تقول أمي إنها قبيل وفاة جدتي رأت معلمتها الدينية ( شيختها ) ذات الصلاح و التقوى و القدم الراسخة في الدعوة إلى الله في حلمها متشحة بالسواد ، و وراءها ثلاث نسوة عليهن مثل ما عليها من اللباس ، تلتفت إليها فتقول : اذهبي إلى أمك فأقيمي عندها أسبوعاً ، ثم تشيح بوجهها لتنخرط في بكاء شديد .
بعد أسبوع تماماً ، كانت وفاة جدتي التي أصابت أمي بتشتت نفسي رهيب لم ينلها مثله قبلها و لا بعدها كما غدت تقول .
و في إحدى أمسيات تعزية جدتي ، شهدت ما لم أشهد قبل ذلك ، شهدت ما كنت أرى بعض الأطفال يعيشونه كل يوم ، فيما أنا محروم منه كل الحرمان .
ذلك لم يكن شيئاً صعباً أو مستحيلاً ، بل في غاية البساطة ، لكن ظروف حياتنا جعلت منه عسراً علينا ، لم يكن إلا أن أسير في الطريق بين أمي و أبي ، أسير و هما بجانبي معاً ، فكلما خرجت من البيت كنت أخرج مع أحدهما دون الآخر ، لأنهما لم يتفقا على موعد يمضيان إليه يوماً ، و ما ذلك إلا لأن أبي لم يكن يخرج إلا إلى مجمع اللغة العربية أو إلى السوق أحياناً ، و ذانك مكانان لم يكن خروج أمي معه مناسباً إليهما .
يومها سار أبي و أمي معاً و أنا بينهما قريباً من خمسمئة متر أو أكثر ، كانت كل خطوة يخطوانها فأخطو معهما تجعلني أحس أنني أطير و أحلق في العلياء ، و أرقى درجات سلم فرح يربطني بالسماء ، فما ملأني حينها لم يملأني يوماً حتى كدت أصرخ للمارة : ها أنذا مثل بقية الأطفال أيها الناس .... مثلهم ... هذا أبي عن يميني و أمي عن شمالي و أنا بينهما ، كل منهما يمسك بإحدى يديًَّ .
يومها تذوقت طعم العائلة فأحسسته بمنتهى الحلاوة ، بل لم أحس بلذته يوماً من قبل و لا من بعد ، لا لشيء إلا أني افتقدت معنى هذه الكلمة في حياتي كلها بعدئذ بوقت قصير فقداً تاماً .
يومها تمنيت أن يطول الطريق بين بيت جدي في شارع خالد بن الوليد و بين سوق الحميدية ليغدو بطول سور الصين العظيم ، بل بطول ما بين المشرقين و المغربين ، و كانت السعادة التي غمرتني أول سعادة لمستها في حياتي ، بل لعلي لم أعش سعادة مثلها حتى اليوم ، لأن ذلك الحدث لم يتكرر من بعد أبداً .
و لست أدري أكان ذلك السير الذي ساراه و أنا بينهما إرهاصاً بالنهاية ، بخاتمة حياتهما معاً التي اقتربت كثيراً ؟؟؟ ...
فلقد أثبتت الأيام فيما بعد أن تفسير النساء الثلاث المتشحات بالسواد في حلم والدتي هو الأشهر الثلاثة الفاصلة بين وفاة أمها و وفاة زوجها ... أبي رحمه الله .
و للحديث تتمة
تعليق