يخترق أزقة المدينة العتيقة هاربا من روائح البطاطا المقلية والحلويات ودخان السجائر..
يسرع نحو مسكنه..
هواء المدينة القديمة فاسد مقزز، دورها جاثمة على برك من مياه الصرف ،تنفجر قنواتها فتبعث في هواء المدينة روائح كريهة...تستفزه ..تحتقر وجوده.
وحين تنتهي به خطوته الأخيرة عند حافة سريره يستلقي في صمت يحاول دوما أن يكرسه رغم ضجيج الجيران والأطفال الذين يملأ ون الطرقات ..يحكم إغلاق النوافذ ليصنع لحظة من ظلام ، ينير مصباحا جانبيا خافت الشعلة،
ويترك لنصف عينيه حرية الحركة بين ألوان جدران الغرفة التي اختارها بحرص شديد ومددها بفرشاته، فصارت بهذا الشكل المتموج الذي يترك في النفس قبسا من أمل وباقة من فرح...
كان يحب النوافذ فصار يكرهها ، يطل من شبابيكها على قاذورات الحي ونفاياته التي لم يتعلم السكان بعد كيفية التخلص منها،
يرعبه القهر الذي يشع من عيون الواقفين دوما على الرصيف ،والجالسين على بلاطاته يستجدون...
روائح الدجاج المشوي تحت نظرات الجياع، تتسلق الفضاء لتجتاح شباكه ...لذلك ولأشياء أخرى قرر أن يبقي الشباك مغلقا هروبا من لوحات وألوان لا يحب أن يراها ...
هذه لحظته في اليوم كله..
يتملص من ملابسه الرسمية ...ينشر جسده الضخم على السريرليحادث ألوان الجدران..
بعض رسوماته كانت لنبتات طبيعية..
كان يجردها من شكلها الطبيعي حتى لا تعطي إحساسا بالذبول والفناء ..
يحورها في أشكال هندسية يبتدعها فتعطي الشعور بالبقاء والخلود..
ينطلق بروحه نحو أفاق يرسمها فتتسع له ،
لا شيء له من زمانه غير هذه الغفوة بالضبط ،ينخرط بعدها في يوم جديد بملفات قديمة..
وهذا ما يحزنه على الدوام..
موجة الألوان التي أحبها تنسكب بعذوبة يستسلم لها فتأخذه نحوشاطيء السعادة التي سعى وراءها
فيتم كل شيء في هداة السكون
فيرى نفسه بين الذين يمشون في النور ويرون النور ،يتأكد من أن حالهم أفضل...
تأكد من ذلك حد اليقين،
هم ليسوا كهؤلاء العميان الذين يسوقهم أعمى
يتحركون ويسقطون دون أن تحس بهم الأرض،
ثم يتصايحون: صبرا .. صبرا
يتمالكون أنفسهم ،وينفضون بعض التراب عن ملابسهم وينهضون
..يواصلون مسيرتهم في الظلام،وهم يدركون أنهم ليسوا في حاجة لأعين في الظلام.
يستلقي..يعيش لحظات انتظار عذبة مفعمة بإيحاءات وإلهامات يمتزج فيها الشعر واللون..يندمج مع ذاته.. وعلى الجدران الملونة تنفجر فقاقيع الضوء وتتشكل وعلا قويا يتراجع إلى الوراء رافعا رأسه لينطح أغرابا يقفون في طريقه..
تتجمع الألوان في عينيه ثانية تتماوج ..تتشكل في صورة عينين يعرفهما تماما لا تتحولان عنه ،تتلاصق النظرات فلا يمكنه أن يحول عينيه عن عينيها، يسري في وجدانه خدر خفيف يشتت انتباهه إلى الابتسامة التي تشكلت على الجدار الغربي وهو لا يدري هل ستفتر هذه البسمة عن حب أم قسوة؟هل هي ابتسامة أنثاه الخالدة التي تجذبه إليها، أم هي ابتسامة نمرة متربصة تعشق الأشلاء والدم..
..
بشفتين ترتسم عليهما بسمة الشهيد...يغمض عينيه ،يغيب قليلا في تلافيف حلمه الجميل.
لكنه استيقظ فجأة.. أحس بشيء يولد في دواخله..صار أكثر نشاطا وخفة وتجرأ أن يفتح الشباك فصفعته ريح باردة وغريبة،
أطل برأسه، فتح عينيه على اتساعهما،باغتته الحارة التي سرقت ألوان غرفته..وتوهجت بها ،ففاضت نبضات الحياة وتوتراتها الخلاقة على جنباتها ،
تفاعل فيهاالوهج الساطع في الفضاء الذي بدا أكثر نقاء عن ذي قبل...
وحين عاد لفنجان قهوته الذي نسيه على النار،كان الهدير قد بلغ مسمعه،
ترك كل الأشياء، القهوة والألوان وبذلة العمل ونزل حافيا إلى ساحة الحارة ،سبقته أحلامه التي تمردت على الجدار وطارت كحمائم أتعبها الأسرفي غابة ليست لها،
انضم إلى الجموع...فصار صوته أقوى:
- الشعب يريد....
تعليق