إنحياز - أقصوصة - نزار ب. الزين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نزار ب. الزين
    أديب وكاتب
    • 14-10-2007
    • 641

    إنحياز - أقصوصة - نزار ب. الزين

    [align=center]
    إنحياز
    أقصوصة
    نزار ب. الزين*
    *****
    [/align]

    [align=right] إذا كنت تظن يا صديقي أن الصغار لا يحبون فأنت مخطئ ...
    إنهم يحبون ، و يتعلقون بحبال الهوى ، و يجربون لواعج العشق و أوجاعه ، يبهجهم اللقاء ، و يعذبهم الفراق ؛ تماما كما يعاني العشاق الراشدون .
    كنت في الرابعة ، عندما دعيت ربيعة لتلعب معي فاستجابت ، كنت يومئذ فوق سطح منزلي ، و كانت فوق سطح منزلها ، و لا يفصل بين السطحين سوى حاجز خشبي بارتفاع يتجاوز المتر الواحد بقليل ؛ سمعت والدتها تحذرها من الاقتراب من السور المطل على الشارع ، فاستبد بي الفضول ، جررت كرسيا و بمشقة كبرى تمكنت من إلصاقه بالحاجز ، صعدت على الكرسي ، أطليت برأسي ، فشاهدتها تفترش الأرض و بين يديها الصغيرتين لعبتها المصنوعة يدويا .
    * ما اسمك ؟
    ** اسمي ربيعة ، و أنت ؟
    • أنا نصوح ، تعالي لنلعب معا !
    ** سأسأل أمي ..
    و منذ ذك اليوم لم نعد لنفترق ، و كنا سببا لتعارف والدتينا اللتين لم تعودا تفترقان كذلك ..
    و ذات يوم وقفت على الشرفة ، ناديتها – كعادتي - فلم تجب ...
    رفعت صوتي أكثر ..صرخت .. و لم تجب ..
    مددت رأسي إلى أقصى ما أستطيع ، فكان باب شرفة بيتها مغلقا و كذلك جميع نوافذ بيتها ..
    ربيعة .!..!.. صرخت مجددا ، سمعتني أمي ، فجاءني صوتها بعيدا ، فقد كانت لاهية بالعناية بذلك الشيء الذي أسموه شقيقتي ، و التي أنجبتها لتسليني كما ادعت ؛ صرخت بشيء من الغضب : " سد حلقك يا ولد .. صوتك مثل الجرس رن في الحارة ، مؤكد سمعه كل من فيها ، ربيعة و أهلها مسافرون ، يا ولد ! "
    صدقني أنني شعرت – أنا ابن الرابعة - أن الأرض مادت بي ،
    صدقني أنني دخلت إلى فراشي و رفعت الغطاء فوق رأسي و أجهشت بالبكاء ..
    بربك أليس هذا عشقا ؟
    كان غيابها طويلا ، ربما أكثر من شهر ، كابدت خلاله الأمرين ، شعرت بنفسي كالتائه ، صدقني ، لم أعد أشتهي الطعام ، لم أعد أهنأ بالنوم ، أخذت الكوابيس تنتابني و ترعبني ...
    و ذات ليلة ، صحوت و أنا اصرخ رعبا ، فنهض والديَّ مذعورين و هرعا نحوي ، فأجبتهما : " ربيعة أكلها الضبع " و كم كانت مفاجأتي كبيرة ، عندما انفجرا معا ضاحكين ..
    *****
    كبرنا معا ، و دخلنا المدرسة الإبتدائية معا ، و لكن هي في مدرسة الإناث و أنا في مدرسة الذكور " ترى لماذا لسنا في مدرسة واحدة " كنت أتساءل دون أن أجد من يجيبني ؛ و لكن الأمر لم يختلف كثيرا ، فكانت غالبا ما تجمعنا الأمسيات ، فنكتب وظائفنا معا ، و نذاكر بعض الوقت ، ثم نبدأ باللعب ..تارة في بيتها و مرة في بيتي .
    كانت متعتنا الكبرى عندما نصنع خيمة من الملاءات و الأغطية ، و نملؤها بالعابنا و بما تواجد في الدار من حليوات أو مكسرات ، ثم نندس داخل الخيمة فرحين ، و كأننا قد بنينا بيتنا أو عشنا المشترك .
    و لم يكن ينغص متعتنا عندما نكون في بيت ربيعة ، سوى شقيقها الكبير فاروق ، كان كبيرا جدا أو هكذا كنت أراه ، كان فارع الطول مع سِمنة واضحة ؛ كان فاروق يقضي معظم وقت ما بعد المدرسة في الحارة ، و لكنه عندما يعود إلى البيت ، يبدأ بمعاكستنا ، و كثيرا ما كان يخرب خيمتنا ، أو يسرق سفرتنا من الحلويات أو المكسرات ، و إذا ما احتجت ربيعة كان يوسعها ضربا و بلا رحمة ، فستنجد بأمها ، إلا أن أمها كانت تتجاهل استغاثاتها ، و إن تشددت قليلا كانت تعاتبه بميوعة واضحة : " حرام عليك يا فاروق ، اختك أصغر منك ترفق بها " ، و كم كنت أشعر بأن ما أشاهده ظلم مبين واقع على المسكينة ربيعة ، سواء من قبله أو من قبل أمه .
    و ذات يوم صفع فاروق ربيعة فأدمى فمها ، و فجأة وجدت نفسي أندفع نحوه و أضربه بيدي الصغيرتين ، و كانت النتيجة ( قتلة مرتبة )* تعرضت لها ، وضع فيها كل قوته ، و خلفت في راسي نتوأين و في وجهي و يديَّ بقعا زرقاء و بنفسجية .
    عندما شاهدتني أمي على هذه الحال ، اندفعت إلى بيت ربيعة ، و لم أعلم ما جرى هناك ، لولا أني سمعت أمي و هي تحدث أبي عن الواقعة ، و أنها كادت تتشاجر مع أم فاروق ، التي كانت منحازة تماما لابنها ، و أنها متعجبة من هذا الأسلوب التربوي الفاشل .
    و منذ ذلك اليوم لم أعد أذهب إلى منزل ربيعة إلا عندما أتيقن من عدم وجود فاروق لفترة طويلة ، و لكنها لم تنقطع أبدا عن قدومها إلى منزلي ...
    *****
    و لكن .....
    عندما بلغنا الصف الرابع الإبتدائي ، و بدون سابق إنذار أو أية مقدمات ، منعونا من اللعب معا : " ربيعة كبرت يا نصوح ، و قد منعها أبوها من اللعب مع الصبيان !!! " قالت لي أمي ، فأجبتها بسذاجة : " و لكنها لا تلعب مع الصبيان ؟ لا تلعب إلا معي !! " فضحكت أمي و هي تجيبني بنبرة ساخرة : " ألستَ صبيا يا نصوح ؟ "
    صدقني أنني تعذبت ،
    صدقني شعرت بنفسي كالتائه ،
    صدقني ، لم أعد أشتهي الطعام ،
    لم أعد أهنأ بالنوم ، عادت الكوابيس تنتابني و ترعبني تماما كما أرعبتني عندما سافرت و أهلها ذلك الشهر المشؤوم...
    صدقني كانت صدمة ، جعلتني أتساءل : " و ما معنى أنها كبرت ؟ و ماذا لو كبرت ؟ فأنا ايضا كبرت ، و لم تقل لي أمي أن اللعب مع البنات ممنوع ، و هل ستقول لي أمي ذات يوم لا تلعب مع أختك لأنها بنت ؟ "
    أحجية خلطت الأوراق في دماغي الصغير ....
    و كان السؤال الملح يتضخم .." و ما الفرق بين الصبي و البنت ؟ "
    *****
    بيوتنا العتيقة كانوا يبنونها من هياكل خشبية ملبسة بالطين ، فكان من السهل عليّ أن أسمع كل لكمة من محاورات جيراننا عندما يكونون في الغرفة المجاورة لغرفتي ، و كنت أميز بوضوح صوت ربيعة ؛ فأفرح و أحاول التقاط كل كلمة تتفوه بها ، حتى أصبح التنصت عليها عادة متأصلة .
    و لكنني كثيرا ما كنت أسمعها أيضا تتشاجر مع شقيقها فاروق ، لينتهي الشجار ببكائها الذي كان يقطع نياط قلبي ...
    كم تمنيت أن أندفع إلى نجدتها ، و كم تخيلت أن لدي من القوة ما يجعلني أهدم هذا الجدار لأقفز فوق ذلك العملاق الفظ ، فآخذ بثأري و ثأر ربيعة منه ..
    و ذات يوم ارتفعت أصوات استغاثات ربيعه فوق المعتاد ، فهرعت إلى والدتي ، و جررتها إلى غرفتي و أسمعتها استغاثات ربيعة و صراخها و ولولتها : " إفعلي شيئا يا أمي " رجوتها بعين دامعة ، فأجابتني مؤنبة : " و ما دخلنا نحن ؟ من تدخل في ما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه يا نصوح !.." و لكن فجأة تطور الأمر إلى منحى آخر : أم ربيعة تصرخ : " من عملها فيك يا كلبة ، اعترفي و إلا ذبحتك بيدي هاتين ذبح النعاج .. من يا كلبة .. قولي .. انطقي " ؛ و يبدو أنها أخذت تضربها بشراسة ، فقد ارتفعت وتيرة استغاثاتها حتى بلغت عنان السماء .
    لم أفهم معنى العبارة ، و أخذ السؤال يطن في أذني " من عملها فيك يا كلبة ؟؟ " من عمل ؟ و ماذا عمل ؟
    والدتي التي كانت تؤنبني قبل قليل و تتهمني باستراق السمع و التجسس و التدخل بما لا يعنيني ، أخذت تصيخ السمع و قد بدا عليها التوتر الشديد ..
    " من يا كلبة ، احكي ..انطقي .. قولي ، هل هو نصوح ؟ "
    هنا ، التفتت أمي نحوي و حدجتني بنظرة حائرة لم أدرك مغزاها ، و نظرت إليها نظرة بلهاء و قبل أن أقسم لها أنني لم أفهم ما تعنيه ، قاطعتني مشيرة إليَّ أن أصمت ، كانت ربيعة في تلك اللحظة تعترف ، قالت بصوت مرتعش يقطعه النحيب : " حرام عليك ، نصوح لم أقابله أو أكلمه منذ أكثر من عام ، سأعترف و ليكن ما يكون ، إنه فاروق !!!! " .
    و ما أن سمعت أم فاروق اسم أثيرها ، حتى جن جنونها فانهالت على ربيعة ضربا من جديد و هي تصيح : " تتهمين أخاك يا كلبة ؟ تورطين أخاك الكبير يا مجرمة ؟ تريدين فضيحتنا يا بنت الحرام ؟ تبغين القضاء على مستقبل أخيك يا حقيرة ؟ و الله و بالله إن سمعتك ثانية تتهمين أخاك لما أبقيتك حية ساعة واحدة ! "
    و يبدو أنها انهالت عليها ضربا من جديد ..
    ثم ...
    سمعناها تصيح : " إلى أين أنت ذاهبة يا كلبة ؟ إرجعي في الحال .."
    ثم ....
    سمعناها و قد ابتعد صوتها ، و هي لا تزال تهدد و تتوعد ربيعة ..
    ثم .....
    سمعناها ، تولول ، و صوتها آتٍ من ناحية الشرفة ..
    ثم ......
    هرعنا نحو الشرفة ، و يا لهول ما رأينا :
    جسد ربيعة مسجى جثة هامدة على رصيف الطريق .
    --------------------------------------------
    * نزار بهاء الدين الزين
    سوري مغترب
    عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
    عضو الجمعية الدولية للمترجمين و اللغويين العرب ArabWata
    الموقع : www.FreeArabi.com
    البريد : nizar_zain@yahoo.com
    [/align]
  • جوتيار تمر
    شاعر وناقد
    • 24-06-2007
    • 1374

    #2
    الاستاذ الكبير نزار الزين......

    من نافل القول بفنية القصة من حيث البناء المحكم والسرد المتسلسل المترابط ، لذا نريد ان نعمد الى مضمون القصة التي فيها دلائل وقرائن تكاد لايخلو اجتماع منها ، فهذه الدلائل مرهونة بنمطية الحياة الاجتماعية السائدة في الاجتماع على جميع اصعدتها ، بالاخص النفسية ، والفكرية ، وكل ما يتعلف بالموروثات الاجتماعية ، والتي دائما ما تنصب في خانة السلب في مثل هذه الحالات ، والتي لها تأثيرات سلبية عميقة وكبيرة ، لقد بدأ القاص قصته بمقدمة اشبه بمقدمة الروايات او الاعمال الدراميا ، حيث جلب الانتباه من خلال سلسة تساؤلات تجعل المتلقي يعيش حالة استعداد واستفزاز ذهني ، ويترقب الاتي ، بالاخص اذا كان العنوان موحيا وذا مداليل متعددة ، هذه المقدمة اصبحت القاعدة التي عمل عليها القاص ، الارضية المتشعبة من خلال طرح الاشكال والرؤية مع عدم التغافل عن التطورات النفسية والاجتماعية معا ، فهذه اللهفة لم يكن في البدء مفادها الرغبة في الامتلاك الجسدي ، انما كانت اللهفة تدور حول محور التعلق الروحي النفسي ، ولكن مما لاشك فيه ان النمو الجسماني يتبعه نمو في الرؤية الى الاخر من خلال الرغبة التي قد تتسم شيئا فشيئا بالشبقية ، اذا غاب عن الطرفين الاهتمام والتوعية السليمة ، لقد قدم لنا القاص من خلال ربيعية ونصوح عملا قصصيا بارعا ، لكونه أ لم بماهيات النفس على جميع الاصعيدة ولم يركز على جانب الشخصيتين الاساسيتين فقط ، فنصوح وربيعة انما هما جزء من لعبة اكبر ، اسرتهما ، ومحيطهما الاجتماعي ، ومن ثم التقاليد التي تتحكم بالاجتماع ، وكذلك الفكر السائد فيه ، والرؤية الواقعية لمثل هكذا علاقات ، حيث الاصطدام بكلمة انها لم تعد صبية مثلا لها اثارها النفسية البليغة على كلا الطرفين دون ان يراعي القائلين بها منطق التدرج ، فالحسم يولد امور قد تكون ثانوية في نظرهما لكنها صميمية في وجهة نظر الكبار ،وهذا ما جعل القاص يأخذنا الى اغورا النفس ويعريها ويفكك ماهيتها ، ويفضح مكنوناتها ، ويجعلنا امام صورة متكاملة من حيث النسج والتنظير والابعاد الزمكانية ، بحيث اذا ما اتعمق اكثر يخرج النص من اطره العامة ليلامس خطوط تكون اقرب الى الرؤية الشبقية ، لقد قدم لنا هنا تحليلا نفسيا وعلميا يتوافق مع المعطيات الاساسية لتكوين الاجتماع لدينا ، وهذا ما يجعل النص رؤية اجتماعية نفسية لحالة عيانية تحتاج الى وقفة تأملية جدية من اجل سبر اغوارها والحد من تكرارها او العمل على احداث مفاهيم جذرية تساهم وتطور الفكر الانساني ، لارساء علاقات ثنائية تنم عن وعي وادراك تحت توجيهات الاسرة لحين وصول الطرفين الى المستوى العمري الذي فيه يمكنه اقرار ما ستؤل اليه نمط ونوع العلاقة هذه ، مع عدم الاغفال عن التغيرات التي تطرا على تفسية الطرفين ، من خلال اختلاطهما ببعض وبالاخرين من محيطهما لان لايمكن فصلهما عن المحيط ،لعل من خلال هذه العملية يمكن تجنب النهاية التي تخرج الانسان من اطواره الانسانية وتعيده الى البهيمية التي تطغى دائما على مثل هذه المواقف بالاخص من قبل مترصدين للحالة النفسية الصعبة والمتردية التي وصلت اليها الفتاة بالاخص، فيتم استغلالها اسوأ استغلال ، وهنا اشارة واضحة وذكية من قبل القاص ، حيث ليس الحكم الفوري الا اداة سلبية اخرى يمكن من خلالها القضاء على انسان بريء كل ذنبه انه احب الاخرى بعفوية ، ولعل في الاعتراف الذي قدمته ربيعية رؤية عميقة لماهية الاحكام التي تصدر مسبقا ، وكذلك لحال ربيعة الذي يمكن تجنبه اذا ما سار الامر بتدرج ووفق معطيات توعية ذهنية تتناسب والنمو الجسدي والفكري للاطفال.


    محبتي وتقديري
    جوتيار

    تعليق

    • نزار ب. الزين
      أديب وكاتب
      • 14-10-2007
      • 641

      #3
      [align=center]أخي المبدع قصا و نقدا جوتيار
      كالعادة فإن تحليلك لا يجارى ، فقد قدمت هنا بحثا إجتماعيا تربويا في غاية الأهمية
      كما قدمت تحليلا رائعا للأقصوصة مفندا أسلوبها و أحداثها و مراميها
      كل الإمتنان لك و الإعتزاز بك
      نزار
      [/align]

      تعليق

      • غفران طحّان
        عضو الملتقى
        • 25-01-2008
        • 112

        #4
        هذه هي مشكلة المجتمع الذكوري الذي يحكمنا
        سلمت روحك الساعية للخير أستاذي الغالي نزار
        دمت لنا فرحاً وعطاء
        احترامي وتقديري

        تعليق

        • نزار ب. الزين
          أديب وكاتب
          • 14-10-2007
          • 641

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة غفران طحّان مشاهدة المشاركة
          هذه هي مشكلة المجتمع الذكوري الذي يحكمنا
          سلمت روحك الساعية للخير أستاذي الغالي نزار
          دمت لنا فرحاً وعطاء
          احترامي وتقديري
          [align=center]===============
          أختي الكريمة غفران
          الإنحياز للذكورة داء قديم تحرر منه الآخرون ، و نحن – للأسف - لم نتمكن ..
          شكرا لثنائك الجميل و لدعائك الطيِّب
          نزار
          [/align]

          تعليق

          يعمل...
          X