بسم الله الرحمن الرحيم
منذ أن جلست على ( مسطبة ) الدراسة في الصف الأول الابتدائي ولغاية أكمالي الدراسة كنت أضن أن المعلمين والمدرسين بأنهم كائنات غريبة ليسوا ككل البشر أتوا لتدريسنا من كوكب أخر ويعودون من حيث أتوا عندما ينتهي أخر الدروس ، حيث الشياكة والهندام والأناقة التي كان يهتم بها كلٍ منهم والعطر الفواح الذي يملئ فضاء الصف عندما يدخل احدهم علينا في أول ( حصة ) .
ألا أن تغيرت نظرتي أليهم في يوم من الأيام عندما أكملت دراستي الثانوية والجامعية ، وأصبحت ارتاد الحانات والملاهي الليلية ( في زمن الجاهلية طبعاً ) مع شلة من أصدقائي الذين ينحدرون من سلالة ( هبل ) ، حيث لفت انتباهي صوت شخص كان يجلس منفرداً في أحدى الزوايا شبه المظلمة وكان يدندن بصوت خافت أغنية ( ياطيور الطايرة ) للفنان سعدون جابر، هذا لأنه كان منتشياً وكأنه قد انطلق سابحاً في الفضاء الخارجي أو كأني به يعيش حياة الملوك من أول ( بطل بيرة ) دخل جوفه وتبخر جزء منه إلى دماغه ، أراه يحس بمن هم من حوله ينظرون أليه رغم النشاز الذي يخرج من حنجرته ، أني اعترف بأنه إنسان جسور وصلف إلى الحد الذي لم يعر إزائه أي أهمية للناظرين أليه مع علمه وبكل تأكيد بأنها نظرات ازدراء واستهجان وليس أعجابا منهم بصوته (الرنان ) .
انقضى وقت جلوسه في الحانة وحان وقت الرحيل بعد أن ( سطر ) على المنضدة كوماً من فوارغ الشراب الذي تناوله ،دفع ثمن إلى النادل وطالبة بإعادة ماتبقى من نقوده ، ونهض بأعجوبة وقد رأيته قد نهض كما تنهض الدواب من بين مستنقعات الوحل ، انتصب واقفاً يحاول أن يعيد ترتيب هندامه ، ويا ليته لم يفعل هذا لأنه زاد الطين بلى ، حيث جعل ربطة العنق تكاد تكون على كتفه واخرج جزء من قميصه من تحت الحزام ليجعله يتدلى إلى أحدى ركبتيه ، واغرب مافي الأمر انه وضع زرار ( الجاكت ) التحتاني في ثقب الزرار الفوقاني بحيث جعل الجميع يضحكون بصوت مسموع ......آلا أنا !!
نهض وأصبح وجهه واضحاً من ضوء الشباك الذي بجانبه ، تخيل لي باني اعرف الرجل آو سبق لي إن صادفته في حياتي ، هكذا كتمت ضحكتي آلا أن مر من جانبي وجعلني انهض من فوري أكبارا واحتراما له ، انه ( أستاذ ) يوسف درسني مادة التاريخ في مرحلة الدراسة المتوسطة .
لقد كان أستاذاً وشخصاً محترماً بكل ما للكلمة من معنى ، حاولت أن أخذ بيده لإيصاله إلى الباب فرفض بشدة ولم يمد لي يده مثلما أمددت له يدي ، سرت إلى جانبه حتى ذلك الباب وهو يترنح ويكاد أن يسقط أرضا لعدم تمكنه من السيطرة على جسده ، انه لم يعر لي أي اهتمام أو لم يكن في باله باني نهضت من اجله ألا أن اصحبنا خارج المكان الذي كنا نجلس فيه ، بادرته القول :
- أستاذ يوسف
- رد علي بكلمة (نعم )دون أن يلتفت ألي !
تركني وسار يتكئ على جدران الأبنية المجاورة بقدمين تخفق احدهما الأخرى إلى أن اختفى ولم اعد أراه ، دخلت إلى أحفاد هبل وطلبت منهم أن نخرج حيث لا طاقة لي على الاستمرار بالجلوس في هذا المكان .
نسيت الأمر بعد حين وقد تغيرت نظرتي إلى الأساتذة المعلمين والمدرسين والمعلمات والمدرسات ، وأقنعت نفسي بأنهم أناس مثلنا وليسوا بملائكة وما مقولة ( قم للمعلم وفه التبجيلا ...... كاد المعلم أن يكون رسولا ) تيقنت بعد ذلك أنها قيلت بحق المعلمين لكنها لا تنطبق على الجميع في حالات معينة عندما يقرر هذا الرسول بان يكون ( قرقوزاً) يجعل من شخصه أضحوكة لمن هم دونه في كل شيء ...
بعد فترة من الزمن تذكرت المعلم وبعض ( شطحاته ) كانسان مثلنا فوجدت انه معذور في كل مايصنع في شخصيته سواء كان متعمدا أم عن غير عمد ، ولا عيب في ذلك لدى جميع الناس بل العيب يكمن عند طلابه ممن كانوا يهابونه ويحترمونه تحت سقف الصف الذي كان يدرسهم فيه وهم شريحة قليلة لا تتجاوز بضع الآلاف ...
، لكن العيب كل العيب عندما ترى رؤساء دول وملوك يصبحون كالقرود بأعين الملايين من أفراد شعبهم والشعوب الأخرى !!
رؤساء الدول والملوك والأمراء لايحتاجون إلى مقدمة فهم ( نجوم ) تراهم حتى أعين الأطفال ويهاب سطوتهم الجميع بلا استثناء ، نحترمهم أو قد نعشقهم لان كرامتنا متعلقة بأطراف شوارب من له شوارب منهم ولم يمسها رذاذ الخمر، وحياتنا رهينة بإشارة من أصبع الملك أو الأمير آو الرئيس ( القائد ) حتى ولو كانت من أصبعه الصغير لنصبح بعدها اثر بعد عين ، وصاحب الحظ فينا من تسلم جثته إلى أهله ليدفنوه بطريقتهم الخاصة ، ومن ليس له والحظ من شيء فسيبقى مجهول المكان إلى يوم يبعثون .
هكذا كانوا هم وعوائهم وبطانتهم وأصحاب النفوذ المخولين بقبض الأرواح في السر والعلانية ، أننا مستسلمون لأرادتهم ونزواتهم لما نراه من هيبة وجلالة السلطان حيث يأتي ملك أرواحنا أليهم بعد الله سبحانه وتعالى ، أنهم متدرعون بعناصر الحماية التي تحيط بهم من كل جانب ، والخوف المشروع ينتابنا في كل لحظة لان الروح عزيزة ، ولكن !!
ما فعله أستاذي القديم يوسف من ( بهدلة ) لشخصه لهو اشرف مما فعله القادة العرب ممن طالتهم أرادة الشعوب العربية في التغير ، لقد فعلوا وتصرفوا وقالوا أشياء يخجل المرء البسيط من فعلها ، أنهم جعلوا من أنفسهم قروداً تتوسل بالسائحين على قطعة من قشر الموز ، أنهم يستجدون الرحمة من الشعب لغرض أن يغفوا ساعة من ليلهم الطويل براحة بال دون خوف على كرسي الحكم وعلى ملياراتهم في الداخل أو الخارج .
من تتبع خطبهم وتوسلاتهم بالشعب ، وإصلاحاتهم المتأخرة وإلغائهم لفقرات من الدستور وخاصة قوانين الطوارئ التي كانوا يكبلون بها الناس كي لا يخرجوا عن طاعتهم في يوم من الأيام ، تلك القرارات والإصلاحات لم تعد تجدي نفعاً إزاء أرادة الشباب وقرار التغيير تحت الأهزوجة التي أصبحت الشعوب الثائرة ترددها باستمرار{ الشعب يريد إسقاط النظام } إصلاحات متتالية وحل الحكومة وإعادة تشكيلها والتي دائماً يرفضها المحتجون ....
كنت أعتقد بان الرئيس يجب أن يكون بطلا أولا وافهم أبناء شعبه ثانياً ، كنت اعتقد بأنهم يعلمون طيلة الثلاثون عاما أو أكثر التي قضوها في السلطة ليلاً ونهاراً على خدمة شعبهم على أحسن مايرام كي يستطيعوا أن يقفوا بوجه من يتمرد عليهم في يوم من الأيام عندما يكون الشعب باطلاً ويطالبه بأشياء قد أنجزها الرئيس فيما مضى ، ليتجنب بان لا يكون موقفه ( كالكلب الداخل بين صفوف المصلين ) تأتيه الضربات الموجعة من كل حدب وصوب .
ومن المخجل جدا أن يرى ( قائد الشعب ) طفلا يحمل ورقة صغيرة كتبوا له عليها ( ارحل ) لا نريدك قائدا لأنك فاسد...
- وها هو الرئيس المصري حسني مبارك يدخل ( الحبس ) بتهمة قتل أبناء شعبه من المحتجين في ساحة التحرير أو التغاضي عن القتله ،وقد تم وضع اليد على أكثر من ثلاثون مليار دولار مسجله في حسابه وحساب أبنائه وزوجته ( ولازال الحبل على الجرار).
- الرئيس التونسي زين العابدين بن علي اختصر الطريق ووفر على نفسه مشقة المحاكم حيث ترك الملك وشد الرحال إلى جزيرة العرب لينجوا بالعزيزة وبزوجته الجميلة ليلى الطرابلسي التي لم تتمكن من نقل كل أملاكها إلى الطائرة التي اقلتها لتنظم إلى زوجها الهارب.
- أما القائد (الأهوج) الفاتح من سبتمبر فقد قبل التحدي وقرر أن يلوي ذراع الشعب الليبي ويحرق الأخضر واليابس على حد سواء بعد أن رائ بأم عينه كيف تضرب صورته ( بالأحذية ) من قبل أبناء شعبه الجائع ، حين علم ذلك الشعب بأنه يكتنز أكثر من مائه وأربعة وثلاثون طناً من الذهب الخالص.
- وأكثر الرؤساء العرب (بهذل ) نفسه واستجدى الرحمة هو الرئيس اليمني علي عبد الله صالح حيث يطل مع مناصريه كل جمعة بمقترح يختمه بالقول( أنا اعلم بأنهم سيرفضون هذا ) وفعلا لقد رفضوا كل شيء دون التنحي والرحيل الى محكمة الشعب لينال جزاءه العادل .
- وهكذا بدا الأمر مع الرئيس السوري بشار حافظ الأسد
- والأردن ومليكها عبد الله الثاني بن الحسين بن طلال ، يستغرب ويشجب مقتل ( ثلاثة وثمانون) عنصرا من عناصر في 15/4/2011.
- وشعوب المغرب والجزائر والبحرين ليسوا ببعيدين عن الأحداث حيث كل شيء (بالدور) .
وهكذا حال الدنيا لم تترك أحدا ( يعتقد ) إلى ما لانهاية بل تضع الحقائق أمام عينيه تباعاً طال الزمان أم قصر ..........
خليل سعيد الشويلي
بغداد 21 نيسان 2011
تعليق