العائلة
لاحت في الأفق غيمة داكنة بلون التّراب. اقتربت مهيبة كزحف الجراد. خيّم سكون ثقيل يوهم بأنّ الزّمن قد توقّف. أقفرت الشّوارع و سيطرت على الهواء رائحة نديّة خانقة. مع أوّل وميض للبرق بدأت الأوراق تتطاير و العلب تتدحرج، و الأكياس تعلق بين قضبان الحديد البارزة فوق السّطوح.
يومها ردمت الرّيح المدينة بالتّراب و لم تنزل قطرة ماء واحدة.
خشي باديس من أن يباغته البَرَد. فحثّ خطاه مسرعا نحو البيت الكبير.
خُلق باديس و إخوته ليكونوا أفرادا في عائلة. و خُلقت عائلة باديس كي تكون مُنجزا بحدّ ذاته. و لها ككلّ عائلة ربّ مهيمن، لكنّ هيمنته لا تعني أنّه مصروف عن عبادة بقيّة أفرادها. للقلوب أعناق ممدودة، و الأصفاد تشهد، كما يُقال، لكن الشّاي هو الشّاي، إذ لا أحد في العائلة يجرؤ على خرق القاعدة و التّخلّف ليلة واحدة عن حلقة الشّاي اليوميّة، و إلاّ قُتل رميا بالشّاي حتّى الموت.
دفع باديس الباب الخارجيّ بساقه و دلف. وقعت عيناه على ورقة مقلوبة عليها آثار النّعال. تناولها. كانت عبارة عن وصل تسليم. دقّق النظر فيها جيّدا كأنّه يُنوّمها، إن هي إلاّ لحظات حتّى لانت للشّاي.
بعد صلاة العشاء مباشرة اجتمعت العائلة حول المائدة. جلبت الخالة فاطمة الطبق النحاسيّ الكبير و فوقه إبريق الشّاي و علبة السكّر و أصناف مختلفة من الفناجين بحسب ثقل كلّ منهم في ميزان العائلة..
قرقر إبريقُ الشّاي فوق الكانون. بعد برهة سكت. لتتحوّل القرقرة شخيرا متقطّعا.. حين انتظم الشّخير استلّ باديس الورقة من جيبه مادّا عنقه متظاهرا بقراءتها:
- انظروا ماذا وجدّت. لن تُصدّقوا..ناول الورقة إلى والده مُضيفا:
- أحدهم تعمّد أن يلقي بها من تحت الباب..إنّها باسم الدكتور نادر غلام جارنا.. لا شكّ في أنّه هو من ألقاها بنفسه..ما أوضع مستواه و أنقص عقله.. المسكين يعتقد أنّه الوحيد الذي اشترى سيّارة بين كلّ النّاس.
ثمّ صمت هنيهة كما لو أنّه ينتظر مفعول مُخدّر ما، مانحا المجال لوالده كي يستوعب الأمر. أثناء انهماك الحاج في التأمّل، استحالت عينا باديس مشرطين، و بدا عليه اعتزاز بائع شوارع سعيد بآلة تسجيله التي تنادي على بضائعه نيابة عنه.
عائلة باديس جسم يمتصّ دوران من حوله كي يخلّد ثباته. لذا وجب الصّبر.
تململ الحاج . جاس ببصره فوق الوصل مليّا ثمّ قال دون أن يرفع عنه عينيه:
- ماذا يقصد؟ أوصلت به الدّناءة إلى هذا الحدّ؟ من يظنّ نفسه؟ طيّب..سيّارتك سعرها كذا.. و ماذا بعد؟
كان الحاج يدرك جيّدا أنّه طقس شاي، لكن ما العمل مادامت قرابين أبنائه تُشعره بالجبروت و تُكسبه ألوهيّة صغيرة..
أحسّ باديس بأنّه قد صوّب جيّدا فأشرق وجهه.
قام الوصل بلفّة كاملة بين الأيادي قبل أن يقف في الأخير عنده مرّة أخرى.
لم يحبّ باديس الشّايَ يوما لكنّ إيمانه قاطع بأنّه الوحيد القادر على مساعدته في استعطاف والده لعلّه يهبه الشّقّة العلويّة.
- المسألة واضحة وضوح الشّمس.. أراد أن يتباهى أمامنا بسيّارته الجديدة لمّا لاحظ أنّنا لا نعيره و إيّاها اهتماما..المريض.. نسي أنّ أبي أرفع منه بكثير..
نطقت راضية: المغرور..كيف سمح لنفسه بالتّطاول على أخي و استفزازه في عقر داره؟ التفتت إلى باديس و تابعت: ماذا تنوي أن تفعل؟ وغد كهذا لا يجب أن نسكت عليه. حتما سيظنّ أنّنا ضعفاء!
تعلم راضية يقينا أنّ العاصفة هي التي قادت الورقة إلى بيت والدها مصادفة، لكن لا خيار أمامها لتجعل أخاها يضغط على زوجها كي يصرف النّظر عن فكرة الانتقال للسكن في حيّ بعيد عن الحيّ الذي يسكنه أهلها، سوى بنصرته في كلّ ما يخوضه من معارك.
كشفت الخالة فاطمة الغطاء عن الإبريق، فتصاعد البخار دفعة واحدة مصدرا حشرجة أدنى إلى الاحتجاج. ها هو البخار يتلوّى كأفعى تخرج من سلّة. ها هو يتّخذ شكل آدميّ من بخار..
تمطّى كائن البخار ثمّ انطلق يذرع الغرفة.
و لأنّه وثيق الصّلة بكلّ المواضيع فقد تقدّم المخلوق بخطى مهيبة نحو كرسيّه قبل أن يغرق في مراقبتهم.
صبّت الخالة فاطمة الشّاي في الفنجان الأوّل، عدّل الجميع جلساتهم.
ارتشف "رسّام" الأخ الأوسط و زعق:
- غدا أعلّمه درسا في الأدب.. لا أستحقّ أن أكون رجلا إن لم أحطّم وجهه . ألا ترون بأنّه يدوس على كرامة أمّي؟
يُدرك " رسّام" كباقي العائلة أنّ القصّة شاي، لكن ما العمل مادام عاطلا عن العمل، و عليه أن يدفع ضريبة نومه حتّى منتصف النّهار.
أعادت الخالة فاطمة الإبريق فوق النّار و توعّدت :
- غدا أذهب إلى زوجته و أروي لها الحكاية، فإمّا أن توقف زوجها عند حدّه و إلاّ فلي معها تصرّف آخر. و هي تعرف جيّدا ماذا باستطاعتي أن أفعل..السّاحرة..(ثمّ خطر لها فجأة):لم لا يكون عملا من أعمال السّحر؟ أنسيتم أنّها ساحرة؟
الدّكتور "نادر غلام " يحبّ الخالة فاطمة، و كانت هي في قرارة نفسها تجلّه و تنزله مكانة الشاب المثاليّ في أحيان كثيرة، لكنّ خوفها من الحاج هو الذي تلبّسها لحظتها؛
فقد بدّدت نصف نفقة البيت في شراء أقمشة للسّتائر، و الشّهر لا يزال " يتمرّغ في الحشيش" كما اعتادت القول كلّما استفحل بها ضيق النّفقات. أمَا و قد علم مخلوق الشّاي نيّتها السّليمة فقد أيّد كلامها بتوقّفه عن الغدوّ و الرّواح و جلوسه قبالتها. كذا ألقت عن عاتقها حمل موقفها.
تمدّد مخلوق البخار على بطنه جاعلا رأسه بين كفّيه، تلقّى باديس الإشارة على أنّ الكائن في أتمّ الرّضا عن أدائه. فدفن كلتا يديه داخل معطفه و خفق بهما كديك يهمّ بالصّياح. أخرج هاتفه الجوّال و زأر:
- سأرفع به قضيّة في ردّ الاعتبار. سأكلّم صديقي لؤي أوّلا لأسأله عن حظوظنا فيها و عمّا يجب أن نفعله بالضّبط.
داعب بأنامله لوحة الجوّال. قرّبه من أذنه ثمّ قال بمرارة من أضاع فوزا مؤكّدا. هاتفه مغلق ، لابدّ أنّه نائم.
عاد مخلوق البخار يذرع الغرفة جيئة و ذهابا ينشر عبق الزّعتر في أرجائها.
في تلك اللّحظة نطق رمزي الأخ الأصغر:
- دعوا الأمر لي رجاء. ألا ترون بأنّه قد انتهك عرضنا، و شوّه سمعة إخوتي البنات. ثمّ صاح فجأة: لن أسمح لأيّ مخلوق بأن يمسّ شعرة واحدة من رأس أخواتي. سأذهب إليه حالاّ. همّ بالقيام فعلا. لكنّ كائن الشّاي سحبه من يده و أجلسه من جديد، كما ليعينه على إتمام عرضه بسلام دون الّلجوء إلى التّنفيذ.
رمزي يعتبر "نادر غلام" الأكثر نبلا و شهامة بين الرّجال كافّة، لكنّه تورّط في وعد صديقته بجولة في سيّارة أخته. و لا سبيل إلى ذلك إلاّ بالدّفاع عن شرفها.
كانت الصّور في التّلفزيون تتراقص دون صوت. و كان جهاز التّحكّم بيد الحاج. لمّا نبتت للحوار فروع و للفروع أغصان، لم يعد أحد يهتمّ بما يبثّه التلفزيزن. فكانت مناسبة سخيّة ليحقّق الحاج بضع الدّقائق في مشاهدة مباراة مصارعة بين شابّتين. كان بودّه لو تمكّن من متابعتها مدّة أطول لولا أن لاحظ امتعاض الكائن البخاريّ.
انتصف الليل فتثاءب كائن البخار. نهض الجميع استعدادا للنّوم. فُتحت نافذة الغرفة لتهوئتها فتسلّل المخلوق عبرها كخيط. أُطفئت الأنوار و ران الصّمت، و لم يبق في مخيّلاتهم ذرّة واحدة من حديث الليلة. وحدها لسعات الشّاي ظلّت تلذع الألسن.
***
قبل الفجر بقليل خرج باديس كعادته ليفتح دكّانه. هاله ما رأى. كانت قفّة سعف كبيرة. تفحّص ما بداخلها فإذا بها رضيع حديث ولادة. اقشعرّ بدنه. ارتبك. احتار ماذا يفعل. قرّب رأسه من الطّفل. فسمعه يتنفّس و يئنّ بصوت ضعيف. همس باديس:إنّه حيّ.. ويلي ما هذه المصيبة؟..ما دخلنا نحن؟
التفت يمينا و شمالا ليتأكّد من خلوّ الحيّ من المارّة تماما. ثمّ حمل القفّة و وضعها على عتبة منزل جاره الرّابع. كانت تلك أقصى ما قد تسمح به ثغرة الزّمن تلك، قبل أن ينتبه إليه أحدهم.
ثمّ ركض مبتعدا عن الحيّ دون التفاتة، و هو يحدّث نفسه بأنّ الشّاي الّليلة سيكون بعنوان : " لو كنت مكان جارنا (صدّيق) لأقمت الدّنيا و أقعدتها على رأس فاقدة الإنسانيّة والدة الطّفل.."
***
محمد فطومي
تعليق