قلب فأر / ربيع عقب الباب
كان مستغرقا فى تفكير حاد ، يلفه بكآبة قاسية ، يفتش فى نفسه عن الأسباب و
المسببات . يشعر بدوارحاد .. حاد ، يدور رحاه ؛ كأن ضربات من نعال تنهال على
رأسه ، و مطارق تدوي فى فراغ جمجمته .
بعناد يقاوم ، يرجف وجعه ، يبادر للذود عن بقية كبرياء ، يتراجع .. يتراجع متخاذلا ،
طاويا جناحيه المنكسرين ينهار ، خائرالقوي .. تتساقط حبات عرق دافئ ، يصاحبها
لهاث ممتد .. ممتد ، يملأ مساحات الهواء ،كأنه قلبه هو .. ينتابه غثيان ، يطير حاملا
معدته !
يغوص حتى أذنيه ، فى خضم بحر هادر ، يستشعر ضربات والده ، و هى تصعقه ،تدمر
عوده الصغير ، فيجرى كفأر مختبئا خلف ظهر جدته ، تنهره بقسوة ليست غريبة عليها
:" عدي يامنجوس .. ما تخافشى إلا بعينيك ".
يتفتت بدنه :" خلاص يابا .. حرمت .. حرمت و الله ". لكن ضربات يكيلها الأب ، لا
تنتهي عندحد ، كأنها عذاب قررته الآلهة ، يتجمهر المارة ، يشكلون سدا حائلا بين
الطفل واللطمات .
هاهو يصرع أحد خصومه ، فى مبارزة يشهدها العالم كله ، عبر الأقمار الفضائية . يكاد
يفقد إحساسه بنفسه ، يعلو به الهواء ، ثم يهوي إلى سحيق .
يصفق الجمهور ، يطغى التصفيق ، تضج القاعة ، مطارق و لعنات كانت تدمي ، تنتهك
كل تضاريسه ، تتداعى إرادته ، ينال منه خذلان حد الرواح .
يستجمع فتاته ، مكابرا يقاوم ،يعاند خوفه الزاحف كعنكبوت ، يذري قوته هباء ، لا يدري
أهو معلق فى رحى أم هى الأرض تروغ من تحته . خلية نحل تعشش فى جمجمته
:" انهض .. هيا .. أنت الأقوى .. فوق .. فوق .. خذ ذراعه معك !!".
يتمرد على مصيره ، تطيش محاولته ، تسقط روحه تحت بوابات المدينة ، تلك
المأسورة بأكف غلاظ كمطارق ، وهراوات الكترونية ، وعيون بصاصيها تخترق الجلد و
الأكباد ، وهزيز الأسرة داخل الخدور .
أزيز الطائرة يصم أذنيه ، يسحق البقية الباقية ،يتلاشى فى فضاء شاسع ، حيث
تنفلت أسئلة و إجابات متخاذلة ، تعلو عقيرة جهورية لأحدالعسكريين المسئولين :"
جسم بطل عالم ، و قلب فأر ".
يصرخ :" لست فأرا .. لست فأرا .. ابعد وجهك القبيح عني .. إنك تشل إرادتي ،
تقتلني بتصرفاتك الكريهة ".
يتحدى بقاياه . تعلو الضربات رأسه .. ضربات .. طنطنات ، يفتر حماسه ، تزاحمه صور
وحشية ، تسحق روحه .. ينتشي خصمه ، تضج القاعة بالتصفيق كمطارق ووخزات :"
ابعدوهم عني ".
كاب و عقيرة لمسئول :" جسم بطل عالم ، و قلب فأر ".
تذوب كل الأصوات ، يحل هدوء عجيب ، يخبو ذاك الضوء ، تتبعثر حروف اسمه تحت
الأرجل ، يحطم رقما قياسيا فى صلابة الرأس ، يفل فولاذ جبابرة :" جسم بطل عالم
، و قلب فأر ".
المدرجات تصفق ، فى إيران تهتف باسمه ، ميدالياته الذهبية تخطف لون وجهه ،
تمتصه كحلم غامض . جاكسون الألماني يركع أمامه فى بون ، يعلو الهتاف ، يعانق
السماء و المدي و ذاته المحلقة .. فى السويد ، النرويج .. تصفيق متزايد .. وميدالياته
تأخذ مكانها هناك ،فى حضن القمر ، يرتفع طنين .. يرتفع بعيدا ، عبر بلادة القلوب ،
وأرواح الجواسيس . فى بطولة إفريقيا ، بطولة إبراهيم مصطفى ، كانت المرة العاشرة
، نال ذهبية جديدة .. وجديدة ، الأول كان ، والجمهور فى صخب و غضب :" فرق القوة
يؤهله ".
:" قل فرق الروح ؛ فالقوة ما عادت ميزانا للقياس ".
:" لا .. من يقول .. كان ينتهى منه ، لفه جيدا .. لا أدري كيف حدث ذلك ".
:" ياخسارة !!".
ميدالياته هنا .. وهناك ، تسبق خطواته ، تشاغله ، كأنها تغلق عليه
المسافات ، يتنفس بصعوبة :" كيف يكون معسكرنا فى مستنقع .. كيف ، بطوننا
تعفنت ياكابتن .. حرااام ".
يحدقه ، وهو يلتهم كتلة لحم ، و يزدرد كأسا مترعة :" لا أستطيع السفر .. لا أستطيع
".
:" نحن من يقول .. و ليس أنت .. تسافر مع الفريق ".
:" أنا مصاب ، لن أستطيع فعل شيء .. لن ".
:" يابن الكلب ... عمركم تبوسون الأيدي من أجل التمثيل الدولي .. الآن تنسى
نفسك .. ماذا جري لك ؟".
ذهبت كلماته أدراج الريح . ليس فى جعبته شيء .. يظن هذا ، و هو أدري بنفسه ..
يلازمه هذا الوهم .. لا أذن تسمع له ، و ضاع ضياع المشنقة على الرقبة .
نازل خصمه اللدود " بسيوني " ، للمرة العشرين يصفي معه ، فاز عليه فى المرات
السابقة ، الآن انهار أمامه ، كان عصفورا بين يديه ،فتك بسيوني بقدمه اليمني :" لن
أستطيع تحقيق شيء ، بسيوني جاهز للسفر ".
:" أنت من سيسافر ، أنت مدرب و فى كامل لياقتك ، أماالإصابة فأمرها سهل .. لا
تحمل هما ".
: ماالذي جرى لك .. أنت مجنون ".
:" كيف ترفض ؟ ".
:" أعرف أنهم استهلكوك فى التصفيات المحلية ، لكنك قادر على إحرازالذهبية .. قادر
".
:" انظر .. ياله من حيوان جريح .. لن يستطيع شيئا ".
:" جسم بطل عالم ، و قلب فأر .. جسم .........".
:" الرجا من السادة الركاب ربط الأحزمة .. نحن الآن فوق سماء القاهرة .. مصر
للطيران تهنئكم بسلامة الوصول ".
القاهرة خرافة أحلامه ، نزح إليها مغمورا بآمال، قهر أول ما قهر هذه المدينة ، قهر
وقارها الغامض ، أنانيتها ، سطوعها اللئيم ،نرجسيتها ، عهرها الدفين ، أنصاف
موهوبيها المتوجين ، شموسا عالية قهرها .
يهتز جسده بعنف ، تتحرر دموعه .. القاهرة .. لكم انحنى لاسمها ، فى سبيلها
تحمل مأساته الكبرى ، حيث كانت ماسته ، وفى كل مرة ما كان يجد سوى النكران ..
أما هى فتحصد أوسمة معاناة .. فى أكتوبر ، كان و الأسطورة ، وكانت هى فى ذعر
مقيم ، تبكي نفسها ، أصداء المعركة تطن ، ضربات الأب الظالمة ،لعنات المسئولين .
فى إيران .. بون .. جاكسون يركع ، يتوسل ، يجثو .. جليموند يكيل له الضربات ، "
اسبيليت " نهايته ، لكم يكرهها .. بسيوني . أصبح منهبة الجميع ، هاهو يفتك به ،
لأول مرة يتغلب عليه أحدهم بتثبيت الأكتاف : " جسم بطل عالم و قلب فأر ".
:" الطائرة المسافرة ............. فى رحلتها رقم ....... إلى القاهرة
اندلعت فيها النيران .. مما اضطرربانها ........ ". أمنية خرقاء !!
------------------------
لقد عانت البشرية من التسلط والاستبداد منذ بدء الخليقة ولم يتوقف ذلك حتى
يومنا هذا , فقد عمد الإنسان ما أن وجد لديه تفوقا في القدرات لفرض إرادته
والتسلط حتى على من هم تحت مسؤوليته أولا وهذا كان تبعا للموقف البدائي الذي
تفرضه الطبيعة في تسلط الأقوى دائما وفي جميع المجتمعيات الحية على اختلاف
صنوفها ..
ورغم تقدم الإنسان وتطوره في مواجهة الطبيعة والحد من تأثيرها عليه إلا أن
طبيعةالإنسان البشرية كانت تحمل آفة التسلط والاستبداد من خلال عملية تأقلمه مع
البيئة المحيطة بحيث كان شططه واستخدامه المفرط لسلطته يزداد كلما أتيحت له
الفرصة ..
وانتقل ذلك السلوك من الفرد إلى الهيئات والجماعات والمجتمعات بحيث تفاقمت
حدة الاستبداد والظلم وازداد شراسة ووحشية واستمر حتى يومنا هذا , ونستطيع أن
نلمس هذا بغاية الوضوح في ممارسات وسلوك وسياسات الكثير من الدول الكبرى
ضد الدول الصغرى .. والدول الأكثر قوة وتقدما وتحضرا ضد الدول الأضعف والأقل
تحضرا فحتى الآن مازال القوي يفرض إرادته ويكون الهيئات والمؤسسات الدولية
والمحلية التي تخدم مصالحَه وتشرعنها ..
وعلى مستوى الأفراد والجماعات والدول بقيت القوة والسلطة تفرض هيبتها وتمتلك
الحقوق المشرعنة لاستبدادها وتسلطها .. وفي مجتمعاتنا العربية خاصة .. كان
الاستبداد والتسلط الأسري ترعاه أعراف وقوانين متخلفة ومتزمتة وبالية تغلفها عادات
تديّنية زائفة تسمح للأب بالتجاوز على حقوق المرأة والأولاد وامتهان كرامتهم
واستباحة حقوقهم بلا أي رادع اجتماعي عرفي أو قانوني ..
ولم يتوقف هذا المرض على المجتمعات المتخلفة فقط بل إنه امتد إلى
المجتمعات المتقدمة رغم تشدد القوانين والتشريعات الاجتماعية لحماية
الضعفاء ( المرأة والطفولة ) وهكذا شكل الاستبداد والتسلط والظلم العقدة
الكأداء أمام الباحثين والمفكرين والهيئات الاجتماعية والقانونية الدولية حتى
يومنا هذا , وما زالت الدراسات تبحث في أصل هذه النزعة المرضية والسبل
الناجعة لحلها ..
وفي هذه القصة شكل القهر النفسي وعقدة الاضطهاد العامل الحاسم في تكوين
شخصية البطل وقد طرحت القصة عناوين عامة مهمة :
1- التسلط والاستبداد الأسري ضد الطفولة , حيث صورت القصة المعاناة النفسية
والحياتية التي تكتنف الطفولة في بلادنا إضافة إلى الكثير من العلاقات الاجتماعية
والتربوية غير الصحية , والمرضية في كثير من الأحيان حيث تعرض الطفل لما يفوق
قدرته على الاحتمال مما يؤدي إلى نموه بشخصية مشوهة تحمل الكثير من العقد
2- الاستبداد والتسلط الوظيفي المجتمعي , حيت ينتقل التسلط هنا إلى كل من
يحمل المسؤولية ليسيء استخدام سلطته واليتسلط على كل من يقع تحت سلطته
بدأ من المدرس الذي يمارس التجاوزات الكبيرة في بلادنا مرورا بالشرطي والموظف
الحكومي وشبه الحكومي حتى وإن كان مسؤول تنظيمي أو إداري في مؤسسة
رياضية ..
3- التمييز العنصري المجتمعي ( المناطقي ) حيث يؤسس الشعور بلانتماء نوعا من
التصنيف المناطقي والفصل الديموغرافي بين المناطق المتلاصقة إداريا والممتدة من
المركز باتجاه الأطراف .. وهذا ربما شكلا نوعا من التنافر والتعالي من المجتمعات
الأكثر مدنية ضد الأرياف الأرياف لتشكل العاصمة أسطورة لهم ..
وقد سلطت القصة الضوء على قضايا مجتمعية وتربوية أخرى :
1- التنافس في المجتمع العام المفتوح والمقنن ( الرياضي ) وكل ما يحيط بهذا
التنافس من علاقات غير صحية وغير عادلة كذلك خضوع هذا التنافس لشروط غير
شريفة تتيح لأنصاف الموهوبين بتسيد الموقف وترمي بأصحاب الكفاءات خلف
الأحداث مما يؤدي إلى الخسارة المجتمعية وتراكم الأخطاء المعيقة لأية حلول
2- الأسس غير العلمية وغير المنطقية وغير العادلة للأحكام لدى الجمهور
والأفراد في القضايا العامة والوطنية حيث تدفع الثقافة المحدودة والمتدنية
أحيانا للجمهور وللكوادر المجتمعية الفاعلة وكذلك كفاءاتهم المتواضعة إلى
سقوط الهدف من الفعاليات الاجتماعية الثقافية والرياضية بحيث تنحرف
بالجمهور إلى منزلقات أكثر خطرا ومرضا على الفرد والمجتمع ..
3- غياب المؤسسات الفنية المتخصصة لتوجيه وقيادة الفعاليات الاجتماعية المدنية
الرياضية وغيرها .. على أسس علمية وتقنية عالية وسيادة المحسوبيات في مجالات
الرعاية والتربية البدنية والذهنية للفرد في المجتمع ..
4- الفساد المجتمعي والحكومي الذي يؤدي إلى تغييب الكفاءات عن مواقع الإنتاج
الفكري والاقتصادي والسياسي القيادي .. ويدفع بالمتسلطين إلى المزيد من
القرارات غير الخاطئة وغير المدروسة في بناء الدولة والمجتمع ..
كانت القصة ذات جانبين نفسي واجتماعي رسمت معالم الشخصية الأولى في
القصة والتي تعمد الكاتب أن يبقيها بلا إسم .. ليدلل على أنها شخصية اجتماعية
لا على التعيين من هذا المجتمع المريض .. فهذه الشخصية المرضية لم تحمل
صفات خاصة بل ربما أغفلت هنا الصفات الخاصة لصالح الصفات السلوكية العامة
وكذلك نلاحظ أن العلاقة بين المجتمع وهذه الشخصية كانت معقدة ويشوبها الكثير
من التناقض والإشكالات التي أدت بالشخصية لتمني الموت والرحيل عن هذه الحياة
وقد برزت تقنيات القص والمهارات العالية لدى الكاتب في القفز فوق الزمن
واختراق التسلسل السردي المشهدي مع الحفاظ على هيكلية وضوابط
الحدث والصورة والشخصيات في إيقاع سريع لم يتوقف حتى النهاية واستمر
التشويق المبتكر على هامش الأحداث حتى النهاية رغم هذه النهاية غير المشجعة
وغير المفاجئة بالقدر القياسي ..
ونسجل أيضا أن العنوان كان تهكميا ساخرا تبناه النص في توصيف الشخصية
الرئيسة من قبل أعدائها نفسيا واجتماعيا .. وأظن أن الكاتب أراد أن يقدم شخصية
تكاد تكون نموذجية في المجتمع الاستبدادي المتخلف حيث تظهر نجومه بمظاهر
خارجية سطحية لامعة في حين أن محتواها مخز ومتدن ومتهاو ..
تحيتي وتقديري للكاتب المبدع الأستاذ الربيع على هذه المحاولة الجريئة
في اقتحام ميدان يصعب تناوله في قصة قصيرة بهذا التماسك وهذه الشفافية
مجلس النقد
تعليق