هروب عند منتصف الليل / إيمان الدرع
ناداني بصوته الأجشِّ المجلجل ، ارتجفتْ أضلاعي،...فتحتُ الباب بحذرٍ ،نزلتُ درجات السلّم
على أطراف أصابعي ، وكأنّي أستعدُّ لملاقاة غولٍ كاسرٍ.
كرّر النداء بصوت أعلى ، أجبته مذعورة : نعم أبي .. هاقد وصلت.
عنّفني على تأخّري طالباً مني تهيئة المكان من أجل سهرته المعتادة التي تجمعه بأصدقاء
اللَّهو والمجون، وعبيد سمومٍ بيضاءَ أقحموها إلى حياته كغربان سودٍ تحت جنح الظلام .
لينزعوا بأظفارهم المهووسة .كلّ شيءٍ حلوٍ في هذه المملكة الصغيرة ، ليحيلوها إلى يبابٍ ،
يرتعون فيه و يعربدون دون قيود .
تنحنح أبي لثقلٍ في رأسه، ومدَّد جسمه على الأريكة وراح في عالمه المفصول عن عالم بيته
يحاور بغموضٍ وصمتٍ قصوراً موغلةً في السراب ،ويجوب ببحارٍ لا وجود لها .
إلى أن غالبه النَعاس فأغمض جفنيه وتركني أتخبّط في عذاباتي ، وأنا أعيد ترتيب الأشياء
التي بعثرها في عالمه المجنون هذا .
أزيل بقايا السجائر المحشوّة بمخدّراتٍ أزكمت أنفي برائحة مقزِّزة ، صرت أميّزها بنفورٍ واضحٍ .
وأحمل الأكواب العالقة برواسب أشربة شتَّى إلى المطبخ في الصالة.
وأناجي أمي بدموع ساخنة ، أشكوها للسماء التي كانت تمطر بغزارة في الخارج ،لأنها
تركتني وحيدة مع ألمي، ومع بقايا رجلٍ كان يوماً أبي الذي يضج بالحياة والبِشْر ، ويطفح
بالخير والطيبة . قبل أن يدخل نفق الإدمان
وأهزّها بعنفٍ وأعاتبها بقلبي المجروح أسألها :كيف طاوعك قلبك على البعد عني وأنا وحيدتك
؟ لماذا لم تصبري؟ لمَ رحلتِ وأفرغت هذا البيت من طيفك الجميل الذي كان يحميني ؟
ولفرط خوفي ألا أكون قد آلمت أمي حتى في طيفها ..، عانقتها و قبَّلتها ، وبكيت متذكّرةً
أوجاعها ، وآثار لكمات أبي على جسدها ..، وصدى أصوات تعذيبها الذي سكن جدران هذا البيت
البارد -بلا مجيب و لكم حاولت أن أردَه عنها ..أجذبه من ملابسه متوسّلةً ، فيركلني بقدمه
ويسطحني أرضاً ،فيصيب أمّي مرّتين : مرّةً بأوجاعها والأخرى قهراً على ابنتها.
ولأنّه مشلول الفكر طلّقها ثلاثاً متتابعات في أزمنةٍ شتى .
بوعي ٍ بعد أن أضاع منه كلّ شيءٍ ،و مرَّات عديدة وهو تحت وطأة الإدمان ..
وبين هذه وتلك كان يتجلَّى ضعفه ، وخساراته ، وهزائمه المعيشيّة التي انهارت ، وعصفت
بكلِّ ماجنى عبر أسفاره و إبحاره طلباً للرزق الحلال .
اِنهار هذا الصرح الجميل -الإدمان- هذا الوحش الكاسر انقضّ على عيوننا الفرحة فاقتلعها ،
خنق بسماتنا و أفقرنا .
و ضاعت أمّي و ُأبعدت أمي .... أمي الطاهرة الحلوة التي غادرت مملكتها الخربة مرغمةً بعد
أن استماتت في الدفاع عنها بلا جدوى
غادرتني في عتمة الّليل ، و هي تضمّني بانكسارٍ إلى صدرها المكلوم ، و زرعتْ فيّ نبضها
ومآقيها الدامعة، فما استطعت الفكاك من أسرهما حتى هذه اللحظة ،و ما استطعت أن
أنسى صوت إطباق باب السيارة التي أقلّتها ، و كأنها أرتجت على آخر معاقل السعادة في
قلبي
اليوم هي في مملكةٍ أخرى ..... مملكةٍ تعجّ بأولادٍ ليسوا منها و ليسوا من دمي .
هربت من ظلم الزوج و الأهل إلى واحة مجهولة , علّها تستنشق فيها رائحة هواء نظيف غير
هذا الهواء الفاسد الذي سرطن رئتيها عند أبي .
لعلها ترى نور الشمس , و تحسّ بدفئها بعد هذا الصقيع
شخير أبي يعلو و يوقظني من شرودي، و هو يتقلّب على الطرف الآخر من الأريكة...
أسرعت إليه بوسادة أخرى علّها تريحه , و أرخيتُ على جسده الموهن لحافا ًصوفيّاً يقي
أضلاعه المتعَبة من البرد الذي يحاصرنا .
شوقي لأمي اعتصرني حتى آخر نقطة في عروقي ...... ارتديت ملابسي على عجلٍ ، سمع
وقْع خطواتي، و ربما نبضاتي، سألني كالمغيّب عن وجهتي:
قلت له سأعود بعد ساعة في أمر هام طارئ .
لست أدري إن سمعني أم لا.. خلته عاد إلى عالمه المحموم بالهذيان المنسلخ عن الواقع
* ****
قرعتُ بابها تسبقني أشواقي إليها , تسمّرتْ عند رؤيتي و على استحياء استقبلتني.
رميت بنفسي عند أحضانها , قلبها كنوز عطرٍ و واحة أمانٍ و لكنه ليس كما توقعت من القوّة
والشوق.
شاورتُ نفسي أن أعودَ من حيث أتيتُ، و قد هممتُ، لولا أن سمعتُ صوت زوجها الهادر يسأل
عن القادم ,
غالبتْ أمي ارتباكها , و أمسكت بيدي تجذبني نحو الداخل قائلة : تعالي سلّمي على عمّك .
ارتطمتُ بعينيه الحادّتين و يده الجافّة و هو يصافحني و يقول مرغماً أهلا و سهلا ...
مجاملةً واضحةً لشخصٍ لا يعنيه، أتى متطفّلاً ليخرب عليه سهرةً ملوّنةً بكلّ الأصباغ ،كتلك
التي كانت تضعها أمي على وجهها عربون صفقة تبادلا فيها الأدوار:
هو بسكنه و ماله و اسمه، و هي بشبابها و جمالها... و بإشباع نهمه و غرائزه على حواسٍ لم
يستطع إسكاتها حتى بحضوري ،إذ كانت ردوده تشي بانزعاجٍ لضيف المساء هذا و هو يطلب
منها التعجيل في إعداد القهوة
أسكتتْ أمي صوت المسجّل الذي كان يعلو بنغمات راقصة مجلجلة، و لمحتُ وشاحها الأحمر
الذي كان معقوداً على خصرها مركوناً على عجلٍ في إحدى الزوايا.
ارتبكتْ المسكينة و هي تجاهد في تقليل جرعة جراحي و آلامي ببعثرة صور شتى فرضت
وجودها في هذه الصالة الفخمة التي تضمّ حبيبتي وقد صارتْ بقهرها بعيدةً ......... بعيدة لا
وجود لها إلا في ذاكرتي الطفوليّة التي لا تفارقني
انكسارها و تذلّلها أوجعني ، انسحبت معتذرةً ........ عانقتها عند الباب مودعةً
امْتزجتْ أنّات مآقينا تحت المطر العاصف بعنفٍ، شدّتْ بأناملها معطفي على جسدي ، و
لفّحتني بوشاح الصوف و هي توصيني بنفسي .
تقاذفتني الريح عند مفترق الطرق
*****
تمشّيت في الأزقّة العتيقة بدمشق وحدي ،علّني أبثّ بيوتها مكنونات صدري، أسترق ومضة
دفءٍ متسّربةٍ خلف الأبواب الّتي كان يجمعها أناس يضحكون ، يأكلون اللقمة معا , يتسامرون ،
يختصمون و يصطلحون ، و ينامون في آخر الليل تحت سقف واحدٍ.
تذكّرت ملامح خالتي الصغرى الأقرب إلى نفسي التي تقطن في حلب بعد زواجها .......
أحسستها تناديني عن بعد، و تشاركني جولتي المسائية.
لحظة تمرّد أفقدتني صوابي ’ طرأت لي فكرة ما استطعت أن أخمدها، أردت السفر إليها مهما
كانت الأسباب و النتائج , صدري لم يعد يحتمل الوجع أكثر.
توجّهت إلى محطّة القطار، اقتطعتُ تذكرة سفر، عرفتُ أنّ موعد الانطلاق عند منتصف الليل
جلست على مقعد قصيّ أنتظر موعد الرحلة , أتناول لقيماتٍ ساخنةً لأُسكت جوعي
ثلّةٌ من الشبّان الذّين يملؤهم الّصّخب المجنون بكل أشكاله يتقاربون لمقعدي , أدرتُ ظهري
بقسوةٍ باديةٍ ، و أسدلت الوشاح على قسماتٍ كثيرةٍ من وجهي ، و استنفرت كلبؤةٍ متوحشّةٍ
تُخيف من يقترب منها بزمجرةٍ كامنةٍ ، و أظفارٍ مُعَدّةٍ للنشْب في حال الاقتراب.
تباعدوا عنّي تلحق أذني تعليقاتهم السّاخرة بأني: لعلّي مجنونةٌ.. مُعَقّدة.. بشعة الملامح.
ارتحت قليلا واعدةً نفسي بأحضان خالتي الوادعة التي عاصرتْ المعاناة منذ بدئها ،و قد كنت
أبّثّها شكواي عند كل عشيّةٍ، فتصبّرني ،و تمسح دمعتي، و تواسيني بفرجٍ قريبٍ وجدته لفرط
تعاستي بعيداً.
و الآن بعد زواجها نأتْ قافلتها عن طريقي و ابتعدت ، فلكم بعُدت عني الأشياء التي أحبها ؟؟
هذا قدري...
لاحتْ لي و من خلف نافذة الاستراحة , قطط الّليل الشاردة بأصباغٍ رخيصةٍ و ألبسةٍ فاضحةٍ ما
وُجِدتْ إلا لتنادي على فاكهةٍ كَبُرَتْ على سمادٍ صناعيّ ٍ ، مزدانةٍ من الخارج ، خاويةٍ عجفاءَ من
الداخل ، تعجّبْتُ من هذه الدنيا.؟؟؟
جلستْ قربي امرأةٌ تلاطفني و تستأذنني الجلوس , أوغلتْ بفنّ ٍ بتفاصيل حياتي ، و بذكاءٍ
شديدٍ حاولتْ الولوج إلى قهر نفسي الذي كنت أداريه عنها .
انفلتّ من حوارها بإجابات مقتضبة تنمّ عن ضيقٍ من محاصرتها لي بالأسئلة التي كانت
تلتقطها برادارها العجيب الغريب .
ولما أيقنتْ ضجري منها دسّتْ في يدي عنوانها بكثيرٍ من الودّ و الحبّ. كدتُ أن ألقي بنفسي
بين ذراعيها لأبكي و أبكي و لكنني لم أفعل.
يا الله .... اشتقت إلى بيتي، تذكّرت أبي ... بقايا أبي ... سمعته يناديني بجسده المكلوم وهو
يستنجد بي ، يريد أن آخذه كطفلٍ مذعورٍ ، مُسْتضعفٍ إلى غرفته بعد أن دارتْ به الأرض .
مزّقتُ تذكرة السفر ، سابقت الريح إليه ، الأمطار تلسعني و البرق ينشقّ عن ضوءٍ يفضحني و
أنا أهرول بين السيارات و المارّة المشدوهين لهذه العجلة ، لم يكن يهمني إلا الوصول لعتبة
المنزل
أدرت المفتاح ........... الدخان الأزرق الكثيف يعلو المكان , وصدى ضحكات مجنونة تجلجل
وتزيدني اختناقاً ....
حاولت أن لا أمعن النظر، هممت في صعود السُلّم لغرفتي ...... أيادٍ شدّتني إلى الصالة تعبث
في جسدي ، قُبلات محمومة تناوشني ، صرخت أستنجد بأبي
أبي أبعد الغربان عني...
أبي أبعد الغربان .... اختبأت خلف جسده الهزيل ... ما استطاع أن يفعل شيئا
أبيـــ يييـ ييــ احمني منهم.......
جاوبني بشفاهٍ مرتعشةٍ تهذي ما بك ....؟ ما بك....؟
اجلسي معنا ....
اشتدت أناملهم اشتعالا على جسدي... و قيت بكفي أدفع ما استطعت عني أذاهم , و لما
انفلتّ ُ منهم مبتعدةً ، رمقت أبي ، وجدته ما زال مغيبّا و لكن عينيه الحمراوتين كانتا تبكيان..
تبكيان بدموعٍ ما استطاع أن يكتمها رغم فقد وعيه وهذيانه ، كان أضعف من أن يدافع عني
كأن سلاسل من حديد قيّدتْ أطرافه، وفكّكت ذرّات شرفه و دمه .
صفقتُ الباب خلفي و أنا أغادر المنزل من جديد ،قادتني قدماي المقرّحتان إلى جدتي المسنةّ
التي تقبع في بيت بسيط منسيّ بعد أن ذهب عنها الشباب ، و المال، و الأهل ، منعزلة
كشجرةٍ يابسةٍ تنتظر مصيرها.
كثيرة النسيان كانت و لكنها بشوشة الملامح.....
ما زال الخير يسكن قلبها الواهن ....
ابتسمتْ لي عيناها قائلةً : يا ابنتي ادخلي بسرعة ثيابك مبتلّةٌ ...و اعتصرتْ ذاكرتها جاهدةً
في تذكّر اسمي , عانقتها , , أمطرتُ دموعاً غزيرةً سالت على أخاديد وجهها .
أمسكت بيدي برفق إلى أريكة مهترئة قرب الموقد.
قالت لي : بردانة أنت يا عين جدّتك ...؟؟ ثم أراحتني، دثّرتني، هدّأتْ قلبي ، قدّمتْ لي صحن
تمرٍ عربيّ ٍ كانت تأكل منه .
ابتسمتُ في وجهها استأذنتُها المبيتَ عندها ....؟؟
رحّبت بي قائلة : إن لم يسعك قلبي تسعك عيناي
جلستْ قربي أتنسّم عبير طهرها ، و حدّثتني ببراءة الأطفال عن كلّ ما يجول بعالمها من
أحداث حتى استراحت حواسي و غالبني النعاس
و لمّا أطفأتُ النور أستعرض أحداث يومي الهارب من فوهة بركان دائم الحمم , تلمّست بيدي
هذه الأريكة التي أنام عليها ، وجدتها متعبة ، بسيطة ، و لكنها صلبة ٌ ، نظيفة ، تقاوم الزمن .
وحمدت الله في سرّي لأنه غمرني بهذا النور الذي أشعل في قلبي الأمل من جديد.
و تأملت السماء قبل أن أغفو و أنا أمنّي النفس بغدٍ أجمل.
تذكرت في سرّي الورقة التي دسّتْها امرأةُ المحطّة في يدي ، نزعتها من معطفي ... مزّقتها
بين أصابعي منتشية بالنصر.....
رغم كلّ ِ الألم ......
على أطراف أصابعي ، وكأنّي أستعدُّ لملاقاة غولٍ كاسرٍ.
كرّر النداء بصوت أعلى ، أجبته مذعورة : نعم أبي .. هاقد وصلت.
عنّفني على تأخّري طالباً مني تهيئة المكان من أجل سهرته المعتادة التي تجمعه بأصدقاء
اللَّهو والمجون، وعبيد سمومٍ بيضاءَ أقحموها إلى حياته كغربان سودٍ تحت جنح الظلام .
لينزعوا بأظفارهم المهووسة .كلّ شيءٍ حلوٍ في هذه المملكة الصغيرة ، ليحيلوها إلى يبابٍ ،
يرتعون فيه و يعربدون دون قيود .
تنحنح أبي لثقلٍ في رأسه، ومدَّد جسمه على الأريكة وراح في عالمه المفصول عن عالم بيته
يحاور بغموضٍ وصمتٍ قصوراً موغلةً في السراب ،ويجوب ببحارٍ لا وجود لها .
إلى أن غالبه النَعاس فأغمض جفنيه وتركني أتخبّط في عذاباتي ، وأنا أعيد ترتيب الأشياء
التي بعثرها في عالمه المجنون هذا .
أزيل بقايا السجائر المحشوّة بمخدّراتٍ أزكمت أنفي برائحة مقزِّزة ، صرت أميّزها بنفورٍ واضحٍ .
وأحمل الأكواب العالقة برواسب أشربة شتَّى إلى المطبخ في الصالة.
وأناجي أمي بدموع ساخنة ، أشكوها للسماء التي كانت تمطر بغزارة في الخارج ،لأنها
تركتني وحيدة مع ألمي، ومع بقايا رجلٍ كان يوماً أبي الذي يضج بالحياة والبِشْر ، ويطفح
بالخير والطيبة . قبل أن يدخل نفق الإدمان
وأهزّها بعنفٍ وأعاتبها بقلبي المجروح أسألها :كيف طاوعك قلبك على البعد عني وأنا وحيدتك
؟ لماذا لم تصبري؟ لمَ رحلتِ وأفرغت هذا البيت من طيفك الجميل الذي كان يحميني ؟
ولفرط خوفي ألا أكون قد آلمت أمي حتى في طيفها ..، عانقتها و قبَّلتها ، وبكيت متذكّرةً
أوجاعها ، وآثار لكمات أبي على جسدها ..، وصدى أصوات تعذيبها الذي سكن جدران هذا البيت
البارد -بلا مجيب و لكم حاولت أن أردَه عنها ..أجذبه من ملابسه متوسّلةً ، فيركلني بقدمه
ويسطحني أرضاً ،فيصيب أمّي مرّتين : مرّةً بأوجاعها والأخرى قهراً على ابنتها.
ولأنّه مشلول الفكر طلّقها ثلاثاً متتابعات في أزمنةٍ شتى .
بوعي ٍ بعد أن أضاع منه كلّ شيءٍ ،و مرَّات عديدة وهو تحت وطأة الإدمان ..
وبين هذه وتلك كان يتجلَّى ضعفه ، وخساراته ، وهزائمه المعيشيّة التي انهارت ، وعصفت
بكلِّ ماجنى عبر أسفاره و إبحاره طلباً للرزق الحلال .
اِنهار هذا الصرح الجميل -الإدمان- هذا الوحش الكاسر انقضّ على عيوننا الفرحة فاقتلعها ،
خنق بسماتنا و أفقرنا .
و ضاعت أمّي و ُأبعدت أمي .... أمي الطاهرة الحلوة التي غادرت مملكتها الخربة مرغمةً بعد
أن استماتت في الدفاع عنها بلا جدوى
غادرتني في عتمة الّليل ، و هي تضمّني بانكسارٍ إلى صدرها المكلوم ، و زرعتْ فيّ نبضها
ومآقيها الدامعة، فما استطعت الفكاك من أسرهما حتى هذه اللحظة ،و ما استطعت أن
أنسى صوت إطباق باب السيارة التي أقلّتها ، و كأنها أرتجت على آخر معاقل السعادة في
قلبي
اليوم هي في مملكةٍ أخرى ..... مملكةٍ تعجّ بأولادٍ ليسوا منها و ليسوا من دمي .
هربت من ظلم الزوج و الأهل إلى واحة مجهولة , علّها تستنشق فيها رائحة هواء نظيف غير
هذا الهواء الفاسد الذي سرطن رئتيها عند أبي .
لعلها ترى نور الشمس , و تحسّ بدفئها بعد هذا الصقيع
شخير أبي يعلو و يوقظني من شرودي، و هو يتقلّب على الطرف الآخر من الأريكة...
أسرعت إليه بوسادة أخرى علّها تريحه , و أرخيتُ على جسده الموهن لحافا ًصوفيّاً يقي
أضلاعه المتعَبة من البرد الذي يحاصرنا .
شوقي لأمي اعتصرني حتى آخر نقطة في عروقي ...... ارتديت ملابسي على عجلٍ ، سمع
وقْع خطواتي، و ربما نبضاتي، سألني كالمغيّب عن وجهتي:
قلت له سأعود بعد ساعة في أمر هام طارئ .
لست أدري إن سمعني أم لا.. خلته عاد إلى عالمه المحموم بالهذيان المنسلخ عن الواقع
* ****
قرعتُ بابها تسبقني أشواقي إليها , تسمّرتْ عند رؤيتي و على استحياء استقبلتني.
رميت بنفسي عند أحضانها , قلبها كنوز عطرٍ و واحة أمانٍ و لكنه ليس كما توقعت من القوّة
والشوق.
شاورتُ نفسي أن أعودَ من حيث أتيتُ، و قد هممتُ، لولا أن سمعتُ صوت زوجها الهادر يسأل
عن القادم ,
غالبتْ أمي ارتباكها , و أمسكت بيدي تجذبني نحو الداخل قائلة : تعالي سلّمي على عمّك .
ارتطمتُ بعينيه الحادّتين و يده الجافّة و هو يصافحني و يقول مرغماً أهلا و سهلا ...
مجاملةً واضحةً لشخصٍ لا يعنيه، أتى متطفّلاً ليخرب عليه سهرةً ملوّنةً بكلّ الأصباغ ،كتلك
التي كانت تضعها أمي على وجهها عربون صفقة تبادلا فيها الأدوار:
هو بسكنه و ماله و اسمه، و هي بشبابها و جمالها... و بإشباع نهمه و غرائزه على حواسٍ لم
يستطع إسكاتها حتى بحضوري ،إذ كانت ردوده تشي بانزعاجٍ لضيف المساء هذا و هو يطلب
منها التعجيل في إعداد القهوة
أسكتتْ أمي صوت المسجّل الذي كان يعلو بنغمات راقصة مجلجلة، و لمحتُ وشاحها الأحمر
الذي كان معقوداً على خصرها مركوناً على عجلٍ في إحدى الزوايا.
ارتبكتْ المسكينة و هي تجاهد في تقليل جرعة جراحي و آلامي ببعثرة صور شتى فرضت
وجودها في هذه الصالة الفخمة التي تضمّ حبيبتي وقد صارتْ بقهرها بعيدةً ......... بعيدة لا
وجود لها إلا في ذاكرتي الطفوليّة التي لا تفارقني
انكسارها و تذلّلها أوجعني ، انسحبت معتذرةً ........ عانقتها عند الباب مودعةً
امْتزجتْ أنّات مآقينا تحت المطر العاصف بعنفٍ، شدّتْ بأناملها معطفي على جسدي ، و
لفّحتني بوشاح الصوف و هي توصيني بنفسي .
تقاذفتني الريح عند مفترق الطرق
*****
تمشّيت في الأزقّة العتيقة بدمشق وحدي ،علّني أبثّ بيوتها مكنونات صدري، أسترق ومضة
دفءٍ متسّربةٍ خلف الأبواب الّتي كان يجمعها أناس يضحكون ، يأكلون اللقمة معا , يتسامرون ،
يختصمون و يصطلحون ، و ينامون في آخر الليل تحت سقف واحدٍ.
تذكّرت ملامح خالتي الصغرى الأقرب إلى نفسي التي تقطن في حلب بعد زواجها .......
أحسستها تناديني عن بعد، و تشاركني جولتي المسائية.
لحظة تمرّد أفقدتني صوابي ’ طرأت لي فكرة ما استطعت أن أخمدها، أردت السفر إليها مهما
كانت الأسباب و النتائج , صدري لم يعد يحتمل الوجع أكثر.
توجّهت إلى محطّة القطار، اقتطعتُ تذكرة سفر، عرفتُ أنّ موعد الانطلاق عند منتصف الليل
جلست على مقعد قصيّ أنتظر موعد الرحلة , أتناول لقيماتٍ ساخنةً لأُسكت جوعي
ثلّةٌ من الشبّان الذّين يملؤهم الّصّخب المجنون بكل أشكاله يتقاربون لمقعدي , أدرتُ ظهري
بقسوةٍ باديةٍ ، و أسدلت الوشاح على قسماتٍ كثيرةٍ من وجهي ، و استنفرت كلبؤةٍ متوحشّةٍ
تُخيف من يقترب منها بزمجرةٍ كامنةٍ ، و أظفارٍ مُعَدّةٍ للنشْب في حال الاقتراب.
تباعدوا عنّي تلحق أذني تعليقاتهم السّاخرة بأني: لعلّي مجنونةٌ.. مُعَقّدة.. بشعة الملامح.
ارتحت قليلا واعدةً نفسي بأحضان خالتي الوادعة التي عاصرتْ المعاناة منذ بدئها ،و قد كنت
أبّثّها شكواي عند كل عشيّةٍ، فتصبّرني ،و تمسح دمعتي، و تواسيني بفرجٍ قريبٍ وجدته لفرط
تعاستي بعيداً.
و الآن بعد زواجها نأتْ قافلتها عن طريقي و ابتعدت ، فلكم بعُدت عني الأشياء التي أحبها ؟؟
هذا قدري...
لاحتْ لي و من خلف نافذة الاستراحة , قطط الّليل الشاردة بأصباغٍ رخيصةٍ و ألبسةٍ فاضحةٍ ما
وُجِدتْ إلا لتنادي على فاكهةٍ كَبُرَتْ على سمادٍ صناعيّ ٍ ، مزدانةٍ من الخارج ، خاويةٍ عجفاءَ من
الداخل ، تعجّبْتُ من هذه الدنيا.؟؟؟
جلستْ قربي امرأةٌ تلاطفني و تستأذنني الجلوس , أوغلتْ بفنّ ٍ بتفاصيل حياتي ، و بذكاءٍ
شديدٍ حاولتْ الولوج إلى قهر نفسي الذي كنت أداريه عنها .
انفلتّ من حوارها بإجابات مقتضبة تنمّ عن ضيقٍ من محاصرتها لي بالأسئلة التي كانت
تلتقطها برادارها العجيب الغريب .
ولما أيقنتْ ضجري منها دسّتْ في يدي عنوانها بكثيرٍ من الودّ و الحبّ. كدتُ أن ألقي بنفسي
بين ذراعيها لأبكي و أبكي و لكنني لم أفعل.
يا الله .... اشتقت إلى بيتي، تذكّرت أبي ... بقايا أبي ... سمعته يناديني بجسده المكلوم وهو
يستنجد بي ، يريد أن آخذه كطفلٍ مذعورٍ ، مُسْتضعفٍ إلى غرفته بعد أن دارتْ به الأرض .
مزّقتُ تذكرة السفر ، سابقت الريح إليه ، الأمطار تلسعني و البرق ينشقّ عن ضوءٍ يفضحني و
أنا أهرول بين السيارات و المارّة المشدوهين لهذه العجلة ، لم يكن يهمني إلا الوصول لعتبة
المنزل
أدرت المفتاح ........... الدخان الأزرق الكثيف يعلو المكان , وصدى ضحكات مجنونة تجلجل
وتزيدني اختناقاً ....
حاولت أن لا أمعن النظر، هممت في صعود السُلّم لغرفتي ...... أيادٍ شدّتني إلى الصالة تعبث
في جسدي ، قُبلات محمومة تناوشني ، صرخت أستنجد بأبي
أبي أبعد الغربان عني...
أبي أبعد الغربان .... اختبأت خلف جسده الهزيل ... ما استطاع أن يفعل شيئا
أبيـــ يييـ ييــ احمني منهم.......
جاوبني بشفاهٍ مرتعشةٍ تهذي ما بك ....؟ ما بك....؟
اجلسي معنا ....
اشتدت أناملهم اشتعالا على جسدي... و قيت بكفي أدفع ما استطعت عني أذاهم , و لما
انفلتّ ُ منهم مبتعدةً ، رمقت أبي ، وجدته ما زال مغيبّا و لكن عينيه الحمراوتين كانتا تبكيان..
تبكيان بدموعٍ ما استطاع أن يكتمها رغم فقد وعيه وهذيانه ، كان أضعف من أن يدافع عني
كأن سلاسل من حديد قيّدتْ أطرافه، وفكّكت ذرّات شرفه و دمه .
صفقتُ الباب خلفي و أنا أغادر المنزل من جديد ،قادتني قدماي المقرّحتان إلى جدتي المسنةّ
التي تقبع في بيت بسيط منسيّ بعد أن ذهب عنها الشباب ، و المال، و الأهل ، منعزلة
كشجرةٍ يابسةٍ تنتظر مصيرها.
كثيرة النسيان كانت و لكنها بشوشة الملامح.....
ما زال الخير يسكن قلبها الواهن ....
ابتسمتْ لي عيناها قائلةً : يا ابنتي ادخلي بسرعة ثيابك مبتلّةٌ ...و اعتصرتْ ذاكرتها جاهدةً
في تذكّر اسمي , عانقتها , , أمطرتُ دموعاً غزيرةً سالت على أخاديد وجهها .
أمسكت بيدي برفق إلى أريكة مهترئة قرب الموقد.
قالت لي : بردانة أنت يا عين جدّتك ...؟؟ ثم أراحتني، دثّرتني، هدّأتْ قلبي ، قدّمتْ لي صحن
تمرٍ عربيّ ٍ كانت تأكل منه .
ابتسمتُ في وجهها استأذنتُها المبيتَ عندها ....؟؟
رحّبت بي قائلة : إن لم يسعك قلبي تسعك عيناي
جلستْ قربي أتنسّم عبير طهرها ، و حدّثتني ببراءة الأطفال عن كلّ ما يجول بعالمها من
أحداث حتى استراحت حواسي و غالبني النعاس
و لمّا أطفأتُ النور أستعرض أحداث يومي الهارب من فوهة بركان دائم الحمم , تلمّست بيدي
هذه الأريكة التي أنام عليها ، وجدتها متعبة ، بسيطة ، و لكنها صلبة ٌ ، نظيفة ، تقاوم الزمن .
وحمدت الله في سرّي لأنه غمرني بهذا النور الذي أشعل في قلبي الأمل من جديد.
و تأملت السماء قبل أن أغفو و أنا أمنّي النفس بغدٍ أجمل.
تذكرت في سرّي الورقة التي دسّتْها امرأةُ المحطّة في يدي ، نزعتها من معطفي ... مزّقتها
بين أصابعي منتشية بالنصر.....
رغم كلّ ِ الألم ......
--------------------------
الأسرة .. هي هذه الخلية الأولى التي تنتج الإنسان تصنعه وتصنّعه في ظل البيئة الاجتماعية
.. وكان لا بد لهذه الخلية البسيطة من أن تحمل كل معاني الانتقال في المراحل العمرية للفرد
من الطفولة إلى الفتوة والشباب وإلى الكهولة .. لتبقى الأسرة هذه الخلية البسيطة هي
الراعي الوحيد للإنسان النامي كغصن تفرع من شجرة ..
ولذلك كانت تسجل الأسرة تاريخا عريقا محفوظا وخصوصا عند العرب وهو ما يعرف بالأنساب
.. وهذا يمثل الارتباط القوي ( رابط الدم ) للأفراد في السلالة الواحدة بين أجيال سابقة
وأخرى لاحقة .. وهذا ما كان يفرض تأثيره على الكثير من أصحاب القرار في قضايا التصاهر
والتزاوج .. وكان التكافؤ مطلوبا جدا بين الأصهار والأزواج .. وهذا التكافؤ يقوم أولا على السلالة
والنسب ..
ولكن هيهات أن يكون ذلك كافيا .. فالإنسان كائن عجيب لا يمكن التنبؤ بأفعاله وتغير سلوكه
وهنا تظهر الكثير من المآسي .. وكم من شخصيات انقلب سلوكها لكثير من الأسباب قد تكون
ضغوط الحياة وتجاربها أهمها ..
وبالطبع هناك أيضا الآفات الاجتماعية والعادات السلوكية الخاطئة ومنها .. تعاطي المخدرات ..
ولقد أثبتت الكثير من الدراسات أن معظم المتعاطين دخلوا دائرة الإدمان بالعدوى الاجتماعية
.. وذلك بعكس ما كان يشاع من أن المدمنين قد تعاطوا المخدر هربا من أزماتهم الحياتية
والنفسية ( والتي كثيرا ما تنشأ نتيجة للإدمان وليس العكس ) ..
وقد تبين أيضا أن التعاطي عندما يصبح عادة سلوكية اجتماعية يكون قد وصل إلى أخطر
مراحله كمرض سلوكي وآفة اجتماعي وفي هذا المستوى نرى مجالس التعاطي وقد عقدت
لتشكل خلايا مجتمعية مصابة هدفها تعاطي المخدر بحد ذاته دون أي نشاط آخر يذكر إلا
بعض النشاطات الترفيهية البسيطة .. وهذا ما يؤدي إلى انتشار الآفة على نطاق واسع وفي
جميع المستويات الطبقية الاجتماعية ويمكن أن نجد هذه الأمثلة التي تناولتها الدراسات في
آفة الأفيون في الصين .. والقات في اليمن .. والمخدرات في مصر .. و تبقى الولايات المتحدة
هي الدولة الأكثر استهلاكا للمخدرات وأكبر مستورد لها كما تثبت الدراسات وتليها دول أمريكا
اللاتينية وأوروبا .. وقد ساهم في انتشار هذه الآفة في هذه البلدان .. قوانين الحرية الفردية و
ضمن هامش حماية حقوق الإنسان الشخصية ..
وفي مجتمعاتنا العربية .. مازالت قضايا الأسرة و انتهاك حقوق المرأة هي الآفة الرئيسية
الأكبر والأخطر والتي تهدد بناء الوطن ونسيجه الاجتماعي و ما زالت تقف عائقا شرسا أمام
محاولات وخطط الحكومات من أجل التطوير والتقدم وتعيق عمل مؤسساتها الاجتماعية
الفاعلة بدءا من المؤسسات التعليمية التربوية وانتهاءا بالمؤسسات الحقوقية والشرعية ..
بعد هذه المقدمة نسجل في القصة : ..
.. وكان لا بد لهذه الخلية البسيطة من أن تحمل كل معاني الانتقال في المراحل العمرية للفرد
من الطفولة إلى الفتوة والشباب وإلى الكهولة .. لتبقى الأسرة هذه الخلية البسيطة هي
الراعي الوحيد للإنسان النامي كغصن تفرع من شجرة ..
ولذلك كانت تسجل الأسرة تاريخا عريقا محفوظا وخصوصا عند العرب وهو ما يعرف بالأنساب
.. وهذا يمثل الارتباط القوي ( رابط الدم ) للأفراد في السلالة الواحدة بين أجيال سابقة
وأخرى لاحقة .. وهذا ما كان يفرض تأثيره على الكثير من أصحاب القرار في قضايا التصاهر
والتزاوج .. وكان التكافؤ مطلوبا جدا بين الأصهار والأزواج .. وهذا التكافؤ يقوم أولا على السلالة
والنسب ..
ولكن هيهات أن يكون ذلك كافيا .. فالإنسان كائن عجيب لا يمكن التنبؤ بأفعاله وتغير سلوكه
وهنا تظهر الكثير من المآسي .. وكم من شخصيات انقلب سلوكها لكثير من الأسباب قد تكون
ضغوط الحياة وتجاربها أهمها ..
وبالطبع هناك أيضا الآفات الاجتماعية والعادات السلوكية الخاطئة ومنها .. تعاطي المخدرات ..
ولقد أثبتت الكثير من الدراسات أن معظم المتعاطين دخلوا دائرة الإدمان بالعدوى الاجتماعية
.. وذلك بعكس ما كان يشاع من أن المدمنين قد تعاطوا المخدر هربا من أزماتهم الحياتية
والنفسية ( والتي كثيرا ما تنشأ نتيجة للإدمان وليس العكس ) ..
وقد تبين أيضا أن التعاطي عندما يصبح عادة سلوكية اجتماعية يكون قد وصل إلى أخطر
مراحله كمرض سلوكي وآفة اجتماعي وفي هذا المستوى نرى مجالس التعاطي وقد عقدت
لتشكل خلايا مجتمعية مصابة هدفها تعاطي المخدر بحد ذاته دون أي نشاط آخر يذكر إلا
بعض النشاطات الترفيهية البسيطة .. وهذا ما يؤدي إلى انتشار الآفة على نطاق واسع وفي
جميع المستويات الطبقية الاجتماعية ويمكن أن نجد هذه الأمثلة التي تناولتها الدراسات في
آفة الأفيون في الصين .. والقات في اليمن .. والمخدرات في مصر .. و تبقى الولايات المتحدة
هي الدولة الأكثر استهلاكا للمخدرات وأكبر مستورد لها كما تثبت الدراسات وتليها دول أمريكا
اللاتينية وأوروبا .. وقد ساهم في انتشار هذه الآفة في هذه البلدان .. قوانين الحرية الفردية و
ضمن هامش حماية حقوق الإنسان الشخصية ..
وفي مجتمعاتنا العربية .. مازالت قضايا الأسرة و انتهاك حقوق المرأة هي الآفة الرئيسية
الأكبر والأخطر والتي تهدد بناء الوطن ونسيجه الاجتماعي و ما زالت تقف عائقا شرسا أمام
محاولات وخطط الحكومات من أجل التطوير والتقدم وتعيق عمل مؤسساتها الاجتماعية
الفاعلة بدءا من المؤسسات التعليمية التربوية وانتهاءا بالمؤسسات الحقوقية والشرعية ..
بعد هذه المقدمة نسجل في القصة : ..
لقد تناولت القصة مستويات مختلفة في الانتماء وصلة النسب بالبطلة .. وكان هذا مدهشا بحق ..
ابتدأت بالحلقة الأكثر التصاقا بها ( البيت - الأسرة الشخصية ويمثل الأب و الإبنة )
ثم الأقرب في صلة القربى ( الأم المطلقة والتي باتت تملك أسرتها الخاصة الجديدة )
ثم تليها الخالة ( البعيدة مكانا والقريبة من القلب )
ثم يليها الوطن ( بنسيجه الاجتماعي العام )
ثم جاءت الجدة ( المنسية الغارقة في الكهولة المحاطة بكل ما هو قديم ورث )
ثم الأقرب في صلة القربى ( الأم المطلقة والتي باتت تملك أسرتها الخاصة الجديدة )
ثم تليها الخالة ( البعيدة مكانا والقريبة من القلب )
ثم يليها الوطن ( بنسيجه الاجتماعي العام )
ثم جاءت الجدة ( المنسية الغارقة في الكهولة المحاطة بكل ما هو قديم ورث )
المستوى الأول .. ( البيت )
كان بيت ذا قصة مؤلمة .. عراك وصدامات وانتهاكات حقوق .. انتهت بتمزيق شمل الأسرة و
تلاها إخفاقات وخسائر فادحة على مستوى هذه الأسرة .. وكانت آفة الإدمان قد زحفت
واعتقلت البيت .. وهنا كانت المعاناة .. معاناة البطلة ..
تلاها إخفاقات وخسائر فادحة على مستوى هذه الأسرة .. وكانت آفة الإدمان قد زحفت
واعتقلت البيت .. وهنا كانت المعاناة .. معاناة البطلة ..
1- معاناتها في محاولة الدفاع عن أمها لينالها القسم الأكبر من الانتهاكات الجسدية والنفسية
وكان هذا ما شكل لديها بنية نفسية قلقة وشبه انفصامية بقيت تطلب السلام والطمأنينة
وتبحث عنه في الأرجاء أمام ظلم الأب واضطهاده
2- معاناة فقدها الأم في النهاية .. وهذا شكل فراغا عاطفيا وغياب مصدر دعم نفسي .. كان
يخفف أعباء المشكلة التي تحولت إلى عذاب يومي ..
3- معاناة بقائها وحيدة في مواجهة انحرافات سلوك الأب وتسلطه واضطهاده .. واستمرار
انتهاكاته لحقوقها وإنسانيتها .. لتعاني آثار سقوطه وإدمانه .. الذي أفقده القدرة على التمييز
أو حتى الرعاية والحماية ..
4- وكان كل هذا لا بد أن يخلق في نفس البطلة دوافع قوية لهروب .. ولكن مم ..؟؟
هل هو هروب من الأب المدمن المريض ..؟؟
هل هو هروب من المشكلة .. ؟؟
ولكن هل المشكلة الآن هي في هذا الواقع المرير .. ؟؟
أم أن هذا التراكم الاضطهادي خلق مشكلة نفسية داخلية ربما تكون أكبر حجما من الواقع
الحياتي المرير ..؟؟
وهذا يستدعي هروبا من هذا الانكسار الداخلي .. وقلة الحيلة .. !!
وكان هذا ما شكل لديها بنية نفسية قلقة وشبه انفصامية بقيت تطلب السلام والطمأنينة
وتبحث عنه في الأرجاء أمام ظلم الأب واضطهاده
2- معاناة فقدها الأم في النهاية .. وهذا شكل فراغا عاطفيا وغياب مصدر دعم نفسي .. كان
يخفف أعباء المشكلة التي تحولت إلى عذاب يومي ..
3- معاناة بقائها وحيدة في مواجهة انحرافات سلوك الأب وتسلطه واضطهاده .. واستمرار
انتهاكاته لحقوقها وإنسانيتها .. لتعاني آثار سقوطه وإدمانه .. الذي أفقده القدرة على التمييز
أو حتى الرعاية والحماية ..
4- وكان كل هذا لا بد أن يخلق في نفس البطلة دوافع قوية لهروب .. ولكن مم ..؟؟
هل هو هروب من الأب المدمن المريض ..؟؟
هل هو هروب من المشكلة .. ؟؟
ولكن هل المشكلة الآن هي في هذا الواقع المرير .. ؟؟
أم أن هذا التراكم الاضطهادي خلق مشكلة نفسية داخلية ربما تكون أكبر حجما من الواقع
الحياتي المرير ..؟؟
وهذا يستدعي هروبا من هذا الانكسار الداخلي .. وقلة الحيلة .. !!
المستوى الثاني .. ( الأم )
1- لقد خرجت البطلة مخلفة وراءها أبا في حالة وهن عاجزا بحاجة للرعاية .. مع أنه هو
سبب المشكلة والمعاناة اليومية ..
2- ملتجئة إلى أمها البعد العاطفي الأقرب لنفسها في رحلة لطلب الهدوء والسكينة .. ..
3- وكانت الأم في حالة عجز عن مساعدتها .. عجز من نوع آخر .. بخضوها لحكم ظروف أسرية
تتعارض مع ظروف إبنة من زواج سابق .. وكان اللقاء فاترا .. وقد جاء بتوقيت غير مناسب للأم
.. التي بدى أنها رغم حالها الأكثر هدوء واستقرارا .. ولكنها ما زالت ترزح تحت ضغوط الخوف و
الانكسار أمام حاكم حياتها الجديد .. الخوف لدرجة أنها لا تستطيع ان تفرح بلقاء ابنتها أو
استقبالها لتُعامل كالأغراب ..
4- كانت صدمة جديدة حملتها إلى مستوى آخر كان حاضرا لاحتضانها
سبب المشكلة والمعاناة اليومية ..
2- ملتجئة إلى أمها البعد العاطفي الأقرب لنفسها في رحلة لطلب الهدوء والسكينة .. ..
3- وكانت الأم في حالة عجز عن مساعدتها .. عجز من نوع آخر .. بخضوها لحكم ظروف أسرية
تتعارض مع ظروف إبنة من زواج سابق .. وكان اللقاء فاترا .. وقد جاء بتوقيت غير مناسب للأم
.. التي بدى أنها رغم حالها الأكثر هدوء واستقرارا .. ولكنها ما زالت ترزح تحت ضغوط الخوف و
الانكسار أمام حاكم حياتها الجديد .. الخوف لدرجة أنها لا تستطيع ان تفرح بلقاء ابنتها أو
استقبالها لتُعامل كالأغراب ..
4- كانت صدمة جديدة حملتها إلى مستوى آخر كان حاضرا لاحتضانها
المستوى العاطفي الرابع ( الحارات - الوطن )
1- هنا بدأ البحث في الذات عن طبائع البشر واستشعار المشاهد الأسرية الحميمة
2- كانت الشوارع والأزقة تتجسد في داخلها أمانا أُسريا وهدوءا وسلاما قابعا خلف أبواب
المنازل الموصدة .. وكم كانت هي بحاجة لهذا السلام والدفء
3- كان لهذا الواقع الصادم القدرة الكافية على توجيه مقاصد البطلة وأنظارها بسرعة نحو
المستوى العاطفي الثالث في انسبائها ..
2- كانت الشوارع والأزقة تتجسد في داخلها أمانا أُسريا وهدوءا وسلاما قابعا خلف أبواب
المنازل الموصدة .. وكم كانت هي بحاجة لهذا السلام والدفء
3- كان لهذا الواقع الصادم القدرة الكافية على توجيه مقاصد البطلة وأنظارها بسرعة نحو
المستوى العاطفي الثالث في انسبائها ..
المستوى الثالث ( الخالة )
كانت الخالة بعيدة وليست في المتناول .. وهذا أتاح فرصة كافية لكثير من الأشياء ..
1- اكتشاف العالم الخارجي غير الآمن وغير الأخلاقي مع أنثى يافعة وحيدة ليلا في محطة انتظار المسافرين ..
2- ما الذي سوف يجعل ظروف الخالة المتزوجة أفضل من ظروف الأم المتزوجة ..؟؟
3- لقد كانت الخالة خط الدفاع الثاني والدعم النفسي لها بعد الأم .. فكانت تخفف عنها
وتساعدها على قبول واقعها المرير فهل ما زال تصرف الخالة هذا يفيد في حالتها الراهنة ..؟؟
4- الرحلة إلى لقاء الخالة سوف تستغرق وقتا طويلا جدا .. قد لا ينجو الأب إن بقي بمفرده كل
هذه الفترة ..
5- وهنا انطلقت وتحت ضغط المسؤولية بأسرع ما أوتيت للعودة إلى البيت وكان هذا بلا شك
يثبت أن الهروب كان من مشكلة في نفسها أكبر من الواقع المعاش مع أب مدمن ..
1- اكتشاف العالم الخارجي غير الآمن وغير الأخلاقي مع أنثى يافعة وحيدة ليلا في محطة انتظار المسافرين ..
2- ما الذي سوف يجعل ظروف الخالة المتزوجة أفضل من ظروف الأم المتزوجة ..؟؟
3- لقد كانت الخالة خط الدفاع الثاني والدعم النفسي لها بعد الأم .. فكانت تخفف عنها
وتساعدها على قبول واقعها المرير فهل ما زال تصرف الخالة هذا يفيد في حالتها الراهنة ..؟؟
4- الرحلة إلى لقاء الخالة سوف تستغرق وقتا طويلا جدا .. قد لا ينجو الأب إن بقي بمفرده كل
هذه الفترة ..
5- وهنا انطلقت وتحت ضغط المسؤولية بأسرع ما أوتيت للعودة إلى البيت وكان هذا بلا شك
يثبت أن الهروب كان من مشكلة في نفسها أكبر من الواقع المعاش مع أب مدمن ..
العودة للمستوى الأول ..
1- دخلت المنزل بلهفة المسؤول والراعي باحثة عن الأب الذي كانت قد تركته منهارا تحت
وطأة جرعة المخدر لتطمئن عليه .. وفاجأها واقع كانت تعزل نفسها عنه داخل المنزل ..
2- واجهت هجوما لا أخلاقيا من جماعة المدمنين الذين يعاشرهم ويجالسهم الأب والذين لا
يراعون حرمة و يحملون فضيلة ولا أخلاقا بعد أن سلب المخدر إرادتهم وتسيدت عقولهم
المريضة جميع تصرفاتهم ..
3- كان الانتهاك واضحا أمام عيني الأب المخدر لحرمة ابنته التي دنستها أيدي جلسائه و
نزواتهم الدنيئة .. وبدا العجز بقمة مراحله حين ترددى أمام صرخات استنجاد الإبنة بأبيها
المخدر والعاجز تماما عن إنجادها ..
4- وهنا أصبح البيت آخر معقل يمكن أن تجد فيه الحماية أو السلام أو الطمأنينة بالنسبة لها ..
بعد أن احتله هؤلاء المدمنين وكادت أن تصبح فريستهم .. .. لتعود وتخرج هاربة من الافتراس
.. ولكن إلى أين ..
وطأة جرعة المخدر لتطمئن عليه .. وفاجأها واقع كانت تعزل نفسها عنه داخل المنزل ..
2- واجهت هجوما لا أخلاقيا من جماعة المدمنين الذين يعاشرهم ويجالسهم الأب والذين لا
يراعون حرمة و يحملون فضيلة ولا أخلاقا بعد أن سلب المخدر إرادتهم وتسيدت عقولهم
المريضة جميع تصرفاتهم ..
3- كان الانتهاك واضحا أمام عيني الأب المخدر لحرمة ابنته التي دنستها أيدي جلسائه و
نزواتهم الدنيئة .. وبدا العجز بقمة مراحله حين ترددى أمام صرخات استنجاد الإبنة بأبيها
المخدر والعاجز تماما عن إنجادها ..
4- وهنا أصبح البيت آخر معقل يمكن أن تجد فيه الحماية أو السلام أو الطمأنينة بالنسبة لها ..
بعد أن احتله هؤلاء المدمنين وكادت أن تصبح فريستهم .. .. لتعود وتخرج هاربة من الافتراس
.. ولكن إلى أين ..
المستوى العاطفي الأبعد والأكثر عمقا .. ( الجدة )
1- الجدة تمثل الجذر الأصيل في سلم الأنسباء مع أن غبار القدَم والنسيان فعل فيه فعله
2- لا بد أن تبحث عن أصل هذا الأب المدمن وتزيل الغبار عن معدنه الأصيل لكي لا تفقد الثقة
في كل مافي الحياة .. فتعود إلى جذورها الحيةالأصيلة ..
3- كانت الجدة هرمة وأثاث منزلها رثا .. ولكن كان نضيفا وقادرا على الاحتضان والحماية
وتأمين السكينة والطمأنينة والهدوء لنفس البطلة الهاربة من نفسها .. بحثا عن السلام
والسكينة .. كورقة خضراء ذابلة لم تستعد نضارتها وقوتها إلا بعد إعادة التحامها بشجرتها الأم
..
____________
2- لا بد أن تبحث عن أصل هذا الأب المدمن وتزيل الغبار عن معدنه الأصيل لكي لا تفقد الثقة
في كل مافي الحياة .. فتعود إلى جذورها الحيةالأصيلة ..
3- كانت الجدة هرمة وأثاث منزلها رثا .. ولكن كان نضيفا وقادرا على الاحتضان والحماية
وتأمين السكينة والطمأنينة والهدوء لنفس البطلة الهاربة من نفسها .. بحثا عن السلام
والسكينة .. كورقة خضراء ذابلة لم تستعد نضارتها وقوتها إلا بعد إعادة التحامها بشجرتها الأم
..
____________
الكاتبة إيمان الدرع
كانت قصتك مبدعة وخصوصا في التناول الحركي المتصاعد والمتناغم مع مستوى الحدث
وكان الرابط العاطفي محورا أساسيا تحركت وفقه الشخصية وتداعت الأحداث .. مما جعلها
تبدو سلسة وبسيطة وتلقائية في كثير من المواقف والمواضع .. وهذه حرفية بادية في العمل
كما أن القضايا الاجتماعية المتعددة التي أطلت برأسها وقد عالجها النص كانت مؤشرا إيجابيا
على تكثيف المضامين بدءا بقضايا العنف الأسري و اضطهاد المرأة ومشاكل الطلاق والزواج
الثاني ثم الإدمان .. والفساد الأخلاقي العلني .. و صلة الرحم والعقوق وإهمال الأبوين
الهرمين .. كل هذه القضايا كانت حاضرة في النص وهذا يحسب لك ..
ولا بد أن أشير إلى أن هذا النوع من الكتابة الملتزمة بقضايا المجتمع يمثل رديفا مهما في حملة التثقيف والتطوير والتقدم في مجتمعاتنا النامية ..
كانت قصتك مبدعة وخصوصا في التناول الحركي المتصاعد والمتناغم مع مستوى الحدث
وكان الرابط العاطفي محورا أساسيا تحركت وفقه الشخصية وتداعت الأحداث .. مما جعلها
تبدو سلسة وبسيطة وتلقائية في كثير من المواقف والمواضع .. وهذه حرفية بادية في العمل
كما أن القضايا الاجتماعية المتعددة التي أطلت برأسها وقد عالجها النص كانت مؤشرا إيجابيا
على تكثيف المضامين بدءا بقضايا العنف الأسري و اضطهاد المرأة ومشاكل الطلاق والزواج
الثاني ثم الإدمان .. والفساد الأخلاقي العلني .. و صلة الرحم والعقوق وإهمال الأبوين
الهرمين .. كل هذه القضايا كانت حاضرة في النص وهذا يحسب لك ..
ولا بد أن أشير إلى أن هذا النوع من الكتابة الملتزمة بقضايا المجتمع يمثل رديفا مهما في حملة التثقيف والتطوير والتقدم في مجتمعاتنا النامية ..
تحيتي وتقديري لك
تعليق