5
حين طرق عليه عصمت باب المعمل فى ذلك المساء ، توقف قليلا ، ولكنه سرعان ما تحرك خارج دائرة احتمالاته ، واعتبر هذه الزيارة نوعا من العبث ، دفعه إليها عنجهيته ، وإحساسه بالقيمة و التفرد ، ولم يثقل على نفسه مثقال ذرة فى كونها زيارة بريئة من عدمه ، ثم أنه كان حريصا بشكل لا إرادي ، خاصة و قد ترك خلفه تساؤلات لم يجب عليها ، وخلافات أدت إلى وضعه داخل شبكة عنكبوتية من رجال الحراسة ، الذين لم يفارقوه حتى الآن ، يحتفظ بكل أوراقه في رأسه ، حتى تجاربه ، بأرقامها ، ومعادلاتها ، التي تصل في معظم الأحيان إلى أرقام لا يمكن للعقل البشرى حفظها !
ليلتها رحب البروفيسور سعيد بعصمت بابتهاج ، وشكره على هذه المفاجأة السارة التي لم تكن تخطر بباله ، ثم استأذنه فى تغيير ثيابه ، وتركه على مكتبه المعملي ، وعرج صوب حجرة الملابس ، وداخلها كانت الشياطين تتلاعب برأسه ، وتجهده فى البحث عن حقيقة هذه المداهمة ، وفى لمح البصر كان يبص من خلال خصاص الباب على الزائر ، ويشهد بأم عينيه عبثه بالأوراق ، ثم فتحه لدرج المكتب ، وسحب ما يحمل من نتائج لأبحاث وضعها سعيد خصيصا لكي يقرؤها أي زائر ، إذا ما دفعه الفضول ، حب التلصص إلى ذلك ، فاعتدل ، وأبدل ملابسه ، وخرج بعد أن أصدر عدة كحات عامدا :" آسف على التأخير ".
أخذ عصمت وقتا طويلا ليتماسك :" هل رأيت سينما هذه الأيام ؟ ".
همهم ببساطة ، وابتسم ناظرا فى وجه عصمت :" كما ترى ، تجدني مشغولا باستمرار".
:" هذا لا يمنع أن تمارس حياتك ".
:" وهل جد جديد .. هل باض الديك ؟".
:" باض بيضة ثمينة .. بنت أسطورة .. يهيأ لي أنها لن تعمر طويلا !! ".
:" معقول ؟ ".
:" رجالي فى الرقابة الذين شاهدوا الفيلم .. أكدوا لى .. وأنا مدعو الليلة لافتتاح عرضه بسينما ريفولى ".
:" هنيئا لك .. ومالي أنا بعلية القوم و الرؤساء ؟ ".
:" سوف تأتى معي رضيت أم أبيت ".
كان يعرف أن الأسطورة لم تكن سوى عنبر ، صنيعته و حبيبته ، ولكنه كان دائما يتخوف من إظهار علاقته بها ، وأمسك عن زيارتها تماما في العاصمة ، رغم أن هذا كلفه الكثير من الجهد النفسي ، والمعاناة شديدة الوطأة ، و بذل مجهودا خارقا لكي يقنع عنبر بهذا ، رغم انهيارها ، وبكائها الذي سحقه ، وأدمى قلبه ، وفى نهاية الأمر تفهمت ما يرمى إليه ، وإن لم تقتنع تماما بما قدم لها من محاذير ، وانتهت إلى أن تتم مقابلاتهما فى قرية المرة ، هناك مع أبى أيوب ، وفقط ، وأن يكون اللقاء أسبوعيا .
حاول سعيد الاعتذار ، ولكن عصمت أصر على ذلك ، وهو يضحك ، ويجذبه بقوة :" ألا تحب أن ترى تأثير أخيك على الجميلات ".
وما أن أصبحا أمام مركز البحوث حتى أحاطت بهما كوكبة من الحرس الخاص ، شدت سعيد فحولتهم ، وكثرتهم ، و غرابتهم ، فقد حمل البعض منهم ملامح أوربية ، استرعت انتباهه ، وجعلته يتذكر الرجال الذين تعقبوه حتى توجه إلى الطائرة ، يتذكر ملامحهم و أحجامهم ، وأشكالهم ، وكاد من فرط الانغماس فى هذه الأفكار يؤكد لنفسه ، أنهم هم نفس الرجال ، مع الاختلاف فى الملبس !
أمام سينما ريفولى توقف الركب وسط زحام شديد ، فقد وصلت فى نفس اللحظة السيارة التى تقل الممثلة الأكثر شهرة ، وخلفها رتل من سيارات فخمة ، وهتفت الجموع المتراصة باسم الممثلة ، وعلا التصفيق ، بينما كانا يتحركان لمصافحتها بكل سهولة ويسر بين الجماهير .
لم يشعر أنه أساء لعنبر و لنفسه إلا هذا المساء ، حين لطمت وجهه كلمات عصمت :" بإشارة منى تأتى راكعة تحت حذائي .. هووووهوه .. فى الفراش يأتون بالعجب العجاب .. يالهن من ممثلات !! "
كيف فكر ، و كيف دبر الأمر ، كانت تحاول أن تقترب منه ، ولو بالموافقة على اختياره ، ممثلة ، متى رآها تمثل ، وتشخص ؟ كان سؤالا بريئا ، تحول إلى نقمة ، ليس بريئا بالمرة ، أظلمت الدنيا فى وجهه ، وصافحها ، وهو لا يكاد يرى أمامه ، بينما كانت ترتعش ، وترتجف من هول المفاجأة ، وانسحب من أمامها ، ودهشة عصمت تكاد تأتى على وجهه :" ألا تنتظر .. يا أخى .. العروس أولا .. إنها ليلتها ".
كان كل همه الساعة ، كيف يمكنه الانسحاب ، و التخلص من هذا الوجع ، الذى ينتابه لأول مرة :" يا أبا أيوب .. أوجات ما خلقت إلا لتسعد أهل الوادي ".
ياله من مخرف ، أحمق ، أبله ، ضيع جوهرته فى لحظة غريبة ، ومقولة أغرب ، وظن أنه فى أوربا أو أمريكا ، حتى هناك أيضا لن يكون الأمر إلا على هذا النحو ، صحيح هناك ديمقراطية الاختيار ، ولكن هناك أيضا لا ديمقراطية النوازع والأهواء ، للحكام ، ولأولاد الحكام ، وأقرباء الحكام ، السلطة التى تمنح صاحبها ، الكثير من الحقوق ، حتى الحق في الاعتداء على حرية الآخرين ، وسلب حقوقهم .. أنت واهم .. أنت غبي لا عقل لك !!
عند هذا الحد لم يستطع ، أصابه غثيان مفاجىء ، فأسرع صوب دورة المياه ، وأفرغ أحشاءه كاملة ، كاد يفقد روحه على الحوض ، وعيناه تذرفان دموعا ثقيلة ، وكتب جملة فى منديل ورقى ، وخرج يترنح برغمه ، وحين أصبح أمامها تماما ، ترك ما في يده ، فحط بين أصابعها !!
كان عصيا على الدنيا ، وليس على عصمت وحده ، الذي حاول بشتى الطرق أن يستبقيه إلى جانبه ، فخلى سبيله بعد أن غمز بعينه إلى أحد الرجال ، بتتبعه ، واقتفاء أثره ؛ فقد غذى فى صدره هومة التوجس ، بعد أن ظل طوال الطريق يضاحكه ، ولم يتوقف عن الحديث معه لحظة ، ثم فجأة تنقلب ملامحه ، وتسود جبهته بشكل قاس ، لا بد أن في الأمر شيئا !!
غادر سعيد دار السينما وهو يتطوح ، بدنه يرتعد كأن به حمى ، ووجه يفرز صهدا ، وبالكاد استطاع التلويح لإحدى السيارات :" مطار القاهرة يا أسطى ".
حين طرق عليه عصمت باب المعمل فى ذلك المساء ، توقف قليلا ، ولكنه سرعان ما تحرك خارج دائرة احتمالاته ، واعتبر هذه الزيارة نوعا من العبث ، دفعه إليها عنجهيته ، وإحساسه بالقيمة و التفرد ، ولم يثقل على نفسه مثقال ذرة فى كونها زيارة بريئة من عدمه ، ثم أنه كان حريصا بشكل لا إرادي ، خاصة و قد ترك خلفه تساؤلات لم يجب عليها ، وخلافات أدت إلى وضعه داخل شبكة عنكبوتية من رجال الحراسة ، الذين لم يفارقوه حتى الآن ، يحتفظ بكل أوراقه في رأسه ، حتى تجاربه ، بأرقامها ، ومعادلاتها ، التي تصل في معظم الأحيان إلى أرقام لا يمكن للعقل البشرى حفظها !
ليلتها رحب البروفيسور سعيد بعصمت بابتهاج ، وشكره على هذه المفاجأة السارة التي لم تكن تخطر بباله ، ثم استأذنه فى تغيير ثيابه ، وتركه على مكتبه المعملي ، وعرج صوب حجرة الملابس ، وداخلها كانت الشياطين تتلاعب برأسه ، وتجهده فى البحث عن حقيقة هذه المداهمة ، وفى لمح البصر كان يبص من خلال خصاص الباب على الزائر ، ويشهد بأم عينيه عبثه بالأوراق ، ثم فتحه لدرج المكتب ، وسحب ما يحمل من نتائج لأبحاث وضعها سعيد خصيصا لكي يقرؤها أي زائر ، إذا ما دفعه الفضول ، حب التلصص إلى ذلك ، فاعتدل ، وأبدل ملابسه ، وخرج بعد أن أصدر عدة كحات عامدا :" آسف على التأخير ".
أخذ عصمت وقتا طويلا ليتماسك :" هل رأيت سينما هذه الأيام ؟ ".
همهم ببساطة ، وابتسم ناظرا فى وجه عصمت :" كما ترى ، تجدني مشغولا باستمرار".
:" هذا لا يمنع أن تمارس حياتك ".
:" وهل جد جديد .. هل باض الديك ؟".
:" باض بيضة ثمينة .. بنت أسطورة .. يهيأ لي أنها لن تعمر طويلا !! ".
:" معقول ؟ ".
:" رجالي فى الرقابة الذين شاهدوا الفيلم .. أكدوا لى .. وأنا مدعو الليلة لافتتاح عرضه بسينما ريفولى ".
:" هنيئا لك .. ومالي أنا بعلية القوم و الرؤساء ؟ ".
:" سوف تأتى معي رضيت أم أبيت ".
كان يعرف أن الأسطورة لم تكن سوى عنبر ، صنيعته و حبيبته ، ولكنه كان دائما يتخوف من إظهار علاقته بها ، وأمسك عن زيارتها تماما في العاصمة ، رغم أن هذا كلفه الكثير من الجهد النفسي ، والمعاناة شديدة الوطأة ، و بذل مجهودا خارقا لكي يقنع عنبر بهذا ، رغم انهيارها ، وبكائها الذي سحقه ، وأدمى قلبه ، وفى نهاية الأمر تفهمت ما يرمى إليه ، وإن لم تقتنع تماما بما قدم لها من محاذير ، وانتهت إلى أن تتم مقابلاتهما فى قرية المرة ، هناك مع أبى أيوب ، وفقط ، وأن يكون اللقاء أسبوعيا .
حاول سعيد الاعتذار ، ولكن عصمت أصر على ذلك ، وهو يضحك ، ويجذبه بقوة :" ألا تحب أن ترى تأثير أخيك على الجميلات ".
وما أن أصبحا أمام مركز البحوث حتى أحاطت بهما كوكبة من الحرس الخاص ، شدت سعيد فحولتهم ، وكثرتهم ، و غرابتهم ، فقد حمل البعض منهم ملامح أوربية ، استرعت انتباهه ، وجعلته يتذكر الرجال الذين تعقبوه حتى توجه إلى الطائرة ، يتذكر ملامحهم و أحجامهم ، وأشكالهم ، وكاد من فرط الانغماس فى هذه الأفكار يؤكد لنفسه ، أنهم هم نفس الرجال ، مع الاختلاف فى الملبس !
أمام سينما ريفولى توقف الركب وسط زحام شديد ، فقد وصلت فى نفس اللحظة السيارة التى تقل الممثلة الأكثر شهرة ، وخلفها رتل من سيارات فخمة ، وهتفت الجموع المتراصة باسم الممثلة ، وعلا التصفيق ، بينما كانا يتحركان لمصافحتها بكل سهولة ويسر بين الجماهير .
لم يشعر أنه أساء لعنبر و لنفسه إلا هذا المساء ، حين لطمت وجهه كلمات عصمت :" بإشارة منى تأتى راكعة تحت حذائي .. هووووهوه .. فى الفراش يأتون بالعجب العجاب .. يالهن من ممثلات !! "
كيف فكر ، و كيف دبر الأمر ، كانت تحاول أن تقترب منه ، ولو بالموافقة على اختياره ، ممثلة ، متى رآها تمثل ، وتشخص ؟ كان سؤالا بريئا ، تحول إلى نقمة ، ليس بريئا بالمرة ، أظلمت الدنيا فى وجهه ، وصافحها ، وهو لا يكاد يرى أمامه ، بينما كانت ترتعش ، وترتجف من هول المفاجأة ، وانسحب من أمامها ، ودهشة عصمت تكاد تأتى على وجهه :" ألا تنتظر .. يا أخى .. العروس أولا .. إنها ليلتها ".
كان كل همه الساعة ، كيف يمكنه الانسحاب ، و التخلص من هذا الوجع ، الذى ينتابه لأول مرة :" يا أبا أيوب .. أوجات ما خلقت إلا لتسعد أهل الوادي ".
ياله من مخرف ، أحمق ، أبله ، ضيع جوهرته فى لحظة غريبة ، ومقولة أغرب ، وظن أنه فى أوربا أو أمريكا ، حتى هناك أيضا لن يكون الأمر إلا على هذا النحو ، صحيح هناك ديمقراطية الاختيار ، ولكن هناك أيضا لا ديمقراطية النوازع والأهواء ، للحكام ، ولأولاد الحكام ، وأقرباء الحكام ، السلطة التى تمنح صاحبها ، الكثير من الحقوق ، حتى الحق في الاعتداء على حرية الآخرين ، وسلب حقوقهم .. أنت واهم .. أنت غبي لا عقل لك !!
عند هذا الحد لم يستطع ، أصابه غثيان مفاجىء ، فأسرع صوب دورة المياه ، وأفرغ أحشاءه كاملة ، كاد يفقد روحه على الحوض ، وعيناه تذرفان دموعا ثقيلة ، وكتب جملة فى منديل ورقى ، وخرج يترنح برغمه ، وحين أصبح أمامها تماما ، ترك ما في يده ، فحط بين أصابعها !!
كان عصيا على الدنيا ، وليس على عصمت وحده ، الذي حاول بشتى الطرق أن يستبقيه إلى جانبه ، فخلى سبيله بعد أن غمز بعينه إلى أحد الرجال ، بتتبعه ، واقتفاء أثره ؛ فقد غذى فى صدره هومة التوجس ، بعد أن ظل طوال الطريق يضاحكه ، ولم يتوقف عن الحديث معه لحظة ، ثم فجأة تنقلب ملامحه ، وتسود جبهته بشكل قاس ، لا بد أن في الأمر شيئا !!
غادر سعيد دار السينما وهو يتطوح ، بدنه يرتعد كأن به حمى ، ووجه يفرز صهدا ، وبالكاد استطاع التلويح لإحدى السيارات :" مطار القاهرة يا أسطى ".
تعليق