للفراشات حيزها الضوئي
كل من يقف في الشارع العام يعرف بأن ابن عمي (كاسح) يتمتع بحواس ملتهبة وملتبسة، ونفس النبل لديه قصير قصر الوعود التي يطلقها، ومع ذلك أستطاع أن يجعلني أمتهن معه ذات المهنة التي يمارسها. حبسني في قاع المدينة في غرفة مشيدة في الفراغ. وما أن جلس أمام شاشه جهازه حتى ظننته عالما في سحر الفضاء. استغل ظرفي المادي القاهر ليصب في رأسي دروسا نظرية قبل أن ينطلق بي إلى الشارع لأمارس ما تعلمته عمليا. وما أن جلست أرضا كتلميذ نجيب حتى أفتتح محاضرته بكلمات متقعرة:
- لا نسيان بعد اليوم، وعليك أن تتذكر "لمّ أطلق عليك والدك اسم (مغلوب)"؟. أجعل من نفسك غالبا يا مغلوب، المال وحده هو الذي سيخلق لك قيمة بين البشر يا بشر..هل تسمعني؟
لم ترق لي الطريقة التي فض بها غشاء محاضرته، وما كان له أن يعيريني بدلالة اسمي. ولأنه يعرف بأنه حالما يفسد أحدهم شهيتي في الاستماع، أجمع حواسي واتجه بها صوب أمي، أستدعيها من اللامكان وأدخلها في ذهني، في ذاكرتي، في وجداني، وأرتب لها مساحات شاسعة في كل الزوايا. كبديل لعدم ممارسة ثقافة الإعتذار الوجيه، أقترح عليّ بأن أقضي بعض الوقت كاستراحة. قادني من يدي وأجلسني في كرسي خشبي أمام شاشته المضاءة وخرج ليعد كوبا من الشاي. لم أكن أميا تماما أمام هذا الفضاء العريض. تأملت في الصفحة التي أمامي..مجموعة من العناوين مدرجة بشكل رأسي يتصدرها هذا العلم (آسيا رحاحليه). ضغطت بشكل عشوائي. امتلأت الواجهة بحبر أزرق:
كأنّ الشمس فجأة أرسلت شعاعا من نورها داخل الحافلة المعتمة بهموم الركّاب و دخان سجائرهم..في اللحظة نفسها استدارت الرؤوس جميعها نحو باب الدخول..كأنّها تؤدي مشهدا مسرحيا ...
باذخ هذا المطلع المستلقي خلف عتبة (يوم جلس الحب بجوارك) والذي لا (يقول) بل (يكون)..!. أتزحزح حتى أكاد التصق بالشاشة مبهورا بهذه الحالة التي لديها القدرة على كسر عصا التنبوء النمطي القابعة في ذهني، ولأن ثلث كعكة يومي أقضمها في الحافلة تجسدت لي الهموم المعتمة الضاغطة على صدور ركاب الحافلة وهي تغطي وضوح النهار. كنت أتمني في سري أن لا يفشي الشعاع عن مصدره بهذه السرعة.
ويا إلهي ! إنها هي، رأيتها فاختل توازن قلبك..سمعت نبضه في أذنيك حتى خيل إليك أنه غير موضعه، إنتابك وهن شديد..أحسست بنفسك يضيق والهواء يسحب منك..
قليل من المماطلة لا تضر..قليل من الفجوات المستفزة والمحرضة، فمثل هذه الافتتاحيات المتوترة والمشوقة كان بيدها أن تفسح للتغريب مكانا بحجم ما يتيح لانتاج البداية أكثر من مرة .لمّ لم يراهن النص على فطنة مفترضة لديها القدرة على الإحالة والاستنباط؟. لو كان (كاسح) موجودا لقال لي بأن هذا الشغل كبير عليك يا مغلوب!، ألا تفهم بأن الراوي لديه من المهارة ما يكفيه في استخدام أقل حجم ممكن من الحياة الخارجية من أجل بث الحياة في لحظة منزوية لتصبح غير منزوية، أنها براعة تحويل العادي من الأشياء إلى غير العادي. ضحكت في سري على تحليلاته المفترضة وكأني لا أميز بين الراوي المهمين والراوي المحايد. فهنا تحديدا تجده أكثر معرفة من الشخصية بالأحداث التي تخصها.
لم يكن الأمر غريبا عليك فتلك حالة تلبسك بمجرّد أن تلمحها و لو من بعيد ..بل يكفي أن يستحضر خيالك ملامحها الساحرة وابتسامتها الموناليرية حتى ينقلب كيانك رأسا على عقب، ويهزك زلزال من المشاعر تخور أمامه كل قواك.
لم أشعر به حينما وقف عند الباب يخاطبني بأهمية ما أنا مقبل عليه مشددا على محور التركيز في هذه المهنة فهي تحتاج حسب قوله إلى نباهة وتحليل سليم فيما نحن فيه. لم يدر بأن أنفاسي تتلاحق مبهورا بهذه النباهة التي أمامي. شعر بأني لست معه، أقترب، تمعن وقرأ قليلا في ذات النص. مارس استهزاءه بتأملاتي الساذجة للنصوص. بكلمات نافرة أوضحت بأني سأقرأ كيفما شئت، فكل نصوص الدنيا لديها القدرة لتنصاع لقراءات ساذجة وبدائية ومسطحة، كما لها ذات القدرة في القراءات المعقدة المعمقة.
كم أحب الحافلة !. المكان الوحيد الذي أتساوي فيه مع بقية الخلق، يدفعون ما أدفع ولا مجال للاستعراض وإدعاء الثراء. وإذا كان المكان هنا يحتمي بأضابير اللغة وشخصياتها، إلا أنني سأحتفظ بخاماته وانزياحاته ومفارقاته المتروكة لي وحدي كي أعبث بها (الحافلة، الركاب، السائق، النافذة، الشارع)
الحافلة تمضي مسرعة..تلتهم الطريق بعجلاتها و الركّاب يثرثرون و يضحكون رغم سحناتهم الباهتة التي تنضح بألوان من التعب.. يلتقط سمعك كلمات من هنا و هناك عن الجو و الكرة و غلاء الاسعار..بينما فكرك منشغل بأمر واحد فقط ."أنا جبان و غبي و أحمق لو ضيّعتُ هذه الفرصة.
ارتشف (كاسح) آخر قطرة في الكوب وهم بإغلاق الجهاز. بكل لغات الاستعطاف قلت له أن لا يفعل وسأسمعه وبانتباه من مكاني. فقط عليه أن يجرب. وافق على مضض. تمنيت في سري أن يكون كلامه مبسطا، ولكن في كل مرة يزداد غموضا:
- هل تعلم يا ابن عمي أن الإنسان بلا أمان يساوي إنسان بلا دولة، ودولة بلا أمان تساوي دولة بلا إنسان مهما كان اسمه غالبا أو مغلوبا..هل هي معادلة موزنة أم لا يا مغلوب؟
لن أجب على سؤال مستعصي كهذا !. سحبت ملاءة الصمت وتلفحت بها، هربت منه بوجداني وتركت له أذني يتسلى بها، أفسحت المجال لمقاعد الحب..
تلك إحدى النظريات التي كان يتحفكم بها مروان – مستشار الغرام في الشلة ..والذي كلما التقيتم بهدف المراجعة يحول اللقاء بعد دقائق إلى جلسة إستشارات غرامية..قبل يسترسل في الحديث عن آخر إنجازاته مع الجنس اللطيف..ثم يلتفت إليك مستفسرا: وأنت ماذا عنك..هل تشجعت أخيرا وكلمتها؟
لا أدري لماذا لم يستطيع (رضوان) من شدي اتجاهه رغم ضخامة التجربة لديه مقابل ضحالتها عند البطل، قطعا أن ثقافة المبادرة تفصل بين عالمين لا يجمعهما سوى مكان واحد، ومع ذلك لم يستطع هذا الواحد من إيجاد رأس خيط التواصل الإنساني الضائع. هي قيم متوازية وسلوك تربوي يطعن من جهة، ومن جهة لا يطعن في سياسة تربية كبت المشاعر.
لن أكتفي بذلك. راقني الصمت الذي تلبس (كاسح). أعدت القراءة متمهلا. لم أكمل إلى النهاية. أكتفيت بخاتمة تفتح بابا من الاحتمالات لنهايات مفترضة حتما ستشغلني في أوقات فراغي.
أخذتَ تردّد الجملة في ذهنك كتلميذ يراجع درسه قبل دخول الفصل و يدك تتحسّس علبة السجائر في جيب سترتك .. لكن .. ما كدتَ تستجمع الكلمات فوق شفتيك حتى رأيتها تضع الكتاب داخل الحقيبة.
انتبهت على صوته الكاسح ينطلق من خلف سبورة سوداء وفي يده قطعة طباشير طوبية اللون..
متى وكيف ومن أين جلب هذه السبورة؟
اجتاحتني رهبة الفصول الدراسية، خفت من دروس المهنة الجديدة التي لا تنتهي، عله يفهمني ويخاطبني بالسهل غير الممتنع..:
- كي تكون متسولا ناجحا عليك منذ البداية أن تبدأ قويا ومتماسكا، واثقا من نفسك، تذبح في كل صباح جديد عنق الحياء من الوريد إلى الوريد بشفرة خنجر يماني معقوف. لا تلتفت لما يسمى بالسواد الأعظم من الناس، هذا السواد لا ذاكرة له، صدقني !، لا ذاكرة مطمئنة ولا ذاكرة قلقة، وإياك أن تقل لي بأن هناك أشياء وأشياء ترعب ذاكرة السكون.
افتعلت ضحكة سمجة حتى بانت أسناني علني أجرح الوقت بمدية الرضا، ويختصر هذا الهراء. قلت له وكأنني مهتم:
- حاضر، حاضر يا سيدي، لا حياء ولا حياة بعد اليوم يا صديقي، فقط اختصر ودعنا نخرج إلى الشارع العام.
تسللت على أمشاطي وضغطت بأصبع مرتبك على عنوان آخر ..
" الحب بالنسبة للمرأة ولادة .. إلا أنها الولادة الوحيدة التي لا تحمل معها تأشيرة الموت " آسيا
المناخ الرومانتيكي الملبد بسحب لا ترحل، والالتصاق به طويلا يفرض أحيانا نصوصا مجاورة لمزيد من الامعان فيه. لست متأكدا من هذه الفكرة ولكنها داهمتني مع مطلع (أنثي حب .. رجل حرب)
أخترت فاصلة البداية التي أستطيع أن أسبح عبرها. كانت جميلة وزاهية وكفتني شر الضفاف التي تحدها من الجهة الأمامية.
قررت رفع الراية البيضاء وإعلان انسحابها..من مملكته، من حياته. لم تكن تؤمن بالصدف ولكن الصدفة أدخلتها دنياه في ليلة من ليالي الصيف الضاحكة. كانت برفقة أصدقاء يتمشون، يتنسمون عبير الصيف المنعش. وكان الشارع يعج بالناس، يشع بالأضواء، ولافتة عريضة ملفتة للأنظار، "معرض الفنان التشكيلي وائل عزيز"
لم يكن (كاسح) أميرا حتى يهبني شرف الطرب لمقاطع آسيا، خط نقاطا كثيرة على سبورته الكسيحة وبلهجة استعلاء آمرة وكأنه أستاذا حقيقي خاطبني. لم أعد أحتمل، رمقته بجمر من الاحتقار، دفعت الباب الخشبي حتى سقط داخل الغرفة وخرجت.
كنت أبحث عن لغة مفككة تدس ترابطها في عمقها لا هثة متوترة مستفزة، وكأنني في حاجة لفضول خفي تخبئه لغة مغايرة. أجواء النص تلاحقني وأنا استقبل الشارع ببهاء خفي ومخفي في جلباب أنثي الحب حتى انصهرت في أجوائه وفق طريقتي في الانصهار..
أنا أعامل اللوحة كالأنثى الجميلة. ألواني لا تغطيها، بل تتغلغل في أعماقها، لتكشف لي عن خبايا فتنتها. ثم .. أنا فنان يوقع مع لوحاته معاهدة حب، ويلتفت يلمحها هناك. مشدوهة، تنظر إليه بعيون فغرها الإعجاب، مأخوذة بتلك الهالة التي تحيطه.
لا حياة في الشارع العام. اضاءات فاترة، بضعة عساكر ببنادق يحمولنها على ظهورهم في هذا الوقت المتأخر من الليل. نبت رأس سؤال غليظ في داخلي:
من يقلني في هذا الوقت إلى حيث لا أدري؟.
بعثرت قاع جيوبي، اتكأت على عمود إنارة لا إناره فيه، وقبل أن استسلم لغفوة شاردة سمعت أحدهم يصرخ قريبا من أذني قبل أن يمس كتفي:
- ثابت عندك، ثابت .. ثابت، ولا حركة !
احتلت شياطين الأرض عقلي المشلول. جمعت ضحكاتهم الساخرة في ضحكة واحدة وأطلقتها في وجه العسكري. كان العسكري يقظا، مال بعنقه ومرت ضحكتي من فوقه ولم تصيبه بأذي. صوب فوهة بندقيته في وجهي:
- ماذا تفعل عندك؟. لماذا تقف هنا؟ ألا تعرف أن البلد بها حظر تجوال؟ أرني بطاقتك الشخصية.
كدت أجلس على الأرض لولا قبضته التي تمكنت من كتفي، دفعني بمقدمة البندقية وأشار بها في اتجاه قسم الشرطة. خيال رجل يلهث، تجاوزني الشبح ووقف مع العسكري. سمعت تحيات وسلامات وقهقهات ولفافات من التبغ تشتعل. هالني ما رأيت. كاسح والعسكري يمزحان كأنهما أحفادا خرجوا خروجا شرعيا في ليلة صاخبة من ظهر جد واحد..
كيف تحول حبنا إلى حرب؟ سؤال كالبريق أطلقته شخصية النص لا يغادرني حتى وأنا في هذا الموقف العصيب. لا أعلم إن كان هو رعب الحب الماثل في سديم القصة هو الذي ترك تلك المساحة الكامنة بين الأمل والخذلان خالية بدون بيان من راوي عالم بالخفايا، فبذات الطريقة التي تمكن منهما الحب أطاحت به وفق تبريرات تقول ولا تكون، تصف ولا تصور، كالمعلومة المنحازة لتحاليل نفسية دفينة..
ولأول مرة تحملها الأقدار فوق أرجوحة الحب، ولأول مرة يحدثها قلبها بلغة مغايرة وتشتعل في دمها نيران الوله، ويشرق في عتمة صدرها ألف نجم/..../ كان يحلو له أن يجعلها سوطا يجلد به كبرياءها. هي اليوم أكثر قناعة من أي وقت، بأن الحب خلق لكي نشقي به.
- الشوق بحر، أو قل محيط يا (جنابو). هل تصدق بأن هذا المعتوه ابن عمي. نعم هو كذلك. وصل بالأمس القريب من البلد ولا يعرف معنى أن يكون هناك حظرا للتجوال..
ما هو الحظر؟
وما هو التجوال؟
لن يستطيع حتى التمييز دعك من الربط بينهما، فلنعتبر ما حدث درسا، وثق بأنك عنوانا مشرفا للشرطة ونموذج صارخ للشرطي الصالح ..
يبدو أن كل شئ في هذه الليلة العجيبة صالحا، ألم تكن لغة (لا أعرف لي وطنا سواك) صالحة أيضا. جميلة في إطار خشن كخشونة الواقع السحري الكامن فيها. تنثال البدايات خرافية لا استرسال فيها. الكلمة تنوء بما يفجر طاقاتها، حتى حروف العطف لم تجد لها مكانا مما جعل تعاقب الأحداث سلسا ولاهثا عله يلحق بقدرات الراوي في الركض..
خرجتُ من باب البناية الكبيرة..وقفتُ برهةً مطرقا أحاول أن أستجمع ذاتي..أشعلتُ سيجارة.. أخذتُ نفسا عميقا ..أعمق من أي مرّة ثم نفثتُ الدخان من فمي عاليا و معه زفرة حملت كل الثورة التي تضطرم في داخلي .و كل القهر الجاثم على صدري... نظرت حولي ..تردّدت ..هل أسيرُ يمينا أم أنعطف شمالا.
كأنه لم يوجه لي إهانة من قبل احتضنني كاسح. الصمت كان رفيقا صالحا رافقنا حتى دخلنا غرفته. استلقيت على فراشي مفتوح العينين. لم يمر وقت طويل. تسلل على أمشاطه، أمسك بيدي، وشرع في التقعر مرة أخرى:
- سأعدك لهذا المهنة إعدادا طيبا. يجب أن لا تستحي كونك ستصبح متسولا، فمتسول الشارع أشرف من المتسولين الذين يباشرون المهنة من داخل مكاتبهم وسيارتهم المظللة، وهناك نوع من المتسولين يخنقون بمؤخراتهم المقاعد الوثيرة المحشوة بريش النعام.
ابتسمت في داخلي تذكرت وائل عزيز الفنان التشكيلي في قصة (أنثى حب..رجل حرب) وكيف كان متسولا بارعا، يستخدم لوحاته كما يستخدم مشاعر الآخرين..
أنا فنان يوقع مع لوحاته معاهدة حب..
التسول يا قريبي أصبح له وزاراته وسياراته وأعلامه، يتسولون من خلف أسماء عديدة، يتسولون في كل مكان، ومن داخل سياراتهم التي يسبقها صف من الضجيج والأنوار. ما يميزنا عن هؤلاء يا مغلوب هو أننا سنمارس عملنا في وضح النهار وتحت أشعة الشمس، لا شئ لدينا كي نخفيه.
أقنعت نفسي بأن كاسح لا يعي ما يقوله، ويريد أن يلعب بعقلي بكلماته الساحرة، وماهو الفرق بينه وبين الآخرين وكيف يقنعني بأن متسولا يمتلك جهازا ويعرف كيف يتعامل معه..وكأنه قرأ أفكاري, شرح بكلمات بسيطة لا تحدب فيها بأن نماذج التسول القديم انتهت لغير رجعة، وصار متسول الشوارع مثقفا وخريجا جامعيا يجيد لغات الكون..
أعطيته ظهري ودفنت ماء وجهي في الوسادة حتى ابتلت، ولا أدري متى غادرني كاسح، ومتى نمت، حلمت بأني رجلا ليس كمثله رجل تماما في نص (رجل ليس كمثله رجل)، وفوق ملامحي تلالا من الصفات الحميدة..
قليل الحديث / كثير التأمل / لا يخشي قول كلمة الحق / مميز / مهاب / نادر / غامض وعظيم / لم يحن رأسه / لم يطلب معروفا من أحد / نادرا ما يضحك / صادقا في أقواله / دقيقا في مواعيده / شديد الذكاء..
من تجتمع فيه مثل هذه الصفات قطعا ليس هو بالرجل العادي، وحتى إذا حُذفت لغرض فني داخل النص ستجدها بطريقة أو أخرى عبر الموقف والسلوك اليومي للبطل. فهي تدخل بحذافيرها في مفهوم الهيبة..
ضعي جثتي أمام الباب وسترين إن كانت ستبقى هناك لليلة واحدة
أهل قريتنا كانوا يضبطون ساعاتهم على عودته إلى البيت
كان أعمامي يخشونه يتحاشون مواجهته ويحسبون له ألف حساب
كان إذا لم يتفق مع أحدهم يمسحه من حياته مسحا ولا يذكره بسوء أبدا
يعشق أم كلثوم ويهوي الصيد
كان عالم أبي مختصرا في كلبه و بندقيته و مصحفه .
ترعرع يتيما .. فقيرا ..كوّن نفسه بنفسه
كان يصلح ساعات المجاهدين
و كان دائما يقول " لا أريد تعويضا من الدولة ..أنا يعوّضني الله
مات و لم يوص بشيء.. حتى و هو على فراش الموت لم تفارقه الهيبة.
لم يشتك .. يتذمر ..ولا هو يصرخ من الألم.. ظل شهرا ملازما الفراش.. كأنما ينتظر الموت
مات و لم يوص بشيء.. حتى و هو على فراش الموت لم تفارقه الهيبة.
لم يشتك .. يتذمر ..ولا هو يصرخ من الألم.. ظل شهرا ملازما الفراش.. كأنما ينتظر الموت
- لا مجال لديك في أن تعيش حياتين يا مغلوب، لديك حياة واحدة..هل تسمعني؟
لا تحتمي بأمك وبخيال آسيا أثناء دروس التسول يا غبي..لن تمس حافة الشمس..صدقني..
تجول معي في الشوارع..سنضع خططا جهنمية للتسول الحديث، وسنكون ثنائي منسجم، سنستغل كل عاطفة تجري في دماء هؤلاء البشر المغلوبين على أمرهم يا مغلوب ..
اصطدم رأسي بحافة السرير. ماء فمي اللزج يزداد كثافة. ناديت أمي، اختنق صوتي، عدت لشخصياتي الشاخصة فوق سطح الشاشة..
شخصيات عديدة متفاوتة، تفرض حصارا من كل ناحية، حتى تلك التي تعاني من عدم التوافق بينها وبين العالم الخارجي. تتمتع بغرابة في السلوك، وتجيد الاتكاء على حافة الحياة، والخروج من قانون المجتمع. تتنقل أحاسيسي معها كما انتقل مع أحلام (كاسح) بين بالهزيمة والاغتراب.
ألا يشفع لي كوني إنسانا ؟..مالذي ألجم لساني فابتلعت الإهانة و خرجت مطأطئ الرأس كأنما أنا المذنب لا الضحيه ؟.
ليس بمقدوره أن يساعدني في أمر الوثائق و لا أن يوفّر لي مسكنا يليق بآدميّتي.. أحمي فيه عائلتي من عواصف الطبيعة و عصف البشر
يا لها من شخصيات وذوات شديدة التأذي من عوالم داخلية وأخرى خارجية..
ولكن سيرفضون دفني فأنا لا ملك شهادة ميلاد، إقامة، أنا نكرة
القبور للجميع، لكي تحصل على قبر لست بحاجة إلى ملف
لك الحق في الموت وليس لك الحق في الحياة
أمسكت ذراعه بلطف..قالت بصوت أقرب إلى الهمس.."خفض السرعة أرجوك، الوقت متأخر وأمور كثيرة تنتظرها في البيت، ولكنها تكره السرعة..لا يرعبها الموت إلا بطريقتين..حادث سيارة أو غرقا..
براعة في التقاط حيثيات الدفاع النفسي بلغة دقيقة موزونة. تداعي شديد الفردية .. سير ذاتية .. قلق هنا .. ولا توتر هناك. انفعالات ولا انفعالات ..
في غيابكِ, يا امرأةً نذرتُ لقلبها ما تبقَّى في قلبي من نبض, يصبح هذا الزمن جشعا مثل ثعبان خرافي, يبتلع أطراف العمر, بنهم, ودون رحمة ..
في مطلع (يوم جلس الحب بجوارك) كانت الأشياء هي التي تثير الكلمات، تأنسنها وتزجها في نسيج القص كتفا بكتف مع الحدث وفي (عش أنت) انسيابية العبارة الشعرية جاءت كفعل إعاقة في وجه التعاقب والتنامي في الحدث، فمتى يضئ اللفظ الشعري زوايا المشهد السردي؟
مذ رحلتِ والقلب فراغ إلا من صدى نظراتك، لفتاتك، إلا شذى عطرك المسكر/ أكسير النشوة/ وصوتك الشهي..آهٍ ... يا امرأة هي كل النساء..
بضع كلمات لا تحمل عبئا فوق عاتقها، صراع داخلي أفقي المسار عاشق للغة حد التماهي..
سأحبّك حتى بعدما ينته الحب و لكنّا انتهينا
أسقط، وأنهض، أركض من جديد..أتصبب عرقا وشوقا، وكلما أقترب منك تتباعدين..يقف بيننا جيش من المردة والغيلان..أرتعب، تتداعي قواي، وأعود من حيث أتيت، كسير الفؤاد مثل فارس مهزوم ..
الهذيان الشعري هو الانشغال على الإيقاع الداخلي والتكرار، فالكلمات هنا هي التي تحاول أن تثير الأشياء وليس العكس وما كان عليها الاكتفاء بتأمل ذاتها وكأنها تقف أمام مرآة مصقولة لا تعاني من انشراخات الواقع
وجهك يقابلني..
كيف أعتذر منه لو أضفت السكر؟!
تسبلين رموشك وتبتسمين
فتمطر سماء قلبي بنفسجا وريحانا
يخبرني صديقي..تتهاوي صروح الحياة بداخلي، أحس باختلال الكون..ما الذي يحدث للكرة الأرضية؟ /.../ أترك صديقي وأدخل حجرتي، أرفس الأرض بقدمي، أضرب الحائط بقبضة يدي، أشعل سيجارة، أشرب قهوة مرة..وأبكي.
حاولت أن أبكي من قهر الحب ولا حب. يظهر (كاسح) يزيح خيال أمي وشخصيات آسيا جانبا. يمسح جبهتي ويكتب قاعدته الرابعة في فنون التسول الحديث:
- سنستهدف في عملنا يا (مغلوب) فئة المثقفين. ندير حوارا مرتجلا عن قضية تجذب أحدهم حالما يمر بجوارنا، تخيل بأني أريد منك مالا نظير ما فعلته أمي بطفلتك الصغيرة، وأنت لا تريد أن تدفع !:
· أدفع ما عليك من فلوس يا (مغلوب)
· لن أدفع يا ابن ...، العجوز أمك تسللت إلى غرفة طفلتي في غفلة مني، تركت فيها جرحا لا ينام، ومنعت عن حقلها حق التثاؤب. لن أدفع يا كاسح حتى تنتشل ابنتي جسدها من بحيرة الأمصال وتخرج بحثا عن قاعات بلا زجاج.
لن يصدق المثقف يا مغلوب هذا الحوار الرفيع من ناس رعاع يتناقشون في الشارع، حتما سيدخل يده في جيبه ويدس في قبضتي أو قبضتك مبلغا محترما من المال، بعد أن يلهب ظهورنا بسياط رفضه لممارسة العادات السلبية في مجتمعاتنا ومن ضمنها الختان.
لم أفهم شيئا من حواره المرتجل بغرض استدرار عاطفة الناس. غادرني وتركني وحيدا أتسلي بأنيني الذي يحجب عني الرؤية. بينما تتلاشى أمي، تندس وسط أبطال آسيا المهمشين.
تعليق