حكاية زوجــــــان نموذجيــــان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نبيل عودة
    كاتب وناقد واعلامي
    • 03-12-2008
    • 543

    حكاية زوجــــــان نموذجيــــان

    زوجــــــان نموذجيــــان


    قصة: نبيل عودة

    عبد الباري تجاوز التسعين عاماً، وأضحت سيرته نموذجاً للبيت السعيد. تزوج في العشرين من عمره، وها قد مضى على زواجه سبعة عقود كاملة، دون أن يسمع إنس أو جن عن مشكلة بينه وبين زوجته حتى اشتهرت زوجته بالبلد والبلدات المجاورة بصفة "الزوجة الفاضلة الصموتة"، التي يضرب بها المثل ، وتقدم سيرتها وسيرة زوجها كنموذج للبيت السعيد للذين مقدمين على الزواج، وللأزواج المليئة حياتهم بالخلافات والمشاكل كي يحتذوا بهما ، وخاصة يجري التشديد على الزوجات اللواتي يُتهمن دائما بتسبيب المشاكل، من طول لسانهن أو قلة إيمانهن كما يقول شيخ البلد الجليل ، حتى بدون سماع رواياتهن ،والبعض يقول إن "المرأة يزداد وزنها عشرة كيلوغرامات كاملة بعد كل طوشة" ، والقانون غير المكتوب في بلدنا ، أن الزوج دائما هو العاقل وهو صاحب القول الفصل وكأنه رئيس جمهورية عربية.. رواية الزوج مقررة في بلدنا، حتى لو كان مخبولا ولا يعرف تركيب جملتين مفيدتين. وها هي زوجة عبد الباري نموذجا لكن يا نساء البلد، عرفت قدرها ولم تتجاوز حدودها... فاحترمها زوجها وأجلها وكأنها كنز ذهب وجواهر !!
    ويقول الشيخ في كل محضر:" زوجة عبد الباري تعرف واجب بيتها واحتياجات زوجها، لا تكثر من الكلام والمماحكة والنق على رأس زلمتها، ولا يهمها إلا سعادة بعلها وبيتها، هذا هو نموذج المرأة الصالحة كاملة العقل والدين".
    لم تكن تعرف البلد الشيء الكثير عن عبد الباري وزوجته، ونصف ما يقال عنهما لا طريقة لإثباته، ولكنه حقا لا يستحق الإثبات لأنه خلو من أشياء مثيرة تشد السامعين. مثلا كلُ ما يعرف عن تلك الزوجة الصالحة ان من عادتها إذا تجادلت مع شخص ويغضبها أن تقول بكل هدوء:
    - أقول لك للمرة الأولى... كذا وكيت.
    وعدا ذلك لا يعرف عنها سلاطة اللسان أو المشاكسة أو الصراخ أو التدخل بشؤون نساء البلد ومشاكل بيوتها.
    حقا كانت تلك جملتها المشهورة، والتي قليلا ما تسمع ، بسبب حياة العزلة التي تعيشها هي وزوجها بوفاق وحب لا يتعثر، ولكن المعلومات القليلة الواردة من عزلة هذا البيت السعيد، تقول أن لفظها لتلك الجملة ، يجعل زوجها عبد الباري يقفز فورا بتوتر ظاهر ، كان لغم انفجر به، مسارعا ليسد الطريق على أي خلاف، بين زوجته ومن أسمعته تلك الجملة، مؤكداً أن زوجته على حق كامل، لا تتصرف إلا بالحق وأن زوجته امرأة ولا كل النساء، وأن قلبه يؤلمه إذا اضطرت لإعادة جملتها المشهورة بصيغة :
    " أقول لكم للمرة الثانية" مثلا، فهي زوجة لا تعرف اللف والدوران، واستقامتها، كما يقول عبد الباري تفوق الوصف، والذي لا يرضى بكلامه، "الله وعلي معه.. ليبتعد عن بيتنا".
    ترى أي نوع من النساء هي؟ وهل حقا خلق الله امرأة كاملة العقل والدين كما يقول عبد الباري، مستغلا كلام الشيخ في الإشادة بزوجته ؟ ولماذا لم يخلق الله غيرها بهذه الصفات التي تشبه الحلم لكل رجل ؟
    عبد الباري من شدة حبه لزوجته وغيرته على صوتها، لا يريد أن يسمع أصدق النساء تعيد قولها مرة ثانية، ويقول لمن حوله "الويل لنا من المرة الثانية، هذه الزوجة يجب أن تكون كلمتها نافذة من أول مرة".. وكان يشدد عبد الباري على قوله بطريقة تبدو غريبة بعض الشيء، خاصة حين تكون زوجته على خطأ مبين لا تبرير منطقي له... ولا يتردد بقطع العلاقة مع أقرب الناس صونا لكرامة زوجنه وكلمتها حتى لو كانت على خطأ، لدرجة أن البعض سخر من "الحب الذي يجعل الرجل مركوبا من زوجته مثل الحمار".. ولكن تأنيب الشيخ للمتطاولين، أخرس الألسن.
    عبد الباري وزوجته يسكنان على أطراف البلد، فوق تله تشرف على بضع قراريط من الأرض، يشتغل عبد الباري من الفجر حتى غياب الشمس في رعاية شؤون مزرعته الصغيرة.. يحرثها يزرعها ويربي فيها الدجاج وبعض الخراف البلدية، ورأسين بقر... ويكاد لا يخرج من مملكته، إلا للسوق أيام الاثنين ليبيع بعض ما رزقه الله به ويشتري ما يلزم بيته، ولم تكن زوجته ترافقه ، بل تكاد لا تغادر البيت والأرض، وفيما عدا ذلك، يبقى ملتصقاً بزوجته وأولاده، ولا ينتفض بشكل غريب إلا إذا قالت زوجته الفاضلة لأحد زوار المزرعة الصغيرة، أو حتى لقريب يزورهما واختلفا على موضوع، أو لابن عصى أمرها..
    - أقول لك للمرة الأولى..
    هذا الأمر لاحظه كل من كان بصلة قرابة أو بهدف تجاري مع عبد الباري وزوجته، ولكن أقاويل غير مؤكدة تشكك أن في الأمر سراً لا تفسير له، وشيخ البلد يقول "اتركوا الناس في همومهم، هذا بيت صالح، لا تتحرشوا في أسرار البيوت ، ولا تفسدوا ما بين الصالحين". ولكن البلد، المليئة بالمشاكل بين المتزوجين، والأقارب والأصحاب، حيرها أمر عظيم: كيف يمكن لزوجان مضى على زواجهما ثلاثة أرباع القرن، لم يسمع أحد عن خلاف أو مشكلة بينهما؟؟ هل هم ملائكة؟؟
    لم يتجرأ أحد أن يفاتح بالموضوع عبد الباري، الذي كان ينتفض غضباً للتدخل في شؤونه الخاصة، ويسارع بالابتعاد عن السائل والسائلين، وكأنهم مصابون بالطاعون القاتل. والحق يقال إن سيرته حسنة، يبتعد عن المشاكل، ويعيش بشبه انعزال منذ تزوج.
    ولكن المقدر قد وقع ، وانتقلت الزوجة إلى رحمة ربها نظيفة من كل ذنب، رغم أنها كانت تبدو بنت معيشة وزوجها الذي يدب على عصاتين قريب من حافة قبره: "إن لله في قراراته شؤون لا تخص العباد" صدر حكم الشيخ لمنع التساؤلات.
    في أيام العزاء لاحظت البلد أن عبد الباري العجوز الذي قارب التسعين استعاد صحته، وظهرت الحيوية على وجهه، بل صار يضحك، ويغمز على زوجته، ويتحدث بطريقة لم يعهدوها به، فهل هي صدمة الفراق أفقدته عقله أم الشيخوخة هبت رياحها دفعة واحدة فأفقدته وعيه ؟ بل ويتندر أهل البلد انه صار يلبي دعوات الزيارة، ويدعو الناس لزيارته، ولا يبخل بمد الموائد التي لم يشاهدها أحد سابقاً أيام زوجته، ويبدو أن أولاده أكثر حرية وسعادة، أمر غريب يلفت الانتباه. أين اختفى الحزن على فراق أفضل الزوجات وأكثرهن إخلاصا لزوجها وبيتها؟
    في فجر أحد الأيام أنتشر خبر يقول أن عبد الباري أصيب بتوعك صحي صعب، ويبدو أنه يودع هذه الحياة. سارع الشيخ لزيارته، وفي ذهنه أن يفهم سر هذا التغيير، وكيف صمد على وفاق مع أم الأولاد سبعة عقود كاملة، حتى صار يضرب ببيته المثل، عن البيت السعيد، والزوجان النموذجيان اللذان لم يخلف بينهما شيء على الإطلاق.
    كان عبد الباري يتنفس بصعوبة، وأولاده وأحفاده حوله، وبعد أن ألقى الشيخ التحية وقرأ الفاتحة فوق رأسه وتمنى له حسن الختام، سأله:
    - البلد كلها تريد أن تعرف كيف يمكن بناء علاقات زوجية لفترة سبعة عقود بدون خلاف بل بوفاق كامل لا نعرف له حالة في عالمنا؟؟! أعطنا ما نصلح به بيوت العباد المتنازعين والمتقاتلين حتى على كلمة.
    بعد أن تنهد عبد الباري بعمق، محاولاً أن يأخذ نفساً طويلاً يعينه على حديثه، إلا أنه ظل يلهث، ومن بين لهثه وأخرى وبتقطع في السرد، شرح سر هذا البيت الذي يضرب المثل بسعادته ووفاقه، قال:
    - يا شيخنا الجليل، المسألة بسيطة، عندما تزوجنا لم تكن سيارات، عدنا بعربة يجرها حمار إلى بيتنا، والطريق وعرة كما تعلم وكلها صعود مرهق، مما أرهق الحمار، فوقع أرضاً، وعبثاً حاولت أن أنهره ليواصل، وزوجتي لم تصبر، نزلت من العربة، وأمسكت الحمار من أذنيه ، نظرت في عينيه وقالت له :"أقول لك للمرة الأولى، قم وتحرك" وما هي إلا لحظات، حتى قام أبو صابر وواصل جرنا بالعربة نحو البيت، بعد مسافة ما كبع الحمار مرة أخرى، ففتحت فمي لأنهره، فأسكتتني بيدها، نزلت وأمسكت الحمار من أذنيه ونظرت في عينيه وقالت له: " أقول لك للمرة الثانية قم وتحرك"، وكما بالمرة الأولى، أنتفض أبو صابر وعاد يجرنا بتثاقل واضح وإرهاق كبير نحو البيت، ولكن وعورة الطريق أسقطته أرضاً مرة أخرى، وكالمرة الأولى والثانية، نزلت عروستي وأمسكته من أذنيه ونظرت في عينيه وقالت له: " أقول لك للمرة الثالثة ولن تكون مرة رابعة، قم وتحرك" مضت لحظات والحمار المسكين غير قادر على الحركة، فإذا هي تخرج مسدساً من حقيبة ملابسها، وبلا مقدمات أطلقت رصاصة على رأس الحمار، ومن يومها لم أضطرها لتقول لأحد ما، أقول لك للمرة الثانية ، المرة الأولى تكفي!!

    nabiloudeh@gmail.com
    التعديل الأخير تم بواسطة نبيل عودة; الساعة 27-04-2011, 19:52.
  • هتاف الخطيب
    أديب وكاتب
    • 30-10-2010
    • 127

    #2
    ليت زوجة عبد الباري كانت عضوة في الملتقى
    لتمسك بآذان الكثيرين لكي لا يتعدوا حدودهم
    ولكي لا يعطوا لأنفسهم ما لا يستحقونه من قدر
    فنحن بالنهاية في ملتقى افتراضي لا أكثر ولا أقل


    أسألك أستاذي الفاضل عن سبب هذا العنوان



    لماذا
    حكاية زوجــــــان نموذجيــــان

    وليس


    حكاية زوجــــــيْن نموذجيــــيْن


    مع كل الشكر على هذه القصة الهادفة

    أختك / هتاف الخطيب

    تعليق

    • نبيل عودة
      كاتب وناقد واعلامي
      • 03-12-2008
      • 543

      #3
      الأخت هتاف ادام الله زياراتك لقصصي والويل للمنتدى اذا تحكمت فيه زوجة عبد الباري..
      لماذا العنوان زوجان..... لا أعرف .. انا سماعي وطربت أكثر لزوجان .. لذلك اعدت العنوان الأصلي ، وكنت قد فحصت العنوان عبر غوغل فبين لي انه سليم ، امل انك على صواب.

      تعليق

      • هتاف الخطيب
        أديب وكاتب
        • 30-10-2010
        • 127

        #4
        عذرا أستاذي على سؤالي
        وشكرا على لطف جوابك

        زوجــــــان نموذجيــــان

        عنوان رائع

        تحيتي لك أستاذي نبيل عودة
        التعديل الأخير تم بواسطة هتاف الخطيب; الساعة 28-04-2011, 08:03.

        تعليق

        • سحر الخطيب
          أديب وكاتب
          • 09-03-2010
          • 3645

          #5
          يبدوا ان هذة العروس قطعت رأس القط ليلة عرسها
          ربما يكون الاتكال على تلك العروسه التي اصبحت الكل في الكل
          وهناك الكثير في عصرنا يتكلون على الزوجة فتصبح سيدة البيت وسيدها
          انا معك استاذ نبيل ويل للمنتدى إن تحكمت هذة الزوجه
          فالزواج مودة ورحمه وتفاهم ...وايضا خلاف ولولاى وجود بهارات الحياة لكانت الحياة بينهما روتين قاتل
          ولله في خلقة شؤون
          الجرح عميق لا يستكين
          والماضى شرود لا يعود
          والعمر يسرى للثرى والقبور

          تعليق

          • نبيل عودة
            كاتب وناقد واعلامي
            • 03-12-2008
            • 543

            #6
            البعض لاحظ اني جعلت المرأة هي صاحبة السيادة والسطوة ، وعروبتهم استاءت من ذلك، وذكورتهم انتفضت للمهانة التي الحقتها بها.
            ترى ما رأي نساء الملتقى؟

            تعليق

            • مباركة بشير أحمد
              أديبة وكاتبة
              • 17-03-2011
              • 2034

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة نبيل عودة مشاهدة المشاركة
              البعض لاحظ اني جعلت المرأة هي صاحبة السيادة والسطوة ، وعروبتهم استاءت من ذلك، وذكورتهم انتفضت للمهانة التي الحقتها بها.
              ترى ما رأي نساء الملتقى؟
              حكاية زوجين نموذجيين..
              قصة ماتعة وجميلة وتدلل على أن المرأة باستطاعتها أن تكون صاحبة سطوة وجبروت على الرجل!
              وإن كنت أعتقد في قرارة نفسي أن زوج البطلة ماوصل إلى دركات الإنصياع ،إلا لأنه ضعيف شخصية..!
              فماذا يعني أن تقتل المرأة حمارا على مسمع ومرأى من الرجل؟!
              عندنا في الجزائر يا أخي نبيل ،رجال يستصعب على القلم أن يصف حالهم وأحوالهم..!
              فلو تجرأت المرأة وقتلت حمارا مسكينا برصاصة في حضرته ،فسيقضي عليه هو بخمس رصاصات المتبقية في المسدس
              أو ربما سيقتلها معه ههههه.
              على العموم،أبارك أن تكون المرأة صاحبة سطوة وعصمة ،لكنني أستصغر الرجل المنقاد من أذنيه..!!

              تعليق

              • نبيل عودة
                كاتب وناقد واعلامي
                • 03-12-2008
                • 543

                #8
                القصة عدلت في بدايتها اذ لا حظت شبها كبيرا مع النظام العربي وتسلطه على الجماهير العربية هذا النص المعدل:


                [COLOR=#000000]

                النظام والشعب

                (زوجــــــان
                نموذجيــــان)

                قصة: نبيل عودة
                [/COLOR


                يتميز استاذ الفلسفة بهدوء غير عادي ، يظنه المرء غارقافي هموم الدنيا. هذا كان انطباعنا الأول عنه. ولكن بعد دقائق من بداية المحاضرةالأولى ، جذبنا بروحه المرحه، وشغفه على شرح نظريات مواضيعنا المعقدة، بقصص طريفةأحيانا، ويحثنا ان نحاول تصنيف الطرف التينسمعها من الناس حسب موضوعها الفلسفي.وقوله المشهور ، ان الطرف هي حكمة حياة، فكروا بما تخفيه وليس بما تظهره. بالدافعلصياغتها ، وليس بشكل وصولها الينا.

                وكان يفاجئنا احيانا ان طرفنا التي تفجر الخواصر منالضحك، يستمع اليها بانتباه شديد، ولا ننجح بزحزحة ابتسامته ، بل نراه يغرق فيالتفكير، وبعد برهة تتسع ابتسامته، ويعبر عن اعجابه بالطرفة او القصة، ويبدأبتأويلها حسب موضوعها الفلسفة.

                سالته مرة متجرئا، الا يقود ذلك الى جعل الفلسفة، هذاالموضوع الفكري الراقي ، نوعا من الاسفاف، يهبط بقيمتها العقلية، بين سائرالمواضيع، اذا بالغنا برواية الطرف وتأويلها الفلسفي؟

                اجابني بجدية مطلقة:" ان بناء الطرفة للوصول الىهدف معين، يشبه بناء مفهوم فلسفي لتفسير وضع معين ، وهذا يعني ان الطرفة والمفهومالفلسفي متشابهان بالدوافع. حتى الطرف التي تبدو سخيفة، لها دوافع.. لذلك ما تسميهالفلسفة "رؤى وتبصر" ، يظنه راوي الطرف "فن الاضحاك". انالطرفة هي فن تخطيط الحدث ، والقادرين على هذا الفعل، يملكون رؤية واسعة وفهماعميقا للإنسان والمجتمع والحياة. لا عيبان نتعلم منهم، ان نستعمل طرفهم لتفسير مفاهيم فلسفية عديدة. ولكن اياك وان تظن انالفلسفة وجدت لتضحك الناس. بل وجدت لتنشط العقل ، وتعمق الوعي، وتزيد المعارفوتخلق الجديد" .

                واضاف بعد فترة توقف: ما رأيكم ان نفسر الثورات فيالعالم العربي ، بقصة مناسبة؟ هل تظنون ان هذا مستحيلا؟

                فكروا بالموضوع ، اكتبوا ونلتقي في الدرس القادم.

                ضاع يوم العطلة وانا احك دماغي بلا فائدة، كنت اقوللنفسي الموضوع سهل ، النظام فاسد ولم يعد يستطيع الحكم ، والشعب اجتاز خوفة ولميعد يقبل باستمرار النظام. اذن القصة هي علاقة بين نظام حكم وشعب. اصل الى هنا ولااعرف كيف اواصل، كيف اركب حكاية او اتذكر حكاية يمكن أن تشبه ما يجري في تونس ومصروليبيا واليمن وسوريا.. . حتى جدتي قلقت من قلقي، وسمعتها تقول لوالدي ان ينتبه لي، لأن حالتي لا تعجبها . سالني والدي: "ما حكايتك؟" بعد تردد شرحت لهالوظيفة التي كلفني بها استاذ الفلسفة. ضحك وقال: "بسيطة"، والتفت الىجدتي ضاحكا: "انه يريد سماع حكاية عبد الباري وزوجته".

                استمعت للحكاية مسجلا رؤوس اقلام ، في تلك الليلة غادرنيالنوم تماما، سهرت حتى الصباح وانا اكتب واعيد الكتابة، امزق واكتب من جديد، وكانتهذه الحكاية عن "النظام والشعب" ، الزوجان النموذجيان في عالم العربالذي حان موعد دفنه !!

                ************

                عبد الباري تجاوز التسعين عاماً، وأضحت سيرتهنموذجاً للبيت السعيد. تزوج في العشرين من عمره، وها قد مضى على زواجه سبعة عقودكاملة، دون أن يسمع إنس أو جن عن مشكلة بينه وبين زوجته حتى اشتهرت زوجته بالبلد والبلداتالمجاورة بصفة "الزوجة الفاضلة الصموتة"، التي يضرب بها المثل ، وتقدمسيرتها وسيرة زوجها كنموذج للبيت السعيد للذين مقدمين على الزواج، وللأزواج المليئةحياتهم بالخلافات والمشاكل كي يحتذوا بهما ، وخاصة يجري التشديد على الزوجاتاللواتي يُتهمن دائما بتسبيب المشاكل، من طول لسانهن أو قلة إيمانهن كما يقول شيخالبلد الجليل ، حتى بدون سماع رواياتهن ،والبعض يقول إن "المرأة يزداد وزنهاعشرة كيلوغرامات كاملة بعد كل طوشة" ، والقانون غير المكتوب في بلدنا ،أن الزوج دائما هو العاقل وهو صاحب القولالفصل وكأنه رئيس جمهورية عربية.. رواية الزوج مقررة في بلدنا، حتى لو كان مخبولاولا يعرف تركيب جملتين مفيدتين. وها هي زوجة عبد الباري نموذجا لكن يا نساء البلد،عرفت قدرها ولم تتجاوز حدودها... فاحترمها زوجها وأجلها وكأنها كنز ذهب وجواهر !!

                ويقول الشيخ في كل محضر:" زوجة عبد الباري تعرفواجب بيتها واحتياجات زوجها، لا تكثر من الكلام والمماحكة والنق على رأس زلمتها،ولا يهمها إلا سعادة بعلها وبيتها، هذا هو نموذج المرأة الصالحة كاملة العقل والدين".

                لم تكنتعرف البلد الشيء الكثير عن عبد الباري وزوجته، ونصف ما يقال عنهما لا طريقةلإثباته، ولكنه حقا لا يستحق الإثبات لأنه خلو من أشياء مثيرة تشد السامعين. مثلا كلُما يعرف عن تلك الزوجة الصالحة ان من عادتها إذا تجادلت مع شخص ويغضبها أن تقولبكل هدوء:

                - أقول لك للمرة الأولى... كذا وكيت.

                وعدا ذلك لا يعرف عنها سلاطة اللسان أو المشاكسةأو الصراخ أو التدخل بشؤون نساء البلد ومشاكل بيوتها.

                حقا كانت تلك جملتها المشهورة، والتي قليلا ما تسمع، بسبب حياة العزلة التي تعيشها هي وزوجها بوفاق وحب لا يتعثر، ولكن المعلوماتالقليلة الواردة من عزلة هذا البيت السعيد، تقول أن لفظها لتلك الجملة ، يجعلزوجها عبد الباري يقفز فورا بتوتر ظاهر ، كان لغم انفجر به، مسارعا ليسد الطريقعلى أي خلاف، بين زوجته ومن أسمعته تلك الجملة، مؤكداً أن زوجته على حق كامل، لاتتصرف إلا بالحق وأن زوجته امرأة ولا كل النساء، وأن قلبه يؤلمه إذا اضطرت لإعادةجملتها المشهورة بصيغة :

                " أقول لكم للمرة الثانية" مثلا، فهيزوجة لا تعرف اللف والدوران، واستقامتها، كما يقول عبد الباري تفوق الوصف، والذيلا يرضى بكلامه، "الله وعلي معه.. ليبتعد عن بيتنا".

                ترى أينوع من النساء هي؟ وهل حقا خلق الله امرأة كاملة العقل والدين كما يقول عبد الباري،مستغلا كلام الشيخ في الإشادة بزوجته ؟ ولماذا لم يخلق الله غيرها بهذه الصفاتالتي تشبه الحلم لكل رجل ؟

                عبد الباري من شدة حبه لزوجته وغيرته على صوتها، لا يريد أن يسمع أصدقالنساء تعيد قولها مرة ثانية، ويقول لمن حوله "الويل لنا من المرة الثانية،هذه الزوجة يجب أن تكون كلمتها نافذة من أول مرة".. وكان يشدد عبد الباري علىقوله بطريقة تبدو غريبة بعض الشيء، خاصة حين تكون زوجته على خطأ مبين لا تبرير منطقي له... ولا يتردد بقطع العلاقةمع أقرب الناس صونا لكرامة زوجنه وكلمتها حتى لو كانت على خطأ، لدرجة أن البعض سخرمن "الحب الذي يجعل الرجل مركوبا من زوجته مثل الحمار".. ولكن تأنيبالشيخ للمتطاولين، أخرس الألسن.

                عبد الباري وزوجته يسكنان على أطراف البلد، فوقتله تشرف على بضع قراريط من الأرض، يشتغل عبد الباري من الفجر حتى غياب الشمس فيرعاية شؤون مزرعته الصغيرة.. يحرثها يزرعها ويربي فيها الدجاج وبعض الخراف البلدية،ورأسين بقر... ويكاد لا يخرج من مملكته، إلا للسوق أيام الاثنين ليبيع بعض ما رزقهالله به ويشتري ما يلزم بيته، ولم تكن زوجته ترافقه ، بل تكاد لا تغادر البيتوالأرض، وفيما عدا ذلك، يبقى ملتصقاًبزوجته وأولاده، ولا ينتفض بشكل غريب إلا إذا قالت زوجته الفاضلة لأحد زوار المزرعةالصغيرة، أو حتى لقريب يزورهما واختلفا على موضوع، أو لابن عصى أمرها..

                - أقول لك للمرة الأولى..

                هذا الأمر لاحظه كل من كان بصلة قرابة أو بهدف تجاريمع عبد الباري وزوجته، ولكن أقاويل غيرمؤكدة تشكك أن في الأمر سراً لا تفسير له، وشيخ البلد يقول "اتركوا الناس فيهمومهم، هذا بيت صالح، لا تتحرشوا في أسرار البيوت ، ولا تفسدوا ما بينالصالحين". ولكن البلد، المليئة بالمشاكل بين المتزوجين، والأقارب والأصحاب،حيرها أمر عظيم: كيف يمكن لزوجان مضى على زواجهما ثلاثة أرباع القرن، لم يسمع أحدعن خلاف أو مشكلة بينهما؟؟ هل هم ملائكة؟؟

                لميتجرأ أحد أن يفاتح بالموضوع عبد الباري، الذي كان ينتفض غضباً للتدخل في شؤونهالخاصة، ويسارع بالابتعاد عن السائل والسائلين، وكأنهم مصابون بالطاعون القاتل. والحقيقال إن سيرته حسنة، يبتعد عن المشاكل، ويعيش بشبه انعزال منذ تزوج.

                ولكن المقدر قد وقع ، وانتقلت الزوجة إلى رحمة ربهانظيفة من كل ذنب، رغم أنها كانت تبدو بنت معيشة وزوجها الذي يدب على عصاتين قريبمن حافة قبره: "إن لله في قراراته شؤون لا تخص العباد" صدر حكم الشيخلمنع التساؤلات.

                في أيامالعزاء لاحظت البلد أن عبد الباري العجوز الذي قارب التسعين استعاد صحته، وظهرتالحيوية على وجهه، بل صار يضحك، ويغمز على زوجته، ويتحدث بطريقة لم يعهدوها به،فهل هي صدمة الفراق أفقدته عقله أم الشيخوخة هبت رياحها دفعة واحدة فأفقدته وعيه ؟ بل ويتندر أهل البلد انه صار يلبي دعواتالزيارة، ويدعو الناس لزيارته، ولا يبخل بمد الموائد التي لم يشاهدها أحد سابقاًأيام زوجته، ويبدو أن أولاده أكثر حرية وسعادة، أمر غريب يلفت الانتباه. أين اختفىالحزن على فراق أفضل الزوجات وأكثرهن إخلاصا لزوجها وبيتها؟

                في فجر أحد الأيام أنتشر خبر يقول أن عبد الباريأصيب بتوعك صحي صعب، ويبدو أنه يودع هذه الحياة. سارع الشيخ لزيارته، وفي ذهنه أنيفهم سر هذا التغيير، وكيف صمد على وفاق مع أم الأولاد سبعة عقود كاملة، حتى صاريضرب ببيته المثل، عن البيت السعيد، والزوجان النموذجيان اللذان لم يخلف بينهماشيء على الإطلاق.

                كان عبدالباري يتنفس بصعوبة، وأولاده وأحفاده حوله، وبعد أن ألقى الشيخ التحية وقرأالفاتحة فوق رأسه وتمنى له حسن الختام، سأله:

                - البلد كلها تريد أن تعرف كيف يمكن بناء علاقات زوجية لفترة سبعة عقود بدونخلاف بل بوفاق كامل لا نعرف له حالة في عالمنا؟؟! أعطنا ما نصلح به بيوت العبادالمتنازعين والمتقاتلين حتى على كلمة.

                بعد أن تنهد عبد الباري بعمق، محاولاً أن يأخذنفساً طويلاً يعينه على حديثه، إلا أنه ظل يلهث، ومن بين لهثه وأخرى وبتقطع فيالسرد، شرح سر هذا البيت الذي يضرب المثل بسعادته ووفاقه، قال:

                - يا شيخنا الجليل، المسألة بسيطة، عندما تزوجنا لم تكن سيارات، عدنا بعربةيجرها حمار إلى بيتنا، والطريق وعرة كما تعلم وكلها صعود مرهق، مما أرهق الحمار،فوقع أرضاً، وعبثاً حاولت أن أنهره ليواصل، وزوجتي لم تصبر، نزلت من العربة،وأمسكت الحمار من أذنيه ، نظرت في عينيه وقالت له :"أقول لك للمرة الأولى، قموتحرك" وما هي إلا لحظات، حتى قام أبو صابر وواصل جرنا بالعربة نحو البيت،بعد مسافة ما كبع الحمار مرة أخرى، ففتحت فمي لأنهره، فأسكتتني بيدها، نزلت وأمسكتالحمار من أذنيه ونظرت في عينيه وقالت له: " أقول لك للمرة الثانية قموتحرك"، وكما بالمرة الأولى، أنتفض أبو صابر وعاد يجرنا بتثاقل واضح وإرهاقكبير نحو البيت، ولكن وعورة الطريق أسقطته أرضاً مرة أخرى، وكالمرة الأولىوالثانية، نزلت عروستي وأمسكته من أذنيه ونظرت في عينيه وقالت له: " أقول لكللمرة الثالثة ولن تكون مرة رابعة، قم وتحرك" مضت لحظات والحمار المسكين غيرقادر على الحركة، فإذا هي تخرج مسدساً من حقيبة ملابسها، وبلا مقدمات أطلقت رصاصةعلى رأس الحمار، ومن يومها لم أضطرها لتقول لأحد من الأبناء او الأقارب أو الزواراو التجار ، أقول لك للمرة الثانية ، المرة الأولى تكفي!!



                nabiloudeh@gmail.com

                تعليق

                يعمل...
                X