بدلة أنطون

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    بدلة أنطون

    [align=center]
    بدلة أنطون
    قهوة العتالين
    1
    لم تكن العتالة يوماً , إلاّ مهنة مَنْ لا حرفة له .
    مؤهلاتها بسيطة وحاضرة لدى الغالبية العظمى من الناس .
    ما عليك سوى أن تحافظ على صحتك , وترضى بأجر زهيد , وان تكون مطيعا
    كالحمار وبليداً كالبغل حتى تصبح رطلا فوق الموازين , وعتّالاً بسوق النخاسة
    والعبيد .
    لكن مهلاً , للعتالة درجات . وقبل أن تُصَنَّف مع العتالين عليك أن تجتاز عتباتها ,
    عتبة , عتبة .
    الشيالون, ويقال لهم أيضاً الحمالون , هم من يجلس على أولى هذه العتبات , غالبا
    ما يبدؤون العمل وهم فتيان , يحملون الأكياس بأيديهم إلى المكان الذي يأمر به
    الزبون .
    يقف خلفهم , السلالون الذين استطاعوا أن يدَّخروا قليلاً من المال , فابتاعوا به سلة
    يضعونها فوق ظهورهم تعينهم في حمل أحجام كبيرة وأثقل من البضائع التي تُحمل
    باليد .
    وربما في يوم من الأيام يقفزون فوق عتبة الجوالين بعرباتهم المزركشة والتي
    تتسع لبضائع أكثر من السلال , وذات ريع أوفر مما يكسبه شيال أو سلال .
    أما الحمَّارون فهم أصحاب الحمير , والحمَّار غالباً لا يرهق نفسه بالعتل طالما أن
    هناك حمارا يقوم عنه بالمهمة . أماكن تواجدهم داخل مخيمات اللاّجئين قرب
    مراكز توزيع المؤن , وبالقرب من محلات بيع الطحين والرز والسكر وباقي
    الحبوب . تزدهر مواسم عملهم في أيام توزيع المؤن ,وكلما كانت هناك إشاعة عن
    موجة ثلوج قادمة , أو حرب قائمة , أو حتى نية الحكومة لرفع أسعار سلعة معينة .
    طُموح بعض الحمَّارين بامتلاك عربه يجرها حمارهم حتى يرتفعوا لمرتبة
    العربجية الذين يتقاضون أجورا تفوق ما يحصله باقي العتالين مجتمعين . وتدخينهم
    سجائر " مكن" بدل الهيشي الملفوف بورق " البفرة " وهُمْ يخطرون
    بملابس نظيفة , ونظرتهم المتعالية لغيرهم من العتالين , جعل نظرائهم يتحاشون
    التعامل معهم ونبذهم . يبقى العتالون في المقدمة , يتبوءون صدارة هذه المهنة .
    تجدهم رجالا ناضجين , ذوي بُنى قوية . منهم الفارع بطوله كنخلة . ومنهم
    القصير المكتنز كشجرة جميز . غالباً ما يدخلون البيوت والشركات , الحكومية
    منها والخاصة , يطلعون على أسرار يحفظونها عن ظهر قلب ولا يفشون
    مضامينها لأحد , كي لا يفقدوا ثقة زبائنهم .
    العتالون ذوو اختصاصات, هناك المتخصص بحمل الأثاث , وهناك المتخصص
    بحمل الأجهزة الكهربائية كالثلاجات والغسالات والتلفزيونات , كما وهناك
    المتخصص بحمل الأدوات الفائقة الحساسية , كأجهزة العيادات والمختبرات الطبية
    والمستشفيات . لذلك , تجدهم لا يتعدون على اختصاصات بعضهم بعضاً ,
    أضف إلى ما فات , أن الزبون هو الذي يحدد اختصاص العتال الذي يريد , وذلك
    حسب نوع العتلة المُراد عتلها , وحسب قبول الزبون لهيئة العتال المَنوي تعتيله ,
    وكذلك حسب استعداد العتال ورضاه للمساومة على الأجر .
    سقف السيل , هو حيهم , وقهوة العتالين مقهاهم ونقطة لقائهم ومركز التقاطهم لمن
    يحتاجهم . تقاسموا فيما بينهم , حلو الحياة ومُرَّها , فالتحموا بتجانس سلس , صمد
    مع مرور الزمن لانعدام التفاوت الطبقي فيما بينهم.
    أغلبهم من المهاجرين الأوائل بعد النكبة . تضخمت جماعتهم بمن انضم إليهم من
    النازحين بعد النكسة .
    مع مرور الأيام , ذهب من ذهب , إمّا بالانتقال إلى أسواق عمان الغربية حيث
    تحولوا إلى باعة متجولين أو بالعجز والموت .
    وبذلك باتت مهنة العتالة من المهن المرشحة للانقراض وخصوصاً بعد ان توسعت
    العاصمة عمان "بالمولات" الكبيرة ذات العربات التي تُجر باليد , كما وغَزَتْ
    أسواق العاصمة مُعدّات ميكانيكية تقوم بمهمة العتال وتتفوق عليه , دقة وطول بال .

    أنطون
    2
    أصبح أنطون عتالنا المخضرم والمتخصص بحمل الأدوات الكهربائية والفائقة
    الحساسية والذي جاوز الخامسة والخمسين من العمر عاطلاً عن العمل , والمقهى
    الذي كان يتسامر فيه مع ندمائه تم إغلاقه لفترة إلى أن استأجره احد العائدين من
    الكويت بعد حرب الخليج الثانية وحوله إلى مقهى للإنترنت .
    يبدو أنطون محافظا ومقداما وذا بأس وثقة بنفسه وذا حساسية قوية . ينظر لشباب
    أيامه نظرة ازدراء نابعة من كبريائه . عرف أنطون أن عزة النفس تعزز مكانته
    بين معارفه , كما وان براعته في إخفاء متاعبه أضفت على ملامحه غموضا
    مشوبا بالحزن . وفوق هذا , فان قدرته على الإقناع كانت تدعو كل فرد للأخذ
    برأيه لصدقه النابع من ثقته بنفسه . أضف إلى هوايته النظر في فاترينات المحلات
    حبه للقراءة وسماع الموسيقى .
    ها هي الأيام تعود الوراء ويتذكر أنطون زملاءه حين أوكلوا له مهمة التفاوض مع
    الخوري لاستئجار الدكان التابعة للكنيسة , كونه متحدثاً لبقاً , والمسيحي الوحيد
    بينهم .
    وها هو الخوري يسأل أنطون معاتباً , بعد أن وافق على منحهم الدكان بالمجان :
    ــ أشاهدك يا أنطون واقفاً بباب الكنيسة كل أحد , فلماذا لا تدخل وتمارس شعائر
    القداس ؟
    يجيبه أنطون وقد بدا عليه الخجل :
    ــ ملابسي لا تليق بالكنيسة وروّادها يا أبونا , عندما أقتني بدله جديدة ستجدني في
    أول صف .
    ربت الكاهن فوق كتف أنطون وهو يقول :
    ــ المؤمن لا يحتاج بدله جديدة , فهو يرفل برداء المسيح الذي لا يبلى أبدا .

    الحلم
    3
    لم يبارح أنطون حلم ظلَّ يراوده في أن يمتلك بدله جديدة يصلي بها أيام الآحاد ,
    لكن العين بصيرة واليد قصيرة كما تقول الأمثال .
    حاول فيما مضى أن يدَّخر ثمن بدله جديدة , وكان كلما ادخر مبلغا مناسبا , يجد ان
    الأسعار قد ارتفعت , فيعود للادخار ثانية حتى يفي بثمنها .
    يسكن أنطون في شارع الطلياني الممتلئ بمحلات بيع البالة , وربما , لا بل من
    المؤكد أن المبلغ الذي معه يكفي لشراء بدله قديمة مستعملة , إلا أنه وفي قراره
    نفسه رافض لهذه الفكرة , فهو يروم بدله جديدة على مقاسه , وتكون بشرته وثنايا
    جسده أول مَنْ يلمسها ويسعد بها .
    يتردد على سوق البالة في شارع الطلياني ثلة من علية القوم . منهم أناس يعرفهم
    أنطون جيداً كان قد عتلَ لهم في يوم من الأيام , فتُطِل ذاته هامسة :
    ــ وهل أنت يا أنطون أحسن من هؤلاء الناس , وأغنى منهم ؟
    ويكاد أن يستجيب , لولا إيمانه الراسخ بعدالة مطلبه وحقه في الاختيار .
    ويمضى أنطون في حلمه إلى غايته , المبلغ الذي استطاع ادخاره يقرب من
    الخمسين دينارا , وثمن البدله المحترمة هذه الأيام تساوي المبلغ بالتمام والكمال .

    رحلة تحقيق الحلم
    4
    خرج أنطون من غرفته مهرولا , قطَعَ شارع الطلياني حيث يقيم , عبر بوابة
    الكنيسة العلوية , اجتاز درجاتها نحو بوابتها السفلية , انطلق يعدو فوق شارع سقف
    السيل . فوجد نفسه قريبا من المسلخ المحاذي لسوق الخضرة , انعطف يسارا وعبر الى
    شارع المهاجرين . وقف لحظة على ناصية الشارع المؤدي إلى الشارع الرئيسي يرنو
    سينما الكواكب التي بالجهة المقابلة . مسح جبينه بمنديله الأبيض بينما كان يرنو يافطة
    السينما معلنة عن عرضها لفلمين بتذكرة واحدة . كان قد شاهدهما مرات عديدة
    ملك الملوك لجيفري هنتر . وكوفاديس لفيكتور ماتيور بينما كان العرض القادم لفيلم
    سبارتكوس لكيرك دوجلاس . يعشق أنطون السينما عشقه للحياة ولا يتردد من حضور
    بعض الأفلام أكثر من مرة شغفا ببطل الفلم وبالقصة ذاتها .
    مسح جبينه ورقبته المتعرقتين مرة أخرى وواصل مسيره حتى وصل ساحة الجامع
    الحسيني . وقف بالساحة يستريح ويشرب ماءاً بارداً من الزير الذي بباب الجامع , عن يمينه
    كان سوق البخارية المكتظ دائما بالباعة والمشترين وعن يساره سوق السكر حيث تُجَّار
    الجملة هناك . انطلق إلى شارع بسمان وقد خفت وتيرة سيره من الإجهاد وحين اقترب من
    سينما رغدان , شاهد عُمَّالها يُلصقون إعلانا لفيلم جديد "كوكب القردة " , وقف أمام
    الإعلان يرنو شارلتون هيستون بطل الفلم وفي نيته حضور العرض . ثم انحرف يمينا نحو
    دخلة كافيتيريا بيترو التي يفوح منها رائحة النقانق الشهية .
    ازدرد ريقهُ وأكمل مشواره إلى السُرَدي .

    عمان وسط البلد
    5
    ها هو بباب ملبوسات السردي , الذي كان مطعماً بيوم من الأيام .
    كان مطعم السردي من المطاعم التي يُشار إليها بالبنان في وقت من الأوقات .كما
    كانت عمان البلد , مركز التسوق والترفيه في ذلك الوقت . كان يجوب شوارعها
    عائلات بأكملها . الأب والأم وأولادهم , يتسوقون ويلهون , فإذا شعروا بالتعب أو
    الإجهاد , يدخلون مقهى السنترال أو مقهى الأوبرج , يطلب الأب فنجان قهوة
    ونرجيلة بالتنباك . الأم تطلب الشاي أما أطفالهم فيُصِرّون على زجاجات سحويل
    المنعشة . " مشروب غازي مثل الميرندا " يجلسون في المقهى حتى يحين موعد
    الغذاء , فينقسم الأطفال بين سندويشات فلافل مطعم فؤاد " أبو نادر " وبين
    سندويشات كفتيريا بيترو . الأب يرغب بجلسة فوق رصيف مطعم هاشم .أما الأم
    فكانت تغري الجميع بصينية كفتة بالطحينة وصينية أخرى بالبندورة في مطعم
    السردي , يتبعها الحلو , صحن كنافة رملاوية .
    بعد التهامهم لوجبة السردي الدسمة , يتراكضون كأطفال نحو سينما الحسين
    الجديدة خلف البنك العربي . ما أحلاها أياما .

    السُرَدي
    6
    عندما أصرَّ أبو يوسف السردي صاحب المطعم بعد جلسة عاصفة مع إخوته
    وأبنائه على أن يحول المطعم إلى بوتيك لبيع الملابس الرجالية الجاهزة , كي
    يتفرَّغ لإدارة جمعية الرملة الخيرية بعد أن أنتُخِبَ رئيساً لها , عاتبوه وانهالوا
    عليه نُصْحاً لثنيه عن عزمه, لكنهم عادوا لحُضنه بعد نجاح محل الملبوسات نجاحا
    فاقَ التوقعات , إلى حد انه زاحم على شهرة المطعم وتبوَّأَ الصدارة في مجال بيع
    الملابس الجاهزة.

    أنطون يختار البدله
    7
    وقف أنطون أمام البائع وأشار للقطعة التي اختارها , لم يحتر باللون أو بالموديل ,
    فهو يعرف ماذا يريد , إذ كان يقف أمام الفترينة يومياً ويتأمل البدله السوداء ذات
    الصديري الأخضر بربطتها الحمراء على القميص الأبيض, ويهيم في دنيا الخيال
    وهو يرتديها وكأنها علم لوطن يبحث عن عنوان . مدَّ يده في جيبه وأخرج تحويشة العمر كي يحاسب المعلم الكبير
    الجالس خلف مكتبه بصدر المحل . تنبه الحاج أحمد للواقف أمامه , فحيّاه وهو
    يرشف القهوة :
    ــ " كيف حالك يا أنطون ؟ لمين ماخد البدله ؟ "
    أجابه وهو يبتسم :
    ــ لي , يا أبو يوسف .
    تحوَّلَ أبو يوسف نحو البائع يسأله :
    ــ" قديش السعر المكتوب عليها يا عادل ؟ "
    ــ خمسين دينار يا معلم .
    وضع الحاج احمد فنجان القهوة الذي بيده فوق الطاولة وهو يقول لأنطون :
    ــ "بكفي منك خمسة وأربعين يا أنطون , والقميص والجرافة هدية مني إلك , أنت
    زلمة طيب وبتستاهل . "
    بدا الخجل على وجه أنطون فابتسم بعذوبة وهو يرنو عادل . طوى أنطون بكف يده
    ورقة الخمس دنانير وحاول دسَّها بجيب عادل .
    قبض عادل يد أنطون قائلا له :
    ــ منك يا أنطون ما باخوذ إكرامية . من غيرك ممكن .
    ثم مال نحوه هامساً :
    ــ سوف أطرز اسمك على صدر البدله . أمهلني ثلاث دقائق فقط .



    انطون يعتل بدلة
    8
    خرج أنطون من المحل وهو يكاد يطير من الفرح , اصطدم ببائع الكتب الذي يقف
    على الرصيف يُروِّج لكتبه فاعتذر له. مدَّ بائع الكتب يده وبها عدد من الكتب قائلاً :
    ــ خود اقرأ واتثقّف , روايات جديدة لنجيب محفوظ "حضرة المحترم " يا محترم
    الحرافيش يا ولاد حارتنا " .
    لم ينتب أنطون خلال عمله قط شك في أن يُسقِط من على ظهره ثلاجة أو غسالة ,
    أو أن يخدش تلفزيونا أو طابعة . ولم يشعر أيضا , ولا في أي يوم من الأيام بثقل
    العتلة التي كان يحملها .
    لكن عتلة اليوم غير عن العتلات الأخرى , انتابه رهاب سكن مؤخرة جمجمته ,
    حضن البدله بكلتا يديه كي لا تتلوث برائحة السمك المنبعثة من مسمكة أبو ممدوح ,
    مدَّ بخطاه حتى اقترب من صالون البوري .
    كان ادوار واقفاً بباب صالونه , شاهد أنطون فمازحه قائلاً :
    ــ ايش اللي حامله يا أنطون ؟ ليكون كَفَنَكْ ؟
    لقد فاض من المبلغ المُدَّخر خمسة دنانير , تكفيه لحلاقة الشعر والذقن ولشراء
    سندويشين نقانق ولتذكرة السينما .
    جلس على كرسي الحلاقة ورائحة فلافل مطعم فؤاد" أبو نادر " تزكم انفه . عادت
    به الذكريات إلى الأيام التي كان يشتري بها سندوش الفلافل بقرشين ويقف بباب
    كافيتيريا بيترو يأكله , ورائحة النقانق المقلي تعبر أنفه , فيتخيل نفسه وكأنه يلتهم
    سندويشات نقانق . فارتسمت على صفحة وجهه تباشير مشروع ابتسامة . وأدها قبل
    أن يلحظها ادوار ويدخل معه في سين وجيم .
    لكن ادوار كان أسرع منه فتلقفها بسرعة البرق ومازح أنطون قائلا :
    ــ "بتضحك على خيبتك ؟ "
    ــ " خير يا معلم ادوار , ايش سويت ؟ "
    ــ " بتتذكر لما الملك حسين كان بجولة في البلد ودخل عندي ؟ "
    ــ " طبعا . هدا يوم ما بينتسى . "
    ــ "وبتتذكر حضرتك لما عملت لجلالته نصية الشاي بالنعناع ونفحك إكرامية
    وحضرتك رفضت توخدها . ولك يا خالص هيَّ عطايا الملوك بتنرد ؟ "
    ــ" أخذتها بعد ما أنت غمزتني . لكني تبرعت بها للكنيسة . انا لا اقبل حسنة
    حتى من اخوي الكبير ."
    ابراهيم

    9
    لم ينل إبراهيم أبن أبو حنا مدير بوسطه الرملة أيام البلاد من التعليم
    سوى فك الخط , غادر المدرسة مطرودا بسبب تكرار غيابه ولهوه في قطف
    الهليون والنبش على الفقع وجرف الحلزون عن أشجار البرتقال والليمون .
    فتح محلاً في الرملة لتصليح بوابير الكاز والشنابر , وعندما انتقلت العائلة إلى
    رام الله بعد"النكبة" الهجرة الأولى فتح محلاً لتصليح وتأجير العجلات الهوائية "
    البسكليتات ". كان إبراهيم يستعين بأخيه الأصغر نصري للمكوث في المحل بينما
    هو يلهو مع أصحابه .
    كان نصري صغيرا ليتسلم مهام شقيقه في تدبير شؤون المحل , فلم يكن يعرف
    للساعة مثلاً , وعندما كان يأتي أحدهم لاستئجار بسكليت كان يعد على أصابع يده
    لغاية الستين مفترضا أنها دقيقة , وهكذا حتى عودة مستأجر البسكليت , فيحسب له
    كم دقيقة قد غاب ويحاسبه عليها .
    نشأ نصري خجولا بسبب عادة العد على أصابعه التي لازمته ولم تفارقه حتى
    عندما كبر , وهو لا يدري سببها .
    سافر إبراهيم إلى قطر حيث كان يعمل شقيقه الأكبر حنا هناك في مجال الطيران ,
    فعمل في لحام أنابيب البترول , إلى أن استدعاه والده كي يأخذ محل هاكوب
    ألأرمني بائع البسطرمة والشمنة في عمان .
    كان المكان عبارة عن دكانين متجاورين يفصل بينهما الدرج المؤدي إلى مقهى
    الأوبرج , كان يحد الدكان العلوية المحاذية لشارع بسمان صالون الكيالي لحلاقة
    الشعر , وكانت الدكان الأخرى السفلية تحد مطعم فؤاد لصاحبه أبو نادر
    الحوراني , كان مطعم فؤاد في حينها أشهر مكان تأكل فيه سندويشات الفلافل .
    لم يستطع إبراهيم بما ادخر في قطر من الحصول على المحلين , تطوع ادوار
    البوري ابن خالة إبراهيم لأخذ الدكان السفلية الملاصقة لمطعم فؤاد ليفتح بها
    صالون حلاقة ويستقل عن زهدي الكيالي الحلاق الذي كان يعمل عنده أجيرا . في
    حين أخذ إبراهيم الدكان العلوية بعد أن أمدَّه أخاه حنا بالمتبقي من المال المطلوب ,
    ليأخذ أيضا الدكان المجاورة والتي يفتح بابها على دخلة مطعم الشرق لصاحبه أبو احمد
    الذي كان مشهورا ببدلته البيضاء والوردة الحمراء التي تزين جيب البدله العلوية .
    وبذلك , دخل حنا شريكا مع أخيه إبراهيم في المحلين .
    نجحت الكافتيريا التي افتتحها إبراهيم بسبب إصراره على الاستقرار . فاستعان
    مرة أخرى بشقيقة الأصغر نصري الذي بذل مجهوداً مضاعفا كي يبقى مواظبا
    على الدراسة وبنفس الوقت لا يخذل شقيقه إبراهيم في تأسيس الكافتيريا , فمرت
    امتحانات التوجيهي بسلام انتظم بعدها نصري للدراسة الجامعية في كلية الطب
    البيطري بجامعة القاهرة . وكان في الإجازات الصيفية يهرول سعيدا نحو الكافتيريا
    وزبائنها اللذين اعتادوا عليه وأحبوه .
    فيكتور الدن
    10
    فيكتور الدن هو التوأم الأصغر لشقيقه نبيل الذي دلف إلى الدنيا قبله بثوانٍ . فنشأ
    وإحساس الغبن يلازمه لمَ يتمتع به الأخ الأكبر من احترام ووجاهة أمام باقي
    إخوته . رغم ذلك كان ينظر نحو إخوته بكثير من الحب والمسؤولية . وعندما أدرك
    أن لا ميل له للدراسة بعد مرحلة الإعدادية , تقاسم ووالده هم ستر ابدأنهم
    وتعليمهم وإشباع بطونهم ورغباتهم .
    مارس عدة مهن حتى استقر عند المعلم زكي بطيخة الميكانيكي في حي ماركا ,
    فأتقن فن كهرباء السيارات , مما جعل معلمه زكي يغدق عليه من ماله وعطفه , إلى
    أن كاد ينافسه في جلب الزبائن واسترضائهم . فانقلب عليه معلمه محاولا وضعه
    بحجمه الطبيعي كأجير وصبي ميكانيكي .
    لم تنل محاولات والد فيكتور "أبو نبيل" لثنيه عن عزمه ترك العمل عند المعلم زكي
    قبول ورضا فيكتور بل كان يزداد إصرارا . ويوما قال لأبيه بعد احتداد النقاش :
    ــ" أنا الكل في الكل بالورشة , خلليني أشوف هالبطيخة كيف راح يمَشّي الشغل من
    غيري ؟"
    لم يجد أبو نبيل بدّاً سوى أن يصارح ابنه بحجمه الحقيقي في سوق العمل . فقال له
    بحزم لا يخلو من سخرية وهو يبتسم :
    ــ" ولك يا مقلعط , أنت زبيبة في السوق , واللي زيك كل عشرة بشلن ."
    خرج فيكتور غاضباً . صفق باب حوش منزلهم المجاور لعيادة الدكتور بولسيان ,
    وركض مهرولا فوق الدرج المؤدي إلى شارع بسمان وقف بباب كافتيريا بيترو
    وطلب من صاحبها إبراهيم العمل لديه .ردَّ عليه إبراهيم بلهجة توحي بالقبول
    متسائلا ؟
    ــ ومعلمك زكي يا فيكتور ؟
    فقهقه فيكتور ساخرا وقال :
    ــ طلع أقرع يا معلمي .
    ابتسم إبراهيم مجاملا فيكتور لكنه عاد لطبيعته الصارمة كي يثبت له أن هناك
    حدودا لا يسمح بتجاوزها بين المعلم وصبيه . وخصوصا أن زكي بطيخة صديق
    لإبراهيم من أيام البلاد .
    ولكي ينحي جانبا هذه المداخلة , ويعلن قبوله به أجيرا عنده . سأله آمراً :
    ــ" بتعرف أبو علي ؟"
    ــ "مين أبو علي ؟"
    ــ بتعرف درج الكلحة ؟
    خبط فيكتور كف يده بجبينه قائلا :
    ــ " أبو علي تبع القطايف ! "
    أخرج إبراهيم من جيبه ورقة نصف دينار وقال لفيكتور :
    ــ " زي الطلق بترمح عند أبو علي وبتجيب ثلاثة كيلو قطايف . وبتوصلهم على
    البيت انت ونصري . وبعد ما تبوس ايد خالتك ام حنا بتنزل معك صينية الطحل .
    وبتستلم مكان نصري في المحل لغاية ما تخلص الامتحانات ."
    ــ" حمامة يا معلمي ."

    اصدقاء نصري
    11
    كانت كافتيريا بيترو مُلتقى أصدقاء نصري.كانوا أربعة و نصري خامسهم . هاشم
    يونس درس التاريخ وامتهن التأليف والتمثيل وأصبح له مسرح باسمه, وهو مكان
    سينما الرينبو في الدوار الأول في جبل عمان .
    هشام الهدهد درس الحقوق والإخراج وامتهن التمثيل, حيث أصبح من نجومه
    المرموقين. وغطاس أديب " نزيه أبو كمال " الذي درسَ اللغة العربية وأصبح ناقدا
    فنيا لامعاً . وخالد شهاب الدين الذي درسَ التاريخ مع هاشم يونس وكان من
    الممكن أن يصبح ممثلا ونجما سينمائياً أو مطربا . لكنه اخذ يجوب بلاد الدنيا
    حتى أستقر في ألمانيا , وأصبح واعظا دينيا فيها .
    كانوا يتجمعون وقت ما بعد الظهيرة في الدخلة ولا يبرحون حتى ينتهي العمل في
    الكافتيريا . قبل اهتدائهم لدخلة بيترو جمعتهم الشوارع والمقاهي . رأوا أنطون,
    جذب انتباههم من أول لحظة, فكان كل واحد من الثلّة يرى فيه أصدقاءه مجتمعين
    في شخصه. كانت له وسامة خالد, ورقة نصري وصلابة وعناد هشام الهدهد
    وخفة دم هاشم يونس الممزوجة بمعاناته, وقوة شخصية غطاس وسداد رأيه .
    أخذ نصري وفيكتور ركن السندويشات في الكافتيريا على عاتقهما , فأبدعا فيه ,
    إبداع مايكل أنجلو في لوحاته ومنحوتاته .


    استدل أصدقاء أصدقاء نصري إلى الدخلة , والى كافتيريا بيترو فأصبح المكان
    مقرّاً , والزمان ممتداً حتى رحيل آخر السابلة.
    كانوا جميعهم واعدين في الفن و في الأدب .
    ها هما خالد وأسامة التلحمي يشدوان بأغاني عبد الوهاب وعبد الحليم , وهاشم
    يونس يقلد رموز الساسة ونجوم السينما, وغطاس وفخري نوار يُطلعان الحضور
    على آخر المُستجدات الأدبية والسياسية وهشام الهدهد يلقي بصوته الرخيم قصيدة
    من قصائد نزار قباني .
    في حين كان صلاح أبو الهود وحسن قمحاوي ينظران بعين مخرجين سينمائيين
    وكأن ما يجري أمامهما ما هو سوى لقطة من لقطات المخرج الايطالي فيلليني , في
    الوقت الذي كان به نعيم البحر ومحمد العبابدي يتمايلان مع فيكتور كموج بحر
    شط الإسكندرية حين يبدأ هاشم يونس بالغناء لسيد درويش . أما ظافر الحوراني
    ألأصغرهم سناً فكان يرصد ما يجري وهو في حالة من الانبهار والتشوق لرؤية
    وسماع المزيد .
    في هذا الجو المفعم بالسحر كانت تمضي ليالي دخلة بيترو , فيختلط زبائن صالون
    البوري بزبائن سندويشات فلافل ابو نادر برواد سينمات وسط البلد رغدان
    وبسمان وزهران والفيومي التي أصبحت فيما بعد الخيام , في تآلف وانسجام حتى
    تكاد تعتقد انك في عرس من أعراس الجان .

    مطعم هاشم
    12
    كان المعلم إبراهيم يعي بما يجول في ذهن أنطون الواقف بباب كافيتيريته . فكان
    يغمز لفيكتور بعصر الليمون فوق مقلى النقانق حتى تفوح رائحته وتنتشر .
    طبعاً لم يكن أنطون هو المستهدف من فعلة بيترو هذه , إنما كي تصل رائحة
    النقانق حتى دخلة مطعم هاشم , وكأنها تدعو رواد المطعم الجالسين بالممر
    ينتظرون دورهم , للاقتراب وتذوق نقانق بيترو المنقوعة بالنبيذ .
    هناك بون شاسع بين زبائن مطعم هاشم وزبائن كفتيريا بيترو . ربما لا تجوز
    الموائمة بينهم , لتباين الأهداف لدى زبائن الطرفين , فزبائن هاشم يرغبون
    بالجلوس وتغميس الفول والحمص بالبصل والزيتون الأخضر والنعناع ,
    وربما استمتاعهم بالتصليحة " إضافة القليل من الفول والزيت وتغميسه بالمتبقي
    من رغيف الخبز " هو الجاذب لهم لمطعم هاشم . في حين زبائن كفتيريا بيترو
    بعجلة من أمرهم , منهم مدراء الشركات والبنوك وموظفوها , وهناك رواد
    السينمات والسياح الهائمون على وجوههم . كما وهناك أيضا ربات البيوت
    الراغبات بترس بيوتهن بالمرتديلا واللبنة والبسطرمة والزيتون والأجبان .
    أما زبائن أمسيات الكافتيريا فأغلبهم من الطلبة والمثقفين , ومن السياسيين
    والمهندسين والمحامين والأطباء .

    لص البسطرمة
    13
    كان المعلم بيترو يُوعز لأخيه نصري في بعض الأحيان بوهب سندويش نقانق
    لأنطون على حساب المحل , بعد أن يوكله بمهمة ليست ضرورية منعاً لإحراجه ,
    كتقطيع البسطرمة مثلا .
    قصّ البسطرمة يحتاج إلى يدين ماهرتين بحيث تكون القطع متساوية السمك ورقيقة
    برقة ورق البفرة . بالصدفة تنبه إبراهيم إلى أنطون وهو يرشد نصري وفيكتور
    للطريقة المثلى لتقطيع البسطرمة كأتخن أرمني .
    كان أنطون يسرد لنصري وعلى مسمع من الحاضرين وهو يعلمه فن تقطيع
    البسطرمة حكاية ألأرمني هاكوب الذي وجد أن اللصوص قد سرقوا جميع أصابع
    البسطرمة التي بحوزته , فكان رفاقه يتندرون عليه قائلين :
    "خيرها بغيرها , بكره بتعمل أحسن منها."
    فكان يرد عليهم هاجوب قائلا :
    ــ" أنا مش زعلان على البسطرمة اللي انسرقت , أنا زعلان لأنه اللي سرقها مش
    راح يعرف يقصها صَحّ ."
    فتضج الكافتيريا بمن فيها بالضحك والتصفيق لأنطون .

    ثمن الفرحة
    14
    ثمن سندويش النقانق في ذاك الوقت كان باثني عشر قرشا, ومحسوبكم أنطون كان
    يحط القرش فوق القرش كي يدخر ثمن البدله .
    لقد أصبحت البدله اليوم من مقتنيات أنطون , وها هو يدس هويته الشخصية في
    جيب الجاكيت العلوية للبدله ويختار موقعا يليق بها داخل خزانته .
    في الغد سوف يخطر بها , وأول مكان تطأ فيه قدماه وهو يرفل بالبدله هو الكنيسة .
    لم يحتمل قلبه الواهن الفرحة , فجلس فوق طرف السرير وأصابع يديه لم تزل
    تمَسِّد بدلته الجديدة , مال على جنبه وارتطم بالأرض .
    انطون يدخل الكنيسة
    15
    نقر فيكتور باب بيت أنطون , فوجده مواربا , دخل ليأخذ أصابع البسطرمة التي
    كُلِّف أنطون بتقطيعها للكافيتيريا , فوجده مطروحا على ارض الغرفة فاقدا الوعي
    فعاد راكضا يخبر إبراهيم وادوار بما رأى .لا يُعرف لأنطون أهل , لا زوجة ولا
    أولاد . مقطوع , نبت بهذا الموقع كغيره من المشردين. فقام ادوار وإبراهيم
    بواجبات الدفن بعد أن ألبساه بدلته الجديدة , وأدخل بها الكنيسة محمولا على أكتاف
    نصري وأصدقائه ليُصلى عليه . همس الخوري بأذني ادوار وإبراهيم قائلاً :
    ــ لقد وعد أن لا يدخل الكنيسة إلاّ وهو لابس بدله . وها هو قد فعلها . رحمة الله
    عليه .
    شعر رافعو النعش بحركة غير طبيعية . أنزلوا التابوت فوق أرضية الكنيسة .
    رفعوا الغطاء , فوجدوا أنطون يحاول جاهدا التنفس بصعوبة . قاموا بإخراجه من
    التابوت وهم بذهول وغير مصدقين ما جرى .
    صَحْصَحَ أنطون بعد أن رشوا الماء والكولونيا على وجهه , وعلم بما جرى له .
    قاموا بتهنئته بالسلامة وأوصلوه لبيته مكرماً معززاً . فهذه أول حادثة تصادفهم من
    هذا العيار الثقيل " ميت يصحو قبل دفنه بدقائق " يا لعجائب القدر ! ربما أصيب
    أنطون بحالة إغماء عابرة , طالت هذه المرة عن سابقاتها , ربما بسبب فقر دمه
    من قلة الغداء الذي كان يوفر ثمنه لشراء البدله .
    وقف أنطون أمام المرآة يتأمل نفسه بالبدله بعد مغادرة المهنئين بيته فبدا كغريق
    يحاول أن يتشبث بطحالب البحر كي ينجو .

    حوار الإخوة
    16
    عادت به الذكريات فوجد نفسه جالساً بغرفة انتظار الطبيب ألأرمني بولسيان , والطبيب
    بغرفته يعالج إحدى المريضات وصوته من داخل غرفة الفحص يدخل أذني أنطون بلا
    استئذان:
    ــ" انتِ هبلة , لازم تتغذي كويس ."
    صوت المرأة من داخل غرفة الفحص :
    ــ" قطيعة يا دكتور ! ايش هالكلام , أنا هبلة ؟"
    صوت الطبيب ضاحكاً :
    ــ" انت حبلى ولازم توكلي منيح ."
    ودَّعَ الطبيب مريضته وخرج من غرفته والسيجارة بيده مرحباً بأنطون , أحاطه
    بيده ودخلا معا الغرفة . لم ينتظر الدكتور رد التحية من أخيه أنطون فبادره سائلاً :
    ــ هل جئت تعطيني الجواب ؟ هل أقول مبروك ؟
    طأطأ أنطون رأسه وهو يقول لأخيه سركيس بحزن :
    ــ يا سركيس , لقد وعيت على الدنيا ولم أرى أمامي سواك , أنت لست أخي الكبير
    فحسب , بل والدي . اعفني من هذه المهمة , أرجوك . أنا لا أرضى ولا أنت تقبل
    لي الزواج من امرأة سيرتها على كل لسان . اكبر مني بسنوات وقبيحة الشكل
    واللسان , كل مؤهلاتها شوية فلوس , ويا عالم أي مسلك سلكته هذه المرأة كي
    يصبح عندها هذا الكم من المصاري , زِدّ على ذلك أنها على غير ديانتنا . هل
    تريدني أن أغير عقيدتي يا سركيس من أجل حفنة دراهم ؟ أشرف لي أن اشتغل
    عتال ولن اعمل هذه العملة . ولكي يلطف من الجو المكهرب , استرسل أنطون
    في مخاطبة أخيه مازحا :
    ــ لم لا تتزوجها أنت يا سركيس ؟

    أنطون يمتهن العتالة
    17
    لم يلقَ مزاح أنطون مع أخيه سركيس اي اهتمام , لا بل قوبل بتوبيخ . التقط الدكتور
    بولسيان سيجارة من علبة سجائره ذات اللفائف المبططة , وأشعلها من السيجارة
    المشتعلة التي بيده وقال لأخيه بحده :
    ــ" أنا رجل على حفة قبري يا أنطون , وما بنفع لا لجيزة ولا لسخام ."
    وقبل أن يتلقى رد أخيه استرسل :
    ــ" والنسوان لعلمك , فوق الفرشة وتحت الغطا , كلهم زي بعض . والدين في القلب ,
    ما بيعرف كنهه غير رب العباد ."
    ومَضَتْ العلاقة بين الأخوة أنطون والدكتور سركيس تتوتر وتسوء يوماً بعد يوم ,
    وسرعان ما اشتد الخلاف لحد القطيعة. فابتعد أنطون لموقع لا يخطر ببال شقيقه .
    ولكنه رغم غضبه لم يَخْلُ قلبه من رقة , بل يمكن القول بأنه لم ينضب من حبٍ
    لأخيه رغم كل شيء . وأمل كثيرا أن يعود شقيقه عن تلك الأفكار , وان يستقيم
    حدسه مع الزمن ولكن دون جدوى .
    هام أنطون على وجهه أياما وأسابيع , إلى أن التقطه احد سماسرة العتالة . وجد فيه
    بنيانا صلبا يفي بمتطلبات العمل الشاق , فضمه لقائمة عتَّاليه . ووجد له غرفة
    يبيت فيها بشارع الطلياني مقابل باب كنيسة الروم الأرثوذكس العلوي لقاء تنازل
    أنطون عن نصف قيمة ما يجمعه من إكراميات للسمسار .
    توطدت المودة بين أنطون وفيكتور جار العيادة , فاستأمنه على سر العلاقة بينه
    وبين أخيه سركيس , راجيا أن يكون حلقة وصل فيما بينهما , واستجاب فيكتور
    دون أي تردد . في حين كان يقف أنطون بباب كافتيريا بيترو يوميا , يرمق شباك
    عيادة أخيه , علَّهُ يفوز برؤيته .

    الدكتور سركيس بولسيان
    18
    سَخَّرَ الأتراك مجموعة من عائلات الأرمن للعمل مع جيشهم خلال الحرب العالمية
    الأولى , وكانت عائلة كيغام افاديس بولسيان من ضمن هذه العائلات " الأب كيغام
    والأم هيلينا وابنهم الدكتور سركيس حديث التخرج من كلية طب الجامعة
    الأمريكية في بيروت وشقيقته الصغرى ماريا " وعندما حلَّت الهزيمة بالأتراك ,
    تم أسر عائلة كيغام من قِبَل البريطانيين آنذاك في مصر .
    خلال فترة الأسر توطدت أواصر الصداقة بين الدكتور سركيس والدكتور
    الفلسطيني فهد جبجي الذي كان يعمل مع الوحدة البريطانية التي أسرته . لما بث
    سركيس قلقه على مصير أسرته" والديه وشقيقته "
    لم يتردد الدكتور فهد في البحث عنهم , حتى عثر عليهم ضمن مجموعة من
    الأسرى المدنيين الجاري ترحيلهم إلى فلسطين .
    هشَّ سركيس لسماعه نبأ موافقة السلطات البريطانية السماح له بالسفر إلى
    فلسطين بناءا على تزكية الدكتور فهد .
    فأقام في مدينة الرملة الفلسطينية مع والديه وشقيقته وعمل فيها فأحب ناسها وأحبوه .

    ماريا
    19
    تحرَّش أحد ضباط جيش الانتداب البريطاني في ذاك الوقت بماريا شقيقة سركيس
    وانتزع عذريتها .
    أخفت عن أهلها مُصابها حتى بات حملها منه يظهر للعيان . لجأت لأخيها سركيس
    الطبيب كي يُنهي حملها , فجن جنونه وعصر رأسه بكلتا يديه وهو يجهش في
    البكاء كالنسوة سائلا أخته عن اسم ذلك الخسيس الذي فعل فعلته الدنيئة بشرف
    العائلة .
    إجابته وهي غارقة في دموعها :
    ــ اسمه دون كليلاند , ويعمل كونستابل في المعسكر الانجليزي القريب من دير
    الأرمن .
    خرج سركيس من الغرفة وهو يصرخ :
    ــ يجب أن يُصلح خطأهُ معك اليوم قبل غد .

    الزعله
    20
    في مثل هذه ظروف , لمن يلجأ المُعتدى عليه ؟ للشرطة ؟ وهل يستطيع البوليس
    الوقوف أمام جبروت الإنجليز وأمام رهبة مندوبهم السامي ؟ ... مخاتير الرملة
    ورجالاتها ؟ ومن هي ماريا بالنسبة لهم ؟ انها مجرد بنت أرمنية ساقطة , وربما
    نُطرد بسببها من الرملة ومن فلسطين كلَّها . تمتمَ في سِرّه قائلا :
    ــ ليس لك غير" الزعله " يا سركيس . هي وحدها تستطيع ان تقف بوجه
    المغتصب دون كليلاند وإجباره على إصلاح خطأه مع ماريا .
    دأبت الزعله على صبغ شعرها بالحناء . غزاها المشيب مذ بلغت الخمسين فلما
    شارفت الستين لم يبق برأسها شعرة سوداء واحدة .
    ورغم ما عانت الزعله من انحرافات شخصية فإنها حافظت على نقاء فتونتها
    للرملة وقُراها ورَعَتْ المظلومين والبؤساء بالعطف ومد يد المساعدة لهم . فأصبح
    اسم الزعله مرادفا للبلطجة والمجدعة بذات الوقت . تبدو ضخمة المظهر كعمالقة
    الأساطير . حادة النظر كالنسور . خشنة الطباع كالضباع , تنقض على غريمها
    كلبؤة جائعة . زَفِرة اللسان كمومس وقتَ تُهان . صلبة كشجرة بلوط . شبقه كدبابير
    المناحل .
    طلباتها كانت تُلبى من قِبَل أعيان الرملة ومن المخاتير قبل أن يصابوا بطرطوشة
    من لسانها أو بصفعة من يدها اليسرى الطرشاء .
    استمدت الزعله شجاعتها وبأسها حتى مع ضباط وجنود الإنجليز , بسبب جرأتها
    المفرطة المترافق مع ذكائها الفطري , فهي تعرف من أين تؤكل الكتف , وتعي
    أيضا متى وأين تُكشف الأوراق . جميع مَنْ بالرملة كانوا يهابونها ويخاطبوها
    بأم يوسف . نقبة الزعله التصقت بها بسبب شراستها وقت الزعل .
    ويا ويل من يخاطبها بالزعله , أبواب جهنم تُفتح علية ويصبح في خبر كان ..
    خبَّطَ سركيس على بابها فوجدها منهمكة بتحنية شعرها .
    فبادرته بالمزاح قائلة :
    ــ هل جئت تحني شواربك يا دكتور ؟
    نقل سركيس حِمْلهُ إلى أم يوسف منتظرا ردَّها .
    لملمت شعرها المغموس بالحناء , وقالت له وهي تشعل سيجارتها:
    ــ ليطمئن قلبك يا حكيم , واذهب لشراء ثوب العرس لأختك .

    ولادة أنطون
    21
    ارتعد دون كليلاند عندما تناهى الى مسامعه أن الزعله ستتولى الدفاع عن حقوق
    ماريا وعلاقته بها , فدفعه الخوف للملمة عزاله والهرب من الرملة ومن فلسطين
    ومن الشرق الأوسط بأكمله .
    حَجَبَ سركيس أخته ماريا عن الأنظار لحين موعد ولادتها .
    أنجبت أنطون قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بعام , وبعد أسبوع من ولادته ,
    ترَجَّلَ نور عينيها الجميلتين عن مهرته واندَحَر كفارس مهزوم.
    ثم ماتت ماريا بسبب إصابتها بحمى النفاس ولِشَحْ الأدوية خلال فترة الحرب .
    لجأ سركيس لأم يوسف الزعله مرة أخرى كي تساعده في استخراج شهادة ميلاد
    باسم المولود "أنطون" الأب كيغام والأم هيلينا, وبذلك أصبح لسركيس أخا .
    ولما اجتاح مرض الكوليرا البلاد , أهلك في طريقه والدي سركيس .
    شعر بالمسؤولية تقفز فوق كتفيه , .قبلها راضيا , وتعهد برعاية أنطون , فعامله
    كأب وكأخ وكابن أخت .

    الرملة
    22
    كان الدكتور بولسيان يقف بالنافذة التي تطل على مئذنة النبي صالح في الرملة
    وبجانبها البوسطة " البريد " فيشاهد أبو حنا مديرها على عجلته بالذهاب والإياب
    كان يرمي عليه السلام ويدعوه للعب الطاولة . كلاهما كانا يعشقان احتفالات موسم النبي
    صالح . كانا ينتظرانها كلما هل َّعيد القيامة , وكأنها تكملة لأفراح قيامة المسيح لدى
    الطائفة الأرثوذكسية المسيحية . كان الدكتور بولسيان يعشق الموسم لسببين . الأول :
    لازدهار شغل العيادة خلاله . والثاني : لتشابه الفولكلور الفلسطيني بالأرمني , فقد كان
    يذكره ببلاده أرمينيا قبل أن يجتاحها الأتراك .
    من عادة أبو حنا أن يدعوا أصدقائه ومن ضمنهم الدكتور بولسيان للعب الشدة كل
    رأس سنة جديدة . جاء الطلق لأم حنا وهم يلعبون , فهرع الدكتور بولسيان
    لمساعدتها بالولادة , ما هي إلاّ دقائق حتى خرج مبتسما وهو يشوح بإشارة النصر
    بوجه أبو حنا قائلا له :
    ــ مبروك أجالك ولد .
    نطر أبو حنا أوراق الشدة التي يبده فوق الطاولة معلنا انتهاء الدق قائلا :
    ــ هذا فوزي عليكم في هذا الدق . الولد يكسب .
    كان الدكتور سركيس بولسيان قد أصيب بمرض النكاف " أبو ضغيم " وذلك اثر
    عدوى انتقلت إليه وهو في الرملة , من احد مرضاه الأطفال , تورمت خصيتاه
    وأصبح عقيما . رضي بحظه ونصيبه متكدراً , ولم يواسيهِ في مصابه , سوى
    التدخين , فاقبل علية بشراهة وإفراط .

    الهجرة
    23
    في ظهيرة يوم الخامس عشر من شهر أيار عام 1948 . وبينما كانت عائلة ابو حنا
    يتحلقون الطبلية على الغذاء . بدأ الهجوم على مدينة الرملة من قبل عصابات اليهود ,
    ابتداء من قطاع النبي صالح القريب من منزله .
    وسرعان ما امتد القتال إلى كافة الجبهات . وكان منزل أبو حنا بمرمى النيران .
    فكان همه في ذلك الوقت هو الحفاظ على أرواح أفراد أسرته , إذ كان خوفه من
    ان تمتد يد الغدر لهم ويمارسوا معهم عمليات تطهير عرقي كما حصل في مجزرة
    دير ياسين .
    كانت الأسرة مكونة من عشرة أشخاص , فيما انضم زوج ابنة أبو حنا الكبرى
    إلى المدافعين عن مدينة الرملة .
    وفي هذا الوقت الصعب كان لزاما عليهم ترك المنزل والانتقال مؤقتا الى ملاذ
    آمن .
    وهكذا تحركوا مشيا على الإقدام باتجاه دير اللاتين الذي يقع في وسط البلدة وقد
    سلكوا طريقا فرعيا وهو" المحص " من أحياء الرملة المعروفة والموازي للشارع
    العام لأن الرصاص كان ينهمر في كل اتجاه إلى أن وصلوا الدير ,الذي كان قد
    سبقهم اليه العديد من العائلات . ومن ضمنهم الدكتور بولسيان وشقيقه الصغير أنطون .
    وبعد أن تم تأمين العائلات في الدير توجه بعض الشباب ومنهم حنا والدكتور
    بولسيان إلى النادي الأرثوذكسي حيث وضعوا أنفسهم تحت تصرف مسئولي
    النادي للقيام بواجب العمل التطوعي . وجاء هذا متزامنا مع وجود بعثة طبية
    مصرية كانت قد اتخذت من فندق أمية مقرا لها . فالتحق الدكتور بولسيان مع
    البعثة التي كانت تقوم بمهام إسعاف ومعالجة الجرحى من المناضلين العرب
    بالإضافة لجرحى اليهود أيضا .
    اثناء الهدنة كان ابو حنا قد حزم أمره باتخاذ قرار الرحيل ألقصري إلى رام الله .
    فحشر نفسه وأسرته على ظهر سيارة بكب مع عائلة أخرى وانطلقت بهم السيارة
    إلى البيرة ثم رام الله .
    أخذ أبو حنا يتفقد أفراد أسرته واحدا واحدا . وإذ به فجأة يأمر السائق بالتوقف
    والعودة للدير .
    صرخت ام حنا مفزوعة :
    ــ نصري ... نسينا نصري
    كانت النيران تلتهم المكان الذي كانت أسرة أبو حنا لائذة به .
    لم يجرؤ أحد على اختراق النار . وإذ بأم حنا تدخل النار غير آبهة وتلتقط
    نصري من وسط النيران وتعود به .
    كان الدكتور بولسيان قريبا من المكان فقام بتقديم الإسعافات الأولية لنصري وأم
    حنا وطمأنهم وحثهم على سرعة السفر بسبب خطورة الأوضاع .
    في حين غادر الدكتور بولسيان الرملة سيرا على الأقدام مهاجرا مع من هاجر في
    ذاك الوقت خلال النكبة إلى الأردن , عاتلا أخاه الصغير أنطون فوق كتفيه وممسكا
    بحقيبة العلاج بيد وباليد الأخرى بقجة بها بعض الملابس وبطانية وزجاجة ويسكي
    مع القليل من الزاد للطريق .
    تدلى مفتاح منزله من رقبته في حين التصقت سيجارته المشتعلة بشفتيه. تاركا خلفه
    منزلا وعيادة مؤثثين على الطراز الغربي الحديث على أمل أن يعود في يوم من
    الأيام .
    وعندما طال الانتظار قام باستئجار بيت في عمان بأول طلعة بسمان والتي تُطل
    على البريد , انتقى من البيت غرفتين جاعلا منهما عيادة.
    وبذلك يكون الدكتور سركيس قد صرف كل مدخراته التي جلبها معه من الرملة.
    وأصبح , يا رب كما خلقتني .

    سارة
    24
    كانت سارة من نوع النسوة اللواتي يذهب جمالهن عندما يكبرن في العمر , بعكس
    نسوة أخريات متواضعات الجمال في صغرهن ومع مرور الزمن يختَمِرن ويفتحن
    كالورود .
    حين تأكد لنظمي بيك وزوجته عدم قدرتهما على الإنجاب . ولشغفهما الحميم
    بالأطفال , قرَّرا اللجوء لدار الأيتام .
    انتقوا سارة , بنت ذكية وجميلة , عمرها في ذاك الوقت كان خمس سنوات .
    عاشت سارة بكنف البيك وزوجته في بيت من بيوت عمان القديمة في جبل اللويبده
    والبادي على أهله الثراء من نمط الحياة التي يحيونها . كانا يعاملانها كإبنة من
    صلبهما , ولم يبخلا عليها بشيء .
    استدار جسم الصبية ودخلت في طور المراهقة مبكرة عن بنات جيلها.
    اعتادت سارة الجلوس بحجر والدها تلاعبه ويلاعبها , إلى أن شعر في يوم من
    الأيام بشعر بدنه يُطِلُّ من مخبأه ويقف , بينما كانت كفّا يديه تحومان فوق جسد
    الصبية الطري , نفر العرق من مسامات جلده وبلل سرواله .
    انتفض كالممسوس بسلك كهربائي مكشوف , دخل الحمام , توضأ وأطال في
    الصلاة إلى أن جاءت زوجته من مشوارها وهو على سجادة الصلاة .
    لم تكن سارة غافلة لما جرى لنظمي بيك , فقد كانت تسترق النظر في الليالي التي
    يكون فيها البيك وزوجته بانسجام , وتخزِّن في مستودع ذاكرتها , حتى طاف
    المخزون وبدأ يوزع خيراته على المحرومين .

    نظمي بيك يدمن الشيكولاطة
    25
    استدلَّتْ سارة بالصدفة على نوع من الشيكولاطة الألمانية الممزوجة بالويسكي
    كانت تباع في بقالة حوش المجاورة للبنك العثماني الذي يطل على ميدان الملك
    فيصل ذو الساعة المشهورة بوسط البلد , ومن يلتهم اكثر من قطعتين متتاليتين منها
    ينتعش ويفقد توازنه واتزانه .
    كانت تلقمه حبات الشيكولاطة في غياب زوجته عندما تُلِحُ عليها الرغبة ,
    وتستدرجه لشرب الكأس حتى الثمالة .
    حتى باتت حبة الشيكولاطة هذه تُذَكِّر نظمي بيك بيوم الوقفة الذي يتلوه العيد .
    أدركت سارة بذكائها الخبيث , أن لا مفر لنظمي بيك سوى أن يلبي طلباتها مهما
    عظمت , حتى يستمر في قطف ثمار بستانها المُحَرَّمْ . كما أدركت إدمانه لها
    وللشيكولاطة إدمانا لا علاج له . فلجأت للتمنع والمراوغة حتى كتب لها ثروته .
    وحين اطمأنت أن كل شيء أصبح بقبضتها , ألقت به كقشرة موز لا لزوم لها .
    لم يطل مرض البيك طويلا , مات بين يدي زوجته نادماً على هفواته , فجاء ندمه
    بعد فوات الأوان . اشتعلت ساحة البريد بوسط البلد لوفاة نظمي بيك , شيَّعَهُ مُريدوه
    في جنازة مهيبة . فزعت سارة لموت البيك أكثر مما حزنت .
    أصيبت زوجة نظمي بيك بمرض الخَرَفْ " الزهايمر " بعد وفاة زوجها , وماتت
    مجهولة الهوية في ملجأ للعجزة .

    المستخبي
    26
    غابت عن سارة الدورة , فلجأت للدكتور بولسيان . لم تخفِ عنه شيئا .
    تذكر أخته ماريا . طفح الحنين لها ولامَ نفسه لربط واقعة سارة بواقعة ماريا التي
    أغواها الكونستابل الإنجليزي , في حين ان سارة كانت هي الفاعل والمفعول به .
    أشعل سيجارة أخرى من سيجارته المشتعلة .
    قال لها وهو ينظر نحوها من فوق نظارته :
    ــ اسمعي يا سارة , إذا كنت ترغبين بالإجهاض, أنا لست ممن يقومون به .
    فراحت تقضم أظافرها , وقبل أن يكمل كلامه بادرته بالقول :
    ــ أنا أريد الزواج قبل أن يُفتضح الأمر .
    أشارت لبطنها وهي تكمل حديثها :
    ــ كم من الوقت لدي , قبل أن يظهر المستخبي .
    نفث دخان سيجارته من انفه وبدا كالمُثقل بفكرة بدأت تنخر عقله للتو" لمَ لا
    يتزوجها أنطون , فنسدد ديوننا , ونعيش في بحبوحة باقي العمر " ؟
    أجابها وهو شارد الذهن قائلا :
    ــ من شهرين إلى ثلاثة .
    خرجت وهي تتمتم :
    ــ بركة .

    هذا الدكتور بولسيان غير دكتور بولسيان الرملة الذي كان يزن الشرف والرجولة
    بميزان من ذهب .
    ها هو يلقي بهما بمزابل النسيان ويدير لهما ظهره . وحين خطرت بذهنه فكرة تزويج
    أنطون بسارة كان بقراره نفسه متحمساً للفكرة . وبذات الوقت تمنى على أنطون أن لا
    يقبلها .
    الضابط المرتشي
    27
    سارة بنت سوق , شعارها " اليد التي لا تعمل نجسة " .
    حسبت الثروة التي ستؤول إليها بسعادة غامرة , وجدتها تربو على الربع مليون
    دينار وكانت تطمح ان تصل بها إلى المليون .
    تعاملت مع تجار البلد بكل ندية, كانت تسافر وتعود بحقائب تبيع محتوياتها للتجار
    حتى بات ربحها وفيرا.
    في أحدى السفرات ضُبطت تهرب دخان , استدعاها الضابط المسؤول .
    وهي في الطريق إليه خطر ببالها أن ترشوه , ماذا تفعل, وضباطنا لا
    يُرتشون بالساهل, وكيف ستعرف إن كان هذا الإنسان مرتشياً أم لا !
    كان بيدها كتاب "موت رئيس" يحكي عن ملابسات قتل الرئيس جون كنيدي.
    حشرت ورقة مائة دولار بين صفحاته, وثلث الورقة ظاهر منه.
    وضعت الكتاب فوق مكتب الضابط .
    مدّ َ الضابط يده نحو الكتاب وهو يرنو الورقة المندَّسة بين ثناياه قائلا :
    ــ هل تسمحين لي بهذا الكتاب , موضوعه شيّق .
    ابتسمت وهي تلفظ زفيرا طال كتمانه:
    ـ تفضل,الكتاب وصحابه تحت أمرك.

    الميكانيكي
    28
    بإمكان سارة ان تقتني سيارة جديدة من الوكالة , لكنها ارتأت أن تبتاع سيارة
    مستعملة بربع ثمن السيارة الجديدة درءاً للحسد ومنعا للحديث عن ثروتها
    ومصدرها . كان عليها الذهاب لدائرة السير لإعادة ترخيص السيارة وتسجيلها
    باسمها , طلب منها الموظف المختص أن تقوم بتوضيح أرقام اللوحات قبل تكملة
    إجراءات الترخيص . خرجت بالسيارة من مبنى الدائرة تبحث عن محل من
    المحلات المنتشرة حول دائرة السير كي يقوم بطلاء اللوحات حسب المطلوب .
    التقطها احدهم وسألها, بينما كان يقوم بإعادة توضيح أرقام اللوحة :
    ــ هل مررت فوق مطب ؟ اسمع صوت في العجل الأمامي يحتاج
    إصلاحه إلى عشر دقائق فقط , وربما يسألونك عنه لدى الفحص . وفري الوقت
    والجهد ودعيني أصلحه الآن .
    سألته وهي تنظر في ساعتها :
    ــ وهل هذا الأمر ضروري ؟
    انتصب واقفا وقال بلهجة الواثق :
    ــ نعم ضروري , وعندما أبدل القطعتين الباليتين بقطعتين جديدتين فلن تزوري
    ميكانيكي لثلاث سنوات .
    انبطح الميكانيكي تحت السيارة بعد رفعها بالجك قائلا لسارة :
    ــ من فضلك ادعسي على البريك بقوة .
    خرج من تحت السيارة وبيده قطعة من جسم السيارة , اقترب من سارة وقال لها :
    ــ خلليكي داعسة على البريك ريثما احضر قطعتين جديدتين ,
    أشار للقطعتين اللتين أزيلتا من السيارة وهو يقول :
    ــ انظري كم هما مهريَّتين , الله سترك . دقائق وسوف أعود .
    قالت له والملل بادي على محياها :
    ــ لقد تعبت قدمي , دع احدهم يدوس على البريك بدلا مني .
    صاح على احد الصبية المنتشرين كالذباب وأشار له بما يفعل, وقال لسارة :
    ــ لا تغادري واجلسي في المقعد الجانبي كي لا يختل توازن السيارة .
    غاب دقيقتين , عاد وبيده قطعتان جديدتان , لوح بهما أمام ناظري سارة وانبطح
    ثانية . زحف خارجا من تحت السيارة وهو يقول :
    ــ كله تمام , السيارة أصبحت جديدة , مبروك .
    فتحت حقيبتها وهي تسأله عن قيمة أتعابه .
    اخرج ورقة وقلما من جيبه وأخذ يكتب يجمع ويطرح , أعطاها الورقة وهو يقول :
    ــ كامل المطلوب بعد الخصميات سبعة وخمسين دينار .
    فوجئت سارة بالرقم , مدت يدها في الحقيبة قائلة :
    ــ لم أتوقع هذا المبلغ , بيكفي خمسين .
    بعد أن أنهت معاملة السيارة , جلست خلف المقود ,ثم قامت بإشعال سيجارة وسرحت
    بتفكيرها مستعيدة ما جرى عند الميكانيكي. اجتاحها غضب خبيث , فلَطَمَتْ جبينها
    بكف يدها. أنها عملية نصب واضحة " هل تجاوزتِ مطب؟ سوف يُغلِّبوكِ في
    دائرة السير , اجلسي خلف المقود ودوسي على البريك لا تغادري السيارة. وأنا
    زي الهبلة , أطعته ودفعت له ما يريد . إن شكوته سوف يقولون لي أن القانون لا
    يحمي المغفلين " .
    تدفق الدم في عروقها حتى بات على وشك اختراق الجدران من الغيظ . فهمست في
    سرها قائلة :
    ـ أنا سارة, ما انضحك علي طول حياتي, خِلقِة ميكانيكي مصدي , يضحك علي!
    وقفت بسيارتها أمام محله . كان تحت إحدى السيارات , ومغفل آخر جالس خلف
    المقود وداعس على البريك .
    أشارت للميكانيكي فهرول نحوها مستفسرا . بالكاد رسمت ابتسامة مصطنعة على
    شفتيها وهي تقول له :
    ــ شكرا لك , أنا ما هانلي أخصم عليك السبع دنانير , والجمع كمان , كان فيه غلط
    المطلوب مني سبعة وستين دينار مش سبعة وخمسين . وأنا ست حقانية ما باكول
    حق حدا , وهدول المصاري أولا وأخيرا رزقة ولادك . راح أعطيك عشرين دينار
    حقك , وإكرامية مني ثلاث دنانير . لكني دفعت مخالفات مش حاسبة حسابها ,
    أطلع معي نوصل عالبنك اللي في آخر الشارع , اسحب فلوس وأعطيك باقي
    حسابك .
    سال لعابه على العشرين دينارا . وثبَ كالتيس , وتكوَّمَ بالمقعد الأمامي لسيارة
    سارة وهو يقول للمغفل الآخر :
    ــ خليك داعس على البريك , دقيقة وراجع .
    وقفت خلف سيارة شرطة النجدة الواقفة قرب باب البنك , فتحت حقيبتها وأخرجت
    منه حبة الشيكولاطة الألماني الممزوجة بالويسكي قائلة له :
    ــ دوق حبة الشيكولاطة هذه , وقوللي شو رأيك .
    ذابت بفمه وقال بعد أن التهمها : ــ لها طعم الويسكي .
    استدارت نحوه والشرر يتطاير من عينها , فبدا لسانها كخرطوم سيارة نضح وهي
    تقول له متوعدة :
    ــ إذا لم تعطني الخمسين دينار الآن يا نصاب يا حرامي , سوف اجيبلك مصيبة .
    مسحت يدها بملابسه الملوثة بالشحمة , وليَّطت كتفها ورقبتها وشقت قميصها كاشفة
    عن صدرها وهي على وشك الصراخ قائلة له بتحد :
    ــ سوف أصوت وألِم عليك الناس وأقول انك تحرشت في, وها هي سيارة الشرطة
    قدامك , راح يشموا ريحة الويسكي ويشوفوا الشحمة على جسمي . وقبل ما يسألوك
    ايش إسمك راح تنضرب ويحطوك في صندوق سيارتهم , وعلى بيت خالتك
    ياشاطر , ايش رأيك ؟
    دسَّ يده في جيبه وأخرج رزمة من الفلوس , وضعها على كرسي السيارة وفر
    هاربا .
    حلَّ هدوء مُفعم بالرضا على وجه ساره .

    الدوشري
    29
    الساعة تقترب من الواحدة ظهراً , عندما بدأ أبو احمد الدوشري يلملم الأوراق
    المتناثرة فوق المكتب استعدادا للانصراف. رأى سارة كاشفة عن صدرها
    والميكانيكي يصفق باب سيارتها هاربا, وبشهامة أهل البلد , اقترب منها عارضا
    خدماته وهو يقول لها :
    ــ خير يا ست , بتحتاجي مساعدة ؟
    اطمأنت سارة عندما رأت أبو احمد أمامها. بدا كفحل مثل أبطال السينما , دونهم في
    الجمال والرشاقة ولكنه مكتسٍ بروعة الصورة الشعبية لقبضايات زمن فات .
    خاطبته وهي تعيد ترتيب ثيابها :
    ــ ألستَ أنت أبو احمد بائع السوس والخروب على بابي دخلة بيترو ومطعم الشرق ؟
    هز رأسه بالإيجاب .
    أكملت حديثها مع الدوشري وكأنهما صديقان قائلة :
    ــ وماذا تفعل هنا ؟
    أجابها وعينه على حبَّتي الرمان القابعتين خلف أزرار قميصها قائلا :
    ــ أنا اعمل في هذا المكتب حتى الساعة الواحدة , وبعدها انزل أبيع السوس
    والخروب كما تعرفين . على فكرة , أنا أعرفك , أنت سارة بنت نظمي بيك الله
    يرحمه .
    أرهقها الجهد المتواصل والضجر , وأرهقها الحرمان ووجدت مشقة في تعويض
    الدفء الذي كانت تنعم به بحجر نظمي بيك .
    لم تكن سارة ترغب بزوج تفتخر به أمام الناس, إنما لزوج يطفئ عطشها, ومَنْ
    يطفئ العطش غير بائع السوس في ايام القيظ هذه ؟ أيقنت انه قد وقع في شباكها ,
    وأنها على وشك صيده .فبادرته قائلة بأنوثة فاضحة :
    ــ إذا خلَّصت شغلك , تعال اركب معي أوصلك .
    منظر صدرها العارم سكن مخيلة أبو احمد واستقر , فهو لم يذق طعم الرمان
    البلدي منذ هجرته زوجته .
    عيب سارة أنها ليست جميلة الوجه , لكن , مؤهلاتها الأخرى تفوق ملكات الجمال
    دقة وقياسات .
    سردت له سارة ما حصل بينها وبين الميكانيكي بالتفصيل , فأعجب لجرأتها
    ولإصرارها على تحصيل حقها بالأساليب المشروعة وغير المشروعة . لكنه
    ارتاب من قوة شخصيتها .
    تغيرت دنيا أبو احمد , بفضل الثروة التي اقتنصها من سارة بعد زواجه منها .
    ارتدى أثمن البدل , وركب أفخم السيارات . ولم يجد من يحاسبه على العبث بمال سارة
    سوي رُكّاب طاولة القمار في ليالي قهوة " خَبّيني " الحالكة الظلمة .
    فتغير أسلوبه في الحياة , أصبح يأكل بإفراط , ويشرب بلا حساب , ويدخن
    ويحشش ويشم الكوكايين , وكلما غازلته غانية استجاب وسرعان ما تحرر من
    سطوة سارة فلم تعد إلا قطعة أثاث مهترئة في بيت مترامي الأطراف .

    تناثرت إنباء مغامراته إليها فاشتعلت بجنون الغيرة ولكنها تلاشت وتضاءلت أمام
    سيادته المرعبة ولم تجد ما تتذرع به أمامه إلا الهزيمة , فأخذت تذبل يوماً بعد يوم
    حتى سقطت كورق الخريف.
    كان أبو احمد واقفا بوسط دخلة بيترو يعطي أوامره للعمال الذين يشطبون المحل
    المقابل لصالون البوري عندما ربت ادوار فوق كتف الدوشري مازحاً كعادته:
    ــ امسك حرامي ! مبروك مرتين يا أبو احمد , أولا للجواز وثانيا للمحل . ايش بدك
    تبيع في المحل يا دوشري ؟ سوس , ولاّ خروب ؟
    استدار أبو احمد , حضن ادوار وقبله على وجنتيه وهو يقول له :
    ــ الله يبارك فيك وعقبالك لما الكنيسة تسمح لك وتتجوز على ام بندلي .
    رُفعت القارمة فوق محل أبو احمد الجديد " كافيتيريا الدوشري "
    كافتيريا بيترو
    30
    اعتقد أبو احمد انه يستطيع منافسة كافيتيريا بيترو ذات الصيت المُدَوِّي في ذاك
    الوقت .
    لكن هيهات ! أولاً النظافة في كافيتيريا بيترو ولا نضافة المستشفيات , والنقانق
    تُعمل خصيصاً لبيترو فقط , وبأيدي اللحام ادوار المصري وهو اشهر مَن يعمل
    نقانق في عمان , ينقع لحمتها بالنبيذ وليس بالخل كباقي اللحامين , كما ويحشوها
    بحبات الصنوبر اللبناني . أما اللبنة فهي من صنع أبو عمر الشركسي الفلاح الذي لا
    يعرف الغش , والطحال من ملحمة كلش المشهورة بالسقط ومن ايدين أم حنا والدة
    إبراهيم صاحب الكافتيريا . فأين أبو احمد من هذا كله , زد على ذلك كرم
    نصري في حشو السندويشات , وخفة دم فيكتور في استقطاب الزبائن .
    يوما , وقف ادوار أمام أبو عمر الشركسي قائلا له ممازحا كعادته :
    ــ ليش لابس الفروة بالمشقلب يا أبو عمر . إشلحها , والله ما بتستاهلها .
    كان أبو عمر لابسا الفروة وصوفها من الخارج .
    رد على ادوار غاضبا :
    ــ أنت بتفهم أكتر من الخاروف ؟
    أغلق أبو احمد محله بخسارة ليست بسيطة , وابتاع محلاً آخر مقابل سينما
    الحسين , وكانت الخسارة في المحل الثاني أفدح وأوجع من خسارته في محله
    الأول. عاد الدوشري يبيع السوس متنقلاً بين أزقة شوارع عمان وهو يغني:
    ــ بعبش في الجيبة بعبش بعبش ... نعنشلي دمك نعنش نعنش . تمر هندي يا سوس
    أحلى من الخروب يا سوس .
    حنا
    31
    حاول الدكتور بولسيان العثور على أخيه أنطون بلا جدوى , فص ملح وداب . إنه
    يرغب بمشاهدة أخيه , باحتضانه , بالتمليس على شعر رأسه كما كان يفعل أيام
    الرملة . لقد قسى سركيس على أخيه , يبدو أن الأخ الأصغر قد وعى الحياة أكثر
    من الأخ الكبير .
    لم يكن احد يعرف أن لأنطون أخاً سوى حنا شقيق إبراهيم الأكبر, وفيكتور الدن .
    ولم يكن أيضا احد يعرف أن حنا شريك إبراهيم بالكافتيريا , والذي نادرا ما كان
    يتواجد بها بسبب سفراته المتكررة والدائمة خارج البلاد , سوى ادوار صاحب
    صالون البوري ابن خالتهم, فلجأ الدكتور بولسيان لحنا كي يساعده بالعثور على
    شقيقه .
    حنا وسركيس أصدقاء من أيام النادي الأرثوذكسي في الرملة , كان حنا حارس
    مرمى النادي , وسركيس قلب الهجوم . كان باستطاعة سركيس إحراز أهداف
    بمرمى الخصم وقت يشاء , ومن أي موقع حتى من الضربات الركنية , فسطع
    نجمه , لكنه أبعد عن اللعب في النادي بسبب إصراره على التدخين. استمر حنا
    مع كرة القدم, وحاز على الكؤوس لتفانيه بحراسة مرماه.
    انطلق حنا وفيكتور نحو قهوة العتالين. عادا وبصحبتهما أنطون . فتلاقت أفكار
    الشقيقين سركيس وأنطون على لفظ الماضي بمآسيه وغدره . ذاب سركيس كقطعة
    سكر بقعر كوب شاي وسكب في قلب أخيه أنطون أعذب الحان الحياة وهو
    يحتضنه ويقبله . أشعل سيجارة من أخرى كعادته, وتكوَّمَ فوق الأريكة يسعل سعالا
    قدَّرَ إبعاده كونه طبيبا .
    سافر إلى لبنان برفقة حنا , ومن ثم إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت ,
    حيث مات هناك .
    تسونامي
    32
    ها هي دقات ساعة بج بن المنبعثة من مذياع المقهى المجاور لسكن أنطون ,
    تُوقظه من حلم اليقظة الغارق فيه, وها هو المذيع يتلو نشرة الأخبار" سقوط عدد
    من الشهداء الفلسطينيين في المواجهات الدائرة بينهم وبين الإسرائيليين في مدن
    الضفة وغزة . هجوم على إحدى السفارات التركية من قبل منظمة ثورية أرمنية .
    أمواج تسو نامي تضرب شواطئ الجزيرة العربية "
    حلم يتبدد
    33
    لم يُطق أنطون النظر في نفسه بالمرآة وهو لابس البدله , هذه البدله مسحورة ,
    تكاد تنطق وتقول لأنطون . اعتقني , أنا لست لك , نصيبي على جسد آخر غير
    جسدك .
    حشر البدله في احد الأكياس المبعثرة في غرفته . لم يذهب لسوق البالة القريب منه
    لبيعها , خجلا من تجاره , فهو معروف لديهم وهم يعرفون أيضا انه قد اشترى
    البدله بالأمس , فبماذا سيتقولون عليه إذا عرضها للبيع في اليوم الثاني, فانطلق
    إلى سوق البالة الذي بالوحدات كي يبيعها هناك .

    سعدات المغربي
    34
    ــ سعدات المغربي من الشباب الواعدين في ثورتنا الفلسطينية . نهض سعدات
    بجسمه النحيل المائل إلى الطول ولكنه ذو شارب غزير لم يُرَ مثله من قبل اسمر
    قوي الجسم ذو عينين عسليتين جميلتين وانف كبير ونظرة ذكية . حيّا الجميع
    بإيمائه من رأسه وجلس .
    هكذا تم تعريف سعدات على ابو فتحي قائد الخلية الفدائية من قبل احد الشباب
    الجالسين في غرفة على سطح إحدى العمارات المطلة على مخفر الوحدات .

    أبو فتحي
    35
    وقف أبو فتحي بجسمه العملاق في هالة من الغموض والترقب . اسمر وملامحه
    شعبية ولكن جاذبيته لا تقاوم , أخذ يتفقد الجوار وهو يقول :
    ــ سياستنا اليوم , هي القيام بعمليات فدائية نوعية , ولن نعلن عن أنفسنا, لا قبل
    العملية ولا بعدها وخللي أعضاء الموساد يحللوا الرواتب اللي بياخدوها ويعرفوا
    مين إحنا , بدل ما نقدملهم اسأمينا على طبق من الفضة . جلس وهو يشعل سيجارة
    ويقول موجها كلامه لسعدات :
    ــ عملية الأسبوع القادم من العمليات الحساسة والمهمة , وان شاء الله لازم تنجح ,
    الهدف فيها مجموعة من الجنود الإسرائيليين اللذين يقضون إجازتهم في عمان ,
    وقد أعطيت لهم تصاريح الزيارة من قِبل الحكومة الأردنية على أنهم سياح, ولا
    تنسوا أنهم هم من يقومون بقتل أهلنا في الداخل لهذا السبب سوف نخطط لعملية
    مزدوجة .
    إذا فشلت الخطة الأولى نتحول رأساً للخطة البديلة .
    اخرج من جيبه ورقة , فردها على الطاولة التي أمامهم . بدا كرئيس لهيئة أركان
    الجيش وهو يشرح ويؤشر قائلا وعيناه ترنوان سعدات :
    ــ هذا مخطط لمعرض منتجات دول حوض المتوسط الذي سيتم افتتاحه رسميا بعد
    غد الجمعة في عمان , عَلِمْنا من مصادر استخباراتية أن الإسرائيليين يتوافدون
    جماعات على الجناح التركي في المعرض , وبالذات على قسم المنتجات
    الجلدية , أكَّدَ لنا مصدرنا الإستخباراتي أيضا أن مجموعة كبيرة من السياح
    الإسرائيليين سوف يتواجدون في الجناح التركي يوم الأحد القادم . اقترب أبو فتحي
    من سعدات هامساً بأذنه :
    ــ إنهم لك , اعمل منهم كفته .
    استدار وهو يشعل سيجارة أخرى وقال موجها كلامه للجميع :
    ــ سوف نزرع متفجراتنا داخل ركن الملبوسات الجلدية ونقوم بتفجيرها عن بعد
    في اللحظة المواتية. بنفس الوقت يكون سعدات المحزم بحزامه الناسف على اتم
    استعداد , لابس بدله محترمة كرجال الأعمال , يرصد ما يجري .
    فإذا , ولأي سبب من الأسباب لم تنفجر الحمولة الأولى , يدخل سعدات ويفجر
    حزامه الناسف بالقرب من المتفجرات المزروعة بالمعرض كي يحصل انفجار
    مضاعف . هل من استفسار ؟
    رفع سعدات يده طالبا الإذن بالكلام قائلا :
    ــ أرجو أن لا تفهموا كلامي بأني أتراجع عن موقفي النضالي , ان روحي بكفي
    أهبها مختارا لوطني حتى يتحرر .
    ولكن يا أخ أبو فتحي , ألا ترون أن ميدان العملية هو خارج ارض فلسطين , في
    دولة عربية شقيقة وتحت سقف دولة وهي تركيا لا نرغب بالفوز بها عدوة لنا ,
    ولا تنْسَ يا أخ أبو فتحي أن هناك أبرياء مدنيين , ربما , لا بل من المؤكد
    سوف يتأذون خلال هذه العملية .

    الديك
    36
    مَرَّتْ فترة صمت كادت أن تهيمن على الموقف, حتى مال أبو فتحي برأسه نحو
    نبيه الديك الجالس يمينه, وقبل أن تخرج الكلمات من فم أبو فتحي نهض الديك .
    وقف أمام سعدات, فبدا كبرميل بارود على وشك الانفجار قال بثقة وحزم وهو
    يرنو سعدات , بنظرات مخترقا بها حاجز الصمت :
    ــ تساؤلاتك في محلها يا سعدات . لكن اعلم ان من يخجل من ابنة عمة فلن يأتيه
    أولاد , وصراعنا مع الصهاينة ليس له حدود . ألم يقتلوا كمال ناصر ورفاقه في
    بيروت , وأبو جهاد خليل الوزير في تونس , ومحاولتهم تصفية خالد مشعل
    في عمان ؟ وغيرهم , وغيرهم . اسمع يا سعدات , إذا كنت غير مقتنع أو غير
    مُهيّأ لهذه العملية . تنحّ في غيرك عشرات يتمنون أن يحلّوا محلك .
    أدرك سعدات بذكائه الفطري , أن نبيه الديك هو رجل القيادة العليا , وصاحب
    القرار في هذه الجلسة . فاستدرك قائلا وهو يرنو أبو فتحي , نظرة توحي بذلك :
    ــ ما على الجندي إلا الطاعة . والقيادة على راسنا , فهي تعي العواقب , ولها
    حساباتها .

    بائع البالة
    37
    دخل أنطون محل البالة الذي يقع في ظهر مخفر الشرطة والكيس بيده .
    لم يعره صاحب المحل أي اهتمام , اقترب منه أنطون مستفسرا إن هم يقبلون
    شراء ملابس قديمة .
    استدار صاحب المحل نحو أنطون يسأله بقرف :
    ــ ايش معك ؟
    نتش الرجل البدله من الكيس , كنوري يقلع ضرسا بكلاّبتة الصدئه . مد يده في
    جيبه وناول أنطون ورقة بخمسة دنانير. وجمَ أنطون , تطلَّع في ذهول فاغراً فاه
    كالمُنَوَّمين مغناطيسيا نحو الورقة الحمراء التي بيد صاحب المحل. دفس الرجل
    البدله في الكيس بعصبية ونَطَرَها بوجه أنطون قائلا له :
    ــ خود خِرِقتك وحل عنا .
    أخذ أنطون البدله وسار ببطء حتى حاذى باب الخروج , وصاحب المحل ينظر
    نحوه باستهجان , رقَّ قلب الرجل وتبدَّلت أحاسيسه .
    ما كاد أنطون يضع رجله خارج الباب إلاّ والرجل صاحب المحل يصرخ طالباً
    منه العودة :
    ــ تعال يا حاج, خود, هي سبع دنانير وهات البدله, أصلا أنا مش راح اقدر أبيعها
    اكتر من عشرة .
    ثم استدرك قائلا :
    ــ شكلك مش حرامي . من وين جبتها ؟
    ابتسم أنطون كالمُساق نحو حبل المشنقة مستهزئا . ثم أخذ ا السبعة دنانير من
    الرجل , واستأذنه بشرب كوب ماء .
    كان في الركن البعيد من المحل شابان يقلبان بالملابس .
    سألهما صاحب المحل وهو يمد يده بكوب الماء لأنطون:
    ــ عن ماذا تبحثان ؟
    أجابه الشاب القصير:
    ــ نبحث عن بدله لهذا العريس . وهو يشير لسعدات .
    أشار صاحب المحل لبدله أنطون وهو يقول :
    ــ ما رأيكم بهذه البدله ؟
    ثم غمز سعدات وهو يهُز رأسه قائلا له : ـ أدخل قيسها .
    خرج سعدات من غرفة القياس وهو يقول :
    ــ ممتازة, سوف آخذها, , قديش بدك يا معلم ؟
    قال صاحب المحل وهو يرمق أنطون :
    ــ بكفي منك عشرة .
    أشار صديقه للجاكيت قائلا :
    ــ يبدو أن الجاكيت واسع شوي عليك يا سعدات .
    ردَّ عليه سعدات وهو يبتسم :
    ــ أحسن , عشان اللي بالي بالك .
    شرب أنطون كوب الماء وخرج من المحل وهو يقول لسعدات :
    ــ مبروكة عليك البدله , وان شاء الله تنول مرادك فيها .

    الانفجار
    38
    دوى صوت انفجارين متتالين في منطقة جنوب عمان , سُمع صداهما في غربها .
    تتالت الأخبار تباعا تنشر تفاصيل العملية " انفجاران ضخمان في الجناح التركي
    لمعرض منتجات حوض المتوسط أسفر عن مقتل عدد من السياح الإسرائيليين
    الذي تصادف وجودهم في المكان وقت وقوع الانفجار, كما وأصيب بجراح أيضا
    عدد من العاملين في الجناح التركي للمعرض .
    أفادت الأخبار أيضا انه تم التعرف على هوية منفذ الهجوم ويدعى أنطون كيغام
    بولسيان وهو من الناشطين في الحركة الثورية الأرمنية ضد الأتراك إذ عثر على
    هويته الشخصية في مسرح الانفجار " .
    رفع حنا السماعة , وأدار القرص يكلم أخاه نصري :
    ــ هل سمعت الأخبار ؟
    كان نصري من مدمني سماع الأخبار وتحليلها, لا بل كان في بعض الأحيان يتنبأ
    بحدوثها .
    لم ينتظر حنا رد أخيه , فاسترسل بالكلام قائلا :
    ــ وهل تعتقد أن أنطون هو مَنْ قام بهذه العملية ؟
    جاء الرد من نصري مختصرا وساخراً :
    ــ أنطون ! طبعاً لا , ربما بدلته ؟

    نصري بيطرو
    39
    عندما أصرَّ أصدقاء نصري , هاشم وهشام وخالد وغطاس بالمزاح مع نصري
    في سنته الأولى بالطب البيطري ومناداته بنصري بيطرو بدل بيترو, لم يحتمل
    معاكستهم فطلب من إدارة جامعة القاهرة , نقله إلى كلية طب الأسنان .
    عمل نصري بعد تخرجه في عيادات وزارة الصحة تسع سنوات , ثم عمل بعدها
    عشرين سنة أخرى مع وكالة الغوث الدولية في مخيم البقعة إلى أن أقدَمَ على
    اختيار التقاعد المبكر طريقا له كي يعمل في عيادته الخاصة والتي قام باستئجارها
    بذات موقع عيادة الدكتور بولسيان ومقابل كافتيريا أخيه إبراهيم .
    بنفس اليوم الذي باع أنطون به بدلته قرر الذهاب لإدوار وإبراهيم يشكرهما لمَ قاما به
    من اجله حين كان مغمى عليه . اقترب من الدخلة , فوجد نصري منهمكا في إعداد
    عيادته لطب الأسنان , بينما كان جاك حزبون , فني تركيب الأجهزة السنية ,حائرا وهو
    واقف قرب نصري يجوب بنظره باحثا عمن يساعده في نقل المعدات المرصوصة على
    الرصيف ,مقابل صيدلية السكر . شاهد أنطون قادما فابتسمت أساريره , وقال
    لنصري :
    ــ ها قد حضر الرجل المناسب .
    لم يكن أنطون , هو أنطون زمان , الذي كان يعتل بمفرده أعتى العتلات , ورغم
    تجاوزه للخامسة والخمسين كان ما زال على قدر من الهمة جعل نصري يعتمد
    عليه, وبمساعدة عمال الكفتيريا تم نقل كامل المعدات, للعيادة . رمق نصري ,
    أنطون المجهد قائلا له :
    ــ لمَ لا تعتزل مهنة العتالة يا أنطون , وتشتغل معي .
    لم يقل نصري لأنطون " تشتغل عندي " فأنطون بالنسبة لنصري ليس عتالا
    ترمي له أجرته ويذهب. فأنطون لا يقل حميمية عن أصدقاء نصري, وأخويه.
    وهو أيضا , مثال صارخ للاعتزاز بالنفس .
    روى أنطون لنصري , كيف أن هذه العيادة كانت في يوم من الأيام لأخيه سركيس,
    كما روى له قصة بيعه لبدلته وكيف انه نسي بها هويته الشخصية . وبذلك يكون
    نصري إضافة لحنا وفيكتور من يعرف شخصية أنطون الحقيقية.

    الفدائي
    40
    أنطون كيغام بولسيان. هذا الاسم أصبح حديث الشارع العَمّاني . وبالأخص في
    دخلة بيترو,بعد عملية تفجير الجناح التركي وبعد مقتل السياح الإسرائيليين , فأخذوا
    يتساءلون, هل هو أنطون رجلنا الذي نعرفه ويعرفنا ؟ وهل أنطون فدائي ارمني
    أصلاً كي يقوم بضرب الأتراك انتقاما لما قاموا به ضد الأرمن في الحروب السابقة
    من قتل وتهجير .
    هل, وهل .. حتى باتت جميع التساؤلات لا قيمة لها أمام نتيجة عملية أنطون التي
    شفت غليلهم إلى حد أنهم بدأوا يطلقون عبارات الشكر والثناء والترحم عليه في
    العلن .
    كان إبراهيم من الذكاء ودقة الملاحظة , حيث همس لنفسه يوما, وكله يقين :
    ــ لا احد يقطع البسطرمة بهذه الدقة, سوى, ارمني من ظهر أرمني يا أنطون .
    طمر إبراهيم شكوكه هذه في غياهب عقله الباطن , كي لا تحوم حوله الأقاويل,
    فيتأذّى منها مَنْ يتأذى , ربما هو نفسه وأخواه .
    أخفى أنطون رأسه بكوفية , وهو الذي لم يضع كوفية فوق رأسه كباقي العتالين قط
    تسلل إلى عيادة الدكتور نصري .
    جلس مقرفصا أمام نصري في إحدى غرفتي العيادة , ويداه فوق رأسه الذي كاد
    أن يسقط على الأرض كثمرة تفاح ناضجة وهو ينتحب :
    ــ أصبحت طريدا , ولا ملاذ لي سواك يا دكتور نصري .
    هكذا كان حال أنطون بُعَيد سماعه لنشرة الأخبار .
    التقط نصري يدي أنطون , ونهض معه عن الأرض قائلا له :
    ــ لم أخبَرَك بهذا الضعف يا أنطون , ماذا جرى لك ؟ فِزّ قوم , وارفع رأسك . عش
    حياتك كما كنت , وشوف كم أنطون في الأردن , هل تعتقد انك الوحيد الذي اسمه
    أنطون ؟ لا أحد في الدنيا يعرف اسمك بالكامل , سواي وأخي حنا هل عندك ذرة
    شك أننا سنشي بك أو نفضح سِرَّك ؟ زد على ذلك انك لست بموضع تساؤل , لأنك
    تعتبر ميتاً بنظر الأجهزة المختصة . ومع فرض أنهم اهتدوا إليك , فهذا دليل
    براءة لأنك لو كنت الفاعل لكنت تُبَاع بالكيلو عند كلش الآن .

    العتال يعتزل
    41
    سُمِعَ صوت نقر خفيف على باب العيادة . ربما يكون احد المرضى .
    نهر نصري أنطون قائلا : قم وافتح الباب يا أنطون
    حيا الرجلان الدكتور نصري وأنطون بكل أدب , وأخذا مجلسين في غرفة الانتظار
    أخرج أحدهم علبة سجائره من جيب قميصه وهو يقول للدكتور نصري الواقف
    بباب غرفة الفحص :
    ــ ما جئناك كي نُعالج يا حكيم , هل تسمح لي بالتدخين ؟
    أومأ نصري له بالإيجاب , عزم عليه بسيجارة قبلها نصري , عزم على أنطون
    فرفض لأنه لا يدخن , أشعل سيجارته وهو يقول :
    ــ اسمي أبو فتحي .
    تنبه أبو فتحي انه لم يشعل سيجارة الدكتور,فاعتذر منه وأكمل قائلا :
    ــ ما سأقوله لكم هو سر من أسرار عملنا الفدائي , ولولا تورط اسم السيد أنطون
    بالعملية التي قمنا بها أمس في المعرض , لما جئناكم .
    وضع أبو فتحي رجلا فوق رجل وهو يشير لزميله قائلا :
    ــ أعرفكم على عزيز المغربي وهو شقيق الشهيد سعدات الذي نفذ عملية المعرض
    وهو يلبس بدلتك يا أنطون .
    وجم أنطون كمن يستمع لحكاية من حكايات ألف ليلة وليلة.
    استرسل أبو فتحي قائلا :
    ــ لا تسألونا كيف إهتدينا لكم بهذه السرعة . إنها من أسرار عملنا .
    جئنا لأجلك يا أنطون , فلا تخذلنا فيما نطلبه منك .
    تربَّع أنطون بمقعده وقال وهو يرنو نصري نظرة فيها الكثير من التساؤل .التفت
    نحو أبو فتحي وقال :
    ــ نحن يا أبو فتحي وأخ عزيز وطنيون مثلكم ونخدم قضيتنا بما نستطيع , فصِّلوا
    وأنا ألبس . بس خللي بالك , ما تكونش بدله لأني لن البس بدله بعد اليوم .
    ابتسموا جميعهم . أكمل أبو فتحي حديثه قائلا :
    ــ هذا أملنا فيكم , وما جئناكم إلاّ بعد تحريات أكْبَرَتْ نقاء صورتكم .
    مال أبو فتحي نحو منفضة السجائر ينفض عمود رماد السيجارة فيها وهو يسترسل
    بالشرح :
    ــ يعتقد الإسرائيليون أن أنطون وبدافع وطني ارمني , هو من قام بالعملية .
    داس بأصابعه على المتبقي من السيجارة وهو يهرسها في المنفضة , وأكمل حديثه
    قائلا :
    ــ نريدهم أن يصدقوا هذه الرواية حتى النهاية . لأن سياستنا اليوم هي القيام
    بعمليات فدائية لا نعلن عن الجهة التي قامت بها ولا نفصح باسم منفذها , كي يكلموا
    أنفسهم كالمهووسين ويلجئوا للمشعوذين ولفتح القهوة بالفناجين . أشعل سيجارة
    أخرى وهو يقول :
    ــ المطلوب منك يا أنطون أن تختفي أو تتخفى إلى أن نحررك من هذا الطلب .

    اعتزل أنطون مهنة العتالة وأصبح يرفل بملابس كملابس العمال الهنود الوافدين
    للعمل في الأردن , سروال اصفر وملاءة خضراء وقلنسوة حمراء فوق رأسه .
    اليوم المقدس
    42
    كان أنطون يبيت في العيادة ويُخدِّم على أصدقاء نصري اللذين ما انقطعوا عن
    اللقاء حتى بعد ان انتظموا في دوامة العمل وأصبحوا تروسا في ماكينة الزمن التي
    لا تتوقف .
    كان يوم الثلاثاء هو يومهم المقدس , يلتقون فيه يتسامرون, يقلِّبون في ذكريات
    الماضي ويلعنون الحاضر الذي خانهم باستسلامه المهين والسريع أمام جبروت
    الواقع .
    كان أنطون ينصت لحواراتهم فينجذب لرأي أحدهم تارة , وتارة ينقلب وينجذب
    لصاحب الرأي المغاير .
    كان أنطون يرصد نصري الذي كان أقلهم مشاركة في الحوار , حتى ظنَّ به عدم
    اهتمامه لما يدور , فها هو يشاهده منهمكا في العد على أصابع يديه وكأن إحدى
    مسائله الرياضية قد استعصت على الحل .
    مدَّ هاشم يده لنصري يعزم عليه بسيجارة كان هاشم قد فرَّغ محتوياتها وأعاد
    حشوها ودكَّها بالحشيش وهو يغمز للجالسين مبتسماً :
    ــ خود يا نصري جرِّب هالسيجارة علَّها تُطلق لسانك وتُتْحِفنا برأيك ؟
    أشعل نصري السيجارة وأخذ منها نفساً التهم نصفها , حَشَرَ دخانها في رئتيه ونفثه
    من أنفه وهو يلتهم المتبقي منها .
    بدا نصري بعد التهامه جرعة الحشيش خاملا . أخد يجترُّ الماضي , فساقه الى
    غياهب عقله الباطن , إلى باب محل أخيه ابراهيم لتأجير البسكليتات في رام الله ,
    فشاهدَ نفسه يعد على أصابع يديه .
    لم يستطع كتمان فرحه , فضحك كما لم يضحك من قبل . حضن هاشم, قبله وقال
    مقهقها :
    ــ وجدتها , لن اعد على أصابعي بعد اليوم , وهاكم لساني .
    مدَّ لسانه يرقصهُ أمامهم.
    لفَّ هاشم ذراعيه حول خصر نصري ثم رفعه وهو يقول :
    ـ يبدو أن صاحبنا قد وصل . زقفة يا شباب .
    كان أنطون يراقب بحزن ما يدور حوله فتمتم في سره قائلا :
    ــ يبدو أن صاحبي قد وصل فعلا .
    أطلق الحشيش لسان نصري . وقال موجها كلامه لغطاس بجرأة غبر معهودة به
    قائلا :
    ــ هل تدري أن لي تجارب في كتابة القصة وقرض الشعر ؟
    أجابه غطاس وقد بدا راضيا لتغيير منحى الحوار في الجلسة لأمر يرغب بالخوض
    فيه . فقال وهو يعتدل في مجلسه :
    ــ المهم يا نصري أن تتقن فن صنعة الكتابة , فللنجار أدواته وللطبيب أدواته ,
    وللكاتب أدواته . ليس المهم ماذا تكتب بل المهم كيف تكتب . ولا تنسى الصورة
    الجمالية بكل كلمة تُدَوَّن وان تبتعد عن المباشرة قدر الإمكان . فكم من مقال
    صحفي غاص في عمق الأشياء وتلاشى من الذاكرة . وكم من عمل إبداعي كان
    ولم يزل ينحت في الذاكرة . وهناك أمر آخر يا نصري يجب على المبدع
    أن يراعيه , وهو أحاسيس المتلقي . فلا يصدمه بعمل أو بكلمة تتنافى مع القيم
    والعرف وما يؤمن به من مبادئ وطنية .
    التفت غطاس نحو هاشم يونس وقال بنبرة عتاب لا تخلو من مسحة مودة :
    ــ كم رجوناك يا هاشم أنا ونصري وهشام الهدهد . نثنيك عن عزمك الذهاب إلى
    إسرائيل لعرض مسرحيتك هناك .
    وماذا كانت النتيجة ؟ ذهب عنك جمهورك , مما اضطرك لإغلاق مسرحك .
    أدرك هاشم أن المطب الذي أوقعه به غطاس لا يمكن الخروج منه إذا وقف بموقف
    المدافع عن نفسه . فبادر بالهجوم قائلا :
    ــ وأنت يا غطاس أديب ويا هشام الهدهد ويا نصري بيطرو ومَنْ ورائكم ومن
    معكم . ماذا قدمتم للقضية سوى هروبكم . أنا على الأقل خضت التجربة , وقلت ما
    تتمنون قوله , داخل ثكناتهم , وعلى بعد أمتار من رملتك يا نصري ولُدَّك يا هشام .
    امتعضَ نصري من كلمة بيطرو التي نطق بها هاشم , والتي لم يسمعها منذ أن
    تحول من كلية الطب البيطري إلى طب الأسنان . كان على وشك إبداء رأيه في
    موضوع زيارة هاشم لفلسطين كي يُنهي الجدل حولها , لكنه صمت .
    وتدافع الحوار مثل زبد البحر الهائج . فغدا أنطون حائراً . إن استمر النقاش بهذه
    الحدة فلا يمكن التنبؤ بعواقبه . استمدَّ من حبه لهم شجاعة . وكان في صميمه يدرك
    محبتهم لبعضهم البعض .
    كان أنطون في مطبخ العيادة يهيئ لهم وجبة العشاء .
    انضم إلى مجلسهم وقال بنبرة ساخرة محذراً :
    ــ للحيطان آذان يا جماعة , فكفى أرجوكم . ألا ترغبون بلقمة وقليل من الليمونادة
    لتهدئة خواطركم ؟

    البحث عن منفذ العملية
    43
    لملمَ رجال البحث الجنائي ورجال المخابرات كل ما يتعلق من أشلاء جسدية وبقايا
    ملابس كان يرتديها منفذ الهجوم .
    أصيبت بدله أنطون بأضرار جسيمة , حتى بِتَّ ترى رجلي البنطلون كل بناحية ,
    وظهر البذلة وأكمامها , بناحية أخرى . لم يكن جزء سليم في البدله سوى الجيب
    الذي به الهوية , ومن خلفه الماركة واسم المحل واسم أنطون , الذي صمم ان
    يطرزه له عادل موظف السردي على باب الجيب الصغير بصدر البذلة .
    ماذا بقي غير ذلك يا أنطون ؟
    كان أبو يوسف السردي واقفا مع موظفيه يتأمل البضاعة الجديدة عندما دخل
    رجلان المحل , طرق احدهم زجاج الفاترينا بسلسلة مفاتحيه , ثم عَبَرا وعلى
    سحنتيهما عبوس لو شاهده شارلي شابلن لاعتزل الكوميديا وانتحر .
    ــ مين فيكم صاحب المحل ؟
    كان أبو يوسف السردي يتصدَّر في شبابه الرجال المدافعين عن بوابه مئذنة النبي
    صالح وهو فوق حصانه وبيده البيرق , كي لا يدخلها أحد قبل أهل الرملة .لو عاد
    أبو يوسف الوراء قليلا لطرد هذين الرجلين شر طردة, لكنه وبإحساسه الذكي
    الشفاف أدرك أنهما من الشرطة بلباس مدني . التفت نحوهما قائلا :
    ــ أنا أبو يوسف صاحب المحل . خير ؟
    كانوا في المخابرات قد أعادوا خياطة البذلة . وصلوا أجزائها ببعض ورتقوا
    الأماكن التي تحتاج لرتق , فأصبحت بدله ذات صفة بعدما كانت قطعا هنا وهناك .
    سَحَبَ الرجل الثاني البدله من كيسٍ اسود , فردها على الطاولة أمام أبو يوسف وهو
    يقول :
    ــ نحن من التعقيب في مخفر وسط العاصمة . هذه البدله تم شرائها من محلكم هذا
    أليس كذلك ؟ ثم استرسل قائلا :
    ــ وطبعا, ليس لكم فروع أخرى في عمان وغير عمان؟ نحن نعرف ذلك .
    كشف عن موقع ماركة البدله , وعن اسم المحل الملصقين فوق الجيب الداخلي
    لجاكيت البدله وأشار بإصبعه نحو اسم أنطون المطرز , وسأل :
    ــ مَنْ هو أنطون ؟
    اقترب عادل الموظف من أبو يوسف وقال له هامساً :
    ــ هذه البدله التي اشتراها أنطون قبل أسبوعين .
    استقام أبو يوسف واتكأ على عصاه قائلا للرجلين :
    ــ إن مَنْ تسألون عنه , هو أنطون , وفعلا كان قد اشترى هذه البدله من محلنا قبل
    أسبوعين . لم نشاهده منذ عشرة أيام . أسألوا عنه في كافتيريا بيترو , ربما تجدونه
    هناك .
    إبراهيم أبو رائد وادوار أبو بندلي وفؤاد أبو نادر حول طبق من الفول لم يتبقَّ به
    سوى مسحة أو مسحتين .
    صرخ ادوار على صبيه قائلا له وبيده الصحن :
    ــ ارمح يا ولد عند هاشم , خليه يصلحه .
    دخل الرجلان الصالون وبيدهما الكيس الأسود يسألان عن أنطون .
    لم نشاهده منذ عشرة أيام
    هكذا كان جواب كل مَنْ سُئِل عن أنطون .
    عاد الرجلان لأبي يوسف وأعطياه البدله قائلين له :
    ــ ربما تتصدق بها يوما لأحد العتالين .
    وأقفل المحضر على ذلك .

    بدلة انطون
    44
    تيقن إبراهيم الآن ان ظنونه , كانت في محلها . لقد اختفى أنطون ولم يظهر منذ
    أن ساعد أخاه نصري بنقل معدات العيادة وحتى الآن ,أنها عشرة أيام لم يُشاهد
    فيها أنطون ولا حتى عابراً . فتمتم قائلا :
    ــ رحمة الله عليك يا أنطون .
    وإذا بأبي يوسف السردي أمام إبراهيم وهو يترحم على أنطون .
    نقل إبراهيم لأبي يوسف قصة أنطون الفدائي الأرمني الذي انتقم للفلسطينيين
    المنهوبة ديارهم, والمشطوبة أسماؤهم من سجل طالبي الحرية .
    انتصب ابو يوسف وهو يسمع حكايةُ أنطون من إبراهيم , حتى كاد شعر رأسه أن
    يخترق الحطة معلنا عن ذاته , ويفخر بهذا المدعو أنطون , الذي قام بما قام به
    مصادفة , فأصاب وأوجع .
    طلب أبو يوسف من عماله تقييف البدله التي تركها المخبران وغسلها وكيَّها كي
    يعرضها بفاترينة المحل .
    وقف أنطون بعد أن غير شكله تماما أمام فترينة السردي , يتأمل الموقع الذي كانت
    فيه بدلته والتي اشتراها قبل أسبوعين, فرآها على مُجسَّمْ شمعي يشبهه, ومكتوب
    على ورقة ملصقة بصدر الجاكيت بدله أنطون .

    جمعية الرملة
    45
    كانت قاعة جمعية الرملة في جبل الحسين في عمان غاصة بالمدعوين رجالا
    ونساءا وأطفالا من أهل الرملة وضيوفهم للاحتفال بذكرى موسم النبي صالح . بدا
    أبو يوسف السردي رئيس الجمعية رشيقا كالغزال وهو يتنقل بين الحضور مرحبا
    بهم وهو يدعوهم لتناول الكنافة الرملاوية والكعكبان " نوع من الحلوى كانت تُعمل
    خصيصاً بموسم النبي صالح في الرملة " .
    ألقى فوز الدين البسومي الصحافي ابن الرملة كلمة , جاب فيها بالحاضرين في
    الرملة وسَكَناتها وجميزها ودومها وناسها . اغرورقت عيون الحضور بالدموع
    والتهبت أكفهم بالتصفيق . فرفقا بهم يا بسومي .
    وقف أبو يوسف السردي أمام الميكروفون مرحبا بهشام الهدهد اللداوي والذي
    سيلقي بصوته العذب قصيدة عن الرملة قائلا :
    ــ ومَنْ يكتب للرملة غير رملاوي طُبعت خطاه على أرضها , الدكتور نصري
    سليم . ومن ينشد لها غير لداوي أصيل , عشق ترابها وانحنى أمام منارتها , الفنان
    هشام الهدهد .
    انتصب هشام خلف الميكرفون كالميدنة .
    حدج الجمهور لثوانٍ وانشد قائلا :


    ــ بيتي ياللي في الرملة كُنِتْ ....
    ما يوم عن بالي إتواريت أو غِبِتْ
    سِبتَكْ طفل ... بحضنك نسيت لعبة خشب ...
    لحصان كنت اركبه وأرْمَحْ
    حصاني خشبه سرو ...
    بجناحين .. وعيون من عجم البلح
    ربّي ... إهدي اللي ركبه بعدي ...
    يحافظ عليه
    وما يسمح بيوم إنه يندبح .
    دوَّت القاعة بالتصفيق . رفع أنطون الواقف بالباب يده ملوحا لهشام بإشارة
    استحسان . ختم هشام القصيدة قائلا :
    ــ حصاني ... رفع بيرق
    وفوق الميدنة مع النبي صالح نطق
    سرقوا بيتك يا عوض ...
    لكن مفتاحه معي
    أضرب طَلَق ...
    حصانك بلا خيال ...
    اركبه وعالميدان
    إحرق الخِيَمْ اجعلها سكن ...
    عللي افترى ... وعاللي راهن انك بيوم
    تقبل عَوَض عن عَوَضْ ...
    أو ترضى بغير رملتك وطن

    دوى صوت زغرودة أطلقتها أم حبيب موندو اليافاوية , فاهتزت القاعة من
    التصفيق والهتاف وكأن زلزالا ضربها .
    ارتجفت عضلات وجه أنطون من التأثر وهو يشاهد هذا الإصرار في وجوه
    الحاضرين على حب الوطن وعدم التفريط بذرة تراب من أرضه .
    تذكر بدلته المصمودة بفاترينة السردي , فبكى .


    سيجار كوبي
    46
    نقر أبو فتحي باب عيادة الدكتور نصري . كانت رائحة سيجاره الكوبي قد سبقته
    وتسللت من بين شقوق الباب تعلن عن القادم .
    لم يُفاجأ الدكتور نصري بأبي فتحي ولا بحجم السيجار الذي بيده . فالأخبار هذه
    الأيام أصبحت لا تُطاق , وتدور في حلقة مفرغة , حتى كاد الدكتور نصري
    الخبير بتحليلها واستنباط ما يدور من حولها , أن يعتزل سماعها ويعود لسماع
    الموسيقى الكلاسيكية المغرم بها ولقرض الشعر الذي يعشقه ولكتابة القصة التي
    انقطع عن كتابتها فترة الانتفاضة .
    كما لم يُفاجأ الدكتور نصري لما يدور على الساحة السياسية من طفرات جعلت فيها
    الغث يتبوَّأ صدارة الأحداث والسمين يتراجع موصوما بأقذر الصفات . ها هي
    اتفاقيات كامب ديفيد , وأوسلو , ووادي عربة تزين الوجه القبيح .
    وها هم قطعان السياح الإسرائيليين يجوبون كالأفاعي , عواصم , كانت حصونا
    بوجوههم في يوم من الأيام .
    سأل أبو فتحي عن أانطون , فوجده واقفا بباب الحمام يتدثر بملاءة كملاءة الهنود ,
    ويعتمر بغطاء رأس , كقلنسوة الهنود السيخ .
    رسم أبو فتحي ابتسامة فوق شفتيه وهو يقول لأنطون :
    ــ جئت كي أحررك ونُعفيك مما طلبناه منك . وتفضل يا أنطون , ها هي هويتك ,
    وجواز سفرك الجديدان .
    نطر أنطون القلنسوة عن رأسه , خلع الملاءة , وتقدم نحو أبو فتحي بملابسه
    الداخلية , ماداً يده يلتقط الجواز والهوية وهو بحالة من الذهول المختلط بأهازيج
    النصر , سرعان ما انقلب إلى فرح عارم لم يعهده منذ كان طفلا بالرملة عندما
    كان أخوه سركيس يأتيه بهدية أو بملابس جديدة .
    وجم أنطون وهو يقرأ الاسم , فصرخ بوجه ابو فتحي مستفسرا :
    ــ ومن هو أنطون فادي سمعان هذا ؟
    ــ انه أنت
    ــ أنا أنطون كيغام بولسيان , فلسطيني أرمني , هاجرت من مدينة الرملة , لعلمك ,
    هذا هو الشتات الثاني لنا نحن الأرمن . لن أضيف , وافهمها على كيفك . لي
    حق عودة , لي أملاك في فلسطين . كيف سأحَصِّل حقوقي بعد ان عبثتُم باسمي ؟
    وقف أبو فتحي واقترب من أنطون وهو يقول له :
    ــ نحن الآن يا أنطون في فترة حرجة من نضالنا . لقد تعبنا , ونستحق قسطا من
    الراحة ريثما نعيد ترتيب أوراقنا ,اسمك الحقيقي سوف يقلب الطاولة فوق رؤوسنا .
    ابتعد أنطون عن أبو فتحي وهو يرغي ويزبد :
    ــ استراحة المحارب هذه , تعني موتي , وموتكم .
    وقبل ان يُكمل حواره وقف ابو فتحي . فبدا كالمتادور المُنْهَكْ وصَوَّب سيفه بجسد
    الثور الجريح قائلا :
    ــ الموت غدا كفناً لنا يا أنطون . والقتل شعاراً وُصِمْنا به . إلى متى ؟
    اقترب أنطون دون وعي نحو نصري وكاد السقوط بحجرة وهو يقول :
    ــ والمقاومة ليست بالقتل والتقتيل فقط . إنها أيضا , برصاص الكلمة وحماس الإقناع .
    يبدو أنكم قد عجَّزتُمْ وفترت هممكم يا حضرة الجنرال , اخلوا الساحة للمتحمسين
    وللواعدين من شبابنا . ودعوهم يلعبون مع الكبار لعبة الثأر وقطف الثمار .

    هذه أول مرة يُشاهد فيها أنطون منفعلاً ومتحمساً .
    حتى وجد فيه نصري أنطون آخر غير أنطون الذي يعرفه . ذاك الإنسان الوديع
    والمُسالم . ماذا ألَمَّ به ؟
    استدار أنطون نحو نصري يكمل حديثه :
    ــ غطاس ,والبسومي وغيرهم يا دكتور نصري فَطِنوا لِمَ يُدَبِّر ُلنا ويُحاك حولنا من
    مؤامرات ومؤتمرات . لم يقولوا دعونا تستريح ريثما تأتي الرياح بما تشتهي
    السفن . فرفعوا الترس وشحذوا القلم وهم لم يلتقطوا أنفاسهم بعد حينما كان
    الرصاص لغة المتصارعين الوحيدة . أدركوا بإحساسهم الغير قابل للمساومة ,
    بتعاظم قيمة الرصاص الحقيقي إذا تلازم مع رصاص القلم الذي يكوي كالجمر ,
    فإن لم يُصِب فسوف ينحت في ذاكرة الأجيال حتى تصحو من سباتها .
    الإعلام يا دكتور نصري هو احد ميادين معركتنا اليوم ألم تقل لي ذلك ؟ أدب ,
    سينما , تلفزيون , صحافة , به تبني أمماً , وبه تهدمها . أنا أنطون كيغام بولسيان
    لأجل استراحة المحارب هذه أصبحت أنطون السعدان . وها أنا أفقد حق مواطنتي
    وبيتي , وعرضي !
    صوَّبَ أنطون سبابته نحو أبو فتحي حتى كادت أن تلمس جبينه , وقال هامساً :
    ــ اسمع يا حضرة السيد . اسمي هو عنواني , به يتجدد حماسي , وبه أقي بدني
    وأستر عورتي . لا سامحكم الله .
    التفت أبو فتحي نحو نصري يستنجد به قائلا :
    ــ ولكن يا دكتور نصري , صاحبكم غطاس قد غير اسمه ليصبح "نزيه أبو كمال"
    ولصديقك هاشم يونس رأي آخر في الصراع , فمن خلال أعماله ومسرحياته
    يحاربهم بلغتهم .
    ابتسم نصري وقال ساخرا :
    ــ تقصد انه يقدم مسرحياته باللغة العبرية ؟ أم انه نقل ساحة الصراع إلى أرضهم ؟
    نهض أنطون كمن لُسِعَ بجمرة متوهجة واتجه نحو الباب وهو يقول :
    ــ مش مقبولة منك يا دكتور نصري , حتى ولو كنت تمزح . أرضهم !
    اقترب أنطون من نصري وهو يشير نحوه بإصبعه مكملا حديثه :
    ــ إن هاشم يونس يا دكتور نصري قد فقد حماسه منذ ركع أمام قبر رابين .
    واستمرأ النقر على الدفوف منذ قال لهم آمين . أما غطاس الذي استبدل عنوانه
    واسمه فكان بقناعته ورضاه . ولم تهتز صورته حين تحول إلى نضال الكلمة .
    لا تنسى أيضا , إن هشام الهدهد وكثيرين مثله ما زالوا على يقين, إن ما أخذ بالقوة
    لا يسترد بغير القوة . في حين أن صديقكم خالد لم يحتمل الضغوط , فهجر أسرته
    ووطنه ودينه وباعهم للشيطان .
    استدرك نصري زلة لسانه , وخاطب أنطون بلهجة قاسية :
    ــ ما بك يا أنطون , أين روح الدعابة لديك ؟ اقصد " بأرضهم " كما يقولون في
    مباريات كرة القدم .
    ثم أكمل حديثه مداعباً :
    ــ لا تقل لي يا أنطون انك لست أنت الذي فَجَّرَ المعرض فوق رؤوس الإسرائيليين ؟
    روحك النضالية لم تغب عن مكان العملية . وبدلتك بتشهد .
    بدله أنطون ليست للبيع
    47
    خرج أنطون غاضبا بعد أن تدثر بملابسه العادية . وقف أمام بدلته المصمودة
    بفاترينة السردي يتأملها , كعادته كل يوم .
    وإذا بسائح إسرائيلي , يشير للبدله مستفسرا عن سعرها .
    لعلع صوت أبو يوسف السردي من داخل المحل قائلاً :
    ــ بدله أنطون ليست للبيع .

    حريق السردي
    48
    استيقظ نزلاء فنادق حي وسط البلد ذات النجمة الواحدة , على صوت سيارات
    الإطفاء والدفاع المدني تهرع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من محلات أبو يوسف السردي
    المشتعلة فيها النيران . وثب أنطون من بين جمهرة الناس الواقفة أمام المحل
    اخترق النيران نحو بدلته قبل أن يصلها اللهب فتحترق .
    صاح به أحد الحاضرين قائلا :
    ــ ايش بتعمل يا مجنون ؟
    حضن أنطون بدلته وانطلق بها بعيداً . صرخ آخر :
    ــ حرامي ... حرامي .


    بدله أنطون يُعاد حياكتها
    49
    عَثَرَ فيكتور على أنطون بباب غرفته في شارع الطلياني , فجر اليوم التالي
    لحريق السردي , ولم يبقى من وجهه إلاّ عظام محطمة , غارقاً في بركة من الدماء
    قابضا بيده قطعة ممزقة من قماش بدلته التي لم يبقى منها سوى نسايل قماشها بعد
    أن أشبعها القاتل تقطيعا وتمزيقا .
    لملم فيكتور قطع البدله الممزقة والمتناثرة بالغرفة , وطلب من والدته إعادة حياكتها
    والتبرع بها لمن يحتاجها .

    فراق الأحباب
    50
    وصمدت كافتيريا بيترو وكأنها وطن , لجيل ثاني من الرواد .
    سكارى وأفّاقون وقوادون .
    كما وغزا الدخلة شباب نانسي وهيفا وشعبولة .
    توفي إبراهيم صاحب الكافيتيريا , وتوفي أبو يوسف السردي , وتوفي ابو نادر
    صاحب مطعم فؤاد , ثم هاجر ادوار إلى أمريكا .
    عزَّ على نصري فراق الأحباب. فنقلَ عيادته إلى جبل الحسين .
    لكنه بقي مواظبا على الحضور إلى الدخلة لينعم برؤيتها ويستذكر همساتها
    السحرية . ها هو يستنشق هوائها ويترس أنفاسها ورائحتها داخل حجيرات رئتيه.
    ولكن أين روحها ؟ صعدت للسماء .

    بدله أنطون للبيع
    51
    أصبحت الدخلة بدكاكينها وانسها وعفاريتها , هياكل تعبث فيها الجرذان .
    وانزلق الدمع من عيني نصري ثم بكى وتهاوى , فتلقفه بائع الكتب وهو يدندن
    منشداً ومُنْتَشِياً وهو يحمل البدلة التي أهدتها له أم فيكتور الدن بين يديه :
    ــ آيات شيطانية للبيع , شفرة دافنشي للبيع , سكت ثم أكمل .
    بدله أنطون للبيع .
    وهكذا تبدد حلم أنطون . فغدت بدلته سلعة رخيصة الثمن يتقاذفها بائعي الروبابيكيا
    إلى أن استقرت أخيرا بيد أحد ماسحي الأحذية خرقة بالية يمسح بها النعال .
    لم تعد البِدَل في زماننا هذا لباسا رسميا للمناسبات . واستعيض عنها ببنطلون الجينز
    ألمهري . وبلوزة سترتش تتفتق من بين ثناياها العضلات . فغاب الوقار إلى غير رجعة .
    وبات لابسي البدل كالعتالين ينقرضون رويدا رويدا .

    انتهى ....................
    [/align]
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    بدلة انطون

    رواية ظامئة للبس بدلة الابداع ، و دخول الساحة الأدبية بقوة ، بما تحمل من تواريخ ،
    للنكبة الأولى ، و مدن طال بها الانتظار ، حد اليأس و حد التفجر ، إلى جانب عالم عريض من بشر ، يتوق للانعتاق ، و عالم قادم تثقله حمولة ما ألقى على أكتافه و أظهره ، و انطون الذى حلم ببدلة تليق بالرب ، حين يقف بها أمامه ، بخشوعه و طيبته ، و تلك الاكتشافات فى الطريق ، لأجواء من سحر القلم و المخيلة ، و ربما الواقع الذى كان هو السحر بذاته ، لولا هذه المناطق التى مازالت عارية ، تمضى بعظامها دون لحم أو ستر ؛ فهل يطلق سراحها كاتبها نصري ( فوزى سليم ) ، بالعودة إليها ، و الإقامة بين أوراقها ، فيجبر كسور اللغة ، و يتخلص من نتوءات تسيء إلى البناء ، و ربما تؤدي إلى هدمه من الأساس ، فيشذب هذه ، و يرمم تلك ، حيث غياب انطون فى إحدي الردهات ، يؤدي إلى خلل ، وهو صاحبها فى المقام الأول ، ثم هذه الفصول التي بنى عليها عمله ، ماذا لو تخلص منها ، و جعل الأمور بين قطع و لصق ، دون الحاجة لترقيم يثقل ، و قد ينال من الحالة بكل مراحلها !!
    هذه رواية خليق بها أن تحيا ، تكون بين أصابع و عيون القراء ، لما تحمل من قيمة ، تضاف إلى تلك الأعمال العظيمة ، التى أثرت العقلية و المخيلة العربية ، بجرأة كاتبها و مبدعها ، بحرفها الحاد ، و ذاك التهكم الخفيف الذى لا يكاد يري ، و القدرة على الوصف ، و رسم الأجواء ، و البحث عن القيمة اينما كانت !
    كان انطون حمالا أو شيالا ، أو حمارا كان لو أردنا ، لكنه حمل بين أوراق عمره رؤية تكاد تصرخ فى وجه عالم بغيض ، عالم لم يختره ، لكنه اختاره هو ليكون بطلا تراجيديا لهذا العمل ، و تلك الرقعة هناك فى عمان !!

    لا أدري .. هل وصلك ما أردت إيصاله ، فى تلك القراءة ، أم لا ؟
    و رغم أى شىء لا بد من انجازها ، لأنها تستحق ، و لأني سوف أنتظرها من الآن كتابا يحمل ذات العنوان ( بدلة انطون ) تأليف د . فوزى سليم بيترو

    محبتي
    sigpic

    تعليق

    • فوزي سليم بيترو
      مستشار أدبي
      • 03-06-2009
      • 10949

      #3
      [align=center]
      ليس سهلا ولا هو ترفا كتابة رواية . تأخذ من وقتك ، وتمتص ذاكرتك المستلهمة من المكان والشخوص ، فتبدو أمامك ككومة من قطع
      الفسيفساء تقوم بانتقاء القطعة قرب القطعة ولصقها إلى أن تنتهي بلوحة لها ملامح .
      جميع الشخوص في " بدلة أنطون " حقيقيون ، باستثناء أنطون نفسه وأبو فتحي والديك وسعدات . وجميع الأماكن حقيقية . قمت باستبدال
      بعض الأسماء فقط بأسماء قريبة : نصري هو فوزي . الدكتور بولوسيان هو بودسيان . ونزيه أبو كمال هو نزيه أبو نضال " ناقد أدبي وفني " .
      وباقي أصدقاء نصري " فوزي " هشام يانس وهشام هنيدي والمخرج التلفزيوني صلاح أبو هنود ... الدوشري هو أبو أحمد الدوش . نظمي بيك
      هو الحاج نظير الشامي وهو من أعيان عمان . سارة هي سميرة نظير ابنته .
      لقد بدأت بكتابتها في يناير 2005 وانتهيت من الكتابة في ديسمبر من نفس السنة . ثم قمت بعرضها على عدد من زملائي .
      تراوحت ملاحظاتهم بين المؤيد والمعارض . فقمت ببعض التعديلات بناءا على نصائحهم . أحدهم قال لي : ليس مقنعا أن يحترف
      أنطون مهنة العتالة وهو أرمني وشقيق لطبيب مرموق ، ومعروف عن الأرمن امتهانهم لحرف محترمة ودقيقة . في حين عاب على الرواية
      الناقد نزيه أبو نضال خاتمتها . فقال لي : لماذا قمت بقتل أنطون وتمزيق بدلته ، وأنت ترمز بهما لأرض فلسطين وشعبها ؟
      لقد قمت بدفع الرواية كي تتنافس على الفوز في انتقاء قصة يتم تحويلها إلى فيلم سينمائي قامت بالإعلان عنه الهيئة الملكية الأردنية للسينما .
      فكانت من ضمن الخمسة النصوص الفائزة من مجموع ال300 نص التي تقدموا للمنافسة .
      دعيت للمقابلة كي يتم مناقشة الرواية وتكون من ضمن الثلاثة النصوص الفائزة .
      قال لي أحد أعضاء اللجنة : عنوان الرواية " بدلة أنطون " يحتاج إلى إعادة نظر . قال آخر : ليس في الإسلام تبني . اعمل شيئا بهذا الشأن .
      وقال ثالث : نحن في عمان نعيش بأمن وأمان قم بشطب فقرة الانفجار . وقال الرابع : هل تريد أن تستعدي الأرمن علينا ؟
      ثم أدلى المخرج برأيه وقال بوضوح : اسمع يا دكتور . سوف نختار بعض الفقرات من النص المتعلقة بعمان وسط البلد ، ونصرف نظر عن
      باقي الرواية . هل توافق ؟
      اشعلت سيجارتي ، وابتسمت موحيا بعدم الرضا . نهض كبير القعدة ومد يده مصافحا : ــ انتهت المقابلة ، شكرا يا دكتور .
      هذه حكايتي مع بدلة أنطون .
      وتأتي ملاحظة الأستاذ ربيع عقب الباب حين قال :
      لولا هذه المناطق التى مازالت عارية ، تمضى بعظامها دون لحم أو ستر ؛ فهل يطلق سراحها كاتبها نصري ( فوزى سليم ) ، بالعودة إليها ، و الإقامة بين
      أوراقها ، فيجبر كسور اللغة ، و يتخلص من نتوءات تسيء إلى البناء ، و ربما تؤدي إلى هدمه من الأساس ، فيشذب هذه ، و يرمم تلك ، حيث غياب انطون فى إحدي
      الردهات ، يؤدي إلى خلل ، وهو صاحبها فى المقام الأول ، ثم هذه الفصول التي بنى عليها عمله ، ماذا لو تخلص منها ، و جعل الأمور بين قطع و لصق ،
      دون الحاجة لترقيم يثقل ، و قد ينال من الحالة بكل مراحلها !!
      وأنا معك أخي ربيع فيما أشرت إليه . سأحاول ، فإذا ما فشلت هل أطمع بكرمكم في المساعدة ؟
      وجعت رأسك بهذا التعقيب على تعليقكم . فعذرا ومحبتي لكم
      فوزي بيترو

      [/align]

      تعليق

      • سالم الجابري
        أديب وكاتب
        • 01-04-2011
        • 473

        #4
        أستاذي الفاضل الدكتور فوزي سليم بيترو

        قرأت الأجزاء الثلاثة الأولى ....أعجبتني كثيراً ولي عودة لإكمال قراءة البقية.

        من جانب آخر لا أخفي عليك أستاذي أني كنت أطمع في رواية تركز على الجزء المسيحي من المجتمع العربي، خصوصاً نحن في الخليج تعتبر هذه البقعة ضبابية جداً ومعالمها غير واضحة وتتأثر صورتها كثيراً ببعض الحوادث الشاذة كالحوادث التي حدثت في الماضي بين المسلمين وإخوانهم الأقباط في صعيد مصر.

        لا أدري إن كانت هناك أعمال تركز على هذه الجزئية.

        شكرا لك
        التعديل الأخير تم بواسطة سالم الجابري; الساعة 28-04-2011, 06:40.

        تعليق

        • فوزي سليم بيترو
          مستشار أدبي
          • 03-06-2009
          • 10949

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة سالم الجابري مشاهدة المشاركة
          أستاذي الفاضل الدكتور فوزي سليم بيترو

          قرأت الأجزاء الثلاثة الأولى ....أعجبتني كثيراً ولي عودة لإكمال قراءة البقية.

          من جانب آخر لا أخفي عليك أستاذي أني كنت أطمع في رواية تركز على الجزء المسيحي من المجتمع العربي، خصوصاً نحن في الخليج تعتبر هذه البقعة ضبابية جداً ومعالمها غير واضحة وتتأثر صورتها كثيراً ببعض الحوادث الشاذة كالحوادث التي حدثت في الماضي بين المسلمين وإخوانهم الأقباط في صعيد مصر.

          لا أدري إن كانت هناك أعمال تركز على هذه الجزئية.

          شكرا لك
          العزيز سالم الجابري
          أشكرك لتفضلّك بالمرور على بدلة أنطون . وإذا قمتم بقرائتها كاملة ، أرجو أن تتكرم
          وتوافيني بملاحظاتك ، إيجابا أو سسلبا .
          أما بشأن الشريحة المسيحية من أبناء الوطن . فهم أخي سالم جزء لا يتجزّأ من نسيج الأمة
          طبعا هناك خصوصية في أسلوب المعيشة والحياة . لكنها لا تبتعد كثيرا عن خصوصية
          أخيه المسلم في بعض الأمور الدينية ومراسم العبادة .
          نعم أنطون مسيحي وأرمني بذات الوقت . والشخوص المحيطة به والذي تعامل معها
          بعضهم مسيحي وبعضهم مسلم . يبقى بطل الرواية مواطن فلسطيني بالرغم من الديانة
          فقد عانى ما عاناه الشعب الفلسطيني في شتاته وفي حنينه إلى وطنه الذي نُهب منه .
          وسوف أترك لأخي ربيع عقب الباب كي يعقب على ملاحظتكم بمسألة الحوادث المؤسفة
          وغير المسؤولة بين الأقباط والمسلمين التي حدثت في مصر .
          ولك أجمل تحياتي
          فوزي بيترو

          تعليق

          • ربيع عقب الباب
            مستشار أدبي
            طائر النورس
            • 29-07-2008
            • 25792

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة فوزي سليم بيترو مشاهدة المشاركة
            [align=center]
            ليس سهلا ولا هو ترفا كتابة رواية . تأخذ من وقتك ، وتمتص ذاكرتك المستلهمة من المكان والشخوص ، فتبدو أمامك ككومة من قطع
            الفسيفساء تقوم بانتقاء القطعة قرب القطعة ولصقها إلى أن تنتهي بلوحة لها ملامح .
            جميع الشخوص في " بدلة أنطون " حقيقيون ، باستثناء أنطون نفسه وأبو فتحي والديك وسعدات . وجميع الأماكن حقيقية . قمت باستبدال
            بعض الأسماء فقط بأسماء قريبة : نصري هو فوزي . الدكتور بولوسيان هو بودسيان . ونزيه أبو كمال هو نزيه أبو نضال " ناقد أدبي وفني " .
            وباقي أصدقاء نصري " فوزي " هشام يانس وهشام هنيدي والمخرج التلفزيوني صلاح أبو هنود ... الدوشري هو أبو أحمد الدوش . نظمي بيك
            هو الحاج نظير الشامي وهو من أعيان عمان . سارة هي سميرة نظير ابنته .
            لقد بدأت بكتابتها في يناير 2005 وانتهيت من الكتابة في ديسمبر من نفس السنة . ثم قمت بعرضها على عدد من زملائي .
            تراوحت ملاحظاتهم بين المؤيد والمعارض . فقمت ببعض التعديلات بناءا على نصائحهم . أحدهم قال لي : ليس مقنعا أن يحترف
            أنطون مهنة العتالة وهو أرمني وشقيق لطبيب مرموق ، ومعروف عن الأرمن امتهانهم لحرف محترمة ودقيقة . في حين عاب على الرواية
            الناقد نزيه أبو نضال خاتمتها . فقال لي : لماذا قمت بقتل أنطون وتمزيق بدلته ، وأنت ترمز بهما لأرض فلسطين وشعبها ؟
            لقد قمت بدفع الرواية كي تتنافس على الفوز في انتقاء قصة يتم تحويلها إلى فيلم سينمائي قامت بالإعلان عنه الهيئة الملكية الأردنية للسينما .
            فكانت من ضمن الخمسة النصوص الفائزة من مجموع ال300 نص التي تقدموا للمنافسة .
            دعيت للمقابلة كي يتم مناقشة الرواية وتكون من ضمن الثلاثة النصوص الفائزة .
            قال لي أحد أعضاء اللجنة : عنوان الرواية " بدلة أنطون " يحتاج إلى إعادة نظر . قال آخر : ليس في الإسلام تبني . اعمل شيئا بهذا الشأن .
            وقال ثالث : نحن في عمان نعيش بأمن وأمان قم بشطب فقرة الانفجار . وقال الرابع : هل تريد أن تستعدي الأرمن علينا ؟
            ثم أدلى المخرج برأيه وقال بوضوح : اسمع يا دكتور . سوف نختار بعض الفقرات من النص المتعلقة بعمان وسط البلد ، ونصرف نظر عن
            باقي الرواية . هل توافق ؟
            اشعلت سيجارتي ، وابتسمت موحيا بعدم الرضا . نهض كبير القعدة ومد يده مصافحا : ــ انتهت المقابلة ، شكرا يا دكتور .
            هذه حكايتي مع بدلة أنطون .
            وتأتي ملاحظة الأستاذ ربيع عقب الباب حين قال :
            لولا هذه المناطق التى مازالت عارية ، تمضى بعظامها دون لحم أو ستر ؛ فهل يطلق سراحها كاتبها نصري ( فوزى سليم ) ، بالعودة إليها ، و الإقامة بين
            أوراقها ، فيجبر كسور اللغة ، و يتخلص من نتوءات تسيء إلى البناء ، و ربما تؤدي إلى هدمه من الأساس ، فيشذب هذه ، و يرمم تلك ، حيث غياب انطون فى إحدي
            الردهات ، يؤدي إلى خلل ، وهو صاحبها فى المقام الأول ، ثم هذه الفصول التي بنى عليها عمله ، ماذا لو تخلص منها ، و جعل الأمور بين قطع و لصق ،
            دون الحاجة لترقيم يثقل ، و قد ينال من الحالة بكل مراحلها !!
            وأنا معك أخي ربيع فيما أشرت إليه . سأحاول ، فإذا ما فشلت هل أطمع بكرمكم في المساعدة ؟
            وجعت رأسك بهذا التعقيب على تعليقكم . فعذرا ومحبتي لكم
            فوزي بيترو

            [/align]
            يا د. فوزي .. حرام عليك
            أنا بانتظر تعليقك على كلامي ، و رأيك النهائي فى الأمر
            لأنى بالفعل و كما ذكرت لك أخشى عليها من السرقة ..!
            هم الخاسرون على كل حال ، و سوف تثبت الأيام حين تصير كتابا هذا !
            ما تم معك ليس جديدا ؛ فهكذا تتم الأمور فى تلك الأماكن ، و فى نهاية المطاف يوافق الكاتب
            على ما يرون !!
            بالطبع أن طوع أمرك د . فوزى ؛ بس بالله عليك اجعلها شاغلك .. و كمان جهزى طقم ما عاد فيه سنان
            دكترة .. !!

            معك دكتور فوزى ؛ و كما تريد و تشاء

            محبتي
            sigpic

            تعليق

            يعمل...
            X