4
حين لطمت كلمات أبى أيوب أذن عبده النوتى :" حتى اسألوا عبده المراكبى ". تظاهر باليقظة ، و أمن على كلام أبى أيوب ، بل راح يحكى استكمالا لحديث الرجل ، عن البنت اليتيمة التى أخرجها من بين ضلوع النيل ، وأعطاها لأبى أيوب ، لنجدتها ، ورعايتها ، حتى يظهر لها أهل ، إن كان لها أهل !
وحين احتوتهما الطريق كان عبده يتساءل :"ما حكايتها .. ولم حشرتني في هذه القصة الغريبة ؟ ".
اختلى به أبو أيوب ، وحكى له ما وصله عن سعدية ، وما عرفه منها هي ، وتركه ومضى ، دون شفقة على الرجل الذي أصابه مس من غضب :" ومالنا بها يا أبا أيوب ؟ ".
لكن عبده لم يسترح لهذا الأمر ، وهذه الكلمات التى ألقاها أبو أيوب فى وجهه ومضى ، لا لم يسترح ، وهجست الظنون فى صدره ، ودوخته :" ما لنا و الغجر ؟ ". وهنا اتسعت طاقة نور فى رأسه ، وعلى الفور كان يتذكر أخا العمدة الصغير ، هذا العربيد الذي طارده العمدة فى القرية ، بل البلاد كلها ، لكي يعيد له اتزانه ، ويرجع عن تهوره ، وفضائحه التي أصبحت تطارد الكبير ، حتى وصلت إلى حد العار الذي لا يغسله سوى الدم ، وفى المرة قبل الأخيرة ، التقطوه عاريا من دار استأجرها لغجرية ، وحبسوه فى الدوار ، هناك فى مخزن محكم ، لا يرى أحدا ، و لا يراه أحد ، ولكنه فى غفلة من الجميع ، وبمساعدة مجهولة حتى الآن تمكن من الهرب ، وغادر القرية إلى الأبد ، و إلى الآن لا يعلم أحد فى القرية عنه شيئا ، وطاشت كل محاولات أخيه الكبير فى العثور عليه !
شم عبده رائحة كامل أخى العمدة فيما دفع به أبو أيوب ، وبعد تكرار هذه المشاهد العجيبة ، التى زاحمت عقله ، على غير انتظار ، ولكنه شعر بالخجل فيما توصل إليه ، وعده نوعا ردئيا من الأوهام ، و الوسوسة الشيطانية التى يجب أن يتطهر منها فورا !
وفى ليلة شتوية كان عبده مضطجعا على الضفة إلى جوار قاربه ، وقد التحف بأكياس من الفل ، إلى جانب حمل من صوف الأغنام ، حين سمع صوتا أجش يناديه :"يا مراكبى ..يا عبده ".
انتظر عبده ، ولم ينطق ، وترك لأذنيه مهمة البحث فى حقيقة صاحب الصوت الغريب ، كان دبيب قدميه يوحى بغرابته ، فتحرك بحرص ، وتطلع فى الملامح التى واجهته ، وبالفعل كان الرجل غريبا ، لم يره قبل اللحظة ، ولا يدرى أي شيطان أتى به إلى هنا بعكازيه ، إنه يحمل نفس الملامح البشعة التي تحدث عنها أبو أيوب ، هل يكون هو ؟ هكذا ساءل عبده نفسه :" قل لى أين أجد أبا أيوب حارس المقابر ؟ ".
همهم عبده ، ونط واقفا :" تريد أبا أيوب ؟".
:" نعم أريده ".
:" لم أرك قبل اللحظة .. فماذا تريد من الرجل ؟".
:" استودعته أمانة ، وحان وقت ردها ".
:" وهل هذا وقت يصلح لرد الأمانات يا شيخ ؟".
:" إن صاحبة الأمانة تلفظ أنفاسها وتريدها ".
دون كلمة ، تحرك عبده ، وأعد نفسه لخوض النهر ، وساعد الرجل حتى أصبح على ظهر القارب ، وراح يجدف ببطء عجيب ، وتوجس قاتل ينحت صدره ، ويؤهله لأى بادرة تصدر عن الرجل ، فعل كان أم كلمة ، و ينتظر أن يسأله عن الموتور ، ولم لا يعمل ، وبالفعل كان الذئب العجوز ، يردد السؤال ، فهمهم عبده هامسا :" دعنا نعبر دون أن يحس بنا أحد .. أنسيت أننا فى أرض تسيطر عليها أرواح الملوك ".
توجس الذئب خيفة ، وراح يلتفت هنا و هناك دون خوف ، فما كان يؤمن بأرواح ، و لا بملوك ، و لا أي شيء ، كل ما يريده " سعدية " و لا بد من العودة بها ، بعد كل هذا الهروب الطويل ، وكساد تجارته ، وفشل صبيانه فى العثور عليها سنة بعد أخرى ، حتى تعثر مصادفة فيمن نقل إليه أوصاف البنت التي انتشالها عبده المراكبى ، ذات ليلة شتوية ، وأعطاها لأبى أيوب حارس المقابر .
أخذ نفسا عميقا ، ثم رفع أحد عكازيه بقوة ، وبشكل مفاجىء ، وحين كانت العصا على وشك الإطاحة بعبده المراكبى ، نط فى النهر المرتفع كعادته فى ذلك الوقت ، ثم بدأت ملاعبته ، و ضربات العجوز تطيش فى الماء ، وعبده يهزهز القارب ، يؤرجحه بقوة .. بقوة .. حتى اختل توازن الشيخ ، وسقط ، وابتلعه الماء .
سبح خلفه عبده ، وهناك فى القاع ، على أمل أن ينهى عليه ، لكنه ما عثر له على أثر ، فعاد أدراجه ، وعلى القارب التقط أنفاسه :" أصلحك الله كنت أنتظر أن تبدأ أنت ..فلم أعرف كيف أكون معتديا ".
أدار الموتور ، وانتظر قليلا ، ثم اندفع صوب الضفة الأخرى ، غادر القارب ، وارتمى على الرمل ، قليلا من الوقت حتى هدأ تماما ، ثم تقدم صوب المقابر ، وجسده يرتعد من قسوة البرد ، دار مع التواءات السكة ، حتى إذا دنا ، علا صوته مهمهما :" أبا أيوب ".
هتف أبو أيوب حين أبصره ، و الماء يقطر من ملابسه :" هل كان الصيد يستحق ؟ ".
كان يلتفت ، وينتظر أن يرى شيئا ، ولما لم يبصر أحدا هتف :" أظن ذلك .. أين بنيتك الجميلة ؟ ".
هنا تأكد لأبى أيوب أن الصيد لم يكن سوى عين سعت خلف البنت ، فجذب الرجل ، حتى أصبحا أمام راكية النار ، وعبده لا يتوقف عن البحث :" أين هي ؟ ".
كانت أوجات نائمة فى تابوت الملكة بعد إصرار أبى أيوب ، خوفا عليها من هذا البرد القارس ، وبعد طول إلحاح منه ، ورفض عجيب من جانبها ، حملها ، ووضعها بين أحضان الملكة ، وهى تضحك ، وتسخر من خوفه :" أستطيع أن أقف عارية وسط الثلج يا أبى ".
لكنه لم يصدق ما تفوهت به ، وأغلق عليها التابوت وهى تبكى :" أنت تقتلني يا أبى .. إني أختنق ".
رغم ذلك لم يتراجع ، وأغلق التابوت ، وعاد إلى فرشته ، أمام راكية النار ، الغريب أنها نامت ، ولم تحرك ساكنا ، وهو على قلقه العجيب ، يشرب كوب الشاي المغلي ، يتوقع أن يقتحم عليه خلوته طارق ما ، ربما كان قلبه و عقله مشغولين بسعيد ، الذي أجبر على السفر إلى أم الدنيا ، ليدرس فى الأزهر ، و ربما كان خوفا على أوجات لقيطته ، ولكنه حين دخل عليه عبده المراكبى كان يتنهد بارتياح :" هل تأكدت أنه وحده ؟".
كان الدفء يتسرب إلى رأسه ، فتناول رشفة من الكوب ، وطوح رأسه :" سوف يهلون .. وليطهرهم النهر جميعا ".
حين لطمت كلمات أبى أيوب أذن عبده النوتى :" حتى اسألوا عبده المراكبى ". تظاهر باليقظة ، و أمن على كلام أبى أيوب ، بل راح يحكى استكمالا لحديث الرجل ، عن البنت اليتيمة التى أخرجها من بين ضلوع النيل ، وأعطاها لأبى أيوب ، لنجدتها ، ورعايتها ، حتى يظهر لها أهل ، إن كان لها أهل !
وحين احتوتهما الطريق كان عبده يتساءل :"ما حكايتها .. ولم حشرتني في هذه القصة الغريبة ؟ ".
اختلى به أبو أيوب ، وحكى له ما وصله عن سعدية ، وما عرفه منها هي ، وتركه ومضى ، دون شفقة على الرجل الذي أصابه مس من غضب :" ومالنا بها يا أبا أيوب ؟ ".
لكن عبده لم يسترح لهذا الأمر ، وهذه الكلمات التى ألقاها أبو أيوب فى وجهه ومضى ، لا لم يسترح ، وهجست الظنون فى صدره ، ودوخته :" ما لنا و الغجر ؟ ". وهنا اتسعت طاقة نور فى رأسه ، وعلى الفور كان يتذكر أخا العمدة الصغير ، هذا العربيد الذي طارده العمدة فى القرية ، بل البلاد كلها ، لكي يعيد له اتزانه ، ويرجع عن تهوره ، وفضائحه التي أصبحت تطارد الكبير ، حتى وصلت إلى حد العار الذي لا يغسله سوى الدم ، وفى المرة قبل الأخيرة ، التقطوه عاريا من دار استأجرها لغجرية ، وحبسوه فى الدوار ، هناك فى مخزن محكم ، لا يرى أحدا ، و لا يراه أحد ، ولكنه فى غفلة من الجميع ، وبمساعدة مجهولة حتى الآن تمكن من الهرب ، وغادر القرية إلى الأبد ، و إلى الآن لا يعلم أحد فى القرية عنه شيئا ، وطاشت كل محاولات أخيه الكبير فى العثور عليه !
شم عبده رائحة كامل أخى العمدة فيما دفع به أبو أيوب ، وبعد تكرار هذه المشاهد العجيبة ، التى زاحمت عقله ، على غير انتظار ، ولكنه شعر بالخجل فيما توصل إليه ، وعده نوعا ردئيا من الأوهام ، و الوسوسة الشيطانية التى يجب أن يتطهر منها فورا !
وفى ليلة شتوية كان عبده مضطجعا على الضفة إلى جوار قاربه ، وقد التحف بأكياس من الفل ، إلى جانب حمل من صوف الأغنام ، حين سمع صوتا أجش يناديه :"يا مراكبى ..يا عبده ".
انتظر عبده ، ولم ينطق ، وترك لأذنيه مهمة البحث فى حقيقة صاحب الصوت الغريب ، كان دبيب قدميه يوحى بغرابته ، فتحرك بحرص ، وتطلع فى الملامح التى واجهته ، وبالفعل كان الرجل غريبا ، لم يره قبل اللحظة ، ولا يدرى أي شيطان أتى به إلى هنا بعكازيه ، إنه يحمل نفس الملامح البشعة التي تحدث عنها أبو أيوب ، هل يكون هو ؟ هكذا ساءل عبده نفسه :" قل لى أين أجد أبا أيوب حارس المقابر ؟ ".
همهم عبده ، ونط واقفا :" تريد أبا أيوب ؟".
:" نعم أريده ".
:" لم أرك قبل اللحظة .. فماذا تريد من الرجل ؟".
:" استودعته أمانة ، وحان وقت ردها ".
:" وهل هذا وقت يصلح لرد الأمانات يا شيخ ؟".
:" إن صاحبة الأمانة تلفظ أنفاسها وتريدها ".
دون كلمة ، تحرك عبده ، وأعد نفسه لخوض النهر ، وساعد الرجل حتى أصبح على ظهر القارب ، وراح يجدف ببطء عجيب ، وتوجس قاتل ينحت صدره ، ويؤهله لأى بادرة تصدر عن الرجل ، فعل كان أم كلمة ، و ينتظر أن يسأله عن الموتور ، ولم لا يعمل ، وبالفعل كان الذئب العجوز ، يردد السؤال ، فهمهم عبده هامسا :" دعنا نعبر دون أن يحس بنا أحد .. أنسيت أننا فى أرض تسيطر عليها أرواح الملوك ".
توجس الذئب خيفة ، وراح يلتفت هنا و هناك دون خوف ، فما كان يؤمن بأرواح ، و لا بملوك ، و لا أي شيء ، كل ما يريده " سعدية " و لا بد من العودة بها ، بعد كل هذا الهروب الطويل ، وكساد تجارته ، وفشل صبيانه فى العثور عليها سنة بعد أخرى ، حتى تعثر مصادفة فيمن نقل إليه أوصاف البنت التي انتشالها عبده المراكبى ، ذات ليلة شتوية ، وأعطاها لأبى أيوب حارس المقابر .
أخذ نفسا عميقا ، ثم رفع أحد عكازيه بقوة ، وبشكل مفاجىء ، وحين كانت العصا على وشك الإطاحة بعبده المراكبى ، نط فى النهر المرتفع كعادته فى ذلك الوقت ، ثم بدأت ملاعبته ، و ضربات العجوز تطيش فى الماء ، وعبده يهزهز القارب ، يؤرجحه بقوة .. بقوة .. حتى اختل توازن الشيخ ، وسقط ، وابتلعه الماء .
سبح خلفه عبده ، وهناك فى القاع ، على أمل أن ينهى عليه ، لكنه ما عثر له على أثر ، فعاد أدراجه ، وعلى القارب التقط أنفاسه :" أصلحك الله كنت أنتظر أن تبدأ أنت ..فلم أعرف كيف أكون معتديا ".
أدار الموتور ، وانتظر قليلا ، ثم اندفع صوب الضفة الأخرى ، غادر القارب ، وارتمى على الرمل ، قليلا من الوقت حتى هدأ تماما ، ثم تقدم صوب المقابر ، وجسده يرتعد من قسوة البرد ، دار مع التواءات السكة ، حتى إذا دنا ، علا صوته مهمهما :" أبا أيوب ".
هتف أبو أيوب حين أبصره ، و الماء يقطر من ملابسه :" هل كان الصيد يستحق ؟ ".
كان يلتفت ، وينتظر أن يرى شيئا ، ولما لم يبصر أحدا هتف :" أظن ذلك .. أين بنيتك الجميلة ؟ ".
هنا تأكد لأبى أيوب أن الصيد لم يكن سوى عين سعت خلف البنت ، فجذب الرجل ، حتى أصبحا أمام راكية النار ، وعبده لا يتوقف عن البحث :" أين هي ؟ ".
كانت أوجات نائمة فى تابوت الملكة بعد إصرار أبى أيوب ، خوفا عليها من هذا البرد القارس ، وبعد طول إلحاح منه ، ورفض عجيب من جانبها ، حملها ، ووضعها بين أحضان الملكة ، وهى تضحك ، وتسخر من خوفه :" أستطيع أن أقف عارية وسط الثلج يا أبى ".
لكنه لم يصدق ما تفوهت به ، وأغلق عليها التابوت وهى تبكى :" أنت تقتلني يا أبى .. إني أختنق ".
رغم ذلك لم يتراجع ، وأغلق التابوت ، وعاد إلى فرشته ، أمام راكية النار ، الغريب أنها نامت ، ولم تحرك ساكنا ، وهو على قلقه العجيب ، يشرب كوب الشاي المغلي ، يتوقع أن يقتحم عليه خلوته طارق ما ، ربما كان قلبه و عقله مشغولين بسعيد ، الذي أجبر على السفر إلى أم الدنيا ، ليدرس فى الأزهر ، و ربما كان خوفا على أوجات لقيطته ، ولكنه حين دخل عليه عبده المراكبى كان يتنهد بارتياح :" هل تأكدت أنه وحده ؟".
كان الدفء يتسرب إلى رأسه ، فتناول رشفة من الكوب ، وطوح رأسه :" سوف يهلون .. وليطهرهم النهر جميعا ".
تعليق