" إلى روح محمد البوعزيزي ..طائر الفينيق الذي غرّد لآخر مرّة ثم احترق.. ليوقظ رماده أهل الكهف . "
لا عزاءَ لك اليوم يا منوبية*...لا عزاءَ سوى البكاء .
كأنّما دموع الثكالى و الحزانى و البؤساء المضطهدين فوق سطح الأرض قد تجمّعت كلها في مآقيك . كأنّما في ذلك اليوم المفجع قد وقّعت عهدا مع بكاءٍ أبديّ و حزنٍ أبديّ .
موته فطر قلبك يا منوبية , حطّم أضلاعك و قسم ظهرك . جرحك تليدٌ غائرٌ يا امرأة , مرسومٌ في تقاطيع وجهك المتغضّن الذي حفرت فيه السنون ألف أخدود , و وشمته الليالي بلون الفاقة و العوز.
حسيرة القلب , شاردة الروح , دامعة العين , تدخلين غرفته الآن فيستقبلك الصمت والفراغ .. تشمّين ريحه . تتحسّسين مواضع الحياة التي كانت هنا ... خزانته . صوره . أشياءه . فراشه . هنا كان يستلقي حين يعود مساءً منهكا من الجري وراء لقمة العيش , ينشد الراحة في دفء نظرتك و شغب إخوته .
تفيض عيناك حين تمطرك خيالات الماضي ..تتذكرين يوم ولادته ذات ميلاد الربيع ..يومها رأيتِ في قدومه بشائر الفرح و حلمتِ له بمواسم وردية آتية.. نجاح في الدراسة ... وظيفة محترمة ... زوجة شابة جميلة تزفّينها له في موكب عرس يظل حديث الجيران , أحفادٌ يملأون عليك البيت و يمحون بمرحهم و ضجيجهم سطور عذابك الذي ابتدأ حين رحل زوجك إلى عالم أنقى تاركا لك عبء البيت و الأولاد .
كان محمد في الثالثة من عمره . حوّطه اليتم منذ الصغر و أحاطتك المتاعب و الهموم و شظف العيش من كل جانب .
كان محمد في الثالثة من عمره . حوّطه اليتم منذ الصغر و أحاطتك المتاعب و الهموم و شظف العيش من كل جانب .
و يكبر محمد و يضطر للتخلي عن الدراسة و العمل من أجلك و من أجل إخوته..كم تمنيتِ لو أنه أتمّ دراسته بالجامعة و نال الشهادة , و لكن ما العمل ؟ الحياة يجب أن تستمر و على هذه الأسرة أن تعيش .
سبع سنوات و محمد بائع جوال يسترزق من عربة خضار قديمة متهرئة بالكاد تقف على عجلاتها الثلاث , يدفعها من شارع لشارع و زقاق لزقاق في مدينته البائسة المهمّشة .. و مع ذلك كان راضيا , قانعا , يجتهد لكي يغطي مصاريف البيت و تعليم إخوته ..و كان أقصى حلمه تجميع مبلغ ليشتري شاحنة صغيرة تريحه من جرّ العربة المتهالكة , لكن لا مكان للأحلام في وطنك يا منوبية .
تصيّده البوليس كما في كل مرّة و حاصر حلمه ....
- سنصادر العربة . أنت لا تملك رخصة للبيع هنا .. .
رخصة ؟ الأمر مدعاة للضحك فعلا..‼ ترى من أين حصل أباطرة الشر و سُرّاق الأحلام على الرخص يا منوبية حين استنزفوا وطنك الحبيب وباعوا للشعب الوهم و السّراب معبّئين في قوارير ؟
تتعنّت الشرطية و تصادر البضاعة . و تبدأ المعاناة . كل الأساليب تفشل . لم تُجْد توسّلات محمد و لا تدخّلات أهله . .يلجأ إلى المحافظ فيرفض استقباله . و تنهال عليه الإهانات ..تصفعه الشرطية و يَطال السباب حتى عظام والده في القبر . هنا يفيض الكأس .. فيخرج ابنك إلى الشارع راكضا يصرخ من الغيظ , دمه يغلي , شرايينه تتمزّق ..العالم أمامه لا شيء..لا شيء ... مجرّد فراغٍ أسود .
فقط قارورة بنزين و عود ثقاب و ما هي إلا ومضة واحدة و إذ النار تأكل جسده .
النار .. تحسّينها في كبدك يا منوبية كلما توقّف تفكيرك عند تلك الصورة..تخفين وجهك بكفيك و تجهشين بصوت متقطّع .. " الله يرحمك و ينعّمك يا وليدي " ..
قضي الأمر .. انتهى محمد .. أكلت النار وليدك الذي كلما أغمضتِ عينيك رأيته طفلا .. " بسبوس " الأسمر الوسيم .. ضحكاته , شيطنته المحبوبة , حنانه المفرط و تعلقه الشديد بك و بإخوته .
يسرح خيالك في تلك الصباحات البعيدة.. تعدّينه للمدرسة ..تلاحظين سرواله المرقّع و حذاءه العتيق , تنحنين على خده بقبلة ثم يخرج... يركض إلى المدرسة يتدفق حياة و طفولة.
و في الساحة قبل بدء الدرس , كان يصطف مع باقي أترابه..أفراخ سُمان يشبهونه في الشكل و في الحلم . يقفون منتصبين , تغشى البراءة وجوههم الغضة , و من حناجرهم ينطلق النشيد الوطني :
حماة الحمى يا حماة الحمى
هلمّوا هلمّوا لمجد الزمن
لقد صرخت في عروقنا الدماء
نموت .. نموت و يحيا الوطن .
نعم...الوطن يا منوبية .. لا أدري إذا تساءلتِ يوما عن معنى الوطن .. لا أعتقد أنّ له في رأسك تعريف واضح . .ما كانت تعنيك التعريفات و لا المعاني على أيّة حال .. حملتِ الوطن دائما في صدرك و وأرضعته لأبنائك , أحببتِه منذ الأزل حبا فطريا مقدسا و آمنت به إيمانا فطريا مقدسا مثل إيمانك بالله و بالخير .
كان الوطن بالنسبة لك مرادفا للشمس و القمر , للجبل و البحر , للماء والهواء و كنتِ ترين ملامحه المشرقة في تربة الأرض السخية و شجيرات الزيتون الصامدة الدائمة الاخضرار , في أكفّ النساء و الرجال حين يعودون مساءً من الحقول البعيدة منهوكي القوى , تتفصّد جباههم عرقا لكن مبتسمين فرحين , في ثيابهم المعفّرة بالتراب , في لمّة العائلة , و في كسرة خبز ساخنة تقسمينها بالتساوي بين عصافيرك الصغار قبل أن يطيروا إلى المدرسة .
ذلك كان بالأمس ..
اليوم أنت تعرفين معنى الإحساس بالغربة في حضن الوطن و الضياع فوق تراب الوطن . اليوم تدركين أن الوطن هو بقعة من الأرض تُداس فيها الكرامة مثل حشرة بغيضة قذرة , بقعة تُجهض فيها الأمنيات و تُغتال الحريات , و تُقتلع الفرحة البريئة من بين الضلوع . بقعة رغم وُسعها ضنّت على ابنك بشبرٍ واحدٍ يقف عليه ليحارب الجوع .
غريبة ‼.. لطالما اعتقدتِ أن الجوع هو غريمك الأول و عدوّك الوحيد , لكنه على مدى سنواتٍ لم ينل منك و لم يطعنك في الظهر كما فعل الظلم .
الفقر لا يقتل يا منوبية لكن الظلم يفعل .
مرت أسابيع و لا تزالين مصدومة .. لا تصدّيقين . تتساءلين أي ذنب اقترفه ابنك الحبيب ليستحق تلك النهاية القاسية.. تتمنّين لو أنه كتم الغيظ و ابتلع الإهانة و تصرّف كيفما كان .. كأن يدسّ مثلا في جيب الشرطية ورقةً بمائة أو مائتي دينار . و لكنك تعرفين ' وليدك ' حق المعرفة . أنت قلتها بأمّ لسانك " وليدي ما يحبّش القهر, ما يحبّش الظلم " . لذلك لم يتحمّل , و لأنه لم يستطع أن يدير للصفعة خده الأيمن و لا أن يرد الصاع صاعين فقد آثر أن يدير ظهره للحياة ويمضي إلى غير رجعة , متلفعا باللّهب .
مسكين محمد يا منوبية..ما أقسى قدره ‼. قدرٌ من بطولة امرأتين ..أنتِ حملتِه وهناً و وضعتِه وهناً..غذيته من دمك و روحك و سدَدت عنه بصدرك سهام الجوع والبرد و المرض و لكن أخرى , بصفعة قاضية , قذفت به في بحر الغياب .
ليته صبر كما اعتاد أن يصبر – تحدثين نفسك – ليته طأطأ و واصل المشوار متشبّثا بهوامش الحياة .
ليته صبر كما اعتاد أن يصبر – تحدثين نفسك – ليته طأطأ و واصل المشوار متشبّثا بهوامش الحياة .
لكن وليدك قال لا..
قالها بصوت مَهول شقّ أسماع الكون , نَسَفَ أسوار الخوف و أيقظ النفوس المخدّرة.. صوتٌ أرعدَ فرائص الطغاة الظالمين و زلزل الكراسي من تحت أجسادهم .
و في اللحظة التي كانت فيها ألسنة النار تلتهمُ بنهمٍ عجيب عوده النحيل ,كان الصوت يدوّي : " فإما حياة و إما فلا ‼ " *.
...و إما فلا..‼
هامش :
منوبية : والدة محمد البوعزيزي غفر الله له .
تعليق