قراءة وجدانية خاصة في قصيدة الشاعر القدير إدريس الشعراني* خارج الزمن*
رحلة الشعر المتناغم
قبل أن نبدأ وطن رحلتنا في أعماق الشاعر إدريس الشعراني.. من خلال ذاته الشاعرة المتدفقة كنوتــة موسيقيــــة حـانيــــة- دون رتابة- على جسد القصيدة الحالمــــــة * خارج الزمـــــن * نتوقف في باب الروح الغامضة- الذات الغائبة- .. المـُـهدَى إليها.. الرقيقة حد الوجدان.. كما تبين لي من طريقة الإهداء الندي لها من ذات الشاعر.. يقول:
خارج الزمن (مهداة الى من رفرف لها القلب وابتسم لهاالوجدان)..
أرى أن لغة الخطاب الشعري تتغير و مـُـستوى لغة المـُـخاطب.. ويبدو لي أن هذه الرقيقة لها صفات لغوية خاصة لا يملك مفتاح رمزيتها غير الشاعر ادريس الشعراني الذي رفرف لها فرحا وابتسم لها وجدانا.. فكان أن أهدانا عبرها هذه المقطوعة الشعرية الراقية.. ذات البوح المعتق بسلاف النغمات..
.. تعالوا إذن بصحبتنا، على مثن رحلة الشعر المتناغم .. لنكتشف مع الشاعر مسار هذه الصفات الخاصة لبطلة قصيدته المتفردة نغما و المتوازية نسقا و التأملية صورا ندية.. نداوة روحه النقية.. و كي نرى جميعا مدى توحد ذاته مع هذه الذات الغائبة في توازي مع ذات الشاعر الحاضرة..
اخْتَرِقْنِي
قالتِ السَّماءُ لِسَهْمِ السَّنا
اخْتَرِقْني
فَزُرْقَتي
فَزُرْقَتي
مَلَّتِ اللوْنَ
أَحْلُمُ بالهَنا
هكذا
نَحَثَتْني الأَيَّامُ
هكذا
رَمَتْني الأَزْلامُ
هكذا أنا
أَحْلُمُ بالهَنا
هكذا
نَحَثَتْني الأَيَّامُ
هكذا
رَمَتْني الأَزْلامُ
هكذا أنا
على ضفاف الفراشات انسكب قلم الشاعر دهشة .. في حالة هذيان خارج الزمن ..
و أمام هذه الدعوة المشددة من السماء لذات الشاعر قصد اختراقها بعنف .. يوضحه أمر الاختراق..
/ اخْتَرِقْنِي /
تحولت ذات الشاعر لسهم ناري كي لا تترك فرصة للانتظار كي يغرقها في بئره مرة أخرى..
.. إذ نجد أن دلالة هذا الاختراق العميقة ( في هذا النسق الأول ذا الصورة البصرية الباذخة شعرا ) تفيد عذرية الباب الموصد - أي السماء- إلا من مفتاح القلب المرفرف لهذه الرقيقة.. إذ اكتشفتها ذات الشاعر على غفلة من الزمن..
أما دلالة السماء.. فهي الصفاء الروحي والعمق الوجداني.. وسهم السنا هو ذات الشاعر ما بعد لحظة الذهول و التأهب لاختراق زمن.. خارج المتوقع والمألوف / خارج الزمن/ كما وصفها الشاعر في قصيدته العنوان وداخل نسق النص الشعري..
.. تكرر السماء دعوتها هذه المرة بطريقة أرق كمناجاة حانية بينها و بين ذات الشاعر.. اذ تشكوه همهـــــا و وحدتهــــــــــــا / ملّت اللون / و افتقادها للراحة والأمان النفسي.. مع استسلام للقدر الذي نحثها هكذا.. متغربة.. حزينة.. وحيدة إلا من أناتها..
تعالَ
قالتِ الأَحْضانُ
لِصَقيعِ السَّجايا
تعال
تعال
فَقِطارُ الشَّوْقِ
على رَصِيفِ العُمْرِ رَسَا
وبُراقُ الصِّدْقِ
بَيْنَ ُرمُوشِنا حَطَّ الِّرحالَ
هكذا
عَجَنَتْنا الأَرْحَامُ
هكذا
سَحَرَتْنا الأَقْلاَمُ
هكذا نَهْزِمُ الضَّنَى
على رَصِيفِ العُمْرِ رَسَا
وبُراقُ الصِّدْقِ
بَيْنَ ُرمُوشِنا حَطَّ الِّرحالَ
هكذا
عَجَنَتْنا الأَرْحَامُ
هكذا
سَحَرَتْنا الأَقْلاَمُ
هكذا نَهْزِمُ الضَّنَى
على أريكة الدلال نادت الأحضان صقيع السجايا.. نبض الريح العذب.. - أي الذات الغائبة- المهدى لها- ليلتحما في دفئ الشوق بعدما أعياهما الانتظار على رصيف النبض..
فكان معراج الحلم بين الروح والجسد .. كسيمفونية خالدة.. و كقداسة التوحد حد النشوة.. لروح حطت رحالها المسافرة على جسد أنهكه صدق الانتظار..
مَنْ ذَا الَّذي
يُهْدينِي خَاتَمَ سُلَيْمانَ
من ذا الذي
لِبَسْمَتي يُسَخِّرُ الأَلْوانَ
لِبَسْمَتي يُسَخِّرُ الأَلْوانَ
منذا الذي
على شَفتَيَّ يَعْزِفُ الأَلْحانَ
هكذا
تَحْلُمُ الأحلامُ
هكذا
تسمو الأنغامُ
هكذا
يَحلو الغُنى
على شَفتَيَّ يَعْزِفُ الأَلْحانَ
هكذا
تَحْلُمُ الأحلامُ
هكذا
تسمو الأنغامُ
هكذا
يَحلو الغُنى
عبر نص شعري اعتمد على تماثل وحداته إيقاعيا لغاية هذا النسق.. ارتقت البنية الشعرية مؤكدة لنا تماسك وحدات أنساقها.. و استمرار ذاتها الشعرية في المناجاة الشاعرية بين الذات الحاضرة والذات الغائبة.. و هذه الأخيرة أبانت عن شموخها و عن عمق علاقتها بالذات الحاضرة.. ذلك من خلال ذكرها لخاتم سليمان وكأنها تعرف حب ذات الشاعر لها وقيامه بأي شيء من أجل إرضاءها ولكن هذا لم يكفيها.. وهنا يظهر لنا أن ذات الشاعر مقصرة في حقها في أمر ما؟.. و بالتالي أرادت أن تختبره كأنثى محبة.. وربما أرادت تعجيزه بطلبها خاتم سليمان التي تدرك تماما عدم استطاعته جلبه لها.. و كأني بها تحاول أن ترسل له رسالة رمزية قد يكون فحواها أن حبها له أكبر من أي خاتم حتى لو كان للنبي سليمان..
وبالنسبة لها قربه منها هو الأهم - عبر ذكرها لدلالة الاختراق أعلاه - وهذا الاعتراف الضمني مفاده أن حبها له منزه عن أي رنين عابر..
وتستمر الذات الغائبة تباعا في رمزية رسالتها.. لتذكر لنا البسمة واللون .. كأنها تعني أن حزنها أكبر من أي سعادة لحظية قد يرسمها اللون على بسمتها.. ثم تستمر لغتها المراوغة في الخطاب.. فتذكر شفتاها واللحن.. و الدلالة هنا ترمز إلى العطش الكبير الذي لن يرويه عزف لحن.. وفي الأخير تؤكد الذات الغائبة أن كل هذا مجرد حلم / هكذا / تحاول من خلاله أن تعزف لنا لحن الحب وتسمو به نغما حد الشعر.. وكأني بها أي الذات الغائبة ظل للشمس..
آهٍ
كَمْ مِن حُلمٍ
ماتَ جَنيناً
كم من شُؤْمٍ
كم من شُؤْمٍ
عَمَّرَطَويلًا
كم من زَفْرَةٍ
شَقَّتْ سُمْكَ الأَحْزانْ
آهٍ
كم من فَرَحٍ
ازْدَادَ يَتِيماً
كم من كَمَدٍ
سَكَنَ سَقيماً
كم من بَسْمَةٍ
نَبَتَتْ تحتَ رَمادِ الوِجْدانْ
,,,,
كم من زَفْرَةٍ
شَقَّتْ سُمْكَ الأَحْزانْ
آهٍ
كم من فَرَحٍ
ازْدَادَ يَتِيماً
كم من كَمَدٍ
سَكَنَ سَقيماً
كم من بَسْمَةٍ
نَبَتَتْ تحتَ رَمادِ الوِجْدانْ
,,,,
في هذا النسق الشعري الذي تغير إيقاعه عبر تغير لغته الحزينة .. نجد عمقا بصريا في صورته الشعرية و البنيوية كعمق روحه الدفينة.. وهنا بدا لنا جليا ما رأيته من قبل.. إذ هنا الذات الغائبة تعترف عبر آهاتها العميقة.. بموت الحلم قبل ولادته و بخلود الحزن في رواق الزفرات السميكة الراقدة في آهاتها.. لكن تعود الذات الغائبة للأمل من جديد كفرح تجلى من رماد الحزن و رقة تفتحت في قسوة اليتم و إحساس كبر في أرض الوجدان.. وهنا بدأت تتضح صفات الذات الغائبة / المـُــهـْـدى لهــا/ ..
كَفى
قالَ الماءُ
لِقَطْرَةِ النَّدى
كفى
كفى
فالسُّيولُ
لا تَرى إلى الخَلْفِ
وَمَهْما ضَعُفَتْ
يُقَوِّيها الإِنْحِدارْ
هَيَّا
فالبَحْرُ مَآلُكِ
والشِّعْرُ مَنْفَاكِ
هَيَّا
اصْفَعي وَجْهَ الإنْكِسارْ
,,,,,
لا تَرى إلى الخَلْفِ
وَمَهْما ضَعُفَتْ
يُقَوِّيها الإِنْحِدارْ
هَيَّا
فالبَحْرُ مَآلُكِ
والشِّعْرُ مَنْفَاكِ
هَيَّا
اصْفَعي وَجْهَ الإنْكِسارْ
,,,,,
عندما يجتمع الماء بقطرة الندى يصبح الكون قوس قزح .. هنا الذات الحاضرة - أي الذات الشعرية - تعود من حالة ذهول العاشق إلى إثبات سلطتها على الذات الغائبة / المـُهدى اليها/ فتعاتبها آمرة ناهية بقولها / كفى/ بمعنى أن عليها الائتمار لسلطة العاشق و الخروج من الدائرة السوداء التي تحيط ذاتها بها.. لتنظر إلى جمال الكون الفسيح وسحر الطبيعة الإنسانية.. و الذات الحاضرة تقول للذات الغائبة.. إن لك صفات إنسانية رائعة حد الشعر فلا تترك الضعف يهزمها وهي السيل الجارف.. وكأني بصفات المهدى إليها تظهر أكثر وربما قد تكون شاعرة..
تتابع الذات الحاضرة نهيها لها قائلة أنه من المحزن أن تكسر تميزها وتغلفه بكون من الحزن.. وكان أن عبرت عن طلبها الآمر للذات الغائبة عبر مفردات طبيعية استخدمتها في صورتها الشعرية الراقية فكرا ووجودية وشعرية..
مَرْحَى
قالتْ قَطْرَةُ النَّدى
لِجَلالَةِ الماءْ
مَرْحى
مَرْحى
وانْظُرْ هُناكَ
بَيْنَ الرَّبْوَتَيْنِ
,
تَرَى
مَنْبَعَ الدَّهْشَةِ
يَجْري أَحْمَرَاللَّوْنِ
ومَرْكَزَ الرَّعْشَةِ
دائِرياً كَالْكَوْنِ
,
تَرَى
الأَعْدادَ مُسَافِرَةً
بَيْنَ مَوْلِدَيْنِ
وَحَوَّاءَ نائِمَةً
بَيْنَ تُفَّاحَتَيْنِ
,
تَرى
النُّكْهَةَ رابِضَةً
بَيْنَ حَلاوَتَيْنِ
والْأَمْواجَ سَابِحَةً
بَيْنَ خَصْرَيْنِ
,
تَرى
الفَرْحَةَ رَقْراقَةً
في بَريقِ مُقْلَتَيْنِ
والرَّقْصَةَ مُنْتَشِيَةً
في رِقَّةِ قَدَمَيْنِ
,
بَيْنَ الرَّبْوَتَيْنِ
,
تَرَى
مَنْبَعَ الدَّهْشَةِ
يَجْري أَحْمَرَاللَّوْنِ
ومَرْكَزَ الرَّعْشَةِ
دائِرياً كَالْكَوْنِ
,
تَرَى
الأَعْدادَ مُسَافِرَةً
بَيْنَ مَوْلِدَيْنِ
وَحَوَّاءَ نائِمَةً
بَيْنَ تُفَّاحَتَيْنِ
,
تَرى
النُّكْهَةَ رابِضَةً
بَيْنَ حَلاوَتَيْنِ
والْأَمْواجَ سَابِحَةً
بَيْنَ خَصْرَيْنِ
,
تَرى
الفَرْحَةَ رَقْراقَةً
في بَريقِ مُقْلَتَيْنِ
والرَّقْصَةَ مُنْتَشِيَةً
في رِقَّةِ قَدَمَيْنِ
,
تَرَى
الشُّرودَ شَارِداً
بَيْنَ وَمْضَتَيْنِ
بَيْنَ وَمْضَتَيْنِ
والشِّعْرَ عَريساً
بَيْنَ قَصيدَتَيْنِ
,
بَيْنَ قَصيدَتَيْنِ
,
تَرى
السُّيولَ جَارِفَةً
بَيْنَ شَهْقَتَيْنِ
بَيْنَ شَهْقَتَيْنِ
والأَقْمارَ سَاهِرَةً
بَيْنَ نَهْدَيْنِ
,,
بَيْنَ نَهْدَيْنِ
,,
في هذا النسق الشعري الطويل.. تغير الإيقاع بشكل أكثر حيوية ورقة .. كرقة الندى المستسلمة نسبيا لأمر الماء فأبانت عن جماليتها وسحرها كذات غائبة – أنثى - و دعت الذات الحاضرة - الذكر- لرؤية سحرها الفتان المختبئ وراء حزن عظيم.. وضبابية كثيفة.. لتفتح له بعد إلحاحه العاشق الآمر.. جدار المنفى.. وتظهر لذاته الشاعرية كحرية عجيبة تمتلك رقة حواء الساحرة للألباب..
إنها ذات غائبة تتميز بالمفارقات.. التي لا تلغي طبيعتها الإنسانية المحبة و العاشقة في سيمفونية قداسة التوحد بين الروح والجسد.. الذي يشكله عودها الذي يتراقص ومنتهاه.. وبريق عينيها الجذاب .. ورقصاتها الملائكية وشـِـعـرهــا الشارد.. ونهدها المتناثر في رواق الحب البركاني داخل هذا النسق المشتعل من عمق الرماد..
مَرْحى
جَاءَنيِ الجَنَاحُ
باسِطاً نَعيمَ الرِّيشِ
سَأَطيرُ مَعَ السِّرْبِ
سَأَطيرُ مَعَ السِّرْبِ
المُهاجِرِ نَحْوَ الشَّمْسِ
,,
,,
جَاءَني الحُضْنُ
حامِلاً دفئَ النَّبْضِ
سَأَرْتَوي منَ الصَّبِّ
سَأَرْتَوي منَ الصَّبِّ
وأَسْكُنُ حَنَايَا القَلْبِ
,,
,,
جَاءَنيِ النَّهَارُ
شاهِراً مِفْتاحَ النُّورِ
سَأَفْتَحُ أَبْوابَ الحَياةِ
سَأَفْتَحُ أَبْوابَ الحَياةِ
وأَسْبَحُ خارِجَ الزَّمَنِ
وهكذا عبر سعادة ذات الشاعر الحاضرة- الذكر- بسبب فوزه أخيرا بحضن حبيبته الذات الغائبة
- الأنثى- تنتهي بنا رحلة الشعر المتناغم ونحن مازلنا في حالة تماهي.. لندخل في النهاية غمار السباحة خارج الزمن.. فهناك ستولد حكاية أخرى ننتظرها أكيد في قصيدة جديدة للشاعر الصوفي حد الأفق إدريس الشعراني..
إذ لا أظن أنها ستنتهي هذه المقطوعة الشعرية التشكيلية سميائيا.. الرابضة في مخيلتنا عند قراءتنا للقصيدة.. ولا من مخيلة الذات الحاضرة..التي أنمت برقي عشقها وفكرها.. وعميق روحها الندية.. وسحر لغتها الشعرية الموسيقية.. قلب المتلقي المتلهف لكل ما هو رومانسي ووجداني غير متكلف.. بل الصادق الأصيل في روحه الشعرية الندية وعمقه الوجودي..
ففي هذا النص الشعري الباذخ رقة.. استخدمت الذات الشعرية- الحاضرة- في بنيتها الشعرية.. تقنية التوازي الغير المتطابق المكثف للغة دون حشو.. ضمن وحدة النص المتكاملة والمنسجمة وتنوع ورقة أنساق النص الشعري التشكيلي.. و الذي يتميز أيضا بالاختلاف عبر ثنائية ضدية الذات الغائبة والذات الحاضرة التي تعطي للنص رونقه وبهاءه و تفرده.. ويرقي بالتالي معهما فكر القارئ إلى الخيال المجنح الشفاف رقة وعذوبة كشلال بوح راقي.. ينسكب عبر تمويه المعنى وتكثيف رمزيته واستعاراته حينا وترقيقها حينا آخر..
فكان النسيج الصوتي للقصيدة له تأثير خفي على ذات المتلقي و الذات الشعرية معا.. اللذان تفاعلا كليهما مع تناغم الإيقاع الخارجي الصادر من- الذات الغائبة- و كذا مع سحر البنية الشعرية العميقة الملامسة بشفافيتها ورمزيتها شغاف القلب والوجدان.. وكأني بالذات الشعرية- الحاضرة- تستمد لحنها المتناغم من - الذات الغائبة- المهدى لها- التي أعادت الدفء والحياة إلى قلب الشاعر..
تعليق