بلابل فوق المزابل
افتتح الحفل بالنشيد الوطني والتهليل والتكبير بحياة الزعيم الوحيد والأوحد والصامد الصمد الذي لم يلد ولم يولد للزمان مثله ولم يكن له مثيلا ولاشبيها ولانظيرا..
موجات التصفيق كانت تتسابق مع الشعارات التقليدية..ونشيد النفاق المشهور " بالروح بالدم نفديك يازعيم ".. كان يتخلل وجبات المزاودات التي يقدمها أولا أصحاب الكلمة الرفيعو المستوى ثم أصحاب السطوة.. ثم الأقل نفوذا حتى يصل دور سقط المتاع.
وقف رئيس البرلمان أمام الميكرفون مرتديا الهيبة والرصانة.. حتى انتشر الصمت القاتل وسط الحضور وركضت الأبصار نحوه تستدرج منه الكلمات..
عند امتلاكه انتباه الحضور أطلق ذراعيه في الفضاء وهدرت أبيات قصيدة المدح المتصدعة بعجرها وبجرها..وتناثرت أحرف الجر في كل السطور.. وبانت قطع الغيار المستعملة والمستعارة من قصائد العصر الجاهلي..واختبأت الركاكة في عب الصراخ الهادر الذي كان يقذفه من فمه العريض حتى ماجت الجماهير وازداد ترديدها: " بالروح بالدم...."
اغتبط المرتزق وضمن حصته من المائدة .. فأزاح ثقله عن المنبر مفسحا لسماحة الشيخ ليدلي بدلوه..
تقدم المفتي مزنرا بالورع.. ممتطيا الخشوع.. ومعمما بالتقوى.. وعند الميكرفون استعاذ واستغفر وهلل وكبر وتنحنح وبسمل وقال أما بعد..
فرش بعدها أمام الحضور كرامات القائد المبجل ومآثره وتضحياته في سبيل الله والشعب وغيرته على الأمة..وتفانيه في خدمة الجماهير باذلا الغالي والرخيص من أجل عزة الوطن...وختم كلمته بالدعاء والتضرع للرفيق الأول في رأس الهرم وتنبأ له بدخول جنة الفردوس مع عائلته ومحبيه وأصحابه وانتقل بعدها للرفيق رئيس الحكومة المتربع على المنصة فضمن له أيضا دخول الجنة.. وأكثر له من التبجيل والتكبير حتى اخضلت لحيته..وازدحمت العبرات مع العبارات.. وتعثر من فرط النشوة فزل لسانه قائلا:
- واذ أنعم الله علينا بتولي زمام مدينتنا الرفيق القائد المفدى رضي الله عنه..فذلك مدعاة للفخر والاطمئنان وإن أولادنا وأموالنا وأعراضنا بأمان و.......
ظهر الفتور فورا على حماسة الجماهير وخفتت أصواتهم وسرت الهمهمة بين صفوفهم..واختفى نشيد النفاق من أفواههم وشرع المتجمهرون بالانفضاض من الساحة منسلين في مختلف الاتجاهات وعلامات الاستياء تقفز كالأبالسة من ملامحهم..
لم يدرك سكان المنصة من مسؤولين ووجهاء وضيوف سر هذا التغير الحاد والغريب في موقف المتجمهرين الذين كانوا لتوهم يسفحون دماءهم ويزهقون أرواحهم طوعا وحبا وكرامة للرفيق الأول في الوطن..ويزاودون على فداء القائد الزعيم..
هذا الانسحاب المباغت والهمس والغمز أمر مريب ووراؤه ماوراؤه.
هاجم الشحوب سحنات الجلوس.. وارتعدت فرائص الحزبيين منهم.. وحامت الأسئلة في رؤوس كل من حالفه الحظ والحظوة في التربع تحت سقف المنصة..
" لابد وأنه حدث أمر ما ؟"
"ترى هل وقع انقلاب في الحكم"
"هل هناك مؤامرة ما تطيح ببعض أعمدة الدولة "؟
ساد اللغط والهرج ودب الرعب لفترة حسبها الذوات من الحضور عصورا ودهورا.. ولاحت لهم الأشباح تسحب الكراسي من تحتهم وتنقعهم في غياهب المعتقلات إلى يوم يبعثون.. حتى اقترب أحد المخبرين المدسوسين وسط الجماهير وصعد إلى قمرة أولي الأمر.. وهمس لرئيسه المنكمش فزعا على نفسه في المنصة :
- سيدي الناس استاءت من قول الشيخ عن الرفيق القائد "رضي الله عنه" لأن هذه العبارة كما يقولون وصف خاص بصحابة رسول الله.
- هذا الشيخ اللعين.. لقد خلع قلوبنا..خذ معك دورية وبعض العناصر وخذوا هذا الزنديق إلى الفرع..لأنزع عمامته بحذائي.. كدنا نبلل سراويلنا من هرطقة ابن الزانية.
- ولكن ياسيدي.. هذا مولانا في المدينة إنه المفتي والناس سوف تسأل....
- هذا الخسيس بالأمس قدم لي خطابه ولم تكن فيه هذه العبارة فمن أين جاء بها اليوم ليخرب علينا حفلنا ؟
- هل ننبهه إلى ذلك فيعتذر ؟
- يعتذر ؟ لمن يعتذر ؟
- لحضرتكم ولجناب الرفيق زعيم البلد ؟
- لنا نحن ....هه هه .. نحن نعرف أنه أفّاق منافق.. المهم ليس الاعتذار لنا... بل للناس.. وأين الناس الآن ؟ لم يبق منهم أحد..
حين كان المفتي مرميا في قبو أمن الدولة منتوف الذقن ، مكسور الهمة ، منزوع العمامة ، مورّم القدمين، مكدوم الوجنتين، معطوب البدن ، من أثر اللكم والركل والعتمة والاهانات..
آنذاك كان يردد دوما:
- الحمد لله.. الحمد لله..
الحمد لله.. أن زلتي كانت عند " رضي الله عنه "
الحمد لله أن الأمر كان عند هذا الحد فقط .. وزلتي لم تتجاوز حد الصحابة..
الحمد لله أني لم أقل الرفيق القائد صلى الله عليه وسلم..
الحمد لله على هذا.. وألف الحمد لله.. وإلا لكان علي السلام.
تعليق