...و إمّا فلا...!! / آسيا رحاحليه /

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • آسيا رحاحليه
    أديب وكاتب
    • 08-09-2009
    • 7182

    ...و إمّا فلا...!! / آسيا رحاحليه /




    " إلى روح محمد البوعزيزي ..طائر الفينيق الذي غرّد لآخر مرّة ثم احترق.. ليوقظ رماده أهل الكهف . "




    لا عزاءَ لك اليوم يا منوبية*...لا عزاءَ سوى البكاء .
    كأنّما دموع الثكالى و الحزانى و البؤساء المضطهدين فوق سطح الأرض قد تجمّعت كلها في مآقيك . كأنّما في ذلك اليوم المفجع قد وقّعت عهدا مع بكاءٍ أبديّ و حزنٍ أبديّ .
    موته فطر قلبك يا منوبية , حطّم أضلاعك و قسم ظهرك . جرحك تليدٌ غائرٌ يا امرأة , مرسومٌ في تقاطيع وجهك المتغضّن الذي حفرت فيه السنون ألف أخدود , و وشمته الليالي بلون الفاقة و العوز.
    حسيرة القلب , شاردة الروح , دامعة العين , تدخلين غرفته الآن فيستقبلك الصمت والفراغ .. تشمّين ريحه . تتحسّسين مواضع الحياة التي كانت هنا ... خزانته . صوره . أشياءه . فراشه . هنا كان يستلقي حين يعود مساءً منهكا من الجري وراء لقمة العيش , ينشد الراحة في دفء نظرتك و شغب إخوته .
    تفيض عيناك حين تمطرك خيالات الماضي ..تتذكرين يوم ولادته ذات ميلاد الربيع ..يومها رأيتِ في قدومه بشائر الفرح و حلمتِ له بمواسم وردية آتية.. نجاح في الدراسة ... وظيفة محترمة ... زوجة شابة جميلة تزفّينها له في موكب عرس يظل حديث الجيران , أحفادٌ يملأون عليك البيت و يمحون بمرحهم و ضجيجهم سطور عذابك الذي ابتدأ حين رحل زوجك إلى عالم أنقى تاركا لك عبء البيت و الأولاد .
    كان محمد في الثالثة من عمره . حوّطه اليتم منذ الصغر و أحاطتك المتاعب و الهموم و شظف العيش من كل جانب .
    و يكبر محمد و يضطر للتخلي عن الدراسة و العمل من أجلك و من أجل إخوته..كم تمنيتِ لو أنه أتمّ دراسته بالجامعة و نال الشهادة , و لكن ما العمل ؟ الحياة يجب أن تستمر و على هذه الأسرة أن تعيش .
    سبع سنوات و محمد بائع جوال يسترزق من عربة خضار قديمة متهرئة بالكاد تقف على عجلاتها الثلاث , يدفعها من شارع لشارع و زقاق لزقاق في مدينته البائسة المهمّشة .. و مع ذلك كان راضيا , قانعا , يجتهد لكي يغطي مصاريف البيت و تعليم إخوته ..و كان أقصى حلمه تجميع مبلغ ليشتري شاحنة صغيرة تريحه من جرّ العربة المتهالكة , لكن لا مكان للأحلام في وطنك يا منوبية .
    تصيّده البوليس كما في كل مرّة و حاصر حلمه ....
    - سنصادر العربة . أنت لا تملك رخصة للبيع هنا .. .
    رخصة ؟ الأمر مدعاة للضحك فعلا..‼ ترى من أين حصل أباطرة الشر و سُرّاق الأحلام على الرخص يا منوبية حين استنزفوا وطنك الحبيب وباعوا للشعب الوهم و السّراب معبّئين في قوارير ؟
    تتعنّت الشرطية و تصادر البضاعة . و تبدأ المعاناة . كل الأساليب تفشل . لم تُجْد توسّلات محمد و لا تدخّلات أهله . .يلجأ إلى المحافظ فيرفض استقباله . و تنهال عليه الإهانات ..تصفعه الشرطية و يَطال السباب حتى عظام والده في القبر . هنا يفيض الكأس .. فيخرج ابنك إلى الشارع راكضا يصرخ من الغيظ , دمه يغلي , شرايينه تتمزّق ..العالم أمامه لا شيء..لا شيء ... مجرّد فراغٍ أسود .
    فقط قارورة بنزين و عود ثقاب و ما هي إلا ومضة واحدة و إذ النار تأكل جسده .
    النار .. تحسّينها في كبدك يا منوبية كلما توقّف تفكيرك عند تلك الصورة..تخفين وجهك بكفيك و تجهشين بصوت متقطّع .. " الله يرحمك و ينعّمك يا وليدي " ..
    قضي الأمر .. انتهى محمد .. أكلت النار وليدك الذي كلما أغمضتِ عينيك رأيته طفلا .. " بسبوس " الأسمر الوسيم .. ضحكاته , شيطنته المحبوبة , حنانه المفرط و تعلقه الشديد بك و بإخوته .
    يسرح خيالك في تلك الصباحات البعيدة.. تعدّينه للمدرسة ..تلاحظين سرواله المرقّع و حذاءه العتيق , تنحنين على خده بقبلة ثم يخرج... يركض إلى المدرسة يتدفق حياة و طفولة.
    و في الساحة قبل بدء الدرس , كان يصطف مع باقي أترابه..أفراخ سُمان يشبهونه في الشكل و في الحلم . يقفون منتصبين , تغشى البراءة وجوههم الغضة , و من حناجرهم ينطلق النشيد الوطني :
    حماة الحمى يا حماة الحمى
    هلمّوا هلمّوا لمجد الزمن
    لقد صرخت في عروقنا الدماء
    نموت .. نموت و يحيا الوطن .
    نعم...الوطن يا منوبية .. لا أدري إذا تساءلتِ يوما عن معنى الوطن .. لا أعتقد أنّ له في رأسك تعريف واضح . .ما كانت تعنيك التعريفات و لا المعاني على أيّة حال .. حملتِ الوطن دائما في صدرك و وأرضعته لأبنائك , أحببتِه منذ الأزل حبا فطريا مقدسا و آمنت به إيمانا فطريا مقدسا مثل إيمانك بالله و بالخير .
    كان الوطن بالنسبة لك مرادفا للشمس و القمر , للجبل و البحر , للماء والهواء و كنتِ ترين ملامحه المشرقة في تربة الأرض السخية و شجيرات الزيتون الصامدة الدائمة الاخضرار , في أكفّ النساء و الرجال حين يعودون مساءً من الحقول البعيدة منهوكي القوى , تتفصّد جباههم عرقا لكن مبتسمين فرحين , في ثيابهم المعفّرة بالتراب , في لمّة العائلة , و في كسرة خبز ساخنة تقسمينها بالتساوي بين عصافيرك الصغار قبل أن يطيروا إلى المدرسة .
    ذلك كان بالأمس ..
    اليوم أنت تعرفين معنى الإحساس بالغربة في حضن الوطن و الضياع فوق تراب الوطن . اليوم تدركين أن الوطن هو بقعة من الأرض تُداس فيها الكرامة مثل حشرة بغيضة قذرة , بقعة تُجهض فيها الأمنيات و تُغتال الحريات , و تُقتلع الفرحة البريئة من بين الضلوع . بقعة رغم وُسعها ضنّت على ابنك بشبرٍ واحدٍ يقف عليه ليحارب الجوع .
    غريبة ‼.. لطالما اعتقدتِ أن الجوع هو غريمك الأول و عدوّك الوحيد , لكنه على مدى سنواتٍ لم ينل منك و لم يطعنك في الظهر كما فعل الظلم .
    الفقر لا يقتل يا منوبية لكن الظلم يفعل .
    مرت أسابيع و لا تزالين مصدومة .. لا تصدّيقين . تتساءلين أي ذنب اقترفه ابنك الحبيب ليستحق تلك النهاية القاسية.. تتمنّين لو أنه كتم الغيظ و ابتلع الإهانة و تصرّف كيفما كان .. كأن يدسّ مثلا في جيب الشرطية ورقةً بمائة أو مائتي دينار . و لكنك تعرفين ' وليدك ' حق المعرفة . أنت قلتها بأمّ لسانك " وليدي ما يحبّش القهر, ما يحبّش الظلم " . لذلك لم يتحمّل , و لأنه لم يستطع أن يدير للصفعة خده الأيمن و لا أن يرد الصاع صاعين فقد آثر أن يدير ظهره للحياة ويمضي إلى غير رجعة , متلفعا باللّهب .
    مسكين محمد يا منوبية..ما أقسى قدره ‼. قدرٌ من بطولة امرأتين ..أنتِ حملتِه وهناً و وضعتِه وهناً..غذيته من دمك و روحك و سدَدت عنه بصدرك سهام الجوع والبرد و المرض و لكن أخرى , بصفعة قاضية , قذفت به في بحر الغياب .
    ليته صبر كما اعتاد أن يصبر – تحدثين نفسك – ليته طأطأ و واصل المشوار متشبّثا بهوامش الحياة .
    لكن وليدك قال لا..
    قالها بصوت مَهول شقّ أسماع الكون , نَسَفَ أسوار الخوف و أيقظ النفوس المخدّرة.. صوتٌ أرعدَ فرائص الطغاة الظالمين و زلزل الكراسي من تحت أجسادهم .
    و في اللحظة التي كانت فيها ألسنة النار تلتهمُ بنهمٍ عجيب عوده النحيل ,كان الصوت يدوّي : " فإما حياة و إما فلا ‼ " *.
    ...و إما فلا..‼



    هامش :
    منوبية : والدة محمد البوعزيزي غفر الله له .
    فإما حياة و إما فلا : من قصيد " بني وطني " للشاعر التونسي عبد المجيد بن جدو .
    التعديل الأخير تم بواسطة آسيا رحاحليه; الساعة 01-03-2011, 20:42.
    يظن الناس بي خيرا و إنّي
    لشرّ الناس إن لم تعف عنّي
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    أعجبني كثيرا أسلوبك فى تلك القصة
    و تلك الحالة التى أعدها تأريخا لحياة
    أو لموقف النهاية فى حياة بوعزيزى
    و البداية لثورات قد لا تنتهى حتى يحلق رماد بو عزيزى
    فوق ربوع العالم ، ليشهد العالم أجمع على مدى ما تتمتع به
    بلداننا من قهر و تسلط و إفقار و تدمير الإنسان !!

    منوبية أيتها الجليلة .. أنجبت روحا ليس كأى روح
    أنجبت محمدا يا امرأة متفردة بين نساء العالم
    متفردة فى فقرك و طيبتك و اسمك .. و وليدك

    سطر النهاية كان بمثابة تمرد على أسلوبك القصصي
    فهو التفاف صوب حدث تم ذكره و تذكيته هنا فى العمل
    وهو مايعرف بتحطيم الزمن ، و استجلاء تلك الدهشة
    مع كلمة النهاية !


    سرني ما كتبت عن البو عزيزى روح الثورة الكامنة فى صدور العرب
    من محيطها لخليجها .. ثورة ليس على الفقر فقط ، و لكن على أوضاع
    انحطاط و تدهور فى اللحمة و النسيج العربي .. ربما كانت فى أوج
    رقيها ثورة ثقافية تبعث الروح فى ثقافات امتدت لآلاف السنين ، وأعطت نفسها
    للغرب فحضرته ، و عظمت من شأنه ، لكنها مرت بنا خجلى من ركودنا
    و جبننا و عمانا الذى بنى على اتكالية الخلق و الخالق !!

    شكرا لك أستاذة

    تحيتي و تقديري
    sigpic

    تعليق

    • إيمان الدرع
      نائب ملتقى القصة
      • 09-02-2010
      • 3576

      #3
      قالها بصوت مَهول شقّ أسماع الكون , نَسَفَ أسوار الخوف و أيقظ النفوس المخدّرة.. صوتٌ أرعدَ فرائص الطغاة الظالمين و زلزل الكراسي من تحت أجسادهم .



      و في اللحظة التي كانت فيها ألسنة النار تلتهمُ بنهمٍ عجيب عوده النحيل ,كان الصوت يدوّي : " فإما حياة و إما فلا ‼ " *.



      ...و إما فلا..‼





      آسية الحبيبة ..
      توقّفت عند كلّ سطرٍ ، بل كلّ كلمة ...
      جسّدتِ ببراعةٍ كعادتك ..صراخ الألم في الرّوح المقهورة...
      ولغتك كانتْ فائقة التّعبير ، والإحاطة ...
      رنّة حزنٍ لا تخفى خالطتْ مداد قلمك ..لفرط تأثّرك الوجدانيّ بهذه الحادثة ..
      وقدّر لهذا المتعب أن يدخل تاريخ الثورات ...ويكون جسده المتفحّم قرباناً للخلاص والحريّة ...
      شكراً لقلمك الشجيّ ، الوطنيّ ، المخلص ..مثلك الذي يكتب وإمّا فلا ....
      ومع أطيب أمنياتي ...تحيّاتي آسية الغالية


      تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

      تعليق

      • محمد فطومي
        رئيس ملتقى فرعي
        • 05-06-2010
        • 2433

        #4
        لمّا أضرم البوعزيزي النّار في نفسه،احترقت المراحل.احترقت قرون من الحفر البطيء بملعقة القهوة في جسد جلاميد الصوّان العربيّة،و ها هي روحه التي أبت إلاّ أن ترفع معها كلّ القراصنة تحلّق فوق الكوكب حرّة دون جواز سفر أو سماحا بالعبور.
        رحم الله البوعزيزي و شهداء الثّورات العربيّة الذين انتصروا له و لحلم الكرامة و لأوطانهم المنهوبة..رحل و رحلوا لكنّهم خلّفوا قصّة عجيبة .و هل أعجب من شابّ أقنع جيله بصنع المستحيل دون أن ينبس بحرف أو يكتب حرفا؟

        استمتعت بالقراءة لك أختي الوفيّة آسيا.
        دمت بخير.
        مدوّنة

        فلكُ القصّة القصيرة

        تعليق

        • سامي العسلي
          عضو الملتقى
          • 20-02-2011
          • 206

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة آسيا رحاحليه مشاهدة المشاركة







          " إلى روح محمد البوعزيزي ..طائر الفينيق الذي غرّد لآخر مرّة ثم احترق.. ليوقظ رماده أهل الكهف . "








          مسكين محمد يا منوبية..ما أقسى قدره ‼. قدرٌ من بطولة امرأتين ..أنتِ حملتِه وهناً و وضعتِه وهناً..غذيته من دمك و روحك و سدَدت عنه بصدرك سهام الجوع والبرد و المرض و لكن أخرى , بصفعة قاضية , قذفت به في بحر الغياب .

          ليته صبر كما اعتاد أن يصبر – تحدثين نفسك – ليته طأطأ و واصل المشوار متشبّثا بهوامش الحياة .



          لكن وليدك قال لا..




          قال لا وأيقظهم من سباتهم !

          غفر الله له وأسكنه فسيح جنانه .

          حبكة متينة وسردٌ سلس وقفلة حِرفية أوصلت الرسالة وأكثر .

          شكراً لك .
          [SIZE=6][COLOR=red]ردّدوا على سمعه (( اسم مستعار )) ثلاث مرّات فأصابته نوبة هيستيريّة أفقدته صوابه .[/COLOR][/SIZE]
          [SIZE=6][COLOR=#ff0000][/COLOR][/SIZE]
          [SIZE=6][COLOR=blue] [COLOR=darkgreen]حرائر سوريا[/COLOR][/COLOR][/SIZE]
          [URL]http://www.youtube.com/watch?v=KQxG3mNjX-A[/URL]

          تعليق

          • آسيا رحاحليه
            أديب وكاتب
            • 08-09-2009
            • 7182

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
            أعجبني كثيرا أسلوبك فى تلك القصة
            و تلك الحالة التى أعدها تأريخا لحياة
            أو لموقف النهاية فى حياة بوعزيزى
            و البداية لثورات قد لا تنتهى حتى يحلق رماد بو عزيزى
            فوق ربوع العالم ، ليشهد العالم أجمع على مدى ما تتمتع به
            بلداننا من قهر و تسلط و إفقار و تدمير الإنسان !!

            منوبية أيتها الجليلة .. أنجبت روحا ليس كأى روح
            أنجبت محمدا يا امرأة متفردة بين نساء العالم
            متفردة فى فقرك و طيبتك و اسمك .. و وليدك

            سطر النهاية كان بمثابة تمرد على أسلوبك القصصي
            فهو التفاف صوب حدث تم ذكره و تذكيته هنا فى العمل
            وهو مايعرف بتحطيم الزمن ، و استجلاء تلك الدهشة
            مع كلمة النهاية !


            سرني ما كتبت عن البو عزيزى روح الثورة الكامنة فى صدور العرب
            من محيطها لخليجها .. ثورة ليس على الفقر فقط ، و لكن على أوضاع
            انحطاط و تدهور فى اللحمة و النسيج العربي .. ربما كانت فى أوج
            رقيها ثورة ثقافية تبعث الروح فى ثقافات امتدت لآلاف السنين ، وأعطت نفسها
            للغرب فحضرته ، و عظمت من شأنه ، لكنها مرت بنا خجلى من ركودنا
            و جبننا و عمانا الذى بنى على اتكالية الخلق و الخالق !!

            شكرا لك أستاذة

            تحيتي و تقديري
            سعيدة أن الأسلوب أعجبك أستاذ ربيع..
            أنا ركّزت عليه حتى لا أقع في التقريرية
            و حتى أمزج بين الفن و التأريخ بطريقة قصصية فنية أتمنى أنني وُفّقت فيها .
            الشكر كله لك..و مازلت أتعلّم منك .
            تقديري و امتناني.
            يظن الناس بي خيرا و إنّي
            لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

            تعليق

            • آسيا رحاحليه
              أديب وكاتب
              • 08-09-2009
              • 7182

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة إيمان الدرع مشاهدة المشاركة
              قالها بصوت مَهول شقّ أسماع الكون , نَسَفَ أسوار الخوف و أيقظ النفوس المخدّرة.. صوتٌ أرعدَ فرائص الطغاة الظالمين و زلزل الكراسي من تحت أجسادهم .



              و في اللحظة التي كانت فيها ألسنة النار تلتهمُ بنهمٍ عجيب عوده النحيل ,كان الصوت يدوّي : " فإما حياة و إما فلا ‼ " *.



              ...و إما فلا..‼





              آسية الحبيبة ..
              توقّفت عند كلّ سطرٍ ، بل كلّ كلمة ...
              جسّدتِ ببراعةٍ كعادتك ..صراخ الألم في الرّوح المقهورة...
              ولغتك كانتْ فائقة التّعبير ، والإحاطة ...
              رنّة حزنٍ لا تخفى خالطتْ مداد قلمك ..لفرط تأثّرك الوجدانيّ بهذه الحادثة ..
              وقدّر لهذا المتعب أن يدخل تاريخ الثورات ...ويكون جسده المتفحّم قرباناً للخلاص والحريّة ...
              شكراً لقلمك الشجيّ ، الوطنيّ ، المخلص ..مثلك الذي يكتب وإمّا فلا ....
              ومع أطيب أمنياتي ...تحيّاتي آسية الغالية

              العزيزة الغالية ..أختي إيمان..
              أصدقك القول , كلما رأيت صورة الشاب على النت و النار ملتهبة في جسدة شعرت برعدة في مفاصلي و تساءلت إذا كنت أنا انتابني هذا الشعور الرهيب فكيف هي والدته ؟
              لذلك كان التأثر واضحا هنا..
              شكرا لك إيمان .
              محبّتي.
              يظن الناس بي خيرا و إنّي
              لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

              تعليق

              • آسيا رحاحليه
                أديب وكاتب
                • 08-09-2009
                • 7182

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
                لمّا أضرم البوعزيزي النّار في نفسه،احترقت المراحل.احترقت قرون من الحفر البطيء بملعقة القهوة في جسد جلاميد الصوّان العربيّة،و ها هي روحه التي أبت إلاّ أن ترفع معها كلّ القراصنة تحلّق فوق الكوكب حرّة دون جواز سفر أو سماحا بالعبور.
                رحم الله البوعزيزي و شهداء الثّورات العربيّة الذين انتصروا له و لحلم الكرامة و لأوطانهم المنهوبة..رحل و رحلوا لكنّهم خلّفوا قصّة عجيبة .و هل أعجب من شابّ أقنع جيله بصنع المستحيل دون أن ينبس بحرف أو يكتب حرفا؟

                استمتعت بالقراءة لك أختي الوفيّة آسيا.
                دمت بخير.
                نعم أخي محمد فطومي..
                ما حصل من ثورة و انتفاضات هو عجيب فعلا..
                و دماء الذين قتلوا هي ضريبة كان لزاما دفعها .
                ليرحمهم الله .
                شكرا لك من القلب .
                تحيتي و احترامي.
                يظن الناس بي خيرا و إنّي
                لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                تعليق

                • آسيا رحاحليه
                  أديب وكاتب
                  • 08-09-2009
                  • 7182

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة سامي العسلي مشاهدة المشاركة
                  قال لا وأيقظهم من سباتهم !

                  غفر الله له وأسكنه فسيح جنانه .

                  حبكة متينة وسردٌ سلس وقفلة حِرفية أوصلت الرسالة وأكثر .

                  شكراً لك .[/right]
                  [/right]
                  أنا التي أشكرك أخي سامي..
                  تشرّفت بمرورك .
                  تحيتي و احترامي.
                  يظن الناس بي خيرا و إنّي
                  لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                  تعليق

                  • حسن الحسين
                    عضو الملتقى
                    • 20-10-2010
                    • 299

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة آسيا رحاحليه مشاهدة المشاركة







                    " إلى روح محمد البوعزيزي ..طائر الفينيق الذي غرّد لآخر مرّة ثم احترق.. ليوقظ رماده أهل الكهف . "







                    لا عزاءَ لك اليوم يا منوبية*...لا عزاءَ سوى البكاء .



                    كأنّما دموع الثكالى و الحزانى و البؤساء المضطهدين فوق سطح الأرض قد تجمّعت كلها في مآقيك . كأنّما في ذلك اليوم المفجع قد وقّعت عهدا مع بكاءٍ أبديّ و حزنٍ أبديّ .



                    موته فطر قلبك يا منوبية , حطّم أضلاعك و قسم ظهرك . جرحك تليدٌ غائرٌ يا امرأة , مرسومٌ في تقاطيع وجهك المتغضّن الذي حفرت فيه السنون ألف أخدود , و وشمته الليالي بلون الفاقة و العوز.



                    حسيرة القلب , شاردة الروح , دامعة العين , تدخلين غرفته الآن فيستقبلك الصمت والفراغ .. تشمّين ريحه . تتحسّسين مواضع الحياة التي كانت هنا ... خزانته . صوره . أشياءه . فراشه . هنا كان يستلقي حين يعود مساءً منهكا من الجري وراء لقمة العيش , ينشد الراحة في دفء نظرتك و شغب إخوته .



                    تفيض عيناك حين تمطرك خيالات الماضي ..تتذكرين يوم ولادته ذات ميلاد الربيع ..يومها رأيتِ في قدومه بشائر الفرح و حلمتِ له بمواسم وردية آتية.. نجاح في الدراسة ... وظيفة محترمة ... زوجة شابة جميلة تزفّينها له في موكب عرس يظل حديث الجيران , أحفادٌ يملأون عليك البيت و يمحون بمرحهم و ضجيجهم سطور عذابك الذي ابتدأ حين رحل زوجك إلى عالم أنقى تاركا لك عبء البيت و الأولاد .

                    كان محمد في الثالثة من عمره . حوّطه اليتم منذ الصغر و أحاطتك المتاعب و الهموم و شظف العيش من كل جانب .



                    و يكبر محمد و يضطر للتخلي عن الدراسة و العمل من أجلك و من أجل إخوته..كم تمنيتِ لو أنه أتمّ دراسته بالجامعة و نال الشهادة , و لكن ما العمل ؟ الحياة يجب أن تستمر و على هذه الأسرة أن تعيش .



                    سبع سنوات و محمد بائع جوال يسترزق من عربة خضار قديمة متهرئة بالكاد تقف على عجلاتها الثلاث , يدفعها من شارع لشارع و زقاق لزقاق في مدينته البائسة المهمّشة .. و مع ذلك كان راضيا , قانعا , يجتهد لكي يغطي مصاريف البيت و تعليم إخوته ..و كان أقصى حلمه تجميع مبلغ ليشتري شاحنة صغيرة تريحه من جرّ العربة المتهالكة , لكن لا مكان للأحلام في وطنك يا منوبية .



                    تصيّده البوليس كما في كل مرّة و حاصر حلمه ....



                    - سنصادر العربة . أنت لا تملك رخصة للبيع هنا .. .



                    رخصة ؟ الأمر مدعاة للضحك فعلا..‼ ترى من أين حصل أباطرة الشر و سُرّاق الأحلام على الرخص يا منوبية حين استنزفوا وطنك الحبيب وباعوا للشعب الوهم و السّراب معبّئين في قوارير ؟



                    تتعنّت الشرطية و تصادر البضاعة . و تبدأ المعاناة . كل الأساليب تفشل . لم تُجْد توسّلات محمد و لا تدخّلات أهله . .يلجأ إلى المحافظ فيرفض استقباله . و تنهال عليه الإهانات ..تصفعه الشرطية و يَطال السباب حتى عظام والده في القبر . هنا يفيض الكأس .. فيخرج ابنك إلى الشارع راكضا يصرخ من الغيظ , دمه يغلي , شرايينه تتمزّق ..العالم أمامه لا شيء..لا شيء ... مجرّد فراغٍ أسود .



                    فقط قارورة بنزين و عود ثقاب و ما هي إلا ومضة واحدة و إذ النار تأكل جسده .



                    النار .. تحسّينها في كبدك يا منوبية كلما توقّف تفكيرك عند تلك الصورة..تخفين وجهك بكفيك و تجهشين بصوت متقطّع .. " الله يرحمك و ينعّمك يا وليدي " ..



                    قضي الأمر .. انتهى محمد .. أكلت النار وليدك الذي كلما أغمضتِ عينيك رأيته طفلا .. " بسبوس " الأسمر الوسيم .. ضحكاته , شيطنته المحبوبة , حنانه المفرط و تعلقه الشديد بك و بإخوته .



                    يسرح خيالك في تلك الصباحات البعيدة.. تعدّينه للمدرسة ..تلاحظين سرواله المرقّع و حذاءه العتيق , تنحنين على خده بقبلة ثم يخرج... يركض إلى المدرسة يتدفق حياة و طفولة.



                    و في الساحة قبل بدء الدرس , كان يصطف مع باقي أترابه..أفراخ سُمان يشبهونه في الشكل و في الحلم . يقفون منتصبين , تغشى البراءة وجوههم الغضة , و من حناجرهم ينطلق النشيد الوطني :



                    حماة الحمى يا حماة الحمى



                    هلمّوا هلمّوا لمجد الزمن



                    لقد صرخت في عروقنا الدماء



                    نموت .. نموت و يحيا الوطن .



                    نعم...الوطن يا منوبية .. لا أدري إذا تساءلتِ يوما عن معنى الوطن .. لا أعتقد أنّ له في رأسك تعريف واضح . .ما كانت تعنيك التعريفات و لا المعاني على أيّة حال .. حملتِ الوطن دائما في صدرك و وأرضعته لأبنائك , أحببتِه منذ الأزل حبا فطريا مقدسا و آمنت به إيمانا فطريا مقدسا مثل إيمانك بالله و بالخير .



                    كان الوطن بالنسبة لك مرادفا للشمس و القمر , للجبل و البحر , للماء والهواء و كنتِ ترين ملامحه المشرقة في تربة الأرض السخية و شجيرات الزيتون الصامدة الدائمة الاخضرار , في أكفّ النساء و الرجال حين يعودون مساءً من الحقول البعيدة منهوكي القوى , تتفصّد جباههم عرقا لكن مبتسمين فرحين , في ثيابهم المعفّرة بالتراب , في لمّة العائلة , و في كسرة خبز ساخنة تقسمينها بالتساوي بين عصافيرك الصغار قبل أن يطيروا إلى المدرسة .



                    ذلك كان بالأمس ..



                    اليوم أنت تعرفين معنى الإحساس بالغربة في حضن الوطن و الضياع فوق تراب الوطن . اليوم تدركين أن الوطن هو بقعة من الأرض تُداس فيها الكرامة مثل حشرة بغيضة قذرة , بقعة تُجهض فيها الأمنيات و تُغتال الحريات , و تُقتلع الفرحة البريئة من بين الضلوع . بقعة رغم وُسعها ضنّت على ابنك بشبرٍ واحدٍ يقف عليه ليحارب الجوع .



                    غريبة ‼.. لطالما اعتقدتِ أن الجوع هو غريمك الأول و عدوّك الوحيد , لكنه على مدى سنواتٍ لم ينل منك و لم يطعنك في الظهر كما فعل الظلم .



                    الفقر لا يقتل يا منوبية لكن الظلم يفعل .



                    مرت أسابيع و لا تزالين مصدومة .. لا تصدّيقين . تتساءلين أي ذنب اقترفه ابنك الحبيب ليستحق تلك النهاية القاسية.. تتمنّين لو أنه كتم الغيظ و ابتلع الإهانة و تصرّف كيفما كان .. كأن يدسّ مثلا في جيب الشرطية ورقةً بمائة أو مائتي دينار . و لكنك تعرفين ' وليدك ' حق المعرفة . أنت قلتها بأمّ لسانك " وليدي ما يحبّش القهر, ما يحبّش الظلم " . لذلك لم يتحمّل , و لأنه لم يستطع أن يدير للصفعة خده الأيمن و لا أن يرد الصاع صاعين فقد آثر أن يدير ظهره للحياة ويمضي إلى غير رجعة , متلفعا باللّهب .



                    مسكين محمد يا منوبية..ما أقسى قدره ‼. قدرٌ من بطولة امرأتين ..أنتِ حملتِه وهناً و وضعتِه وهناً..غذيته من دمك و روحك و سدَدت عنه بصدرك سهام الجوع والبرد و المرض و لكن أخرى , بصفعة قاضية , قذفت به في بحر الغياب .

                    ليته صبر كما اعتاد أن يصبر – تحدثين نفسك – ليته طأطأ و واصل المشوار متشبّثا بهوامش الحياة .



                    لكن وليدك قال لا..



                    قالها بصوت مَهول شقّ أسماع الكون , نَسَفَ أسوار الخوف و أيقظ النفوس المخدّرة.. صوتٌ أرعدَ فرائص الطغاة الظالمين و زلزل الكراسي من تحت أجسادهم .



                    و في اللحظة التي كانت فيها ألسنة النار تلتهمُ بنهمٍ عجيب عوده النحيل ,كان الصوت يدوّي : " فإما حياة و إما فلا ‼ " *.



                    ...و إما فلا..‼






                    هامش :



                    منوبية : والدة محمد البوعزيزي غفر الله له .


                    فإما حياة و إما فلا : من قصيد " بني وطني " للشاعر التونسي عبد المجيد بن جدو .
                    أختي آسيا..
                    مرثية مدمعة تذكرنا بالخنساء..أجدت وأفضت سلمت يداك
                    ودمت رائعة

                    تعليق

                    • آسيا رحاحليه
                      أديب وكاتب
                      • 08-09-2009
                      • 7182

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة حسن الحسين مشاهدة المشاركة
                      أختي آسيا..
                      مرثية مدمعة تذكرنا بالخنساء..أجدت وأفضت سلمت يداك
                      ودمت رائعة
                      أخي حسن..ألف شكر لك.
                      تحيتي و احترامي.
                      يظن الناس بي خيرا و إنّي
                      لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                      تعليق

                      • ميساء عباس
                        رئيس ملتقى القصة
                        • 21-09-2009
                        • 4186

                        #12
                        سنصادر العربة . أنت لا تملك رخصة للبيع هنا .. .
                        رخصة ؟ الأمر مدعاة للضحك فعلا..‼ ترى من أين حصل أباطرة الشر و سُرّاق الأحلام على الرخص يا منوبية حين استنزفوا وطنك الحبيب وباعوا للشعب الوهم و السّراب معبّئين في قوارير ؟

                        الغالية آسيا
                        منذ زمن بعيد لم أقرأ لك
                        يسعد صباحك وكل أوقاتك يارب
                        قصة ناجحة أولا
                        حيث أنك تقصين النوع الخطر الذي يوقعنا بمطب السردية
                        فكنت به
                        جدا صادقة عفوية حد الخيال وكإنها تخصك حقا
                        أنت انتقائية آسيا
                        وتختارين بدقة الموضوع وطريقته
                        وأنا أحبذ هذا
                        أن نكتب بفترات ليست متقاربة
                        حتى المخزون ينضج تماما
                        كما رأيتك هنا
                        سرد جميل
                        وحبكة خبيرة
                        ممتعة مشوقة
                        ومضمون يحمل أفكارا تعبرنا من الماضي حتى الحاضر والمستقبل وبطريقة تبتعد عن وضوح الحكمة أو الدرس المفيد الذي تلقننا إياه القصة
                        استمتعت جدا بوجودي بين حروفك الجميلة
                        بوركت يالغالية
                        ودمت متألقة
                        محبتي
                        ميساء
                        مخالب النور .. بصوتي .. محبتي
                        https://www.youtube.com/watch?v=5AbW...ature=youtu.be

                        تعليق

                        • آسيا رحاحليه
                          أديب وكاتب
                          • 08-09-2009
                          • 7182

                          #13
                          أختي الغالية ميساء..
                          أن تشرفيني و تقرأي لي فهذا من حسن حظي ..
                          نعم..ليس سهلا أن نسرد حدثا يدخل في خانة التأريخ في قالب قصصي..
                          الحمد لله لو كنتُ وفّقت .
                          شكرا لك ميساء على المرور و الكلمات اللطيفة الصادقة.
                          محبتي أيضا..دائما.
                          يظن الناس بي خيرا و إنّي
                          لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                          تعليق

                          • هادي زاهر
                            أديب وكاتب
                            • 30-08-2008
                            • 824

                            #14
                            أختي الكاتبة اسيت رحاحليه
                            توظيف رائع استطاع ان ينفذ إلى القلب بسهولة
                            محبتي
                            هادي زاهر
                            " أعتبر نفسي مسؤولاً عما في الدنيا من مساوئ ما لم أحاربها "

                            تعليق

                            • آسيا رحاحليه
                              أديب وكاتب
                              • 08-09-2009
                              • 7182

                              #15
                              المشاركة الأصلية بواسطة هادي زاهر مشاهدة المشاركة
                              أختي الكاتبة اسيت رحاحليه
                              توظيف رائع استطاع ان ينفذ إلى القلب بسهولة
                              محبتي
                              هادي زاهر
                              أخي العزيز زاهر..
                              منتهى أملي هو أن تنفذ نصوصي إلى قلب القارئ..
                              شكرا لك .
                              و أعجبني جدا توقيعك .

                              بارك الله فيك .
                              يظن الناس بي خيرا و إنّي
                              لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

                              تعليق

                              يعمل...
                              X