يوميات أبو الإلحاد الرقمي..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • هشام البوزيدي
    أديب وكاتب
    • 07-03-2011
    • 391

    #31
    16 ملحدستان فردوس التنوير المنشود

    مشى أبو الإلحاد على الأرض الحمراء المغبرة بحذر, كان يخطو ويتساءل: "ألا يفترض انعدام الجاذبية في هذا المكان النائي؟" ومع هذا الخاطر بدأ يثب على تلك الهيئة المضحكة التي رآها يوما في التلفاز, بدأ يقفز في رشاقة الكنغر, وما أن يلامس الأرض حتى يهتز من جديد, إنها مشية رواد الفضاء, كان يحمل في يده راية يريد أن يغرزها على تل بدا مدببا كأنه قبعة صينية ضخمة, لم يتمعن في الراية جيدا, لكنه لم ير لها مثيلا من قبل, كانت سوداء تتوسطها صورة جعلته يشعر بالجوع, لكنه لم يتبينها جيدا.

    كان كل شيء مختلفا وكان كل شيء جميلا, لكن صوتا مألوفا بدأ يطرق سمعه, هل هي المخلوقات الفضائية؟ إنهم موجودون إذن, لقد صدق البروفيسور "دونكي", لكنه سرعان ما تبين كلمات عربية, "عجبا, أيعقل أن ساكنة الكوكب الأحمر تتكلم العربية؟" هل هاجرت إحدى القبائل القحطانية بسرعة الضوء لتستوطن الكوكب الجميل؟" وعلى وقع هذا التمازج بين الحقيقة والخيال استيقظ أبو الإلحاد على صوت انتشله من حلمه الأحمر, إنه صوت الأذان يخترق سكون الليل من مآذن المساجد, تقلب في فراشه وغطى رأسه كيلا يسمعه, تسللت إلى أذنيه هذه الكلمات: "الصلاة خير من النوم", لكنه لا يصدق أن شيئا في العالم يعدل دفء لحافه الساعة, عجب لمن يقومون الآن ليخرجوا سراعا يلفهم الظلام ليلبوا هذا النداء المبكر, أحس بالحنق إذ حيل بينه وبين إتمام مغامرته الخيالية على كوكب المريخ, أنى له أن يعرف الآن إن كان صحراء جرداء, أم مركز حضارة فضائية مزدهرة؟

    عاد السكون أخيرا ليخيم على الحي لكن يبدو أن النوم ولى إلى غير رجعة, فجلس صاحبنا في فراشه متضجرا. إنها ضريبة المتنورين ما أقاموا بين أظهر المتدينين. لا حل لأضرابه من ملاحدة العرب إلا الهجرة إلى بلاد تدين بالإلحاد الخالص الذي لا تشوبه شائبة دين أو ملة, استعرض بسرعة عددا من دول العالم المتحضر لعله يجد بينها حامية حمى المذهب الإلحادي وحاملة لواء التنوير فلم يجد. يا لها من خسارة فادحة للجنس البشري. منذ سقطت راية المطرقة والمنجل المغموسة بالدماء والناس لا ينعمون إلا بدول هجينة أقصى ما تستطيعه أن ترفع شعار المدنية دون أن تتبرأ من الأفكار الدينية جملة. لكنه سئم أنصاف الحلول, إنه يحلم بمدينة الإلحاد الفاضلة, إنه يتطلع إلى جنة الإلحاد, إنه يحلم بفردوسه المنشود. رفع بصره ونظر بعيدا كأنه يستحث أفكاره ويستحضر شيطانه, ثم شرد في خواطره وتخيل المدينة التي سيحكمها الزملاء الملاحدة يوما ما. وتساءل متأملا: "هل ستكون على بقعة من أرض الشمال البارد, أم أنها ستكون في مكان ما في العالم الجديد؟" بعد طول تفكر رجح أنها ستكون جزيرة ليتحقق لها أكبر قدر من الأمن. جزيرة معتدلة المناخ طيبة الهواء واسعة الأرجاء يفسح فيها المجال لجميع الكائنات لتتطور على قدم المساواة, إنها مدينة تعتنق الإلحاد و تدين بالداروينية ولا ترضى دونها بدين أي دين, لكنه لم يستبعد أن تحتضن الزملاء من عبدة الشيطان بين مواطنيها فإنهم لا يؤمنون لا بشيطان ولا بعبادة, كل ما هنالك أنهم ابتدعوا لهم رمزا يترجم رغبتهم في الحياة ويعكس سخريتهم من أهل الملل. تساءل: "وماذا عن عباد البقر؟ لا ضير من ضمهم أيضا, فمعتقدهم يدفع نحو إذابة الفوارق المصطنعة بين القرود المتطورة وبين بقية الكائنات الداروينية. أقر في صمت أن عبادة ذوات ذوات الضروع الحافلة والأظلاف الجميلة والقرون الملساء والأسنان المجترة لا يناقض الإلحاد في شيء. لكن الذين لن يكون لهم موطئ قدم في مدينة المستقبل أبدا هم أولئك المؤمنون الذين يزعمون أن للكون إلها حقيقيا خلقه وصوره وقدره, يدبر أمره ويقوم على جميع أمره. أولئك الذين يقومون للصلاة في مثل هذه الساعة."

    بدأ حلم مدينته الفاضلة يداعب مخيلته: "إنها ستكون منارة للتنوير وقاطرة للتحرير, إنها مدينة تقوم على الإلحاد في كل شأنها. فعمارتها تتبع أخر صيحة في عالم الهندسة العبثية المشاكسة, شوارع تنتهي بمتاهات متشعبة, وسلالم حلزونية تفضي إلى جدران مغلقة, ونوافذ على الأرض وأبواب على السقف, طبعا سيكون الطابع العبثي فقط في قشرتها السطحية, أما الأسس والقواعد فإنها ستوضع بالطريقة التقليدية ريثما تتطور الهندسة الإلحادية."

    أغمض عينيه حتى خيل إليه أنه دخل المدينة وسار في طرقها ودخل مبانيها ورأى أهلها, فارتسمت في ذهنه صور هذه بعض ملامحها: "سيرفرف علم "ملحدستان" في كل مكان منها, إنه علم أسود تتوسطه صورة الإله الإلحادي الكاريكاتيري "وحش السباجيتي الطائر" لقد تذكر الآن أنه رأى هذه الراية في حلمه المريخي. إنه يتوسط العلم الأسود وتقطر منه قطرات من الصلصة الحمراء, ترمز إلى معاناة أهل الملة الإلحادية عبر الدهور. عند مدخل المدينة تستقبلك لوحة كبيرة كتب عليها بعدد من لغات العالم: "ارفع رأسك أيها الزميل, فأنت في ملحدستان المدينة الفاضلة." وأمامها تمثال برونزي لمخلوق خرافي له جسم تنين ذي رؤوس ثلاث, وحين تقترب منه تبدو لك الملامح القاسية لكل من الزملاء: لينين وستالين وبول بوت, فهؤلاء وإن فشلوا في إقامة ملحدستان الفاضلة بأنفسهم, فإنهم قد مهدوا لها بجهودهم الجبارة وحاولوا تشييدها على الجماجم والأشلاء. وليس يضيرهم في شيء أن جهودهم لم تكلل بالنجاح, فإن فشل التطبيق لا يعني أبدا فشل التنظير كما هو معلوم من مذهب الإلحاد بالضرورة.

    وإن قدر لك أن تهبط في المطار فستجد فيه مدرجا غريبا إهليجي الشكل, فلا تستغرب فإنه مخصص لهبوط الصحون الفضائية, وبجانبه قاعة مجهزة بكل ما يلزم لاستقبال الضيوف الخضر سكان المريخ, ففيها حمامات بخارية, وقاعات تدليك, وخبراء نفسيون وأطباء. باختصار إنها شامة في جبين وزارة السياحة في ملحدستان ومفخرة من مفاخر كرم الضيافة الإلحادية. و ستقوم وكالة ملحدستان لغزو الفضاء بالتواصل الدؤوب مع الحضارات التي تستوطن المجرات المجاورة, ترسيخا للعلاقات الكونية, وستركز على كوكب المريخ, لأن الوصول إليه هدف استراتيجي للزملاء. وربما سمي المدرج باسم القسيس "دونكي" صاحب نظرية الأصول الفضائية لهندسة المورثات البشرية.

    المدينة الفاضلة لن يحكمها الفلاسفة كما توهم أفلاطون وإن كانت ستنتهج الديمقراطية نظاما لصهر خلافات الزملاء في بوتقة واحدة. ولست أستبعد أن تفضي تجربتها السياسية إلى إفراز فريقين عظيمين يمسكان بخيوط لعبة السياسة الإلحادية: اليمين الليبرالي الدوغمائي المحافظ, واليسار السوفسطائي البراغماتي المتفتح. ومن أهم المهمات التي ستسند إلى النخبة السياسية في مدينة المستقبل صياغة الميثاق الإلحادي الذي هو دستور ملحدستان.

    ومن المؤسسات المؤثرة في ملحدستان المجلس الأعلى لتشريع وتنقيح الأخلاق السنوية, ففي المدينة الفاضلة تتطور الأخلاق باستمرار, ولا تفرض على المتنورين أخلاق بالية وقيم تقليدية بائدة, بل يقوم المجلس بصياغة أخلاق إلحادية توافقية بشكل ديمقراطي. فشعار ملحدستان سيكون: "ارفعوا رؤوسكم يا ملاحدة العالم, فأنتم تصنعون أخلاقكم بأنفسكم." وحين تستقر الخطة السنوية للسلوك المتنور سيبقى المجال رحبا أمام المواطنين للانغماس في حريتهم المقدسة التي طالما قيدتها الأديان المتحجرة والأعراف المنافقة. لن يكون هناك محرمات تذكر في ملحدستان, فالأصل في الإلحاد الإباحية القانونية. فأم القواعد القانونية فيها هي: "لا عبرة بقوانين غير مادية" فما دمت لا تسبب لغيرك أذى ماديا فأنت ملحد صالح. فليس في المدينة الفاضلة شيء يجرم الكذب أو السخرية أو الشتم مثلا, إلا إذا رافقه ضرر مادي كالصراخ ونحوه, أما الشتم الهادئ المتحضر فهو مجرد تعبير عن تفاعلات كيميائية وتجليات "أدرينالينية" قاهرة, فكيف يحاسب عليها الإنسان المتنور؟ و ستضطلع بتنظيم هذا الصنف من الشتم المؤدب مؤسسات كاملة, لتنفيس كوامن النفوس الغضبية للزملاء المتنورين, على رأسها جهزة الصحافة والإعلام بجيمع أصنافها.

    وبناء على هذه الأسس المبتكرة فلن يكون في المدينة الإلحادية شيء اسمه قضاء أو محاكم, بل ستسعى السلطات المختصة لتشييد مصحات نفسية وإقامة مختبرات متنقلة لإعادة التوازن للزملاء الذين يؤدي اضطراب تفاعلاتهم الكيميائية إلى سلوكات غير متوقعة. و سيتم علاج المنحرفين بالعقاقير الكيميائية بدلا من العقوبات التي اخترعها أصحاب الشرائع الدينية والقوانين الوضعية.

    التخطيط السكاني سيتخذ مسارا فريدا ومبتكرا حيث ستبدأ ملحدستان بتشجيع الاستنساخ حتى نخلص الزميلات تدريجيا من أعباء الحمل والولادة. وهذا سيخلص المدينة الفاضلة من معضلة اسمها "المعاقون" فلن يرى أحد النور على الأرض الموعودة إلا إذا كان يلبي الشروط الإلحادية ويستجيب للمعايير المتعارف عليها للإنسان الكامل السوي داروينيا. ومن أجل ذلك ستسخر ملحدستان كل طاقاتها العلمية لدفع عجلة التطور الدارويني, فالتطور الذي لم يتوقف قط, يمكن تسريع وتيرته وتكثيف آلياته. ومن أهم المشاريع التي ستخصص لها الميزانيات الضخمة: "مشروع تحفيز الطفرات الجينية", وهو مشروع سيقوم بتحفيز الحمض النووي لأقاربنا الداروينيين بطريقة تكفل لهم حرق المراحل التطورية والقيام بقفزات داروينية صعودا في سلم التطور. وسيحصل الزملاء النوابغ كل سنة على فرصة التباري للحصول على الجائزة العلمية المرموقة "مشط آردي الذهبي". وهي جائزة تقديرية مرموقة يحصل عليها صاحب أفضل بحث علمي حول نظرية التطور, وستعطى الأولوية لمن يعثر على الحلقات المفقودة التي حيرت الزملاء بدءا بالقسيس "دونكي".

    ستحتفل المدينة الإلحادية بعيدين عظيمين. أولهما عيد الصدف التراكمية, وهذا العيد لا يحدد له يوم ولا شهر ولا ساعة, بل يتم إجراء اقتراع سنوي ليختار المواطنون يوم الاحتفال به بالصدفة. وثانيهما عيد الانفجار الكبير, وهذا هو يوم الفرحة الإلحادية العظمى, ويوم تخليد معجزة المادة الأبهر, ودليل نبوغها الأظهر, إذ وهبتنا بانفجار عظيم كل ما نراه من نجوم وجبال وبحار وأنهار. وفي كلا العيدين ستعم الفرحة أرجاء ملحدستان السعيدة, وستوقد الألعاب النارية, وسيتبادل الزملاء أحر التهاني والتحيات حسب أرقى أعراف الأخوة الداروينية. ولن يكون في المدينة الإلحادية الفاضلة مكان للحزن خلا يوما واحدا في السنة, يقف فيه الزملاء صغارا وكبارا شيبا وشبابا صفا واحدا, ويغمضون عيونهم دقيقة كاملة صامتين خاشعين, إحياء لذكرى انقراض الديناصورات إثر كارثة طبيعية مدمرة يرجح العلماء منهم أنها نيزكية.

    لن يستسلم الزملاء في ملحدستان للحزن أبدا, ولن يركنوا لليأس قط, بل سيعلنون تحدي العدو الأكبر, إنهم سيشنون الحرب على الموت. لن تكون في مدينتهم الفاضلة مقابر البتة, بل ستقيم وزارة "التخطيط للحياة الأبدية" مسابح "نيتروجينية" تكفي المواطنين جميعهم. وستسمى هذه المسابح "قاعات انتظار" ينتظر فيها الزملاء في حاويات النيتروجين اليوم الموعود الذي سيحل فيه العلم لغز الحياة, فيحصلون على حق العودة, بدل دفنهم في التراب وتركهم عرضة للتلف و طعاما للديدان. وفي هذه المؤسسات الإنسانية الرحيمة, ستوضع تسجيلات وصور للمنتظرين, تخفيفا عن ذويهم الذين سيزورونهم باستمرار, خصوصا في عيد الصدفة التراكمية." تخيل أبو الإلحاد ذلك كله, ونظر في مؤهلاته العلمية متساءلا: "ماذا لو أقيمت ملحدستان الفاضلة غدا, فماذا أستطيع أن أقدم للزملاء يا ترى؟ ما هو الميدان الذي أميل إليه وأستطيع أن أبدع فيه؟" تثاءب حتى دمعت عيناه, وقال يحدث نفسه: "كم سيكون جميلا لو عينت سفيرا للمريخ في دولة ملحدستان." داعبت هذه الفكرة الثورية خياله, فابتسم وأغمض عينيه, وأحس بالنوم يسري في عروقه كدبيب النمل, وتمنى أن يستأنف حلمه حيث توقف ساعة ارتفاع الأذان, ولم تمض إلا لحظات حتى شرع في الشخير...
    التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 24-04-2011, 13:44.

    [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

    لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
    قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
    [/gdwl]

    تعليق

    • هشام البوزيدي
      أديب وكاتب
      • 07-03-2011
      • 391

      #32
      17 الإلحاد وعسر الهضم

      عاد أبو الإلحاد إلى بيته متأخرا ليلة من ليالي الصيف قضاها في رفقة بعض الزملاء في مقهى "صرار الليل", كانت الساعة تشير إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل. دخل شقته وهو يغالب النوم والجوع, ولا يدري بأيهما يضحي, فإنه قضى الليلة الفائتة أرقا يتقلب دون أن يكتحل بنوم, وقضى طرفا من هذه الليلة في مكان يغمره الدخان وتملؤه جلبة من لا يكفون عن الثرثرة واحتساء القهوة. وهاهو الآن يشعر بأمارات النوم فيؤثر أن يستلقي في فراشه لعله ينعم بساعات سكينة تحت سلطان الكرى. فليصبر على الجوع فذاك خير له من مدافعة النوم وهو خير غائب ينتظر. أغمض عينيه فسمع شخير زوجه كأنه صوت محرك سيارة عتيقة. عجبا, إنها لم تكن تشخر أبدا قبل ذلك. حمل لحافه وقام إلى غرفة الضيوف واستلقى على الأريكة. ما أن أغمض أجفانه حتى بدأ يسمع عزف مصارينه كأنها أوتار كمان يؤدي سيمفونية حزينة, فيئس من النوم وأزمع أن يضع حدا لتلك القرقرة في بطنه, فقام ودخل المطبخ, ففتح الثلاجة فوجدها مقفرة, ثم جعل يذرع المكان في لهفة, يبحث عن شيء يسد جوعته فلم يجد إلا رغيفا محترقا وقدرا فيها بقية من عدس في إحدى زوايا المطبخ, رفع الغطاء فارتفعت رائحة غريبة إلى خياشيمه, لم يتذكر متى أعدت نوال ذلك الطبق, أقبل يومين أم ثلاثة, لكنه لم يكترث كثيرا, فجوعه الشديد سيجعل من هذه الفضلة الحقيرة وليمة فاخرة. وضع القدر على النار وانتظر قليلا ثم رش عليها بعض البهارات, وأكثر من محبوبه الفلفل الأبيض, ثم شرع يغرف العدس ويقضم الرغيف المحترق ويمضغه بجهد بالغ, أحس معه أن عظام فكه تكاد تنخلع, وشرع يبلع الطعام ولا يكاد يسيغه, ويتبعه ماء حتى أبصر قعر القدر وامتلأت بطنه, فعاد ليستجدي النوم مرة أخرى بعدما أطفأ حرقة الجوع.

      وما أن أغمض عينيه حتى أحس أن حربا بيولوجية قد نشبت في بطنه, وأن جيوشا بكامل عددها وعتادها بدأت تصطف في مصارينه مؤذنة بزحف مزلزل, ثم بدأ القصف المكثف, لقد أصبحت بطنه مختبرا كيماويا لإنتاج أنواع متطورة من الغازات. لا بد أنه أخطأ في التهام ذلك الطعام المتغير. استولى عليه ألم فظيع كأنه ابتلع رحى من حجر الصوان, لقد خيل إليه بالفعل أن رحى تدور في أحشائه. قال في نفسه: "لقد أخطأت بتناول الطعام في هذه الساعة, لو أكلت التراب والحصى لكان أيسر للهضم من هذا العدس الذي استحال في أحشائي رصاصا, ثم كيف يأكل العاقل خبزا اسودّ من طول مقامه في الفرن, لو كنت طعمت فحما لما اختلف الحال." قام أبو الإلحاد متثاقلا, وبدأ يذرع الغرفة جيئة وإيابا, ثم بدأ يقفز لعله يحفز جهازه الهضمي ليكمل المهمة المستحيلة, لكن يبدو أن الخلطة التي أنزلها إلى معدته صارت مثل الإسمنت المسلح, ذهب إلى الحمام وغمر رأسه في الغسالة, واستقاء حتى كادت عيناه تخرجان, لكن الوجبة المتغيرة كانت أثقل من أن تقطع ذلك الطريق الطويل إلى فيه, فانقلب إلى فراشه يتوجع ويتأوه ساعة, ثم استلقى على بطنه فخف ما به شيئا يسيرا. خطر له أن الجهاز الهضمي البشري يحتاج إلى تطوير يكفل له القيام بتصحيح ذاتي لأخطاء التغذية, مثل الحماقة التي ارتكبها لتوه, كأنه لا يميز بين مطعوم ومسموم. ونبت في رأسه هذا السؤال: "لماذا يستطيع الكبد مثلا أن يخلص الجسم من كثير من السموم, ويعجز جهازي الهضمي عن التخلص من شر بعض الخبر المتفحم؟ أليس السبب الوجيه هو تفاوت الكفاءة التطورية للأعضاء البشرية؟ مرة أخرى أحصل على البرهان القاطع أن التطور يفسر كل شيء, حتى هذا المغص الذي يقطع مصاريني الآن, دليل على أن أمامنا أشواطا قادمة من الصعود في سلم التطور".

      أغمض عينيه لينغمس أكثر في تأملاته الداروينية العميقة فرأى نفسه يمشي في عالم عجيب, لقد رأى نفسه في مراحل متقدمة من التطور الدارويني للجنس البشري, رأى قبيلة متخلفة داروينيا لم تنبت لها أسنان بعد, فكان أفرادها يحيون على السوائل فقط, خصوصا أن الغدد اللعابية لم تتطور لديهم أيضا, كانت حياتهم قاسية جدا. كانوا يكادون يموتون من الغيظ لأن جيرانهم أصحاب القواطع والأضراس المتطورة يتلذذون من دونهم بأطايب الطعام, ويلتهمون لحوم الوعول البرية ويتنعمون بالطيور المشوية والبيض والفواكه الرطبة والجافة, فبدأ أفراد القبيلة العاجزة عن المضغ يعانون من قرحة المعدة لأنهم كانوا يبلعون بعض قطع اللحم لفرط قرمهم إليه. وكانوا أحيانا يطبخون اللحوم طيلة اليوم حتى تذوب تماما فيحصلون على حساء ساخن بطعم لذيذ, لكنهم كانوا يتطلعون إلى ذلك اليوم العظيم الذي يحظون فيه بقضم قطع الشواء النضيج وأصناف الأسماك الطازجة.

      تخيل أبو الإلحاد كيف بدأت هذه القبيلة تعاني من الهزال وأعراض سوء التغذية حتى خشي عليها زعيمها الانقراض. وبعد أن أخفقت كل جهوده في استنبات أسنان لأفرادها بطرق الطب التقليدية, بدأ بتشجيع التزواج بين أبناء عشيرته ذوي الابتسامة الباهتة واللثة المتورمة وبين بنات العشيرة المجاورة ذوات الثنايا الناصعة والأنياب الناتئة, لكن جميع محاولاته باءت بالفشل لأن رجال قبيلته الذين نشئوا على الحساء كانوا أضعف جسوما من أولئك النسوة المتنعمات. بل إنهم كانوا يعانون من كثير من العقد النفسية بسبب نقصهم الدارويني الفظيع, عندها شعر أبو الإلحاد بألم فظيع أعقبه انقباض شديد في عضلات بطنه ففتح عينيه, وفهم أنه نداء الطبيعة يستحثه أن أسرع, فقام مترنحا صوب الكنيف, لكن الطبيعة كانت ككل مرة أسرع منه, مر بكفه يتحسس سراويله, وخف الضغط أخيرا عن بطنه, دخل الحمام وخلع ثيابه وهو يوبخ نفسه: "في المرة القادمة ازدرد محتويات القمامة وائتدم بالفحم فلا فرق بين ذلك وما فعلت الليلة." استحم بسرعة وهو يتساءل: "لماذا لم يطور أجدادنا معدة تهضم الطعام بفاعلية أكبر؟" إذا كانت الأبقار تهضم العشب والثعابين تهضم الجرذان بدون مشاكل تذكر, فلماذا نحتاج نحن إلى كل تلك الأواني والنيران والبهارات؟" تخيل كم سيقتصد سكان الأرض لو كانت لهم أجهزة هضم متطورة داروينيا.

      قرر أن يردم هذه الفجوة العلمية في رأسه وأن يزيل عنه الأمية بخصوص تطور الجهاز الهضمي البشري ففتح حاسوبه وأبحر في رحلة استكشافية "جوجلية". أدخل هذه الكلمات في خانة البحث: "تطور الجهاز الهضمي" فلم يظفر بشيء يشفي غليله ويشبع فضوله, فعاد فكتب: "الداروينية و الجهاز الهضمي" فانصب عليه سيل من مواضيع المتدينين يتندرون على الإمام الأكبر أبي الطفرات دارون, كانت مواضيع تنم عن استهتار بالعلم وأئمته وتغمط الإمام الأكبر حقه وتتنكر لفضله وجلالته: "الأسنان تقول لك أخطأت يا دارون." , "الداروينية هي الزائدة وليست الدودية", "إنها الأنزيمات أيها التطوري". أحس بالاحباط فاندفع إلى مواقع "الجرب والجذام" فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار, لم يجد لدى الزملاء إلا ردودا طويلة لتفنيد مقالات الخصوم, لكنه لم يجد التسلسل العلمي المنشود لتطور الجهاز الهضمي البشري كما كان يرجو, تمنى لو يجد مقالة مقتضبة بعدما يئس أن يقع على بحث علمي يعرض للمسألة بالتفصيل الممل. تساءل: "أيعقل أن تكون في نظرية النظريات الإلحادية هذه الثغرة العظيمة؟ لا بد أنها مؤامرة دنيئة لتشويه الداروينية يقودها أهل الأديان وأنصار التصميم الذكي في العالم." أطفأ الحاسوب وهو يتساءل: "إذا تعذر تطوير الجهاز الهضمي عن طريق تحفيز آليات الداروينية, فما المانع من اللجوء إلى زراعة الأعضاء؟" تذكر أنه قرأ عن الخصائص المميزة لمعدة الضبع, وأنه يأكل الجيف المنتنة ولا يتأذى, بسبب أنزيماته المتطورة. فخطرت له فكرة غريبة جعلته يقهقه كالمجنون في جوف الليل, تساءل: "ماذا لو استطاع الأطباء أن يزرعوا له معدة ضبع؟ إذن لصارت تجربة المغص والإسهال الذي عاناه الليلة أمرا مستحيلا من الناحية البيولوجية!" اعترف في قرارة نفسه أن أكبر ألغاز الداروينية أن يكون الإنسان الذي يفترض أن يكون على قمة هرم التطور بطيئا ضعيف السمع والبصر والهضم إذا قيس إلى غيره من الحيوانات التي تربطه بها وشائج القربى الداروينية. لكنه استطاع رغم قصوره الجزئي عن بلوغ مبلغ الضباع في الهضم مثلا, أن يطور آليات لتدارك بعض النقص في جهازه الهضمي, منها رد الفعل الذي خلصه من ورطته الليلة, فالإسهال وصفة طبيعية سهلة أعادت الأمور في بطنه إلى نصابها.

      لكن كيف له أن يتخلص من الثغرات الفكرية ومن الشوائب غير العلمية في نظرته الإلحادية للحياة من حوله؟ إنه صار يشعر أن إلحاده أعسر هضما من الخبز المتفحم ومن العدس المتعفن. لقد مضت عليه عشرون عاما وهو يغلي في رأسه حتى أنتن, فيا ليت الطبيعة طورت له إسهالا فكريا يضطره إلى إفراغ الشحنة المسمومة لترشح عبر شقوق جمجمته لعله يستريح فيعود كما كان سعيدا متفائلا يضع رأسه على الوسادة فينام كأنه طفل.
      عاد إلى المطبخ وأعد لنفسه شاي البردقوش المحلى بالسكر, إنها وصفة أمه السحرية لعلاج انتفاخ البطن, شرع يرتشف المشروب اللذيذ ويحدق في الفنجان كأنه يقرأ شيئا, شعر كأنه بدأ يعود طفلا بريئا لم يتدنس قط بشك ولا إلحاد...


      [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

      لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
      قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
      [/gdwl]

      تعليق

      • هشام البوزيدي
        أديب وكاتب
        • 07-03-2011
        • 391

        #33
        أرجو من الإخوة في الإشراف حذف هذه المشاركة المكررة
        التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 16-06-2011, 07:27.

        [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

        لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
        قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
        [/gdwl]

        تعليق

        • هشام البوزيدي
          أديب وكاتب
          • 07-03-2011
          • 391

          #34
          أرجو من الإخوة في الإشراف حذف هذه المشاركة المكررة
          التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 16-06-2011, 07:28.

          [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

          لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
          قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
          [/gdwl]

          تعليق

          • هشام البوزيدي
            أديب وكاتب
            • 07-03-2011
            • 391

            #35
            أرجو من الإخوة في الإشراف حذف هذه المشاركة المكررة
            التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 16-06-2011, 07:29.

            [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

            لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
            قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
            [/gdwl]

            تعليق

            • هشام البوزيدي
              أديب وكاتب
              • 07-03-2011
              • 391

              #36
              18 الإنجاز في شفاء الملحد من عقدة الإعجاز


              تسلل أبو الإلحاد إلى أكبر منتديات "الجرب والجذام" خلسة, يرجو أن يجدد إلحاده وأن يزكي عناده, فقد أصبح مذبذبا يخشى على نفسه الفتنة, وغدا متحيرا لفرط ما أصابه من الزلازل الفكرية والقلاقل النفسية التي صدعت بناء معتقده, وأوهت أركان دينه, فبدا مهلهلا تخترقه الشقوق. إنه يخشى أن يصبح يوما ما من دهره عاريا, ليس له من أسمال الإلحاد ما يستر عورة عقله.

              ما فتئ صاحبنا يتعرض -منذ ألغي اشتراكه في جميع منتديات "الجهاد اللاديني الإلكتروني"- لشبهات المتدينين ومغالطات الموحدين. لقد أضحى كئيبا تتنازعه هواجس الإيمان, ويتأرجح بين الظن واليقين.
              دخل صاحبنا على صناديد الدعوة الإلحادية منكس الرأس متخفيا, بعدما كان يدخل عليهم بمعرفه الرنان "أبو إلحاد", جاءهم لعل قبسا من مذهب التنوير يلفح وجهه الحزين فينفض عنه العبوس, ويضفي عليه شيئا من طمأنينة الشك المنهجي وسكينة الخواء الفلسفي. ولكم كانت دهشته عظيمة حين وجد المنتدى العتيد مقفرا ولونه باهتا, ينقنق فيه "الضفدع الأبقع" وحيدا حزينا لا مؤنس لوحدته, لا يحفل أحد بنقنقته التي يرجعها الصدى الإلكتروني لجدران المنتدى الباهتة.

              والضفدع الأبقع ليس من البرمائيات كما يوحي بذلك اسمه, بل هو أحد الزملاء الأشاوس, وهذا معرفه, فللملاحدة ولع بالأسماء الطنانة, ويكفيك مطالعة أسماء المشتركين في ذلك المنتدى لتشعر بنفسك قد حللت ضيفا على الخنانيص الثائرة في مرزعة جورج أورويل الشهيرة. فهذا "جلجامش" الحكيم, وذاك "سوبر ملحد" السليط, وذلك "الخفاش البصير" صاحب المواضيع الرومانسية الحالمة. ومنهم أصحاب المعرفات الماسية مثل "صرصور الهصور" صاحب نظرية تطور الأخلاق الإنسانية, ومنهم الزميلة الرقيقة "ذبابة الفاكهة" التي تدحض بنشاطها الإلكتروني النظرية القائلة بأن الإلحاد العربي ظاهرة ذكورية, وغيرها من المعرفات التي تنبئك عن روح الكوميديا الإلحادية. ولا يحسبن أحد أن أبا الإلحاد يتجنى على زملائه بعدما هجروه, فتلك بالفعل نماذج من معرفاتهم, ومن ارتاب فدونه الشبكة حتى يزداد معرفة بأحوالهم.

              لم يجد لسوء حظه موضوعا جديدا يستحق القراءة. وبدا أن سوق "الزندقة الافتراضية" تعاني من آثار الأزمة العالمية, لكن شريطا في الأرشيف استوقفه بلغت مرات قراءته الآلاف للزميل "المهرطق الأكبر" أو "قبطان المستنقعات" سابقا, عنوانه: "نقض مقالات الإعجاز العلمي". بدأ يتصفح الموضوع فقرأ عن الآيات الكونية في القرآن, فمرت به المصطلحات التالية: السماوات والأرض والنجوم والأفلاك والشمس والقمر والشهب والرجوم والليل والنهار والنور والضياء والظل والحرور والفلك والرياح والماء والنبات والنمل والنحل والعسل والشفاء والبحار والأنهار والبرزخ والبحران والودق والسحاب والولادة والرضاع, تصفح العناوين يقفز من رأس الصفحة إلى ذيلها يبحث عن النقض حتى شعر بالصداع, فلم يجد نقضا للإعجاز, بل عجزا عن النقض, لقد أصابه الموضوع بالإحباط. فبدأت الخواطر تدور في رأسه: "إن كتابا ذكر هذا كله قبل ألف عام لكتاب محير بالفعل, وهذا الزميل الذي قضى كل ذلك الزمن في تجميع هذه المواضيع يستحق لقب "أبو مقص" لتفننه في أدبيات القص واللصق, فإني لم أزدد بعد اطلاعي على شذرات من ردوده إلا شكا, يا له من مخاتل يورد الآيات كأنه في سباق, ويستأصلها من السياق, ويبثها لغرض في نفسه تحيط بها علامات التعجب والاستفهام, ثم يبحث في التفسير عن غرائبه, ويغوص في اللسان عن عجائبه, ويتصيد من التاريخ عثراته, ويسكب على الإنصاف العلمي عبراته, ثم لا يأتي بشيء ينقض الإشكال الأعظم من أساسه, إنه لا يجيب الجواب الجامع الفصل المفحم عن السؤال الذي يصرخ في رأسي الساعة: "من أين لقوم بدو أميين في صحراء قاحلة هذه المعارف أصلا؟" يا له من مدلس ماكر, يورد على مقالة الخصم إشكالات لغوية ومنطقية وأنتربولجية وسوسيولوجية وسايكولوجية وجيولوجية وبيولوجية لكنه يحيد عن النظر إلى جوهر المشكلة: "لماذا تحتوي هذه النصوص على مضمون علمي لا صلة له بالواقع التاريخي الذي تنتمي إليه؟" لماذا لم يجب "المهرطق الأكبر" عن هذا السؤال رغم أنه قضى سنوات يدعي فيه نقض فكرة الإعجاز العلمي؟" ما أشبه الزميل ببغل الطاحون, يدور ويدور, وعند تمام كل دورة تتاح له فرصة النظر في عين المسألة مباشرة, لكنه لا يلمسها ولا يناقشها, لأنه لا يتوقف عن الدوران, لقد أصبتني بالدوار أيها الزميل المهذار," بدأ يقلب الصحائف, فازداد تخبطا وتحيرا: "هاهو الزميل الصنديد تتقطع به السبل وتعييه الحيل فيدعي أن تلك المعارف منتحلة من كتب الإغريق. ويستدل لذلك بموسوعة "الويكيبديا"! يا له من مصدر علمي عريق كأنه إبريق ملقى على قارعة الطريق! ومن أدراني أنه هو نفسه من ألف مقالات تلك الموسوعة "العلمية" أيضا؟"

              قرأ أبو الإلحاد عشرات الصفحات فوجد الكاتب يطير به من الجزيرة العربية إلى اليونان عبر بابل ثم يعرج به على معابد فارس ثم يحط الرحال عند الفراعنة. لكن يبدو أن جميع محتويات المتاحف العالمية من ألواح ونقوش وأوراق بردي لن تفلح في إخفاء عجزه الفاضح عن الإجابة عن لب الإشكال: "عزيزي المشعوذ الأكبر, متى تنوي أن تجيب عن السؤال الذي يقطع دابر النزاع: من أين لكتاب ديني عتيق هذا المضمون العلمي الذي ذهبت كل تلك المذاهب في دحضه وما أراك أفلحت؟ متى تجيب أيها الزميل بما يشفي عقل الملحد الزنديق ويقطع وساوس اللاأدري المتحير ويذهب شكوك اللاديني المضطرب؟ لكم تمنى لو كان يستطيع المشاركة ليطرح عليه السؤال: "كيف السبيل لشفاء الملحد العليل من عقدة إعجاز التنزيل؟"

              هاهو "المهرطق الأكبر" يسعى في نقض دعوى الخصوم موافقة كتابهم لأحدث العلوم في وصفه لمراحل تكون الجنين, فهل قال المشعوذ الأكبر إن كلامهم هراء, والعلم منه براء, كلا إن المأفون يقر لهم بمطابقة ما جاء في كتابهم لحقائق علم الأجنة, ثم يستطرد لينسب الفضل في تلك العلوم إلى أبوقراط, ويرمي المسلمين بالاقتباس من متفلسفة الإغريق. يا للفضيحة, إنه يستشهد بأبوقراط الذي يظن أن لحمه وعظمه وجسمه نشأ من تجلط دم الحيض. وأين ذكر التجلط في كلام الخصم؟ إن الذي سيتجلط قريبا هو الدم الذي يفور داخل جمجمتي تحت وطأة غباء هذا المشعبذ المغرور." لقد تأكد أبو الإلحاد مرة أخرى من صدق شعاره الذي اتخذه لنفسه منذ سنوات: "ليس كافيا أن تمتلك إلحادا جيدا، بل المهم أن تستخدمه جيدا." وهذا الزميل جيد الإلحاد متينه, ولو شئت لشبهته بأناكوندا مكتنزة اللحم موفورة الشحم شديدة السم, وإنما شبهته بالأناكوندا لقدرته على الزحف والالتفاف, لكنه للأسف لا يجيد استخدام إلحاده, فهاهو يؤلف موضوعا يصيب من لا يحصون من الزملاء في مقتل. يقرؤون ثم يشكون ثم يتساءلون ثم ينتكسون فيكون وزر ذلك عليه, فيصيب بنيان مذهب التنوير ثلم لا ينجبر, فضلا عن تكثيره لسواد المتدينين وشقه لصفوف الملحدين.

              وصل إلى الصفحة الخمسين فلم تكن خيبته بها أقل منها بسابقاتها, هاهو الزميل يتهم الخصوم بلي أعناق النصوص, وهبهم فعلوا فتلك نصوصهم, وياليته اكتفى بذلك فاستوى الفريقان في مقدار اللي ودرجته وموضوعه, لكن العلامة المهرطق تعدى ذلك إلى لي عنق التاريخ والجغرافيا والمنطق واللغة والطب, إن الأبعد لم يترك علما إلا لوى عنقه وهشم عظامه ليستقيم له ما أراده.

              افتتح أبو الإلحاد صفحة جديدة في مدونته و طفق يتساءل عن سر استماتة الزملاء في التقليل من شأن الدلالات العلمية لنصوص الخصوم الدينية, فترجح لديه أن ذلك يرجع إلى أمرين. أولهما أنهم يمتعضون أشد الامتعاض من تطفل المتدينين على ميدان هم فرسانه, وعلى مضمار هم حملة أعلامه, إنهم دون سواهم أصحاب العقول الراجحة والفهوم الثاقبة والعلوم الباهرة, فكيف يجرؤ معمم أن يدنو من حمى العلم المادي وهو لم يتحرر بعد من الإيمان الغيبي؟ لا ريب أن هذا هو السبب الأول.

              أما الثاني فهو ما يعانيه هو نفسه, إنه الشك الذي يأكل خلايا مخه, ويحفر فيها السؤال المخيف: "ماذا لو كنت مخطئا؟" إنه يتساءل الآن حين تجتمع كل هذه المادة الدينية أمام ناظريه: "ماذا لو كان هذا بالفعل كلام من خلق هذه الأكوان وسير أفلاكها وكور أرضها وشق أنهارها وأجرى بحارها؟" إنه الإشكال الذي تمنى أنه يلقى البروفيسور "دونكي" ليسمع منه شخصيا الجواب الكافي عنه, فلعله يصف له -لتبحره وسعة إلحاده- الدواء الشافي الذي يحل عقدة الإعجاز العلمي عند ملاحدة العرب الإنترنيتيين.

              لكنه سيكتفي الآن بوضع رؤوس أقلام بحسب ما تجود به قريحته يلخص فيها رؤيته لحل هذه المعضلة العويصة. كتب صاحبنا ما يلي:

              "لا يشك متنور عربي اليوم أن الزملاء يعانون بدرجات متفاوتة من عقدة شديدة يمكن وصفها ب"متلازمة أعراض الإعجاز" اختصارا "معجز". فهم في الجملة يفضلون في جدالهم للمسلمين لزوم الجعجعة الفلسفية والبقبقة الكلامية حيث تكثر فرص الانسحابات التكتيكية تحت غطاء أساليب الاستدلال السوفسطائية الماكرة, لكن الخصوم درجوا في العقود الأخيرة على ذم الكلام وأهله وابتدعوا في دينهم بدعة انتحال نتائج البحوث العلمية بعد إخضاعها لعلمية إعادة تقييم منظمة, بآليات تأويلية تضفي عليها صفة الإعجازية. وحسب تقديري للوضع الراهن, فإن محاولاتنا لثني الموحدين عن هذه المسالك المبتكرة الماكرة, بالتشويه والسخرية قد باءت بفشل ذريع. ويجب أن نقر بأننا نعاني مشكلة بل عقدة حقيقية هي "عقدة الإعجاز العلمي". وسأبدأ في بلورة تصور أولي لسبل التغلب على تغلغل متلازمة "معجز" في الأوساط الإلحادية العربية.

              ورأيي أن نشرع في تبني خطة من شقين لإعادة التوازن إلى الصراع التاريخي الجاري بين مذهب النور ومذهب الظلام. شق دفاعي وآخر هجومي. وهذه أبرز بنودها:

              1. تتلخص الخطة الهجومية في التالي: يبدأ الملاحدة بالاتفاق على كتاب إلحادي معجز, فيضعون له نظرية إعجازية إلحادية متكاملة, ويتحدون المتدينين أن يأتوا بمثل ذلك الكتاب, وبهذا نكون قد بدأنا المعركة. ومن الكتب المقترحة: "كتاب أصل الأنواع" لإمام المذهب دارون و "كتاب صانع الساعات الأعمى" للبروفيسور المجدد "دونكي".

              2. نقوم بصياغة تصور شامل عن إعجاز الصدفة التراكمية التي لا تنقطع عن الابداع. فبها ولد النظام من رحم "اللانظام" وبها خرجت القوانين من شرنقة الفوضى.

              3. نقوم باختيار بقعة تكون مركز الإلحاد العالمي وكعبته ونقترح أنها مركز العالم, وأقترح أن تكون جزر جالاباجوس لقيمتها الروحية البالغة لدى الملاحدة.

              4. أما الشق الدفاعي الذي سنسعى من ورائه لدحض دعاوى الإعجاز العلمي التي يلوح بها الخصوم فأيسر السبل المقترحة أن نقوم بنسبة كل معلومة علمية في كتب المتدينين توافق العلم الحديث إلى الكائنات الفضائية التي ألقت في الأرض شيفرتنا الجينية كما هو مشهور في مذهب القسيس "دونكي" في أحد قوليه. فالربط بين معارف أرضية وبين حضارة فضائية تفسير له وجاهته من الناحية العلمية إذا قيس بالتفسيرات الميتافيزيقية الغيبية. ولا يضيرنا أن تكون حقيقة هذا الأمر غائبة عن إدراكنا في الزمن الراهن, لأن الغيب غيبان كما هو مقرر في مذهب الإلحاد, "غيب ميتافيزيقي عتيق" و"غيب علمي مستقبلي". وهنا مربط الفرس الذي سنمتطيه في حملتنا لبيان وسائل شفاء الملحد من عقدة الإعجاز, ويبقى للزملاء أن يعلفوه ويسرجوه ويجلبوا به على حصون العلم ليخلصوها من تطفل المتدينين." ختم أبو الإلحاد تأملاته بهذه الجملة الشاعرية, قرأها مرات فتملكه الإعجاب, وتنهد وهو يحدث نفسه: "آه لو يعلم الزملاء أي فتى أضاعوا بإلغاء عضويتي في منتدياتهم, سيعرفونني حين يهتز إلحادهم, وفي الضحوة البيضاء يفتقد الليل...

              [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

              لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
              قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
              [/gdwl]

              تعليق

              • هشام البوزيدي
                أديب وكاتب
                • 07-03-2011
                • 391

                #37
                19 أبو الإلحاد في بلاد العجائب


                حل الربيع فاكتست الطبيعة أزهى الحلل, أبو الإلحاد ملحد رومانسي يجل الطبيعة أيما إجلال, وهو لا يتحدث عن أخطائها وعيوبها إلا لإفحام المؤمنين, لكنه في قرارة نفسه متيم بها معجب أيما إعجاب. خرج ليقضي يوم عطلته الأسبوعية في إحدى المنتزهات العامة. أخذ صاحبنا مكانه على بساط العشب الأخضر يلتحف السماء ويتملى فيها كأنها البحر الخضم في زرقته وبهائه. وفجأة حطت على أنفه دعسوقة فاكتملت فرحته فهي أحب الحشرات إليه, فاجتهد أن يسكن كيلا تطير, نظر إليها وقال في نفسه: "إني أغبطك أيتها الدعسوقة الحمراء الزاهية, فلو علمت كم أعاني من تطور هذه الخلايا الرمادية في جمجمتي لعلمت أنك أسعد مني وأحسن حالا..."
                "آه يا دعسوقتي الحمراء المبرقشة, أنت تطيرين في خفة ورشاقة وأنا أدب على الأرض أنوء بهمي, فيا ليت لي حياتك فإني قد شارفت الجنون." عندها أحس بدغدغة في أنفه, واجتهد أن يتمالك نفسه كيلا يعطس, لكن الأمر كان أكبر منه, ارتج المكان بصوت عطاسه وطارت الدعسوقة واعتدل أبو الإلحاد جالسا ونظر حواليه متفكرا: "ما الذي ينقصني كي أكون سعيدا؟ كل ما حولي ينطق بالجمال, فلم تنخرني التعاسة؟" تساءل في نفسه: "ما سبب سعادة الدعسوقة وهي أدنى مني في سلم التطور؟" طفق يتأمل الناس حتى وقع في نفسه أن سر السعادة يكمن في بناء مجتمع على غرار المجتمع الدعسوقي, فهو مجتمع متفتح كما توحي بذلك ألوانه النضرة, وهو مجتمع لا يعاني من الفكر الخرافي, لأنه لا يعاني الفكر أصلا, إنه مجتمع يستحق الدراسة بحق. إنه يحلم بيوم ينطلق فيه المجتمع البشري نحو السعادة فيرفرف بأجنحة العلم في فضاء التنوير. تأمل الفرق الشاسع بين الخنفساء السوداء البغيضة إلى قلبه وبين الدعسوقة ذات الألوان الزاهية, وتساءل: "لماذا أخفقت الخنافس السوداء في تطوير التفاعلات الكيميائية المناسبة لتلتحق برفيقاتها الحمراء الفاتنة؟ بدأ يقرأ مقالا حول مراحل تطور الحمير, قرأ فيه أن آخر الأبحاث ترجح أن الحمير طورت الحوافر حتى تتغلب على عدو لدود في فترة متأخرة من الزمن الكمبري. يقول البروفيسور هانس إيزل إن نوعا من القنافذ البدائية كان يملأ الموطن الأصلي لأسلاف الحمر الموجودة اليوم, وينغص عيشها, فقد كان يتخفى بين الأعشاب بأشواكه المدببة التي كانت في صلابة الفولاذ, فكانت تخترق قوائم أسلاف الحمر البائدة وتنفد أحيانا إلى مخ سوقها. وبعد معاناة دامت أجيالا متعاقبة منكوبة, يتعرض عدد كبير منها إلى العاهات وبتر الأطراف, اكتشفت بعض الحمير المتفوقة داروينيا آليات الانتخاب الطبيعي, فقامت -بطريقة لا تزال مجهولة لنا- بتيبيس أطراف قوائمها, مما أدى إلى ظهور الحوافر. وقامت بتوريث هذه الأحذية العملية إلى الأجيال اللاحقة. أما الحمير التي لم تستوعب ضرورات المرحلة فإنها انقرضت غير مأسوف عليها بعدما عاشت عرجاء مشوهة.

                قرأ كذلك عن سر جلود الحمر الوحشية المخططة. لقد سره كثيرا أن يقرأ أنها كانت تتعرض باستمرار لأشعة الشمس المحرقة, فكانت تلوذ في فترة الظهيرة بظلال الأشجار, فكانت الأجزاء التي تتسلل إليها أشعة الشمس -عبر الأغصان التي قامت الزرافات بتعريتها من أوراقها- تتحول تدريجيا من السمرة إلى السواد, والأخرى المظللة تبيض شيئا فشيئا حتى اكتست الحمر الوحشية بتلك الحلل الزاهية التي نراها اليوم. إن الحمر المخططة تدين بجلودها الجذابة إلى ولع أسلافها بالحفاظ على القيلولة اليومية. أما الحمر الأهلية التي التحقت بالإنسان في الحقول والبيادر, فإنها حافظت على جلودها الأصلية, لأنها حظيت بظروف عازلة للحرارة في الزرائب المسقوفة. صاحب المقال يؤكد أن هذا التطور استغرق ملايين السنين. تفكر أبو الإلحاد في هذه النقطة المحورية, واستغرب من استصغار المتدينين للقدرات الخلاقة التي يتحلى بها الزمن واستخفافهم بآليات الانتخاب الطبيعي والنتائج التراكمية للصدفة العلمية. بالنسبة له فالقضية محسومة لكنها لسوء حظ المتدينين لا تفهم إلا من داخل شرنقة الإلحاد الضيقة. تذكر حين رد على متدين في إحدى مناظراته قائلا: "عزيزي, أنتم تؤمنون بالخلق, وتعتقدون أن الكون وما يعج به من أشكال الحياة خرج للوجود طفرة واحدة, وهذا أمر عجيب, ثم إنكم تنكرون نظرية التطور وهي أرقى ما توصل إليه العقل البشري, إنها تدرس في أرقى جامعات العالم, وأنا أقول لك: أعطني قليلا من الهليوم وشيئا من الهيدروجين و قدرا معقولا من الطاقة وأعطني كثيرا من الوقت لتختمر هذه المكونات المادية في أتون الصدفة التراكمية التي تقوم بعملية انتخاب طبيعي مستمرة, وسترى أن نشأة الكون مسألة مفهومة نسبيا, كل ما هنالك أنها تحتاج لبلايين السنين, لذا يا عزيزي لن يكون هنا أحد حتى يشهد على عبقرية وإعجاز الطبيعة." غاص أبو الإلحاد في تأملاته الداروينية وأغمض عينيه لتنفتح صفحة عالمه الداخلي العجيب.

                وصل إلى مرج خصيب تنعكس أشعة الشمس على صفحته اليانعة, فتتلألأ الأزهار الملونة كأنها مصابيح كاشفة, أحس بالتعب, فسار إلى جدول قريب وانتصب على أربع وكرع كالدابة ماء لم يعرف لمذاقه مثيلا, بحث عن ظل فرأى تلا بارزا قرمزي اللون تظلله الأشجار, عجب للونه ثم صعد إليه وجلس يستغرب مما يراه. ندم أنه لم يأخذ معه الكاميرا, إن جزر جالاباجوس تبدو بالقياس إلى هذا المكان كالصحراء القاحلة, نظر حوله فرأى مخلوقات غريبة, رأى حيوانا نصفه دب ونصفه حوت, لا بد أنه الدب اللبيب الذي ذكره أبو الطفرات دارون, ذلك الدب الألمعي الذي فطن للمخزون الاستراتيجي الهائل الذي تتمتع به المحيطات, فقرر القيام بعملية تحول داروينية بطيئة ومعقدة, ترى هل كان يعلم أننا نعيش فوق كوكب أزرق تغمره المياه إلا قليلا, فترجح لديه أن الماء خير من الطين؟ لست أدري لكنه هناك ما أجمله, إن لوحات سالفادور دالي تبدو باهتة تافهة كخربشات الأطفال قياسا إلى هاته التحفة الداروينية اليتيمة.

                رأى مخلوقا غريبا يشبه الغزال ويفوقه حجما يعدو بأقصى سرعة ليفر من سبع ضار له رأس أسد وجسم ضبع, فقفز الغزال الضخم ولم ينتبه إلا و عنقه معلق بين أغصان شجرة ملتفة الفروع فظل هكذا متدليا يتأرجح, حتى يئس المطارد من الطريدة, فانسل خائبا حزينا, حينها شرع الحيوان الغريب يتأرجح يمنة ويسرة, وبدأ عنقه يتمدد حتى صار ثلاثة أضعاف حجمه, ثم احتال حتى خلص نفسه. الآن تبين أبو الإلحاد هذا الصنف, إنها زرافة, "لقد أخطأت يا عم دارون, إن عنقها تطور فطال, لكن الأمر بخلاف ما توهمت, يا ليتني حملت معي ما أصور به هذه الاكتشافات العلمية الباهرة."

                بدأ يسير فوق ذلك التل القرمزي ويتأمل محيطه العجيب, فكان يرى كل مرة عجائب تفوق قدرته على التخيل, وبينما هو كذلك شاردا متفكرا إذ أحس بالأرض تهتز تحت أقدامه فجثا على أربع مستمسكا بذلك العشب الذي لم ير للونه مثيلا, ثم شعر أن التل يعدو به في سرعة هائلة, ثم أبصر أمامه رأسا عظيمة تهتز, حينها كاد يغشى عليه, إنه انطلق لتوه في جولة سياحية أسطورية على متن تورياساوروس عملاق, حاول أن ينظر أسفل منه فأصيب بالدوار, خيل إليه أنه يطل من الطابق الثاني من العمارة التي يسكنها, لا مجال لمغادرة هذا المركب الهائج, فليستمسك بأقصى قوته. مضت ساعة والديناصور الضخم يقطع به الأرض, لم يتصور أن دابة بهذا الحجم تقوى على العدو بهذه السرعة, كان يرفع بصره في كل مرة فيرى أغصان الأشجار كأنها رماح مصوبة إلى رأسه, فيخفيه مرة أخرى في وبر المركب القرمزي. وفجأة بدت له جبال شاهقة, تتخللها الشقوق والمغارات, فخطر بباله أنه يوشك أن يصبح وجبة عشاء دسمة دافئة لصغار التورياساوروس, إن الديناصور يعدو بالفعل كأنه سائق أحد مطاعم البيتزا يحاذر أن تبرد بضاعته. شعر بالرعب الشديد, فهو لا يريد مثل هذه الموتة, صحيح أنه فكر مرات كثيرة بالانتحار, لكن تصوره للديناصورات الصغيرة تحيط به وتقضم أطرافه بأسنانها الحادة جعله ينتفض في مكانه جزعا. فهو يريد أن يموت يوم يموت موتة رحيمة.

                التفت حوله وجرظ بريقه وودّ لو أنه كان مؤمنا فيستغيث بإله يدعوه ويتضرع إليه لينجيه, لكن الإلحاد حرمه من الإيمان بإله لا يدرك بالحس, لكنه في ورطة, وقد بان ضعفه واشتدت فاقته, إنه لم ير إلها حقيقيا يعتد به الزملاء المتنورون سوى "وحش السباجيتي الطائر" فاستجمع قلبه وأغمض عينيه وانبطح على بطنه ودعا بصوت خافت منكسر: "مولاي وعدتي, عبدك المتنور لم يبق له سواك, سيدي وحش السباجيتي الطائر, انقطعت حيلتي وظهر لك فقري, فأدركني..." حين فتح عينيه لم يصدق أن وحش السباجيتي جاء بالفعل يحلق في هيبة يكاد يسد الأفق بأجنحته البيضاء, إن الزملاء كانوا على حق, اقترب منه حتى كاد يلمسه, وظن أن الفرج قد جاءه, ومد يده ليتعلق بإله المتنورين ليطير به بعيدا عن فكي هذا الوحش الكاسر. لكن الديناصور لم يعبأ به, بل فتح فاه كأنه يتثاءب فخرج منه دخان كثيف كريه الريح, فشرع وحش السباجيتي يذوب كأنه قطعة زبدة فوق المقلاة, وبدأت أطرافه تساقط كأنها قطع من عجين, تذكر أبو الإلحاد آلهة اليونان التي كان يقاتل بعضها بعضا كما تتقاتل الوحوش الكاسرة, وشعر بالصدمة لعجزه وعجز إلهه المعجون, ماذا يفعل الآن هل يدعو الديناصور ويتضرع إليه بعدما قهر إلهه الإلحادي؟ عندها أحس بنفسه كأنه يسبح في بركة من ماء, لقد عرق كأنه ملاكم في الجولة الأخيرة, بعدما قضى زمان كابوسه على ظهر ديناصور عداء, لقد عاد أبو الإلحاد من رحلة إلى العصور الغابرة, تجول فيها بين الأشجار الغريبة الباسقة, ورأى الحشرات والطيور والحيوانات قبل أن تتطور, لقد ازداد يقينا بصدق نظرية التطور, وفهم صدق العلماء المتنورين في تأكيدهم أن الإنسان لم يعاصر الديناصورات أبدا, لقد استيقن ذلك, فمن من البشر يطيق جوار تلك الشياطين العملاقة؟ بدأ تنفس صاحبنا ينتظم وبدأت أفكاره تهدأ فاعتدل قائما, نظر حوله في المتنزه فلم ير أحدا, كانت الشمس توشك على المغيب, فمضى إلى بيته يجر أقدامه...

                [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                [/gdwl]

                تعليق

                • هشام البوزيدي
                  أديب وكاتب
                  • 07-03-2011
                  • 391

                  #38
                  20 أبو الإلحاد ولغز الأحافير


                  مضت على أبي الإلحاد شهور متطاولة يتردد فيها بين البيت والعمل والمقهى حتى أحس بالملل ينهش كيانه, صارت أيامه متشابهة رتيبة ولياليه طويلة كئيبة. فكان يقضي ساعات فراغه في شرود يلفه دخان السجائر وتظلله هموم حياته البائسة. وعند عودته من العمل في ذلك اليوم ماشيا شعر كأنه يغرق في بحر من الإسمنت والزجاج, كان الهواء ملوثا والمنظر كالحا, فوقع في نفسه أن سبب تعاسته هو ضيقه بحياة المدينة ورتابتها. لا شك أن هذا الاكتظاظ الفظيع وهذا الجو الخانق ينغص عليه عيشه, فليهرب إذن من هذا الفخ القاتل ليلوذ بأمه الطبيعة, وينشد شيئا من السكينة في أحضانها الخضراء. قطع طريقه إلى بيته على وقع هذه الخواطر فأحس أن نفحة من الأمل قد هبت عليه فجأة, ثم انتعشت نفسه حين ذكر أن اليومين القادمين يوما عطلة, أسرع في مشيته وهو يتخيل كيف سيقضي يومين كاملين خارج هذه المتاهة الإسمنتية التي يدعونها مدينة.

                  فتح الباب وهو ينادي زوجه أم الإلحاد: "نوال, نوال, ما رأيك أن نمضي أيام العطلة خارج المدينة؟" التفتت إليه في استغراب وهي تقول: "إن كنت ستحجز لنا غرفة في فندق مريح فلا مانع لدي..." قاطعها قائلا: "إنما أريد أن نتخلص من هذه الجدران الخانقة يوما أو يومين, ننصب لنا خيمة في الغابة أو على الشاطئ." أجابته في حزم: "إذن فلتسمتع بالنوم في العراء وحدك, تصبح على خير" على وقع هذه الكلمات بدأ صاحبنا يتخيل خلوته بنفسه في مكان هادئ لا يصم فيه هدير السيارات الآذان ولا تزكم غازاتها الأنوف, لكن إلى أين يذهب يا ترى؟ ما أن راوده هذا السؤال حتى ارتسمت في ذهنه صورة فاتنة من الزمن البعيد زمن الطفولة الحالمة. سيذهب إلى هناك, سيعود إلى مراتع الطفولة الأولى وسيعانق ذكريات الصبا الجميلة. حينها بدأ أبو الإلحاد يجمع أغراضه, حمل كل ما يحتاجه المرء لقضاء بعض الوقت خارج غابات العمران الإسمنتي الكئيبة, حمل خيمة ولحافا وآلة تصوير ومصباحا يدويا وهيأ زاده ثم استسلم للنوم وهو يمني النفس بنزهة تجم العقل والجسد وتنفض عنه الكلال والملال.

                  استيقظ في اليوم التالي نشيطا على غير عادته, كاد يقفز طربا حين رأى حقيبته بجانب السرير, أحس بالطفل فيه يستحثه أن أسرع, تخيل مبلغ فرحته كلما اصطحبه أبوه في نزهة أيام الربيع. كانت ذكرى تلك الأيام البعيدة تدغدغ وجدانه وهو يحتسي فنجان القهوة ولم تزل تراوده وهو يستقل الحافلة التي ستحمله إلى هناك, إلى حيث السكينة والهناء.

                  بدأت المركبة تقطع الطريق الساحلية المتموجة كأنها نهر أسود يجري بمحاذاة اليم الأزرق المهيب, نظر إلى المياه المتلألئة مليا حتى خيل إليه أن الحافلة تمخر عبابها, غاص في شروده ساعة ثم انتفض فجأة حين شعر أنه يكاد يجاوز وجهته, حمل حقيبته وطلب من السائق التوقف.

                  بدأ يخطو تجاه الجبل موليا الشاطئ دبره, سار كأنه يقفو آثار طفولته, توقف عند شجرة أكاليبتوس باسقة, تذكر كيف كان يتبارى مع أخيه الأصغر في تسلق أغصانها, مشى ساعة حتى بلغ منه الجهد, لكنه وصل إلى بغيته, مرج فسيح تحيط به الجبال من جهات ثلاث, إنه يذكر هذا المكان جيدا, لقد جاء مع والديه وأخيه ههنا عشرات المرات. نصب خيمته الصغيرة ورتب أغراضه وهو يترنم بهذه الكلمات:

                  هيئ الزاد واقصد الغابة
                  واعزف على أوتار الربابة
                  أنشودة بلحن الربيع
                  بها أحيا الفتى شبابه

                  يبدو أن الطبيعة تلهمه, فهو لم يسمع هذه الكلمات إلا الساعة حين انطبعت في ذهنه فجأة, من يدري ربما ألف ديوانا كاملا لو أمضى وقتا كافيا في هذا الجو الشاعري الساحر. استلقى برهة على بساط العشب الأخضر يتأمل قبة السماء, فألفاها زرقاء لا تخالطها نقطة من بياض ولا ترى في أرجائها قزعة. هب من مكانه ثم سار شمالا صوب الجبل, كان يمشي في خفة حتى أبصر بغيته, تبدت المغارة في سفح الجبل, كان أبوه يمنعه من الاقتراب من هذا المكان خوفا عليه, لكنه علم من أصدقائه أنها تنتهي في الجهة المقابلة بعين ماء كأنها اللجين الأبيض. أخرج مصباحه ودخل وهو يترنم بكلماته التي أوحى له بها جمال المكان:
                  هيئ الزاد واقصد الغابة...

                  ما أن دخل المغارة المنشودة حتى أبصر شيئا غريبا على الأرض, اقترب والمصباح في يده, فرأى جسما صلبا يعلوه التراب, حمله بيده ونفض عنه شيئا من الغبار, فجحظت عيناه, إنها تبدو كأنها متحجرة, هذه رأس طير, هذا منقاره المعقوف, هاته جناحاه, لكن أي شيء هذا, كانت مؤخرة جسمه أشبه بالثعبان, تسارعت دقات قلب صاحبنا, وتساءل في قرارة نفسه: "هل وجد لتوه شكلا وسيطا من أشكال الحياة, هل يمسك بيده دليل التطور الدامغ؟ لكن الأحافير تكون منطبعة على حجارة, ربما تكون هذه المغارة قد حفظت هذا الحيوان العجيب بطريقة أخرى, تخيل أبو الإلحاد الضجة الاعلامية التي سيثيرها اكتشافه الباهر, يا ترى كيف سيسمي العلماء هذا الحيوان الفريد؟ لكن أليس من حقه أن يسميه هو نفسه؟ إنه مكتشفه فليبادر باختيار اسم علمي قبل أن تسلط عليه الأضواء الكاشفة فيسبقه إلى ذلك الشرف غيره, إنه يشبه التنين فليسمه "تنيناريوس". الآن سيتوسل إليه الزملاء أن يعود إلى منتديات "الجرب والجذام", ربما يلتقى البروفيسور "دونكي" شخصيا, ربما ينال حظا من الشهرة, من يدري قد يحصل على جائزة تقديرية على اكتشافه الفريد. ماذا لو ادعى أنه يمارس هواية جمع الأحافير منذ زمن؟ هذا كله لا يهم الآن, يجب أن يؤجل التفكير في تلك التفاصيل ريثما ينتهي من نزهته الممتعة. وضع "التنيناريوس" بحذر في جرابه, ثم واصل طريقه.

                  مشى بعض ساعة كأنه في دهليز بارد ثم بدا كأنه يضيق عليه شيئا فشيئا, التفت خلفه فلم يعد يرى النور المنبعث من مدخل المغارة, يبدو أنه نفق طويل, أحس بشيء من القلق, لكنه أزمع أن يتم ما شرع فيه, خطا خطوات وهو يصيخ السمع لعله يسمع خرير الماء, لكنه لم يسمع إلا صوت زفيره, وفجأة أطبق عليه ظلام دامس, تبا لقد نفدت البطارية وتعطل مصباحه, كيف لم يفكر في أخذ بطاريات جديدة؟ ماذا يصنع الآن؟ هل يستمر أم يرجع؟ استجمع أبو الإلحاد قوته وعزم أن يحقق حلم طفولته, لن يرجع حتى يسبح في تلك العين الصافية ويشرب من ماءها, بدأ يمشي في حذر وهو يمد يديه كالأعمى يتحسس بهما سبيله, كان جبينه يتصبب عرقا, مشى خطوات وخيل إليه أنه يسمع خرير الماء, لا بد أنه اقترب من المنبع, ما أن خطر هذا بباله حتى سمع هديرا مدويا, إنه صوت الرعد القاصف, يا للهول إنها عاصفة, ماذا يصنع؟ هذا النفق المظلم قد ضاق به حتى اضطره إلى أن يمشى منحنيا كيلا يؤذي رأسه, أحس بالدوار, لا بد أنه في طريقه إلى الاختناق, شعر بالرعب يكتنفه, استدار وعزم أن يعود أدراجه, يبدو أن حلمه الطفولي لاستكشاف هذا المكان العجيب لن يتحقق اليوم, مضى في ذلك النفق كهيئة الراكع يخبط خبط عشواء, يصطدم تارة بالجدار وأخرى بالسقف, تمنى لو كان يمتلك شمعة أو عود ثقاب, إنه يغرق في ظلام دامس ساعة الضحى, لكن ماذا تجديه الشمس وقد زج بنفسه في هذا النفق المظلم, كم كان والده حكيما إذ منعه طوال سنين من الاقتراب من هذا المكان المخيف, فجأة أبصر نورا خاطفا, إنه البرق, خيل إليه أنه وصل إلى مفترق طريقين, عجبا إنه لا يذكر إلا نفقا واحدا, فكيف تفرع إلى اثنين, تحسس بيديه ليتأكد من أن عينيه لم تخدعاه, حينها أضاء البرق مرة أخرى فتأكد أنه دخل متاهة محيرة, فقرر أن يسلك أحد النفقين, مشى قليلا وهو يرتعش من الخوف, تمنى لو أن البرق يضيء أطول من ذلك, لكن من أين ينفذ ضوءه, لم يتبين ذلك, لكنه استمر في مشيه حين أحس بالماء يملأ حذائه, تسمرت قدماه في الأرض من الفزع, إن المطر لن يلبث أن يملأ هذا النفق الكريه, يجب أن يسرع إنه يخشى أن يغدو هذا الكهف الموحش قبرا له, إنه يوشك أن يقضي غرقا, عندها أضاء البرق من خلفه, فقرر أن المخرج لا بد أن يكون وراءه, مشى قليلا وهو يخوض في الماء إلى كعبيه, حين أضاء البرق مرة أخرى وجد نفسه حيث بدأ عند مفترق النفقين فاختار ثانيهما ومشى يجر رجليه وهو يتمنى لو ينقذه أحد مما هو فيه, ويتمنى لو كان يؤمن بإله غير وحش السباجيتي العاجز فيدعوه, لكن ماذا يصنع؟ لقد أطفأ الإلحاد شعلة الإيمان في قلبه, عنّ له أن الإلحاد يشبه هذا النفق المظلم, كلما توغل فيه المرء ازداد ضيقا وضنكا, وأعجب شيء فيه أن يدعوه الزملاء مذهب التنوير! وكل ما يمني به الملاحدة أنفسهم لا يعدو أن يكون سرابا خادعا, كما يمني أبو الإلحاد النفس في هاته المتاهة بعين ماء لا دليل على وجودها إلا حكاية أطفال مروا من هنا قبل عشرات السنين, إن هذا النفق صورة للحياة التعيسة التي يحياها صاحبنا في واقع الأمر. سمع صوت الماء يجري من خلفه ثم أحس بنفسه يُدفع دفعا, كاد يسقط لكنه تماسك, ماذا لو كان الماء يدفعه إلى حتفه في هذه المتاهة القاتلة؟ ماذا لو كان طوفان هادر في طريقه إليه ليسحقه سحقا؟ أسرع الخطو رغم أنه كان يرتطم بجدران النفق في كل مرة, ولم يشعر بنفسه إلا وهو يسبح في النفق, والماء يكاد يغمره, كان يستسمك رغم هلعه الشديد بجرابه خوفا على اكتشافه الثمين أن يضيع, خطر بباله أن قيمة "التنيناريوس" العلمية أهم من حياته, فليجتهد إذن في البقاء حيا حرصا على إطلاع الجنس البشري على هذا الكشف العلمي المثير, وبعد دقائق كاد قلبه فيها أن يخرج من صدره أبصر النور أخيرا, لقد لفظه الكهف كأنه لوح من خشب, لم يصدق أنه نجا بأعجوبة من هلاك محقق.

                  هاهوذا منبطحا على بطنه منهك القوى مبتلا جائعا يرتعش من البرد, لكنه حي معافى, وهذا ليس كل شيء, إنه يحمل في جرابه "التنيناريوس" دليل التطور وبرهان الداروينية الدامغ, إنه سيلقم المتدينين شرقا وغربا الحجر بهذا الكشف التاريخي, لكن يجب أن يخرج غنيمته النفيسة من هذا الجراب المبتل بسرعة. حين فتح الجراب كان ممتلئا ماء كأنه ركوة, فتحه وشرع يسكب منه الماء في حذر ودقات قلبه تتسارع خوفا على أمل الداروينية ومستقبل الملة الإلحادية أحفورة "التنيناريوس الطائر " , لكنه حين أدخل يده في الجراب أمسك شيئا لزجا وأخرجه ببطء وحذر شديدين, ثم ما لبث أن قفز من مكانه فزعا, إنه ثعبان, نظر إليه متعجبا, يا للحسرة, لقد انخدع ببعض الطمي والطين اليابس, إنه ثعبان ابتلع بومة وكانت نهايتهما على هاته الصورة الغريبة, ثم غمرا بالطين حتى وطئت أقدام أبي الإلحاد هذا المكان, هذا كل شيء, لم يكن يحتاج "التنيناريوس" الوهمي إلا لبعض الماء ليكشف عن حقيقته. لقد كانت تلك "الحلقة المفقودة" حلما جميلا سرعان ما تلاشى من الوجود كما تتلاشى فقاعة الصابون, شعر أبو الإلحاد بالحسرة والمهانة, لكن إيمانه بالداروينية لم يتزعزع قيد أنملة, لأن غياب الحلقات المفقودة لا يعني عدم وجودها, إنها هناك في مكان ما, لكن لماذا لم يفلح أحد في اكتشاف شيء منها؟ ربما لأن الكائنات الفضائية قد جمعتها من الأرض لدراسة الحياة الأرضية تمهيدا لاستيطان الكوكب الأزرق؟ قفل أبو الإلحاد راجعا ليستقل الحافلة بعد هذا اليوم المرعب, وخطر له أنه ما زال يدين "للتنيناريوس" بشيء من الفضل, إنه استمسك بالحياة بسببه, واجتهد أن يبقى صامدا خدمة للداروينية الركن الأعظم لملة الإلحاد المعاصر, مضى صاحبنا في طريقه يقطر ماء ويترنم بكلماته المتفائلة:
                  هيئ الزاد واقصد الغابة
                  واعزف على أوتار الربابة
                  أنشودة بلحن الربيع
                  بها أحيا الفتى شبابه
                  التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 25-06-2011, 16:59.

                  [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                  لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                  قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                  [/gdwl]

                  تعليق

                  • هشام البوزيدي
                    أديب وكاتب
                    • 07-03-2011
                    • 391

                    #39
                    21 أبو رقاقة العدمي


                    دخل أبو الإلحاد موقعا إسلاميا يتصفح مناظرات زملائه المتنورين وغزواتهم الإلكترونية لإفحام المؤمنين, فبدا له نتوء رقمي غريب في جسم المنتدى, نظف زجاج نظارته ثم نظر إليه بعينين فاحصتين ليتبين حقيقته, وليعلم أي نوع من الأورام الإلكترونية هو, فإنها أضحت أنواعا منوعة تتفاوت خطورتها وإن تشابهت أعراضها, وقد أدى بعضها إلى إصابة بعض المواقع بأعراض الترهل الرقمي. إننا في زمان ازدهرت فيه فصيلة "المجوجلين الأشاوس" وتعددت تكتيكاتهم الماكرة وأساليبهم الملتوية التي تتراوح بين "القص واللصق" و "التعميم والتعويم" و"الغمر والإغراق".

                    إنه موضوع آخر أدركته أعراض "التضخم الرقمي" وهذه آفة يعرفها من خبر عالم المنتديات, كان الموضوع ينمو باستمرار كأنه مخلوق خرافي أصابه خلل هرموني, فصار يتمدد مثل الفقاعة حتى كاد يحجب المنتدى في ظله. قرأ العنوان: "هل حقا نعيش على الأرض؟" لكاتبه "طيفور". طار ببصره يتحسس لغة الموضوع لعله يلمح مفاتيح تكشف شخصية الكاتب, لم يطل به الأمر, إنه الزميل "تأبط كفرا" هذا أسلوبه, إنه هو لا شك في ذلك.

                    إن أعضاء هذا المنتدى في ورطة حقيقية, ترى هل يعلمون كم هي "مسرطنة" مواضيع الزميل العنيد؟ إنه يثير زوابع كلامية لا تنتهي في مواقع الزملاء, فكيف به إذا حل بساحة الخصوم؟ هذه عباراته: "ميتافيزيقا الخواء وهندسة العدم المتماوج, الجهل بما كان هنالك يفضي إلى الحيرة والضبابية حول ما نحن فيه ههنا." لقد فضحه توقيعه الذي تشعرك قراءته بالصداع النصفي: "الدليل المنطقي مسارات فكرية متماوجة خارجة عن إطار كينونة ما يستدل عليه به, تجتاح مسالك يُعبّدها الجهد العقلاني المسكون بهواجس التنوير"

                    يبدو أنه يقتات على نوع من المعلبات الإلحادية, وإلا فمن أين يأتي بهذه المفرقعات اللفظية الغريبة. فلأتصفح موضوعه قليلا: "هل حقا نعيش على الأرض؟" الأحرى أن تسأل: "هل يعيش"تأبط كفرا" على الأرض؟" و لست أدري أيها الزميل, لعلك تعيش على كوكب بلوتو, ولعلنا نحتاج لمترجم من الكائنات الفضائية ليفك لنا "شيفرة" مواضيعك الغريبة.

                    كتب "طيفور" التالي: "أيها الزملاء أنتم تزعمون أن الحياة فترة اختبار يعقبها الجزاء في حياة أخرى, وأصدقكم القول أن التأمل في هذا التفسير الديني للوجود الإنساني يكاد يحملني إليكم ويدنيني من قناعاتكم, لولا أن قريحتي المتوقدة كشفت عن ثغرة عميقة في بينانكم الإعتقادي, إذ رصدت أن الحجة لن تقوم على الإنسان حتى يثبت للأرض وجود حقيقي خارجي. فالكون المرصود يضم بلايين المجرات فضلا عن كوكب الأرض, لكن رصده لا ينفي احتمالا طفيفا بأن وجوده وجود ذهني لا حقيقي, فهل الأرض مجرد انعكاس لبرنامج مذهل تمليه علينا شريحة متطورة؟ فلو كان تصوركم للحكمة من وجود الإنسان الراصد هي ما زعمتم, فلماذا لا يُخلق في دار الجزاء ابتداء, وتزرع في دماغه شريحة تملي عليه ذكريات حياة حافلة عاشها على الكوكب الأزرق, بالنسبة للإنسان لن يتغير شيء, فهو في دار الخلود, وبذلك اكتملت دائرة الوجود فيما تعتقدون, وتمت الحكمة التي حولها تدندنون." ألقى الزميل بهذه الكومة اللفظية في قسم الحوارات الفكرية وجلس يفرك يديه ينتظر أن تفعل فعلها. ولم يلبث أن جاءه جواب وثان وثالث أن الإفتراضات بحر لا ساحل له وأن الخيالات و الأوهام رؤوس أموال المفاليس.

                    حين قرأ صاحبنا الردود المتسرعة ألقى بسؤاله الذي كان يترقب هذه الفرصة ليطرحه: "أيها الزملاء, إن جيء بي في الآخرة للحساب كما تعتقدون, فسأنفي أني عشت في الدنيا, وسأعترض بأني كنت سجين برنامج ماكر تبثه رقاقة إلكترونية في دماغي." جلس أبو الإلحاد فاغرا فاه أمام شاشة الحاسوب وهو لا يكاد يصدق جنون افتراضات زميله الملحد, حقا إن بين الذكاء والغباء حرفين لا ثالث لهما, وماذا يجدي عقل مثل هذا حتى تنفعه شريحة؟ هل يريد الزميل أن يقتصد النفقات الكونية حين ينفي وجود الكون برمته, ويجعله انعكاسا حقيرا لشريحة صينية رخيصة في رأسه؟ إن الزميل يعكس أزمة الإلحاد العربي المعاصر, والغريب أنه يحسب أنه أحكم لتوه بناء فلسفيا متينا, ليته يدري أنه يقعي عاريا في العراء الإلكتروني. ليتني ألتقيه يوما لأهمس في أذنه هذه الكلمات: "عزيزي, توقف عن مشاهدة برامج الكرتون اليابانية, أما يكفيك أن الشيب قد غزا رأسك؟ انظر إلى نفسك وإلى مبلغ فهمك, إنك لا تكاد تميز بين الإنسان وبين البوكيمون." لكن كيف ألوم الزميل أبا رقاقة و البروفيسور "دونكي" على علو كعبه في الإلحاد وتبحره في العلوم يؤمن بالمخلوقات المريخية الخضراء مهندسة الحمض النووي البشري؟

                    إن الزميل المشاكس يستحق بالفعل اسم أبي رقاقة العدمي, فهذا الموضوع الذي يكاد المنتدى ينوء بكلكله أشبه شيء بالعدم, إنه رحى إلكترونية ضخمة تدور من غير طائل, إنه ثمرة عقل تعصف فيه رياح عاتية تثيرها طواحين الأهواء المضطربة. لقد سمع أبو رقاقة الجواب منذ أسابيع, لكن شريحته تأبى عليه أن يرى العالم من حوله, إنه سجين في عالم وهمي اخترعه لنفسه. بلغ الموضوع عشرات الصحائف, وصاحبنا لا يزال يدندن حول سؤاله الأسطوري: "هل حقا نعيش على الأرض؟", لم تزل الشمس بين شروق وغروب, ولم تزل الأرض تدور, وأبو رقاقة على ظهرها لا يتزحزح قيد أنملة ولا يقر طرفة عين أنه قد مل هو نفسه من ريح سفسطته العدمية. إنه يريد أن يخرج من هذه الجعجعة الإلكترونية ظافرا منتصرا, ليحمل أخبار غزوته المجيدة إلى رفاق "الجرب والجذام", ليخبرهم كيف اصطف له المتدينون صفا متراصا, فقارعهم وحيدا فريدا حتى أفحمهم, وياليته يدرك أنه إنما يقارع طواحين أوهامه الرعناء.

                    جلس أبو الإلحاد يرتب أفكاره, ويخط رؤوس أقلام بقلم لاأدريته يصور بها حالة الغيبوبة السريرية التي دخلها الفكر الإلحادي العربي, فكتب: "يبدو أن الإلحاد العربي في نسخته الإفتراضية قد دخل سردابا مهلكا يوشك أن تقضي ظلماته على حلم التنوير اللاديني في منطقتنا, ويلاحظ أن كتابات الزملاء الأشاوس تصدر في بنيتها المعقدة عن ميكانيزمات الجهل المؤسس على قواعد افتراضية متينة تتغلغل في أعماق التساؤلات الإلحادية المفعمة بحب السفسطة والتطلع إلى المعدوم. ويظل نفي هذا الجهل بتحصيل العلوم المادية الباهرة ثم نقلها من الوجود الذهني والرقمي إلى الوجود الحقيقي, هو التحدي الأكبر الذي يقف أمامه الفكر الإلحادي العربي حيران مترددا. هذه هي العتبة المقدسة التي يعكف عندها عتاة ملاحدة الشبكة ويلزمونها متهيبين, لأنها تبدو كقمة إيفرست..." قرأ أبو الإلحاد هذه الكلمات فكاد يصعق, لقد أصابه أبو رقاقة بعدوى أسلوبه الكرتوني, ألقى بالورقة في سلة المهملات وهو يتساءل لأي شيء يتحسر على طرده من مواقع الزملاء؟

                    [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                    لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                    قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                    [/gdwl]

                    تعليق

                    • هشام البوزيدي
                      أديب وكاتب
                      • 07-03-2011
                      • 391

                      #40
                      22 من أدب الطفولة الإلحادية

                      منذ أن شاع خبر إلحاده بين خواصه و أقاربه قبيل سنوات وصاحبنا منزو في ركنه, منطو على نفسه, يزحف على الأرض شريدا, ويلوذ بالشبكة وحيدا, يتحاشى الزيارات العائلية ويختلق الأعذار المتنوعة ليتملص من بعض الدعوات التي ما تزال تأتيه بين الفينة والأخرى, لكن أبا الإلحاد لم يجد بدا من الاستجابة لدعوة أخيه الأصغر هذه المرة. لقد فاجأه سفيان حين طرق عليه الباب ثم قال له: "إني أنتظرك في السيارة, لا تتأخر الجميع ينتظرونك للعشاء."

                      هاهوذا في غرفة الضيوف يتصنع ابتسامة باهتة ويطرق ببصره كيلا يتورط في حديث لا يدري إلى أين يفضي به كمن يحاذر دخول النهر كيلا يجرفه التيار, مضى بعض الوقت في تبادل عبارات التحية والمجاملات المعتادة حين ارتفع الأذان فجأة, فتهيأ الحضور لأداء الصلاة, حينها أخرج أبو الإلحاد هاتفه النقال كأنه تلقى لتوه اتصالا وأومأ للجمع معتذرا ثم خرج واختفى بعض ساعة ريثما يفرغ القوم من صلاتهم. حين عاد إلى مكانه جاءه بن أخيه وليد وجلس إزاءه ينظر إليه في فضول, لقد كبر بسرعة, إنه الآن في الثامنة من عمره, ابتسم أبو الإلحاد حين سأله الطفل فجأة: " لماذا لا تصلي يا عمي؟ الذي لا يصلي يدخل النار!", نظر إليه والدهشة تملأ عينيه, وسكت للحظة خيل إليه أنها دهر, وأطرق كأنه يغوص في نفسه عن جواب ينهي هذا الوضع المحرج ثم قال: "ما زلت صغيرا, سأجيبك عندما تكبر قليلا." قال وليد: "لقد كبرت بما يكفي, سمعت خالي أحمد يقول عنك (ملحد), إيش معنى (ملحد) يا عمي؟" نظر أبو الإلحاد حوله وشعر كأن الأرض تخسف من تحته, وماذا عساه يقول؟ إنه لا يعلم لوجوده ولا لإلحاده معنى, فمن أين له الجواب الذي يملأ عقل طفل؟ قال له: "أحضر لي كوب ماء رجاء." حين شرع أبو الإلحاد يشرب ويتمنى أن ينسى الصبي أسئلته قال له مستغربا: "تشرب بالشمال يا عم, الشيطان فقط هو الذي يأكل ويشرب بشماله." كاد صاحبنا يغص بالماء, نظر حوله وقد امتلأ ندما على حضوره في هذا المكان.

                      مضت بقية الليلة في أحاديث متناثرة لا يضمها رابط إلا الولع بالضوضاء والرهبة من الصمت, ولم تنقطع هذه الأحاديث إلا قليلا حين حضر الطعام. وما أن رفعت مائدة العشاء حتى اعتذر صاحبنا ثم انصرف لا يلوي على شيء. ظلت الأسئلة الطفولية تطارده, فقطع طريقه متفكرا في جناية المتدينين على أبنائهم, وحملهم لفلذات أكبادهم على اقتفاء آثارهم واتباع معتقداتهم. تساءل عن سر غربة الإلحاد وغرابته, وعن ذلته ومهانته. ثم خطر له أمر طالما أرقه: - هل من سبيل إلى تربية الأطفال تربية إلحادية عميقة تستسيغها عقولهم وتعصمهم من الإيمان الذي يتشربونه - فيما يبدو - بلا تكلف كما تتشرب الأرض العطشى ماء السماء؟

                      لم يزل أبو الإلحاد يقلب وجوه الرأي ويتفكر في سبل تخليص أهل الصبا والطفولة من والوهم والخرافة . فخطر له أن يكتب بقلم الإلحاد قصة لطيفة تشرح قصة الحياة والكون بلغة أدبية تفهمها عقول الأطفال الصغيرة وتمنحهم تذكرة الولوج إلى عالم الإلحاد العجيب في سن مبكرة. إنه يريدها قصة رمزية خفيفة الهضم يسيرة الفهم يقرؤها المتنورون لأبنائهم منذ نعومة أظفارهم, ليرضعوا لبان الإلحاد وليتخيلوا مبادئه التنويرية.

                      دخل أبو الإلحاد بيته وهو يفكر ويقدر, ويقدم ويؤخر, ويهمهم ويغمغم, ويحاذر أن تضيع أفكاره قبل أن يقيدها بقيد الكتابة, فكم من فكرة باهرة هجرته وولت إلى غير رجعة. سارع إلى غرفته, كأن هاتفا يملي عليه أفكاره, ويستحثه أن يتخير لها أحسن لفظ وأبلغ عبارة, فجلس إلى حاسوبه في غاية التركيز, وافتتح صفحة جديدة في مدونته وكتب العنوان التالي:

                      سلسلة من أدب الطفولة الإلحادية - (1) قصة الحياة:

                      (أيها الصبيان)
                      كان يا ما كان, ما كان زمان ولا مكان..
                      ما كان شيء ولا فيء, لا غبار ولا حجر, لا سهل ولا جبل..
                      كان يا ما كان, ظلام في ظلام, وخواء في خواء, لم يكن هناك حتى هواء..
                      لكن كل شيء كان على وشك أن يتغير إلى الأبد..
                      فكيف كانت البداية أيها الصبيان؟

                      (في البدء كانت الصدفة)

                      والصدفة أمرها عجيب, فلا شكل لها ولا لون ولا سمع ولا بصر..
                      الصدفة شيء عجيب لا نسمعه ولا نراه, لكنا نرى فعله وأثره..
                      لو سألنا حكماء الإلحاد, الذين غاصوا في بحور العلوم وطغوا في البلاد..
                      وانسلخوا من الأديان وخلعوا لباس الإيمان..
                      لقالوا: إن الكون انبثق من العدم والظلام صدفة.. فكان بعد أن لم يكن..
                      ساد الظلام زمانا مديدا و صمت الكون إذ لم يكن ثمة كون..
                      وصمت كل شيء إذ لم يكن ثمة من شيء..
                      فكيف يجيء شيء من لا شيء؟
                      يجيء صدفة كما قال حكماء الإلحاد..
                      صمت الكون الذي لم يكن, وصمت اللاشيء, لكن الصدفة بقيت تتحين الفرص..
                      فهي صدفة تواقة, صبورة خلاقة, إنها لن تستريح حتى يكون كون..

                      (الإنفجار الكبير)

                      وحين جاء يوم سعد الصدفة الأكبر..
                      أبصرت في ثنايا اللاشيء شيئا عجيبا مشعا..
                      فزحفت نحوه يملأ جنباتها الفضول والعجب..
                      اجتهدت أن تصف ذلك الشيء المشع المبهر فلم يكن لها بوصفه طاقة..
                      فأسمته حينذاك (طاقة), فبادرتها الصدفة بالسؤال: - أيتها الطاقة أين الهوية والبطاقة؟
                      حينها انفجرت الطاقة من الغيظ وانبعثت منها غازات غريبة, بمحض الصدفة..
                      فكان (انفجار عظيم), ورجة هائلة وفجأة كانت هناك سماء وأرض, طول وعرض, أعراض وأجرام..
                      نور وظلام, ماء وهواء, أنهار وبحار, كواكب ونجوم, شمس وقمر..
                      كذا قال أساطين الإلحاد الذين غاصوا في بحور العلوم وطغوا في البلاد..
                      وكانت الصدفة مستلقية على بطنها فاعتدلت جالسة, ثم تبسمت وقالت:
                      الآن لدي كون, لدي زمان ومكان, وها قد جاء يومي..
                      اهتزت الصدفة وانتفضت ثم أخرجت فجأة حجر نرد وصارت ترميه فيتدحرج, وتتأمل وتتفرج..
                      وتجرب وتراكم, وكل ذلك صدفة, فالصدفة لا تبحث عن شيء وليس لها غرض ولا غاية..
                      لكنها لا تكل ولا تمل, كما لا يمل حجر النرد؟ كذا قال أساطين الإلحاد..

                      (المعجزة الكبرى: أحادية الخلية)

                      وفجأة اجتمعت ذرات متناثرة بمحض الصدفة في بقعة خالية, فشرعت ترتعش من الوحدة..
                      فقالت لها الصدفة أنت أيتها الفاتنة البهية, أنت أحادية الخلية..
                      زحفت الخلية إلى الماء, فصارت الصدفة ترمي بها بدل حجر النرد..
                      ومع كل رمية تتشكل في هيئة أخرى, فطورا تزحف وطورا تسبح, وطورا تعلو وطورا تهبط..
                      فهتفت الصدفة في حماس ارتجت له أرجاء العالم الإلحادي: تطور... تطور... لدينا تطور..

                      (التطور)

                      لم تزل الخلية تسبح وتنمو وتتمدد حتى نبتت لها زعانف, وحين شعرت أنها تكاد تذوب في الماء..
                      منحتها الصدفة حراشف سميكة, فانسلت في رشاقة, فقالت لها الصدفة أنت سمكة..
                      ولم تزل تسبح حتى خشيت عليها الصدفة من الوحدة, فما زالت ترمي حجر النرد حتى صارت السمكة تبيض..
                      وسرعان ما غدا لها نسل وذرية, وبمحض الصدفة كان منهم ذكور وإناث..
                      وفي يوم من الأيام جرف التيار بعض الأسماك إلى الشاطئ, فمات معظمها اختناقا..
                      لكن بعضها ظل يزحف في حذر حتى نبتت له أطراف فمضى إلى الأدغال..
                      ولم تزل الأحياء تزحف وتدب في تطور ترقبه عين الصدفة الحانية, حتى قام بعضها على رجلين, وصار يتسلق الأشجار ويلتقط الثمار..
                      إنهم أسلافكم من النسانيس والقرود التي تقتات على الحشائش والفواكه والورود..
                      عاش أولئك الأسلاف المثابرون حياة الوحوش حتى اكتشف بعضهم النار وسكن الكهوف..
                      وتساقط شعرهم فلبسوا الثياب وبدأت إذذاك مسيرة الحضارة..
                      لكنها مسيرة بطيئة.. بطيئة جدا..

                      (الجينوم البشري ذو الأصل الفضائي)

                      ثم حصل شيء عجيب رواه بعض أساطين الإلحاد الذين طغوا في البلاد, إذ حط يوما من الزمن الغابر صحن فضائي على الأرض, فخرج منه كائن أخضر اللون ضخم الرأس أصلع منتفخ البطن فأخرج قارورة فأفرغ محتواها في إحدى مغارات القرود, وألقى بالقاروة الفارغة وعليها الحروف التالية (ج ي ن و م). ومنذ ذلك الحادث الغريب وتلك القرود لا تتوقف عن التطور السريع حتى بلغت من الحضارة ما نراه في أنفسنا اليوم..

                      فأولئك أيها الصبيان الأعزاء أسلافنا الأولون وأباؤنا الأقدمون, وجدنا الأكبر مجرد خلية بسيطة, انبثقت في عالم نشأ صدفة..
                      فالفضل في مذهب الإلحاد كل الفضل للصدفة التراكمية وللمخلوقات الفضائية..
                      ولعلكم تتساءلون: - ومن أين جاء الفضائيون؟ وهذا سؤال ليس له بعد من جواب في مذهب الإلحاد, وإن كان له جواب في أفلام الكرتون, ونحن نتطلع إلى يوم نعثر فيه بالصدفة على حل هذا اللغز...

                      عندها انقطع التيار الكهربائي , فكاد يغشى على صاحبنا, فإنه نسي في غمرة حماسته أن يحفظ الملف, لقد ذهب جهده العقلي سدى, يا لها من صدفة حمقاء, إنه لا ينسى مثل هذا عادة, أخذ مصباحا يدويا واتجه إلى سريره وهو يتساءل: - كم من هذه الدرر النفيسة سيبقى في ذاكرته حين يستيقظ في اليوم التالي؟

                      [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                      لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                      قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                      [/gdwl]

                      تعليق

                      • هشام البوزيدي
                        أديب وكاتب
                        • 07-03-2011
                        • 391

                        #41

                        23 شرنقة الإلحاد

                        أبحر أبو الإلحاد ليلة على أمواج الشبكة الإلكترونية متنقلا بين المنتديات والمواقع المختلفة, شعر أنه يكاد يغرق في بحر من الصور والكلمات والأرقام والخيالات. كان يقرأ مقالات المؤمنين تارة, وردود الملحدين تارة أخرى, فيظل مذبذبا متأرجحا بين الآراء المتباينة, والأحاسيس المتضاربة, أغمض عينيه وأخفى وجهه بين كفيه حين تصور أن ملايين النقط التي تشكل هذا العالم الافتراضي العجيب تهجم عليه كأنها أسراب مرعبة من الزنابير السامة, وخيل إليه أنه يحس بوخزها في سائر أنحاء جسمه وخاصة في عينيه. أطفأ الحاسوب وأشعل سيجارة. أخذ نفسا عميقا ثم تساءل عن مذهب الإلحاد وكنهه, وعن وروده وشوكه, وعن لبه وقشره وعن تخبطه وشكه. تمثلت له الصورة الفاتنة التي يرسمها الزملاء لمذهبهم حين يحاجون المتدينين, إنك إن تسمع لأقاويلهم لتحسب الإلحاد جنة وارفة الظلال طيبة الهواء واسعة الأرجاء يحيا فيها المتنورون حياة هنيئة طيبة تهب عليهم فيها نسائم الطمأنينة واليقين الإلحادي, فيرفعون رؤوسهم في فخر واعتزاز ليلتقطوا في كل حين ثمرات التنوير الدانية, في بيئة اجتثت منها رواسب الخرافة وغرست فيها أغراس العلم وارتفعت صروح الحضارة. يا لها من صورة مغرية يسيل لها لعاب من اكتفى من الإلحاد بما يدعيه أهله, أما من خبره واكتوى بشواظ ناره المحرقة كما اكتوى أبو الإلحاد فإنه يعلم أن هذه صورة لا تصلح إلا للدعاية ولمجادلة الخصوم.

                        ما أشبه صنيع الزملاء في تزويق ملتهم العوجاء وتنميق مذهبهم الأعرج بصنيع الشيوعيين في دولتهم البائسة البائدة. لقد أقام البلاشفة للبروليتاريا جحيما مرعبا وأحاطوه بالأسوار العالية الملونة, ثم طفقوا يرسمون صورة خيالية لجنة يحبر فيها مجتمع فريد تخلص من رواسب الرجعية والطبقية وانعتق من كل القيود المادية والمعنوية, لقد أحكم الزملاء آنذاك حبك خديعتهم حتى انطلت على طائفة من عقلاء العالم, فحسبوا نار الدولة الحمراء ماء عذبا فراتا.

                        تساءل صاحبنا عن أعظم ما يقض مضجعه حين يضطر للدفاع عن مذهبه, فوقع في نفسه أنه افتقاره دوما للخروج من قوقعة الإلحاد الضيقة ليستعير من قاموس الخصوم وأفكارهم ما يستعين به في الرد عليهم, إن الإلحاد يضيق عليه كلما أراد أن يناظر خصما في أصول الأخلاق وقيم العدالة والخير والشر والمسؤولية والجزاء. إنه يبدأ خيانته للمذهب الإلحادي عادة بهذه الجملة الماكرة: "لنسلم جدلا أيها الزميل المؤمن,على سبيل التنزل..." إنه يعلم أنه ليس تنزلا ولا جدلا, لكنه العجز الفاضح عن تفسير العالم تفسيرا ماديا محضا.

                        إنه يشعر بالصداع النصفي حين يضطر ليستعمل مصطلحات ملوثة ميتافيزيقيا في جداله لأهل الإيمان, إنه يشعر بنفسه عاريا حين يتحدث عن الضمير الإنساني وعن الفضيلة والرذيلة وعن السلوك الأخلاقي. إن الإلحاد لا يرى في الكون إلا فضاء ماديا تسبح فيه مادة صماء تحكمها قوانين مادية صارمة, و لا يرى أبدا وجودا لشيء غير مادي أبدا, وإن وجد شيء من ذلك في تفكيره, وهو الملحد الجلد فإنما هو من رواسب الأفكار الرجعية, فكيف لم يستطع بعد كل تلك السنوات الخدّاعات أن يخلص إلحاده من تلك الشوائب المزعجة؟

                        إنها سلسلة طويلة من المسائل التي تحير الفكر المادي كأنها من طينة أخرى غير طينته. لكن بينها شيئا مشتركا, إنها محاولة لترجمة العالم المادي إلى لغة غير لغته, إنها أحكام يصدرها العقل الإنساني الذي لم يتحرر بعد من رواسب المعتقدات الدينية, بعد أن يعرض وقائع العالم المادي وتفاعلاته الدقيقة على ميزان آخر, له مقاييس أخرى غير مقاييس المختبر. إنه ميزان لا يقيس الحجم والكثافة والحرارة وغيرها من الخصائص الفيزيائية للمادة, بل يسعى للحكم عليها من جهة الخير والشر والعدل والظلم والحق والباطل والصلاح والفساد. إنها منظومة متكاملة من الأحكام الميتافيزيقية الفضفاضة التي يتوهم المتدينون قدرتها على كبح جماح العالم المادي بقوته القاهرة وحتميته الباهرة. لا يهمني كثيرا أن يبقى المتدينون أسرى أوهام الأخلاق والخير والعدالة, الذي يحيرني أني ما أبرح أستقي من ذات المعين الذي يغرفون منه هذا الفكر الأسطوري, وأنني لا أقوى على التبرؤ الكامل منه. فهل أستطيع أن أنفي أني أشعر بمعنى العدل والظلم وبحقيقة الخير والشر؟ إني أرى مثلا أن الحكم على نتائج تفاعلات العالم المادي بمعيار العدل والظلم يعد في حد ذاته ظلما للمادة, يا للمفارقة, إني أسعى لإلغاء سطوة هذه المقاييس الغريبة فأجد نفسي في كل مرة واقعا في فخها متخبطا في شباكها!

                        إني كلما جادلت متدينا وبارزته في حزم وشجاعة كما يليق بفرسان الإلحاد الصناديد, وحملت عليه بسيف التسفيه أبغي نسف بنيان معتقده, كلما تمنيت ألا يفتح علي باب هذه المتاهة العجيبة. إن أخشى ما أخشاه إن انتقدت على الخصم اختياراته وقناعاته أن يجيبني: "وأي شيء يضيرك فيما أراه وأقوله وأختاره أيها الزميل الملحد, أليس كل شيء محكوما بقوانين مادية دقيقة؟ فما وجه الإنكار أصلا؟ "كتلة مادية لها تفاعلات إلحادية تنكر على كتلة مادية لها تفاعلات إيمانية", قل لي أيها الزميل, بأي قوانين مادية استطعت أن تحكم على تفاعلاتي بالبطلان والفساد, بل من أين جئت بحكم البطلان والفساد أصلا؟"

                        حينها أخرج مكرها من بيت الإلحاد البارد إلى العراء الفسيح, حيث تلفحني شمس الميتافيزيقا, وتعصف بي رياح الأفكار المثالية المهلهلة, لكم أشعر بالمهانة حين أضطر للإستعارة من قاموس الإفتراض, وأقترض من لغة الإعتقاد, إني أكاد أظن حينذاك أن الإلحاد مشرف على الإنقراض. وما للمادة والإفتراض؟ إن المادة لا تفترض شيئا, إنها لا تقف قط في مفترق طرق حائرة متفكرة, تحك جبينها متساءلة: "أيجدر بي أن أمشي يمينا, أم أن الأولى أن آخذ ذات الشمال؟" هل تصورتم أن الذرات والإلكترونات تهبط إلى هذا الحضيض من الترف الفكري الميتافيزيقي؟ إن هذا لغو وهراء لا تعرفه المادة وأنا مادة, فمن أين جاءني هذا السلوك العجيب؟

                        تظل هذه الأسئلة القاتلة تهجم على رأسى كأنها مطارق مدببة, كالتي استعملها محاربوا الشمال في العصور المظلمة, إلى أن أيأس من الحصول على جواب, فأعود ذليلا صاغرا إلى بيت الإلحاد المتهالك, لعله يهبني شيئا من الدفء والسكينة. لكن هيهات.
                        إني يرقة إلحادية يتيمة تأوي إلى شرنقة ضيقة, شرنقة الإلحاد, إني يرقة تتوق أن تصير يوما فراشة مضيئة تسهم في تنوير مجتمع لا أرى فيه إلا الظلام ولا أرى أهله إلا كالهوام, لكني كلما أردت أن أنشر أجنحتي فأطير مبشرا بملة التنوير, كلما شعرت أني أنا من يتخبط في الظلام. إني لا أغادر الشرنقة إلا لأكتشف أن العالم خارج خيوطها المتشابكة أرحب وأوسع. أجادل غيري باسم الإلحاد وأهاجمه بلسان من أمسك بناصية المعرفة وتمكن من زمام العلم, فما يلبث الهجوم أن يرتد إلي, فلا أجد مناصا من طرح الإلحاد وماديته وصرامته وحتميته خلف ظهري, لأتطفل على ميزان الخير وجماله والشر وقبحه والعدل وتناسقه والظلم وتناقضه, ثم أعود بعد هذا كله إلى شرنقتي المتهالكة, التي تتمزق في كل مرة أنسل من بين خيوطها المتشابكة وفي كل كرة أعود فيها إلى تلافيفها الضيقة, إنها صارت مع مرور الليالي والأيام أوهى من بيت العنكبوت. إني أحيا حياة النفاق, إني أعاني أعراض انفصام الشخصية.

                        تساءل صاحبنا في نفسه: "ما دمت أرى هذا كله فما الذي يبقيني مستمسكا بالإلحاد؟" حينها طرق رأسه سؤال: "وهل تظن أن كل أولئك العباقرة الأفذاذ كانوا على باطل؟" ضبط نفسه مرة أخرى يستعير من غير قاموس المادة, وهل تعرف المادل "التساؤل" و"الظن" و"البطلان"؟ ويئس أن يصل الليلة إلى مخرج من متاهته المظلمة فوضع رأسه على مكتبه وقد غلبه الإجهاد, ولم يشعر بنفسه إلا وهو يغط في نوم عميق.



                        [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                        لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                        قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                        [/gdwl]

                        تعليق

                        • لينا الحسن
                          أديب وكاتب
                          • 11-03-2011
                          • 114

                          #42
                          أسلوب ساخر مركب بعض الشيء والنصوص أيضاً طويلة ولكنها مصقولة ...

                          تشرفت بالمكوث ساعتين في متصفحك .. شكرا لك سيدي

                          تعليق

                          • هشام البوزيدي
                            أديب وكاتب
                            • 07-03-2011
                            • 391

                            #43
                            شكرا لمرورك ولقراءتك النقدية, ومرحبا بك في كل حين على صفحات هذه اليوميات.


                            [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                            لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                            قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                            [/gdwl]

                            تعليق

                            • هشام البوزيدي
                              أديب وكاتب
                              • 07-03-2011
                              • 391

                              #44
                              24 هلوسات إلحادية

                              استيقظ أبو الإلحاد ورأسه لا تزال متورمة من فرط تأملاته حول ضنك الإلحاد وخزيه وتهافت بنيانه وضيق شرنقته. أحس أن عِرقا هائجا ينبض في جمجمته. قضى يومه شاردا عابسا متفكرا. ولما عاد من عمله آخر اليوم, أتى مكتبته فأخذ يتصفح كتاب "إفحام أهل الملل والأديان". لقد هوى به هذا الكتاب منذ قرأه قبل سنوات إلى قعر مستنقع الإلحاد, وجلّى له كثيرا من الحقائق التنويرية التي ما تزال توجه دفة حياته البئيسة. نظر في الفهرس وهو يمني النفس أن يجد شيئا يدفع عنه الحيرة والإضطراب الذي استحوذ عليه منذ فترة, فخطر له أن يقرأ الكتاب مرة أخرى تجدد له إلحاده الرث.

                              قرأ صاحبنا كتابه المفضل متمعنا حتى كاد يحفظه, فخيل إليه أنه صار ورشة متنقلة لتفكيك أوصال المعتقدات الدينية ولكشف مغالطاتها المنطقية, وسقط في روعه أنه طرد عنه كثيرا من شكوكه, بعدما أوشك أن يخسر معركته مع هواجسه ووساوسه. جلس يتفكر في حاله, وأن الحكمة تقتضي أن ينقل المعركة إلى أرض أخرى غير أرض نفسه, فإن خير ضروب الدفاع الهجوم كما هو معلوم. إن الإلحاد نار تستعر في أحشائه, فإن خلى بينها وبين نفسه حرّقته وذرّته في الهواء. فليهجم إذن على أعداء الإلحاد في ديارهم وليُجلب عليهم بما وقر في قلبه من دلائل الفلسفة والمنطق, لعله يستعيد شيئا من ثقته بنفسه و اعتداده بكفره وعناده. أبحر أبو الإلحاد بحاسوبه على أمواج اللجة الإلكترونية يحمل أوساق الأماني حتى رسى في إحدى المنتديات التوحيدية يمني النفس بغزوة تنويرية مجيدة.

                              حل بساحة الخصوم منتشيا والفخر الإلحادي يملأ خياشيمه, وقصد قسم التسجيل ليلبس لهذا الموقع ما يليق به من الثياب الرقمية, فإن الأسماء المستعارة حلية المنتديات الإلكترونية وزينة المواقع التواصلية, وبها يتميز اللبيب الفطن من بين أفواج الأغمار والمجاهيل, ذوي الأسماء الباهتة والمعرفات الشاحبة. فجراءة الملحد شطر رأس ماله الإلكتروني وشطره الثاني معرف رنان. بدأ أبو الإلحاد ينقر على لوحة المفاتيح في ثقة حروف معرفه الجديد: (ملحد وبس), ثم بدأ ينسج موضوعا يندرج تحت ما يسميه النقاد غرض (الإلحاد الهجومي الإنترنيتي). شعر بالزهو من سلاسة أفكاره, كانت كلماته تسيل دونما عناء فتملأ الشاشة أمامه, كأن صفحات الكتاب الذي أنهاه لتوه ما تزال ماثلة أمام ناظريه مرتسمة في مخيلته, كتب عن القضاء والقدر وعن الوجود والعدم وعن العقل والروح وعن الحدوث والأزل وعن الجواب الإلحادي الحاسم لكل تلك المقولات الدينية التي لا يراها إلا ستارا شفافا تحجبه أسوار من المغالطات المنطقية الماكرة. لقد بدا أبو الإلحاد كمن يحاول نفض غبار التدليس عن تلك المفاهيم المختلفة, لكنه في واقع الأمر إنما كان يسعى ليزيح سحائب الشك عن نفسه المتحيرة. كان يجادل نفسه ويقارعها وإن كان خطابه في الظاهر لغيره. تلقى صاحبنا جوابه الأول من أحد كتاب المنتدى, يدعى (أبا الخطيب). وقد عقب على موضوعه بالكلمات التالية:

                              "مرحبا بك أيها الزميل, تعجبني حماستك وسيلان قلمك, إذ طرحت في سطور من التساؤلات ما لو أجبناك عنه لما انتهينا خلال شهور, لكن دعني أسألك سؤالا يهمني جوابك عنه: "هل أجبرك أحد ما على اختيار الإلحاد؟". قرأ (ملحد وبس) التعقيب فحرك رأسه متعجبا, يا له من سؤال؟ طبعا أجاب أنه شق بنفسه ولنفسه سبيل الإلحاد الموحشة, كما تشق السفينة عباب البحر الهائج, ولن يضيره أن يقف أهل الأرض في وجهه فهو إنسان حر. عندها جاءه السؤال الذي لم يذكر أنه طرق سمعه قط, ولم يعرض له صاحب كتاب "إفحام أهل الملل" بل لم يحم حوله على كثرة ما أورد على الخصوم من المسائل الفلسفية والإشكالات الميتافيزيقية, سأله محاوره: "أيها الزميل هل لك أن تخبرنا عن أي قانون مادي صدرت إرادتك الحرة؟ وكيف استطاع جسمك المادي أن يعي مفهوما لا وجود له في العالم المادي البتة, ألا وهو مفهوم (الحرية) والإختيار والإرادة الحرة؟" قرأ صاحبنا السؤال مرارا, وكلما هم بجواب بدا له هزاله وخفته فعدل عنه إلى غيره, حتى يئس أن يتحصل له شيء ذو بال في المجلس نفسه. تحسر على أيام خلت كان فيها حاضر الخاطر متوقد الذهن سريع البديهة. فاختار بكامل حريته التي لا يفهم لها كنها ولا مصدرا, أن ينسحب بشرف قبل أن يفتضح أمره.

                              أطفأ الحاسوب وهو يتفكر في وجه الخروج من هذا الفخ المحكم, هل حقا يملك الإختيار الحر؟ أم أنه آلة مادية متطورة مبرمجة؟ فجأة خطر له خاطر عجيب, تساءل ما الذي يمنع أن تكون المادة التي تشكل هذا العالم نفسها تملك حرية الإختيار؟ ماذا لو كانت مع ذلك في غاية الحكمة, فهي لا تختار إلا الأفضل, ربما كان الأمر كذلك, فلما تتبع الإنسان حركتها ودرس سلوكها ظن لفرط جهله أنها لا تملك إلا السير في تلك المسالك الرتيبة التي كشف عنها العلم بعد قرون من الملاحظة والتجربة والتأمل؟ ماذا لو كانت المادة أرقى من هذا الإنسان المغرور؟ إنها تسير وفق قوانين مادية اختارتها بمحض مشيئتها الحرة لأنها اكتشفت أنها الأفضل والأحكم. تخيل أبو الإلحاد ما الذي سيحل بهذا العالم لو أن الجمادات والسوائل والغازات التي تملأ الكون سلكت فجأة مسالك البشر واقتدت بهم في تخبطهم وتضارب اختياراتهم وتذبذب مواقفهم؟ أحس لوهلة أن كثيرا من الزملاء من بني جنسه أحط شأنا من بعض الجمادات. أحس بجفونه تنطبق رغما عنه, كان يشعر بالعطش ويود لو يشرب كوب ماء قبل أن يستسلم للكرى.

                              حمل أبو الإلحاد كوب ماء ورفعه إلى فيه, لكنه استحال في سرعة البرق جليدا كاد يكسر ثناياه, لم يصدق عينيه, لكن الماء استحال من غير سبب ظاهر ,وفي يوم مشمس, قطعة من جليد كأنها الصخر! أخذ قنينة أخرى فسكب منها ماء يملأ الكوب, فخيل إليه أن الماء يتبخر, حين هم أن يشرب, لم ينتبه إلا والبخار الحار يكاد يشوي صفحة وجهه. ألقى بالكوب والفزع يملأ كيانه. هل هي مقدمات الجنون؟ همّ أن يجلس على أريكته فلم يشعر إلا وهو منبطح أرضا, لقد ضنت الأريكة بنفسها عليه فانزاحت بمقدار ذراع, ما الذي يجري؟ كيف تتحرك أريكة من خشب وجلد؟ بل كيف تختار لذلك اللحظة المناسبة لينال هذه السقطة المؤلمة؟ لا بد أنه يفقد عقله شيئا فشيئا, نظر إلى السقف فخيل إليه أنه يتأرجح, فهرول مسرعا يريد الباب, لكن أنى له بفتحه؟ لم تفلح كل محاولاته ومفاتيحه في قهر هذا الباب الخشبي, فجأة رأى النافذة مفتوحة فأطل منها لعله يجد من ينقذه من هلوساته, لكنه لم ير أحدا, إما أنه جن, أو أن العالم من حوله يتصرف بخلاف ما اعتاده طيلة حياته, يبدو أن العالم المادي اكتسب أبرز صفات الشخصية الإنسانية, لم تعد مادته بذلك الحزم والإنضباط والثبات الذي عهده, بل إنها صارت تتسم بنفس خصيصة الإنسان: استقلال الإرادة وحرية الإختيار. يا له من كابوس مرعب! لقد أصبح العالم فجأة خضما مضطربا لا وثوق بشيء منه, كل ذرة حوله تتصرف كأنها ابتلعت صيدلية كاملة من حبوب الهلوسة. رأى العمارات تذوب ذوبان الشحم على النار, ورأى النار باردة والماء محرقا والحديد سائلا. رأى كل شيء يمضي في غير الوجهة التي انطبعت في ذهنه منذ عقل, ولا يؤدي شيئا مما يفترض أنه الحكمة من وجوده, لم يبق شيء حوله قابلا للفهم والتوقع. ود لو كان للأشياء سمع فيخاطبها, ويستفسرها ويرجوها أن تلين له وأن تستجيب لإرادته, لكن شيئا من ذلك لم يحدث. بدا له ألا انتفاع بشيء أبدا على هذه الحال. حتى الآلات صار لها اختيار ومشيئة. هاهي ذي السيارات لا تطيع ركابها, بل تمضي حيث شاءت ولا تعبأ لشيء يخالف إرادتها. لقد صار العالم المادي بحذافيره غارقا في أتون مستعر من الحرية المطلقة. رأى أبو الإلحاد نفسه يجري في العراء يحاذر أن يسقط عليه جدار أو أن يحرقه معدن سائل أو يخنقه غاز قاتل. ظل يجري وأنفاسه تكاد تنقطع, رافعا يديه يذب بهما عن نفسه ما يتقاطر عليه من شظايا العالم المادي المجنون المفتون بحريته المكتسبة, بحث يائسا عن شيء مادي يستطيع الإحتماء به, بحث عن شيء ما يزال يحيا وفق القوانين المادية الجبرية, أمسك شيئا لينا ناعم الملمس بيديه وأخفى وجهه فيه فشعر بالأمان, فتح عينيه فإذا هو يغطس بوجهه في الوسادة المبللة والعرق ما يزال يتصبب من جبينه, فاعتدل جالسا يسترد أنفاسه متعجبا من غرابة كابوسه ويمسح بكمه جبينه. وهمهم: "ما أسعد العالم المادي بجبريته وما أتعس الإنسان بحريته!"

                              [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                              لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                              قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                              [/gdwl]

                              تعليق

                              • هشام البوزيدي
                                أديب وكاتب
                                • 07-03-2011
                                • 391

                                #45
                                25 كازينو الإلحاد

                                لقي أبو الإلحاد صديقا له أثناء سفرة إلى العاصمة, فجلسا يتسامران في حانة (كل شيء على ما يرام) وسط المدينة. لم يكن قد رآه منذ سنوات طوال. عجب لتبدل حاله, إذ كانت علائم الثراء بادية عليه. كان يتكلم في ثقة ويمشي في خيلاء ولا يفتأ ينظر إلى ساعته الفاخرة ويقلب في يده هاتفه النقال الذي يفوق في سرعته وسعة ذاكرته حاسوب أبي الإلحاد بمراحل. وحين هم صاحبنا بالإنصراف هم أن يستفسره عن سر النعمة السابغة البادية آثارها على محياه حين سأله فوزي: "لماذا لا تقضي الليلة معي؟ سنستمتع سويا وربما نكسب بعض المال؟" نظر إليه في استغراب, ولم يلبث أن وجد نفسه في مكان لم تطأه قدماه من قبل.

                                كانت الألوان تنبعث من كل حدب وصوب, تمتزج بأصوات الألحان والضوضاء التي تلف المبنى, كانت أمارات البذخ والترف تبدو على هذا المكان وأهله. خيل إليه أن كل شيء حوله يعبق بريح المال والنعمة. قلب بصره في وجوه الحاضرين فرأى رجالا ونساء منكبين في لهوهم وقد أقبلوا على أصناف الآلات المبثوثة هنا وهناك. إنه عجيب عالم الكازينو. لأمر ما يستهوي اللون الأحمر الناس, إنه لون الدم واللحم ولون الشيوعية وهو اللون الغالب على هذا المكان. تساءل صاحبنا عن لون الإلحاد فترجح لديه أنه أسود قاتم. وقف خلف شيخ في السبعين يحمل في قبضته قطعا نقدية يلقمها آلة لا تشبع, كان يشخص ببصره مترقبا كلما ألقى قطعة, فتنبعث من الآلة أصوات صرير وأزيز ثم تشرع أشكال وصور في الدروان, سيارة حمراء, عمارات, حلي, كان يتوقع كل مرة أن تستقر تلك الدواليب الثلاثة الصماء على نفس الصورة لكي تلفظ الآلة أرطالا من القطع المعدنية الرنانة, لكن شيئا من ذلك لم يقع, نظر إليه أبو الإلحاد بمزيج من الشفقة والشماتة وهو يتخيله واقفا أمام هذه الآلة المخادعة منذ كان شابا غضا طري الإهاب, ترى كم مرة ابتسم الحظ في وجهه وأسمعه رنين الدراهم التي تنهمر كالمطر؟

                                ظل يرقب حركة المكان في شرود, ويعجب من خضوع البشر للصور والخيالات في جريهم المحموم وراء الحظ العابس, ومن لزومهم لآلات اخترعوها لعلها تتبسم بين الفينة والأخرى في جوههم. أحس بنفسه وقد غمرته أمواج من الأرقام والحروف والصور والرنات, تحيط به الكراسي الفارهة والشاشات العملاقة. ثم خطر له أن التصور الإلحادي للكون غير بعيد من واقع هذا المكان. إن التفسير المادي لنشأة الحياة بمحض الصدفة عبر تسلسل عشوائي عبثي, ثم تطورها عبر طفرات عمياء متراكمة يجعل الكون أشبه شيء بكازينو عملاق, لا تحكمه إرادة ولا قصد ولا هدف.

                                في كازينو الكون الإلحادي تدور العجلة لتستقر كل مرة على نتيجة معينة, ثم تدور مرة أخرى, على هذا الوجه -زعموا- نشأ كل شيء, هكذا نشأت الغازات والسوائل والجمادات, هكذا تكونت النجوم والكواكب والمجرات, هكذا تكونت الجراثيم والحيوانات والحشرات, هكذا تكون الإنسان كي يطلع على هذا الكون العجيب ويعيه ويستكشفه ويعجب به, هكذا تكونت أجهزته الحيوية المعقدة, هكذا نشأت كرياته الحمراء والبيضاء, هكذا تكونت معلومات حمضه النووي الموسوعية. إنه كازينو لا يكافئ الفائز فيه بالجوائز المالية, بل يهبه الوجود والحياة والوعي. إن الإنسان في المذهب الإلحادي الدارويني ليس إلا فائزا محظوظا يدين للصدفة والإنتخاب المادي الطبيعي بكل ما ينعم به من وعي وفكر وإبداع. يجب على الإنسان الملحد أن يتواضع كثيرا, فليس له الفضل في شيء أبدا, إن هو إلا ذرة حقيرة في كازينو تدمن ذراته المادية المقامرة. إنها مقامرة كونية مادية عبثية مستمرة, لا تعرف حدودا ولا ضوابط, إلا ضابط الصدفة التراكمية. نظر أبو الإلحاد حوله وتساءل: "هل يعقل أن يكون الكون مجرد كازينو؟ لكن هذا الكازينو الأرضي لم ينشأ صدفة, ولم ينشأ بفعل مقامرة, بل إن أصغر عجلة فيه ثمرة دراسة وحساب وهندسة, فمن أين جاءت العجلة الكونية التي يفترض أنها بدأت يوما ما بالدوران؟ وكيف عرفت أنها حققت شيئا ذا بال حتى تتوقف عند نتيجة ما, ثم تراكم ما حصلته؟ هل تقوم الطبيعة بالتخمين كل مرة قبل أن تدير العجلة؟ إن في هذا الكازينو عمال صيانة وكهرباء ومراقبة ومحاسبة, فضلا عن الزبناء المقامرين, العابرين والمدمنين. إن ههنا عجلة ومن يديرونها, لكن الإلحاد يريد أن يوهمنا أن اللعبة واللاعب والملعب والقواعد والنظام والنتيجة والحساب كلها شيء واحد, وأن العجلة والدوران والمدير شيء واحد, وأنها جميعها ثمرة صدفة مقامرة..." أحس بيد تربت على كتفه, استدار فقال له فوزي: "تعال لترى كم هو سهل كسب المال, كم معك؟" أجاب مترددا: "معي ألفان وخمسمائة درهم" كان قد حصل للتو على راتبه. مد فوزي يده, فما شعر أبو الإلحاد بنفسه إلا وهو يخرج من جيبه الظرف ويعطيه المال كاملا.

                                جلس فوزي إلى الطاولة تغمره النشوة, وفي عينيه بريق الواثق من الفوز, وبدأ يقلب الأوراق ويعدها, وضعها على الطاولة ثم أدار العجلة, نظر إليها أبو الإلحاد تدور عيناه معها كأنه يستعطفها أن تقف منه موقفا يليق بالزمالة المادية الكونية. تسارع نبض قلبه وهو يرى أنه تحت رحمة قوانين مادية صارمة لا تحابي أحدا, تفكر في سرعة العجلة وقوة احتكاكها بالهواء, واحتمالات حصول الفوز. وحين بدأت سرعتها بالتباطؤ رآها تتجه نحو الأرقام الكبيرة: مائتا ألف, مائة ألف, خمسون ألفا..., كاد قلبه يخرج من صدره, ظلت العجلة تدور حتى توقفت أخيرا وحطت الرحال عند الرمز العجيب الذي يترجم للعدم: "صفر" كاد يغمى عليه, لقد فقد لتوه مرتب شهر كامل, من أين له الآن ثمن إيجار البيت؟ بل ماذا سيأكل؟ يا ويله من أم الإلحاد! كيف له أن يخبرها بأمر كهذا؟ التفت حوله غاضبا, هم أن يسأل فوزي أن يعيره بعض المال, لكنه لم يجد له أثرا, لقد اختفى كأن الأرض ابتلعته, خرج صاحبنا من الكازينو كئيبا كسيرا تتقاذفه الهموم وينظر إلى السماء تارة وإلى الأرض أخرى وهو يكاد يجزم أن الفكر الإلحادي أكبر مقامرة أقدم عليها في حياته, ويتمنى أن يخرج يوما من عالم كازينو الإلحاد كما خرج من هذا الكازينو الصغير قبل أن يخسر نفسه.

                                [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

                                لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
                                قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
                                [/gdwl]

                                تعليق

                                يعمل...
                                X