الهدية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • شريف سمحان
    عضو الملتقى
    • 28-02-2008
    • 134

    الهدية

    [align=center]الهـــديّـــــة[/align]
    [align=justify]داهمني المرض فجأة لأصبح طريح الفراش مدة أسبوع كامل، في نهاية المطاف قرروا عرضي على طبيب مختص فيما كنت أشكو منه، والذي قرر بدوره دخولي الى المشفى، علما أنني لم أتوقع أني سأكون طريحا للفراش في يوم من الأيام، فخلال العقود الأربعة الماضية لم أدخل المشفى ولم أشك من مرض إلا ما ندر.

    خلال وجودي على سرير الشفاء، زارني العديد من الأصدقاء والصديقات اللواتي كان لهن الأثر والفضل في سرعة تماثلي للشفاء، كن البلسم من خلال زياراتهم المتكررة والمنتظمة إضافة الى الكم الكبير من الهدايا وباقات الزهور الجميلة التي كانت تتوافد على غرفتي حتى صرت محط أنظار واهتمام القسم الذي كنت انزل فيه، واعتقدوا أنني شخصية مهمة بل مرموقة.

    ولعل أجمل هدية تلقيتها خلال تلك الفترة كانت نبتة صغيرة مزروعة داخل (قوار) من الفخار، ولا أخفيكم سرا أنني غير ميال كثيرا الى الورود، ليس لأنني لا أحبها، فمن منا يكره الزهور، لكنها سرعان ما تذبل وتموت بعد فترة قصيرة من قطافها، وهذا الأمر يصيبني بالحزن، ويشعرني بالخوف أحيانا بأن نهاية الانسان ستكون مثل الورود، فنحن ما نلبث أن نفارق الحياة الى غير رجعة دون سابق إنذار، وأحيانا أترك لخيالي الواسع فرصة الانفلات في التفكير والذهاب الى البعيد البعيد والخوض في أمور وأشياء ربما تكون غير منطقية بل قد تغضب البعض منا.

    ما أن لمست أناملي تلك النبتة حتى أحسست بشيء ما وسرت في عروقي رعشة لم أشعر بها من قبل، أحسست أن هناك رغبة تقفز من داخلي بأن أحتضنها وأرعاها، ربما كان السبب أن مهديها له مكانة خاصة في نفسي ومساحة لا يستهان بها في كياني و وجودي مع بعض المنغصات التي كانت تصيب علاقتنا بين الحين والآخر، كما أن هناك خصوصيات وأشياء مشتركة تجمعنا، لكن كل ما ذكرت لم يرتقي الى مستوى الحب، لكنه يدور في فلك تلك الأشياء الرائعة والجميلة.

    أمسكت النبتة و وضعتها بجانب رأسي بعد أن قمت بتوزيع أواني و باقات الزهور في أرجاء المكان، حتى خيل لي أنني بائع زهور ولست مريضا، بعد حوار طويل كاد أن يصل الى حد الصدام كالعادة، غادرت صديقتي المكان على أمل اللقاء القريب، لكن الشيء المزعج من هذه الزيارة كانت تعليماتها الصارمة بضرورة عدم التدخين قرب النبتة كونها لا تحتمل مادة (النيكوتين)، لكنني تبسمت سيّما و أنا أتذكرها وهي تروح وتجيء في أرجاء الغرفة تحرك يديها تارة وأخرى كأنما تقوم بدور المعلمة والتلميذ، مع أني كنت في غاية السعادة.

    بعد أيام ثلاثة لاحظت أن ساق النبتة قد نما وازداد طوله، و هذا جعلني أضاعف اهتمامي بها، ورحت أتحين الفرص كي أطلب من الطبيب السماح لي بالمغادرة في أقرب فرصة ممكنة سيّّما أن صحتي أخذت بالتحسن الملحوظ و صرت توّاقا للعودة الى المنزل لأعاود نشاطاتي العملية والكتابية، لكني كنت أتوق أكثر وأنا أخطط أين سأضع النبتة ورحت أتخيلها وهي تتمدد و تغطي جدران غرفتي، وسرعان ما قررت عدم التفكير كثيرا في الأمر وتركه لحين عودتي الى المنزل.

    في صبيحة اليوم الرابع لوجودي في المشفى أخبرني الطبيب أنني أستطيع المغادرة، شريطة أن ألتزم بالعلاج وأن أعمل على مراجعته بعد أسبوع، غادرت المكان على عجل والمفارقة الكبرى أنني لم آخذ معي من جميع الهدايا و الأواني الممتلئة بالزهور سوى تلك النبتة ولا أدري لماذا..؟؟

    ربما لم أر غيرها في الغرفة، بل لعلي تذكرت أن هناك شيئا ما بيني و بين من أهدتني إياها، كنت أحتضن الإناء الذي يحتويها كأنه قطعة من جسدي، فيما كنت ألمح سائق السيارة وهو يرمقني بنظرات غريبة، وعلى الرغم من ذلك لم أعره أدنى اهتمام و طلبت منه أن يتوقف عند أول محل لبيع الزهور وقد كان.

    أمسكت وعاء النبتة بحرص شديد و أنا أعرضها على البائع مستفسرا حول كيفية التعامل معها، والأساليب الحديثة في تربيتها و عن أفضل أنواع الأسمدة و الأدوية التي تحميها من الآفات و الأمراض، كنت أتخيل أنني أحمل طفلا مريضا لا يستطيع أن يعبر عن مرضه وأوجاعه، استرسل البائع في حديث مطوّل وممل حتى أحسست أنني بين يدي (حلاق)، وليس بائع زهور والذي بدوره وصف لها بعض الأدوية والأسمدة التي سوف تساعدها على النمو السريع كما قال، كنت مستمتعا بذلك..لماذا؟ لأنني لم أشأ أن أفقدها، بل ربما تملكني شعور أنها ستوطد العلاقة المتوترة بيني وبين صاحبتها لاختلافنا في كثير من المواضيع والأشياء المشتركة، خاصة حول الحرية، والانفتاح، و العلاقة بين المثقف والسلطة، التطبيع والمطبعين سيّما وأن صديقتي على علاقة وطيدة مع بعض الفنانين الذين لهم انزلا قات في مجال التطبيع وبعض المنظمات الأهلية المشبوهة، وعلاقتها بالدول الداعمة ماديا لهم وأسباب هذا الدعم .. لقد كان هذا سببا قويا كي أحدد علاقتي بها وأكون أكثر حذرا كي لا يتلوث اسمي من خلال تلك (الزمرة).

    خلال فترة النقاهة التي مررت بها في المنزل أمضيتها قرب النبتة، كنت كأنما أستعيد الحياة والسعادة وأعيش في عالم آخر سيّما وأنا ألمح ذلك العود الغض الطري ينمو بهذه السرعة، حتى خيّل لي أن طولها سيتضاعف كثيرا خلال أسابيع قليلة، وكم كان سروري عندما أصبح ساقها يتجاوز طول ذراعي وهذا ما زاد من حماستي للعناية بها بشكل أكبر.

    زارتني صاحبة النبتة، وكم كانت دهشتها عندما رأت طولها، وبداية بزوغ بعض الوردات الصغيرة بين أوراقها اللامعة المخضرة، تحدثنا طويلا لكن الغضب والامتعاض صارا أكثر وضوحا على تضاريس وجهها وكانت تقوم (بزم) شفتيها بين لحظة و أخرى، وقالت إنها صارت تغار منها لكثرة اهتمامي بها، لكنني لم اعر ذلك انتباها، ولا أدري لماذا حتى أنها قالت لي: لو كنت أعلم أن جل اهتمامك سينصب عليها ما كنت أحضرتها إليك!!!

    عندما عدت الى عملي قررت المرور بصاحب محل بيع الزهور لإطلاعه على مجريات الأمور الخاصة بالنبتة وأشتري بعض المستلزمات الخاصة بها، والتي شارفت على النفاذ من المنزل، كما أنه نصحني بأن أثبت بعض (المسامير) كي أحدد سير ووجهة مقدمة ساقها وأفرعها لأنها من النوع الذي ينمو ويتمدد بسرعة، لكن يجب مراعاة أن أفرعها حساسة وأنها لينة جدا.

    عندما عدت الى المنزل تفرغت لدق المسامير بشكل عمودي وأفقي واستعملت من أجل ذلك معظم أنواع (العدة)، وخيل لي أني سأصبح صاحب خبرة في التصميم الداخلي، حتى أنني استعنت بالمسطرة كي تكون ووضعية المسامير بشكل مستقيم، بعد ذلك أمسكت بمقدمة ساق النبتة ودهشت عندما اتضح لي أن طول ساقها قد جاوز المتر ونصف حتى خيل لي أن ساقها من المطاط.

    مضت الأسابيع متتالية وأصبح طول الساق يفوق الأربعة أمتار، وازدانت واجهتا الغرفة بذلك الخيط الرفيع المخضر والذي راحت تزينه وردات ذات لون أرجواني فاقع، لكنه لفت انتباهي أن مقدمة الساق انحدرت الى الأسفل باتجاه النافذة وهذا لم يكن في المخطط الذي كنت قد رسمته سابقا وثبت المسامير على أساسه، مما جعلني أعيد مسارها بخط مستقيم.

    بعد أيام لاحظت أن مقدمة الساق قد تحولت مرة أخرى باتجاه النافذة مخالفا لإرادتي، و هذا جعلني أدقق النظر في تلك النبتة، وأفكر كثيرا حول غايتها ومخالفتي الرأي، ثم لماذا الإصرار من جانبها للتوجه نحو النافذة وليس الى مكان آخر، عدت الى أوراقي وخرائطي حول وضعية واجهات الغرفة وزواياها، أحسست أني أدير معركة حقيقية، وأن هناك مواقع (لوجستية و ديموغافية) هامة، وأنه لا بد أن تنصاع لرغباتي سيّما أنها أصبحت ملكي، لهذا قررت أن أعيد ترتيب غرفتي من جديد، وأغير مكانها كي تكون في أبعد نقطة عن النافذة!!!


    بعد عدة أيام من إعادتي رسم طريق من جديد لمسارها بعيدا عن رغبتها سيّما أن هناك مسافة بينها و بين تلك النافذة، لاحظت أن أوراقها أصيبت بالذبول، وأن الورود الأرجوانية التي كانت تبدو متلألئة كالنجوم تغيّر لونها وراحت تميل الى اللون المصفر الباهت، شعرت حينها أني ارتكبت جريمة في حقها، وأنها ستموت وسأكون السبب المباشر في ذلك، عندها صرت في حيرة من أمري ماذا عساي أن أفعل كي أجعلها تسترد عافيتها وتوهجها وتعود الى وضعها الطبيعي؟؟

    أفكار كثيرة راودتني لكنها لم توصلني الى الطريق السليم، ولم ينقذني مما أنا فيه سوى قرع جرس الباب، فإذا بها بصديقتي صاحبة النبتة الجميلة، كانت في أجمل حلتها و أناقتها، حتى خيّل لي أنني أراها للمرة الأولى، ولا أخفيكم سرا أنها دائمة التجديد في كل شيء إلا أفكارها، و تصلبها في رأيها، لم تكد تدخل الغرفة حتى رحت أشكو لها من تصرفات النبتة، وأنها تخالفني وجهة نظري، وكيف أنني حرمت نفسي من عادة التدخين التي كنت أستمتع بل أتلذذ بها، حتى صرت مثل المراهقين الذين يمارسونها بعيدا عن أعين ذويهم، فها أنا ذا أنزوي تارة في الحمّام و تارة أخرى على درج السلم، وخلال حديثي عن النبتة نسيت أن أسألها عن أحوالها و أخبارها، و لماذا هذا الانقطاع في الزيارات، فما كان منها إلا أن ثارت في وجهي غاضبة متهمة أياي بالأنانية و حب (الأنا)، وكيف أنني لا زلت أهتم بالنبتة أكثر من اهتمامي بمن أهدتني إياها، حتى أنني أهملتها ولم أحاول الاتصال بها منذ مدة وهذه ليست من عادتي، وأنني أفرض رأيي و وجهة نظري و قوة شخصيتي ودهائي، حتى على هذه البتة المسكينة، وتابعت بغضب و تحد: أنظر إليها، إنها تحاول العيش على طريقتها، إنها تبحث عن الحرية والشمس والهواء النقي، لا شك أنها تريد أن تكون سيدة نفسها، إنها تفتش عن الحرية والفضاء الرحب، وكل ما تسعى أنت إليه أنك تسجنها داخل جدران غرفتك، وأن تكون إحدى مقتنياتك، إنني أعتقد أن هذا من أبسط حقوقها حتى لو كانت نبتة، فما هي إلا كائن حي!!!
    [/align]
    [align=left] رام الله
    14/10/2004
    [/align]

    [size=6][color=#0000FF]إلى وطن يعيش فينا ولا زال عصياً عليهم[/color][/size][/align]
  • حياة سرور
    أديب وكاتب
    • 16-02-2008
    • 2102

    #2
    [align=center]







    الأستاذ الكاتب الأديب ... [fot1]شريف سمحان [/fot1]

    بالرغم من طول النص إلا إنه أخذنى تماما حتى النهاية, وهذا يعنى أن عنصر

    التشويق فرض نفسه بقوة على عقل المتلقى. صَمتُ بعدها لفترة لألتقط أنفاسى

    فبالرغم من طول النص إلا أنه اختزل الكثير والكثير مما يمكن أن يقال

    ويوصف عن كبرياء امرأة لبست رداء الغيرة من نبتة .

    أما عن عناصرالقصة فكانت كاملة بدءاً من عنوان لافت وتدرج فى السرد

    وانتهاءً بمغزى القصة ألا وهو أنانية الرجل في الحب

    أعجبني نصك...أهنئك عليه..وعلى هذه القدرة السردية المتناغمة.

    بصمة إعجاب وحضور من [fot1]حيـــ سرورـــــاة [/fot1][/align]


    تعليق

    • هدى الجيوسي
      عضو الملتقى
      • 17-02-2008
      • 85

      #3
      الأديب شريف سمحان:

      قصة جميلة، هي أقرب للمذكرات الشخصية منها للقصة، مشوقة جدآ، شدتني حتى آخر كلمة.....
      أنا أخالف العزيزة حياة سرور في حكمها بالأنانية على بطل القصة، وأرى بأنه يعطي مشاعره لمن لا تستحقها، مثلها كمثل نبتتها التي تذكرني بالمثل القائل:القرع يمد لبره!.....
      وهي طموحها يتجه خارج إطار هذا الرجل الذي لن يستطيع أن يحتويها مهما فعل.

      دمت مبدعآ.
      تقديري.
      [font=System][size=5][color=#8B0000]ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين. [/color][/size][/font]

      تعليق

      • شريف سمحان
        عضو الملتقى
        • 28-02-2008
        • 134

        #4
        [align=center]الأخت الفاضلة حياة سرور[/align]
        أسعدتِ مساءً
        أعتقد أن النص الجيد قد يختلف القراء حوله .. فكل قارئ يمكن أن يطل عليه من زاوية أو رؤيا تختلف عن غيره .. طبعا انا لا ادعي ان نصي جيد لكنه افتراض .

        سعدت جداً وأنت تتابعين حروفي .. وسعدت أكثر للمداخلة .

        [align=left]دمتِ بألق
        شريف سمحان[/align]
        [size=6][color=#0000FF]إلى وطن يعيش فينا ولا زال عصياً عليهم[/color][/size][/align]

        تعليق

        • شريف سمحان
          عضو الملتقى
          • 28-02-2008
          • 134

          #5
          كود:
          [font=Arial Black][align=center][size=6][color=#FF0000]الأخت الفاضلة هدى الجيوسي[/color][/size][/align]
          أسعدتِ مساءً
          
          نعم كما قلت للأخت حياة سرور .. قد نجد أراء متعددة في تفسير النص .. وهذا شيء صحي بل أعتقد أنه يسعد الكاتب .. فنحن بشر ولكل منا نفسيته وتفكيره الشخصي .. وربما من خلال المداخلات يكوّن الكاتب فكرة أو يقرأ شيء غاب عنه عند كتابة النص ..
          
          على فكرة المثل حلو .. وربما ينطبق على نسبة عالية من الرجال في عالمنا العربي .!!!
          
          [align=left][align=left]دمتِ بود
          شريف سمحان[/align][/align][/font]
          [size=6][color=#0000FF]إلى وطن يعيش فينا ولا زال عصياً عليهم[/color][/size][/align]

          تعليق

          يعمل...
          X