يتلوَّى ألماً بانتظار لحظة موازية لفرحة جارتنا يسترد فيها حقه الشرعي في الحياة ومكافأة على جهوده التي استمتع من فوقَهُ بحصادها!
يتنقلون بين الجيران الذين ملؤوا ممرات العمارة احتفالاً بانتصار إخوانهم، حتى وصلوا إلى جارهم مصطفى، ألقوا عليه التحية، فردها عليهم متثاقلا، فقالت أم أحمد لابنها هامسة:
- هذا الولد لا يعجبني .. دائما ما أراه منغلقاً على نفسه .. لا يتحدث مع أحد .. ولا يشارك الناس أخبارهم .. حتى الابتسامة لا نكاد نراها على وجهه.. صَدَقَ من أسماهُ "أبو تكشيرة"!
جذب يد أمه وابتعدا عن مكانهما قليلا وقال:
- في رأيك يا أمي لماذا اختفت بسمة مصطفى عن وجهه .. وظل لقب مصطفى أبو تكشيرة يلاحقه منذ أكثر من ثلاث سنوات؟!
رفعت الأم اكتفاها إشارة لجهلها عن السبب فأجاب قائلا:
- فعلا من يرى مصيبة غيره ينسى مصيبته .. إذا كنتُ أنا عملت لعدة سنوات و فُصلت من وظيفتي دون سابق إنذار .. لتسُتبدل كفاءاتي بكفاءة المصاهرة مابين المدير وصهره عديم المنفعة الذي لم يجد له مكاناً شاغراً في الشركة .. فكانت رؤيته الحكيمة بأن يفصلني ويضعه مكاني! .. فمصطفى الذي أفنى خمسَ سنين من عمره في دراسة الكيمياء الحيوية.. لم تؤهله شهادته إلا لبيع المأكولات المنزلية في كشكٍ صغير عند آخر الشارع!.. وحقيقةً يا أمي يحق له أن تسوَدَّ الدنيا في عينيه .. وإن لم يتغير حالي فسينتهي بيَ المطاف مثلهُ أو أعظمَ منه!
واصل أحمد وأمه تنقلاتهما بين الجموع المهنئة وهو لا يزال يَذكُرلها قصة ماجدة وسعاد، وقصة رأفت و مازن، ثم يتوقف قليلاً في لحظةِ حداد عندما تذكَّر أحد الشباب يوم أن أخذتْهُ الشرطة وعذبته ضرباً لأنه رفض تفتيشهم الغير لائق حتى وافته المنية، ويمتعض وجهه أكثر عندما تذكر كيف أنهم زَيَّفوا الطريقةَ التي مات بها حمايةً لأنفسهم، ثم أمسك بكتف أمه وقال بحماس مفرط:
- من أجل هؤلاء يا أمي .. من أجلي .. ومن أجل مصر .. لابد أن نُشْعِلَ النُّور
أخذت الأم ابنها وعادت إلى داخل الشقة، أقفلت الباب، وقالت:
- لن يفيدك إلا النوم ..
أمسك بجهاز الكمبيوتر وارتفع صوته قائلا:
- نومٌ نومٌ نوم .. ألم تكفنا سنوات النَّومِ يا أمي؟!
أخذ يتصفح مواقع الإنترنت، حتى تهلَّلَ وجهُهُ بابتسامةٍ قلبت موازيين العقل لما قرأتهُ عيناه فقال لأمه:
- البشرى .. البشرى يا أمي ..
تعابير وجهها كانت كافية لتعلن الاستعجاب من كلامه، ما إن فتح فاه للحديث، حتى جاءت أصوات الهتافات من الخارج وتعالت الأصوات الرافضة لحكم النظام الفاسد، فقال مستبشرًا:
- إنها الثورة يا أمي .. إنها الثورة ..
قبَّل رأسها استعدادا للرحيل، فقالت في محاولةِ منعٍ غير مباشرة:
- الجيران مجتمعون في الخارج لن تستطيع المرور بينهم ونحن في الدور الرابع، لن تستطيع اللحاق بالمسيرة في الخارج، الحق بهم في المرة القادمة ..
تمتم مع نفسه وهو يدور بغير هدى حول الطاولة المنتصبة في وسط الصالة:
- معك حق يا أمي .. معك حق .. ستفوتني الثورة إن حاولت نزول السلالم .. لابد أن ألحق بالصفوف الأولى .. النافذة! النافذة أفضل طريق ..
صرخت الأم معبرة عن مشاق المشاركة مع المتظاهرين، وأنها قد لا تأتي بنتيجة، و ترجوه بحبه لوالده ألا ييتمها مرة أخرى بعد فقدها لزوجها في شِباك الحكومة، إلاَّ أنَّ تراكُمات السنين المُضنِية بدأت بالانفجار، فلم يعد للصبر مجال، حتى ثار الدم في جسده، و أسرع في التقاط علم بلاده المرتكز في إحدى الزوايا، وحمل أحَدَ الفوانيس القديمة، وقال لأمه:
- حان للظلام أن ينجلي يا أمي .. أعدك بالنصر تكريماً لوالدي .. وأعدك بالحرية لمستقبل أفضل لطفلي ..
خرج من نافذة الشقة يتسلق أحد الأنابيب الممتدة مسرعاً نحو الأرض، يرتعش جسده مع ملامسة الهواء البارد لجلد، يتجاهل الموضوع فما خرج له أكبر من يتأثَّر بلسعاتِ البرد القارص، ما إن وطأت أقدامُه الأرض حتى استنشق عبيرَ الحرِّية، وسمع نداءات أمه من الأعلى، تُلقي عليه ملابسَ دافئة وتدعو الله أن ينصرهم، ما إن ارتدى ملابسه حتى ثار راكضا مع الثوار، يهتف معهم ويردد بشعارات قصيرة متنوعة، تعبر عن سنوات الحرمان والظلم التي عاشوها، وعن مطالبهم السلمية في تحقيق حقوقهم المعيشية ..
يلحق بالصفوف الأولى، وتزداد الصفوف من خلفه تدريجيَّا، حتى امتلأت الشوارع والميادين بنداءات الحق، وبأصوات متحدة ترتعش منها الأبدان، وتذعن لها الآذان، وتخشع القلوب من هيبتها، إلا قلبًا واحداً احتمى خلف حجارة القصور، قلباً تحجَّر من عصر الناس واستهلاك طاقاتهم إرضاءً لرغَبَاته غير المنتهية على حساب الشعب، وكأنهم خُلقوا ليكونوا خدماً له حول مائدة ضيافته لأعداء البشرية، ضيوفَه وأحباءه الذين انعكست صورتهم فيه، فبات عميلاً لهم، واحد منهم، منعدم الضمير، لا يعرف للعروبة أو للإنسانية طريق..
حل الليل على الميادين، وأظلمت الدنيا إلا من فوانيس الثائرين .. حيث صرخ أحمد بأعلى صوته، فليرفع كل منكم فانوسه، وليشعل نور الحق الذي سيقمع الظالمين من جذورهم، فجاء صوت أحدهم:
- لكن أعمدة الإضاءة منيرة للميدان!..
فأجابه أحمد:
- هذه الأعمدة لا تنير.. فلنجمع فوانيسنا ولنشعلها بضياء قلوبنا و صفاء أرواحنا وسلمية مطالبنا .. فلنشعل نور الحق يا إخوان ..
وأشعلوا نورهم جماعة واحدة، وصوتًا واحداً وبكلمةٍ واحدةٍ وقفوا جسداً ملتحماً أمام حشود الشرطة التي تلقت أوامرها المُخزِية بأن أطْلِقُوا العنان لأسلحتكم، حتى برز أحمد من الميدان وقال مخاطباً بني بلده، الواقفين أمامه بلباس يُفتَرض به إعلان الأمن والأمان، وحماية الأُمَّة والممتلكات:
- لا تكونوا كالدُّمى المتحرِّكة .. يتحكَّمون في حركاتكم وإرادتكم كيفما شاؤوا..
ومد يده بأن انضموا إلينا، إلا أن أحدهم ضحك بسخرية قائلا:
- كل شيء بثمنه أيها الجاهل!
ورفع سلاحه إلى مستوى عينيه، أغلق إحداهما ليركز بالأخرى، حرك إصبعه قليلا لتنطلق رصاصة دامية اخترقت جسد أحمد في محاولة لإخراس أنفاسه، ولو علمت الرصاصة سبب إطلاقها لما خرجت لأجله، وتناثرت دماء أحمد على من حوله، حتى وقع على الأرض ينطق بالشهادتين ويربت بصعوبة على أكتاف من قدموا لإسعافه.. و يبشرهم بكلماته التي لم يقوى على إخراجها:
- النصر.. إن النصر لقريب.. فاسعوا إليه يأتي إليكم..
تحتضنه الأرض وتلبسه بلباس الشهادة، وعينه تلمح وجوه من حوله، ما بين خائف ومفزوع، وآخر يتمسك بكلماته الأخيرة ليحظى بالأمل، فأُغْلِقَت عينا أحمد عن هذه الدنيا، لتُفْتَحَ أعيُنُ ابنه محمود شابا يافعا واقفاً أمام صورة والده العريضة في قلب بيت جدته.. ويقول:
- يراودني سؤال كلما نظرت إلى صور والدي المنتشرة في المنزل ..
قالت الجدة اسأل عن ما تشاء يا عزيزي .. فقال:
- جدتي .. ما سر هذا الفانوس الذي أراه بجوار صور والدي؟!.. ولماذا هو مشتعل دائما؟!
ارتسمت الابتسامة الدافئة على محيا الجدة، واحتضنت حفيدها قائلة:
- إنها الشعلة التي اتحدت لنتحرر من أغلال الطغاة .. شعلة النور التي طمست عثرات الظلام .. إنها شعلة النصر التي لن تنطفأ يا عزيزي ..
تأمل محمود في معنى كلام جدته كثيرا حتى قال:
- ولكنكِ نسيتِ شيئاً مهما يا جدتي .. شيئاً سيفرح والدي في جنته ..
بانت نظرات الاستغراب على وجه الجده، فراح محمود يبحث في أغراض والده القديمة، ويتمتم مع نفسه " أين رأيتها .. أين؟!.. هاهي وجدتها!" والجدة في الخارج تنتظر ماذا يفعل حفيدها، حتى عاد إليها وبيده لوحة مماثلة لحجم صورة والده.. وثبتها إلى جوار الصورة والفانوس وقال:
- الآن اكتملت الصورة ..
فأظهرت الجدة استغرابها من جديد، فوضع نظارتها عند عينيها وأدار وجهها ناحية اللوحة و أشار لها بأن اقرئي ما خُط عليها، فراحت تتهأجأ الحروف الكبيرة بصوت مسموع وقالت:
- إذا الشعب يوما أراد الحياة .... فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بــد لليــل أن ينجـــلي .... ولابد للـقـيـد أن ينـكسـر
النهاية
تعليق