يحترقُ الزمنُ أمامَ عينيها .. يخترقُ أجسادَ الرجالِ والنساءِ والأطفال .. يركضُ مسرعاً مخلفاً في الذاتِ القلقَ والإحباط .
رياحُ كراهيةٍ.. وزمهريرحقد دفينٌ يقتربُ منها .. من أهلها .. من مقدساتها .. هدفُهُ أن يقتلعَ الأشجارَ ، يطفيءَ الأقمارَ ، يوقظَ الأئمةَ الراقدينَ بسلام .
أحستْ بحملها ثقيلاً في أحشائها يكادُ يشلُّ حركتَها وقدراتِها .. تُرى هلْ يرى النورَ أم ستغتالُهُ يدُ الغدرِ الآثمةِ قبلَ ولادته .
انتفضَ الجنينُ بقوةٍ جعلتها تصرخُ بهِ : ماذا تريد ؟.
تلقتِ الردَّ ركلة أقوى منَ الأولى :كمْ هوَ قويٌّ ومتمردٌ .. كلما خطرتْ لي فكرةٌ لا تعجبُهُ أبدى غضبَهُ بركلاتٍ في بطني .
منَ الشرفةِ تأملتِ المدينةَ المتلألئةَ في قلبِ الليلِ ، المرتميةَ بينَ ذراعي عاشقِها المتدفقِ بالحيويةِ والعطاءِ والذي يعانقُها بسحرٍ عجيبٍ ، فتروي لهُ في هدأة اللي الحزين حكايا ألفِ ليلةٍ وليلة .. ومغامراتِ السندباد .. وعلي بابا .. ويتحدثُ لها عنْ حضاراتِ الشرقِ التي روّاها منْ مائهِ العذب .
تُرى أينَ زوجُها الآن .. والذي لمْ تعدْ تراهُ منذُ لبّى نداءَ الجهاد .
لماذا هيَ وحيدةٌ تفترشُ الآلامَ وتتلحفُ الأحزان .. وهذا الجنينُ الذي لا يهدأُ والغاضبُ من كلِّ شيءٍ وكأنهُ حقاً يدركُ ما تعانيهِ أمهُ .
فكرتْ لماذا لا يكونُ جنينُها أولَ شهيدٍ في هذهِ المعركة .
ولأولِ مرةٍ تململَ الجنينُ بهدوء .
عليها أنْ تقررَ مصيرَهُ ومصيرَها لأنها لنْ تحتملَّ رؤيةَ المدينةِ تنهارُ صروحُها العظيمةُ .
عادت إلى غرفتِها ، وقفت أمامَ المرآةِ تتأملُ نفسها .. خلعت منديلَها وتناولتِ العقالَ العربيَّ ووضعتْهُ فوقَ رأسها .. انتابها شعورُ الفخرِ والاعتزاز .. استعرضتْ ذاكرتُها النساءَ العربياتِ وبطولاتِهنَّ التي سجلَها التاريخُ ابتداءً من زنوبيا مروراً بالخنساءِ وسميةَ وجميلةَ انتهاءً بسناءَ وآيات .. وهيَ أيضاً مكانُها معسكرُ التدريب .
لمْ تعدْ تشعرُ بحملِها ثقيلاً .. إنما كانَ خفيفاً ينسابُ في داخلِها بعذوبةٍ لاحدودَ لها وتساءلتْ أيمكنُ للجنينِ أنْ يفهمَ ويدركَ مشاعرَ أمهِ !!؟.
لمَ لا ما دامَ هناكَ حبلٌ سريٌّ يربطُ بينهما .
سألتها رفيقتُها : لماذا أنتِ هنا .. عودي من أجلِ الجنينِ وسأقومُ بالمهمةِ وحدي .
أجابتها أنا هنا من أجله 00 هوَ يريدُ ذلك .
استغربتْ رفيقتُها كلامَها .. فتابعتِ القول : أجلْ أنهُ يفهمُ كلَّ ما أريدُ .. وأفهمُ ما يريدُ .. ولا نريدُ أن نستسلمَ لموتٍ تحتَ الأنقاض .
امتدتْ مسافةٌ منَ الصمتِ بينهما تعانقُ روحَ كلٍّ منهنَّ بينما السيارةُ تقطعُ أطولَ اللحظاتِ في حياتهنَّ .. اللحظاتِ التي امتزجتْ فيها مشاعرُ الرهبةِ والخوفِ .. الحبِّ الكراهيةِ .. الفخرِ .. القهرِ .
اقتربتِ السيارةُ من جنودِ العدوِّ .. نظرتْ كلٌّ منهنَّ في عيني الأخرى لترى الوطنَ يزغردُ منتصراً رغمَ احتراقهِ .. تحسستْ جنينَها الساكنَ بيديها الحانيتينِ ثمَّ صرختْ بصوتٍ أقوى من صوتِ دويِّ الإنفجار ."هبا إلى الخلود ياولدي "
*** *** ***
مريم محمود العلي
تعليق