الخيط الرفيع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • فاكية صباحي
    شاعرة وأديبة
    • 21-11-2009
    • 790

    الخيط الرفيع


    هذه مجموعة من الخرزات التي ارتأيت أن أرصفها بخيط رفيع
    لا يمكن أن تراه سوى القلوب الشفيفة ، التي ميزها الله تعالى
    عن غيرها برحمتها ..وبرها..وبياضها ..
    وبأحاسيسها المرهفة فقط تستطيع رؤية هذا الخيط
    الذي لا يمكن أن ينوء بأحماله مهما ثقلت..



  • فاكية صباحي
    شاعرة وأديبة
    • 21-11-2009
    • 790

    #2

    عندما كنت صغيرة كانت جدتي تناديني من حين لآخر وتقول لي ما اسمك ..؟!
    كنت أضحك حينها ببلاهة الأطفال ..
    أقول لها إسمي ..ويأتي اليوم التالي وتسألني نفس السؤال ..
    لأتساءل في قرارة نفسي كيف لجدتي أن تنسى إسمي بهذه السهولة ..؟
    وفي إحدى المرات جاءت من الخارج رأسا إلى أمي وقالت لها :
    بنيتي الحبيبة رحم الله والديك ..ما اسمك..؟!
    فانفجرنا نحن ضاحكين ..ليضيف أخي الذي كان أشقانا قائلا ..
    يالها من عجوز ..!! تعرف أنها إبنتها ..ولكنها لا تعرف إسمها ..!

    وانسكبت كأس الأيام ببئر السنين ..
    توفيت جدتي .. وتوفيت أمي رحمهما الله ..وامتلأت قلوبنا بالهموم
    لأجدني أقع في نفس المطبات حيث أنادي كل أبنائي كي أصل الإسم
    الذي أريده ..
    حتى أنني في إحدى المرات كنت في زيارة لبيت أخي الشقي ذلك ..
    وفي خضم مناوشات الأطفال ، ومؤامراتهم البريئة وجدتني أنادي إحدى
    بناتي وأقول لها ما اسمك .؟؟

    كانت تضحك كما كنت أفعل أنا من ذي قبل ..ثم أعيد ..ما اسمك ..؟؟
    إلى أن تملكني شوط لاباس به من الغضب .. ما صحوت منه إلا على صوت
    أخي وهو يقول :
    ألم تجدي شيئا ترثينه سوى جنون جدتك ..؟


    وكم صرت أشعرالآن بالإنتماء إلى ذلك الجنون الأشم ..
    لأن عظائم الأمور تولد من لحظة جنون بحتة ..
    فجدتي لم يصادف يوما أن نسيت بيتها ..أو صلاتها ..
    وفي خضم سؤالها الغريب لأمي ..
    لم تنس بأنها ابنتها.. !!
    يعني أنها لا تغفل عن اللب بقدر غفلتها عن القشور..
    فالعابر بالنسبة إليها لا يمكن أن يوَقـّع بذاكرتها كما قد وقع مكان العبور..

    وأكيك كانت تشعر بالإنتماء للقائم بذاته..
    لا للشيء الذي يحتاج لذات أخرى حتى يظهر طول قامته..

    فكم هي غريبة موازين الحياة ..نتهم الآخرين بالجنون..
    ونحن نلبسه ولا ندري..
    وبئس الجرح الذي لا يعرف صاحبه مدى عمقه إلى أن يبتلعه بهدوء..

    ونعم الجنون ذلك الذي يصلبنا على محراب الحقيقة ليحسدنا العقلاء
    على زفرة بوح افتقدوها وهم على مشارف جنون حقيقي تفصلنا
    عنه لحظة صدق هاربة من دفاتر كذبهم

    فبعض الحقائق كثيرا ما تكون موجعة حد الموت في زمن طغت
    عليه الكذبة الساخنة ..
    تماما كالوجبة السريعة التي يحاول المرء أن يسكن بها جوعه المؤجل ..
    ولا يشعر بعدها - أبدا - بالشبع بقدر شعوره بجوع آخر أشد ضراوة ..
    ما كانت تلك الوجبة إلا طـُـعما له..

    فما أرفع الخيط الفاصل بين برد حقيقتنا ..ودفء كذباتنا الساخنة التي
    نهدهد بها جراحا لا يمكن لها أن تطيب

    تعوج بي الذكرى دائما إلى جدتي ..فهي لم تكن فيلسوفة ..
    ولا حتى متعلمة ..وبالكاد كانت تحفظ بعض السورالقرآنية لتؤدي
    بها صلاتها لكنها كانت خرزات عقل مركبة
    بخيط رفيع من الجنون



    تعليق

    • فاكية صباحي
      شاعرة وأديبة
      • 21-11-2009
      • 790

      #3

      النسيان نعمة من الله تعالى منّ بها على عباده حتى لا تعرج مراكب
      الحياة عن مسارها ..
      وكم هي كثيرة اللحظات التي نتمنى فيها أن ننسى
      كل شيء حتى نُـسكن قلبا أثقله التعثر على أرصفة الموانىء ..
      وأتعبته الخطى المتثاقلة بين ضباب المحطات ..
      كثيرا ما نتمنى أن ننسى عزيزا مضى ولم يترك لنا
      سوى مُر الذكرى وحر التذكر..
      ولكن هدير الحياة الصاخب لا يمكنه التوقف لمجرد ذكرى


      من بين حالات النسيان التي رأيتها عن قرب الحاجة زهرة ..
      إحدى جاراتنا الجليلات التي كم غرفت من حبها وحنانها سنينا
      لم يزل عطرها يناوشني حنينا لأيام خلت ولم يبقَ سوى
      لهيبها يلفح برد وجهي

      الحاجة زهرة أتعبها مرض الزهايمر ولم تعد تذكر سوى
      صغرى بناتها التي تلازمها كظلها رغم كونها
      في كثير من الأحيان تسألها من أنت ..؟
      ولمَ تلازمينني كظلي .. ؟
      دعيني أستريح من صحبتك يوما أو بعض يوم ..
      هذا كل ما كانت تقوله الحاجة زهرة لإبنتها
      إذا ما تضايقت منها ..
      وكان لها عدد كبير من الأحفاد وكم أحبت أحدهم و فضلته على
      الجميع قبل مرضها ..
      وكم ظل يحبها ويبرها حتى بعدما فقدت الذاكرة ،وصارت لا تعرفه
      وشاء الله تعالى أن يصاب بمرض عضال ألزمه الفراش لعدة أشهر
      ثم تغمده برحمته الواسعة ، ليريحه مما
      أضناه وقض مضجعه ..
      يوم وفاته لم يكن معقولا أن تترك الحاجة زهرة ببيتها الكبيربمفردها
      فأُخذت مع بقية العائلة لبيت حفيدها
      وبمجرد ما وصلت مقر سكنه ، ورأت تجمهر الناس
      صرخت بأعلى صوتها :
      أزوجتموه دون أن تعلموني..؟!
      لقد نسيتْ ما مضى ( رغم كونها هي التي زوجته قبل سنوات )
      ثم ابتسمت بسمة عريضة وهي تردد إنه عزيز وغال ولن
      أغضب منه حتى وإن لم يخبرني باليوم الذي كم انتظرته ..
      وشدت على وسطها وراحت ترقص إلى أن اقتربت من باب البيت
      وهي تكاد أن تقع لولا
      أحد أحفادها الذي كان يمسك بيديها الواهنتين ..ثم ختمت
      رقصتها بزغرودة دوّت أرجاء البيت وكادت أن توقف نبض
      كل قلب مرهف ..


      فكم هي قصيرة هذه الحياة..!
      وكم هي متلونة..!
      تبكينا تارة وتضحكنا طورا ..
      وأطوارا أخرى تجعلنا نقف أمام تشابك
      خيوطها التي كلما حاولنا التملص منها نجدها أشد وثاقا على
      أعناقنا التي قد تنحني مرغمة لخيط أو لآخر إذا ما التفَّ
      دون رحمة أو شفقة ليوقعنا في هوة سحيقة
      لا يعلم مداها إلا الله


      فاللهم إنا نسألك قلوبا رحيمة ، وعيونا سخية ، وأياد بارة بمن
      حولنا حتى نجد من يبرنا إذا ما هوى صرحنا يوما
      وغسلتنا دموع التشكي ، وكفننا ظلام الوحدة والنسيان لنطل
      على الحياة من نافذة موصدة


      عافاكم الله من ظلمات النسيان

      وللحديث بقية بإذن الله تعالى

      تعليق

      يعمل...
      X