حين زفّت أمي إلى أبي ، لم يكن لوالديها كبير رغبة بهذه الزيجة و إن لم يعارضاها ، فهو يكبرها بقريب من عشرين سنة ، و هو كذلك على علمه و فضله معروف بعنفه و نزقه ، أما صورتها عند الناس جميعاً فمبنية على اللطف و الرقة و الود ، و هي الداعية الربانية ذات السمعة الطيبة ، و القبول الواسع عند من يسمعون كلامها و مواعظها و نصائحها التي تلقيها في جلساتها الدينية .
لذلك بقي لديهما خوف عليها من الجو الجديد الذي حملت إليه ، فلما جئت أنا الدنيا آل الخوف عليها إلي ، و بت محل نظريهما الدائم ، و لهفة قلبيهما الأولى .
جدتي رحمها الله التي لكم كانت تداعبني ‘ و تهدي إلي ما يتيسر لها من أطايب كلما زرناها ، و إن قدرت على صنع شيء من لذائذ الطعام كنا أول المدعوين إلى مائدتها ، و كان عبد الله الاسم الدائم على شفتيها .
جدتي تلك ... فجأة لم أعد أراها باسمة فاتحة ذراعيها لاستقبالي إن ذهبنا إليها ، بل ممددة على سرير في غرفة جانبية من غرف بيتها ، لا حركة تصدر عنها ، و لا كلمة من كلمات المودة و الألفة و المحبة التي طالما أسمعتنيها .
كثرت زياراتنا إليها تلك الأيام ، كما أخذ شعور الفقد يراودني لكلماتها و حضنها الذي طالما ضمتني إليه فكنت أتفلت منه لما اعتدت من قسوة علمنيها والدي ، و شوق لملاطفتها التي كنت أرد عليها بخشونة شديدة لقِّنت شيئاً منها في بيتنا .
و ذات يوم ، عدت إلى البيت من مدرستي فلم أجد أمي في انتظاري كما اعتدت ، و لما حضرت كان شيء من بسمتها الشفيفة قد تلاشى .
في اليوم التالي لا أدري أي شعور تملكني بالشوق إلى رؤية جدتي و نحن متجهون إلى بيتها ، شوق إليها و إن لم أستطع الارتماء في حضنها ، و رغبة بتقبيلها و لمس يديها و إن لم أجد فيهما حرارتهما المعهودة .
بدافع من شوقي ذاك سبقت أمي على السلم الموصل إلى غرفة والدتها ، و جريت مسرعاً إلى داخلها ، فتلقيت أكبر صدمة واجهتني حتى ذاك الحين .
لم أجد على السرير الموضوع في غرفتها جسدها الممدد ، و لا أسطوانة الأكسجين المثبتة إلى جانبه ، و لا فستانها البيتي الذي كانت ترتديه .
كانت تلك أول مرة شعرت فيها بأني سأبادلها حبها الكبر لي ، أول مرة أحسست أنني مملوء حنواً عليها ، و رغبة بمبادلتها بمثل كلماتها اللطيفة ، لا بالكلام الخشن العنيف الذي لم أقابلها إلا به قبلاً .
أول مرة اتخذت قراري بأن أغدو كما ينبغي لي معها .
لكن ... كانت كل رغباتي تلك قد تأخرت ... و فات أوانها .
تعليق