عدنان حرح

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د.طاهر سماق
    طبيب وشاعر سوري
    • 24-10-2009
    • 154

    عدنان حرح

    اسمٌ لمع بين الطلبةِ، في ردهات كلية الطب أوائل الثمانينيات من القرن الماضي.

    كان شاباً نحيل الجسم جِدِّيَ الطباع
    في ملامِحِه قسوةٌ ظاهرةٌ
    تخفي من ورائها قلباً ليِّنَ العريكة قليل الخبرة.

    لم يكن يملِكُ من الوسامة أكثر من جاذبيتِه المنبثَّةِ في جدِّيَّةٍ توحي بثِّقةٍ لا يملكُ المرءُ إلا أن يطرحَها تجاهَه.

    كنتُ محظوظاً لأنه كان يخاطبُني باسمي عندما نتقابل في أحد ردهاتِ الكلية.
    فقد كان أحد الوجوه القيادية المهمة هناك.
    كنتُ أصغُرُهُ بعام .. والعامُ أيَّامَها يفصلُ بين جيلين.
    هكذا كنَّا نعتقد.


    كان محط احترام أساتذته.

    حتى عميدَ الكليةِ، الدكتور بشير الكاتب، أستاذ الجراحةِ الصدرية، كان يبدي له احتراماً ومودة يَحلُمُ بمثلِها أيُّ من طلَبَتِه.

    لِمَ لا؟ ..

    فهو الأولُ على دفعتِه منذ السنة الأولى.

    كان يتولى مهمةً قيادية في الفرقة الحزبية.

    وكان قد تسلم سلاحاً فردياً خفيفاً، (مسدس) .. لكنَّي لم أشهدْه يوماً يتباهى بحملِهِ أو تعليقِه على خصرِه خلافاً لما كان يُبديهِ البعضُ الآخَر.

    كان، على صغَرِ السن الذي جمعنا، يرتدي دائماً زِيَّاً رسمياً بربطة عنق، خلافاً لما كان يرتديه أقرانُهُ من لباسٍ شبابي مُتحرر.



    وكانتْ من سماتِه نحافةُ وجهِهِ الذي تقبعُ فيه عينانِ صغيرتان يملؤهما بريقٌ يسطع من خلف نظارةٍ تقليديةٍ واسعة الزجاج، ثخينة الإطار عسلية اللون.


    كأي شاب .. كان يتوق لعلاقةِ حُبٍّ تربِطُهُ بفتاة أحلامِه.
    وكان حظُّهُ أن خَطَفَتْ قلبَهُ فتاةٌ لم يكن لديها مانعٌ من مجاراتِه ..

    ربما ارتأتْ أن تتزين بتفَرُّدِهِ وتميُّزِهِ إلى أن تخطُفَ بذلك شيئاً من التميز فتنجَذِبُ لها أنظارُ من هم أكثرُ وسامةً منه.

    لم أكن أعلم بمدى ما جمعهُما إلا ما سمعتُه من أصحابٍ أكثر منه قرب.

    وفي الحادية عشر والنصف من مساء أحد أيام نيسان من عام 1985
    وكانت السنةُ الخامسة له في كلية الطب ..

    وبعد أن وصلتِ الحافلةُ التي أقلَّتِ الرِّحلة الطلابية إلى دمشق عائدةً إلى ساحة الجامعة ..

    سُمِعً صوتُ طلقٍ ناري

    اكتنفَ الأمرَ شيءٌ من الغموضُ، أحاطتْهُ فوضى وبعضُ الأصواتِ التي تنادتْ إلى حيث سقطَ أحدهم.


    ما الذي جرى؟؟

    أجابَنا صوتٌ مجهول:

    (عدنان حرح .. انتحر)


    وما هي إلا لحظات ..
    أو قُلْ خلناها كذلك ..
    حتى كان عدنان حرح مُلقى في غرفة العمليات بمشفى حلب الجامعي ..

    وكان الدكتور بشير الكاتب يمسكُ مبضَعَهُ ويحيطُ به مساعدوه .. لينقذوا حياة عدنان.

    تنادى الزملاء للتبرع بالدم.
    وتم نقلُ ما يزيد عن أحد عشر كيس من الدم إلى شرايينه لتعويض النزيف الحاصل.


    كانت الطلقة قد اخترقت البطين الأيسر ..

    ربما لأنّ الرجلُ كان على درايةٍ دقيقة بتشريح الصدر.
    ورغم شدة النزف .. لم ينقطع أمل استاذِهِ في انقاذ حياته.


    كان الطلبة يتجمهرون أمام غرفة العمليات .. بانتظار أي خبرٍ يردُّ إليهِم رُشْدَهُم ..


    في الواحدة بعد منتصف تلك الليلة .. خرج الدكتور بشير من غرفة العمليات وقد استولى عليه الإرهاق وتملَّكَهُ الأسى ..

    قال:

    البقية بحياتكم

    كانت الفاجعة ..

    لقد مات عدنان ..


    يا الله .. ما أقسى وقعَ ذلك الخبر



    في اليوم التالي ..

    كان يشيِّعُهُ معظم زملائه في كافة السنوات .. فكان موكِبُهُ، بحقٍّ، موكباً مهيباً.



    بعد أيام ..

    أُلصِقَتْ في لوحةِ الإعلانات في الكلِّية أخرُ جملةٍ سطَّرها عدنان قبل أن ينتحر:


    (إما كل شيء .. أو .. لا شيء).

    واليوم ..

    بات عدنان ذكرى.


    14/4/2011
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    تحيّة تقدير لك د.طاهر.
    الثّوريّون هم دائما هكذا لا تنتهي حياتهم إلاّ و قد صوّبوا طلقة صائبة نحو ما يعاركون.و قصّتك الجميلة هذه تؤكّد ذلك بإيحاء لذيذ و امتلاك ناضج لأدوات القصّ و التّوثيق عامّة.
    يقول ديهامييل On écrit ce qu'on rate
    نحن نكتب ما عجزنا على تحقيقه..
    و الكتابة أخي لا تقتصر على الحبر و الورقة و حسب.كلّ منّا يكتب تجربته بوسائله الخاصّة و على النّحو الذي يجده مناسبا.
    و ها هو عدنان يكتب بمسدّس على قلبه أنّه لم يستطع أن يجمع بين كلّ شيء.مهما كان قصده و مهما كانت هذه الأشياء.
    نصّ ممتع دكتور.أشكرك عليه.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • آسيا رحاحليه
      أديب وكاتب
      • 08-09-2009
      • 7182

      #3
      أسفت لنهاية عدنان خاصة أن لا شيئ في النص يوحي بأنه شخص انتحاري ..
      سررت بالقراءة لك دكتور.
      تحيّتي و احترامي.
      يظن الناس بي خيرا و إنّي
      لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

      تعليق

      • إيمان الدرع
        نائب ملتقى القصة
        • 09-02-2010
        • 3576

        #4
        الدّكتور طاهر سمّاق :
        لقد أخذني النصّ بعيداً ...
        ورحتُ أتأمّل في كاتبه ، قبل الغوص في حنايا السّطور ..
        فأنت تجمع توليفة رائعة بين النهج العلميّ الأكاديميّ ..
        وبين هذا السّطوع الأدبيّ البارق الذي أفلح وبجدارةٍ أن يسترق الكثير من التأمّل، والغوص في الملامح التي رسمتها بعنايةٍ فائقةٍ
        بشكلٍ موازنٍ في الدّخول إلى الجانب التحليليّ من الشّخصيّة وأعماقها ...ونظرتها للحياة ..وفلسفتها ..
        ولقد قلتَ الكثير ما بين سطورك ...على لسان عدنان ...هذا الرّمز الرّافض لأنصاف الحلول
        وحقيقة الأمر ...لو أتيح لعبارته تلك أن تجد النور حينها ...لنقشتْ بحروفٍ من ذهبٍ، ولتصدّرتْ أمام رؤى كلّ من يبحث عن مفردات التصميم والإرادة..
        أحيّيك أديبنا الرّائع ...
        كم أنا سعيدة بقراءة نصّك المعبّر هذا !!!؟؟؟
        ومع أطيب أمنياتي ...إليك تحيّاتي ..

        تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

        تعليق

        • د.طاهر سماق
          طبيب وشاعر سوري
          • 24-10-2009
          • 154

          #5
          كل الشكر ومن أعماق القلب لك أخي محمد فطومي .. سرَّني ما وصلت إليه من تحليلٍ للنص ..
          أخت آسيا رحاحليه .. ممتنٌّ لحضورك
          أخت إيمان الدرع .. حسبت أني أتقلَّدُ وساماً رفيعاً وأنا أقرأ كلماتك .. كل الشكر لكِ

          تعليق

          يعمل...
          X