اللغة الشعرية الحديثة والواقع العيني/دراسة نقدية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد زعل السلوم
    عضو الملتقى
    • 10-10-2009
    • 2967

    اللغة الشعرية الحديثة والواقع العيني/دراسة نقدية

    اللغة الشعرية والواقع العيني:‏
    إن اللغة الشعرية ليست صورة للأشياء، أو لغة للأشياء، أو عن الأشياء بل إن اللغة الاصطلاحية ذاتها مرتبطة بصورة ذهنية لا بالشيء في الخارج. وقد ذهب دي سوسير إلى أن العلاقة الموجودة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية وليست طبيعية، فالدال منفصل عن المدلول، وهو في النهاية لا يدل إلا على ذاته. إن الدليل اللغوي اعتباطي(74). وهذا تحرير للدال بحيث يمكن للمتكلم أن يعطيه ما شاء من المدلولات. الشاعر بهذا يمكن أن يفضي على الدال مدلولات متعددة من خلال سياقات جديدة. فاللغة الشعرية هي تشكيل جديد لعناصر اللغة وليست معطى سابقاً نستعمله كما هو. إنها نظام خاص من العلاقات تكشف عن علاقة الشاعر بالعالم من حوله. وهي تعيد صياغة العالم من جديد من خلال إحساس الشاعر ورؤيته للأشياء. فاللغة الشعرية كائن خاص مستقل عن الأشياء، لأنها لا تسمى الأشياء بل هي أشياء بذاتها كما يقول سارتر(75). الشاعر يجس الكلمات وينفعل بها ويتعامل معها ككائنات حية مستقلة عن العالم، بل هي عالم الشاعر الخاص الذي يعيش فيه. الكلمات في الشعر ليست كلمات بل هي علاقات بحيث لا يمكن استبدال كلمة بأخرى، فكل كلمة مرتبطة بكل كلمة في النص. إنها بنية ولذلك تختلف عن الكلمات في الأنظمة الدلالية الأخرى التي لا تشكل بنية(76). فالمفردات في الشعر لا تدل على مرجع خارجي، إنها مرجع ذاتها. وتتحدد اللغة الشعرية من حيث أنها استخدام خاص للغة بطغيان الوظيفة الشعرية على الوظائف الأخرى. ويحدد ياكبسون الوظيفة الشعرية بأنها "تتجلى في كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة وليست مجرد بديل عن الشيء المسمى ولا كانبثاق للانفعال. وتتجلى في كون الكلمات وتركيبها ودلالتها وشكلها الخارجي والداخلي ليست مجرد أمارات مختلفة عن الواقع، بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة"(77).‏
    ويبدو تأثر أدونيس واضحاً بما قاله دي سوسير في العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول وبما قاله الشكلانيون الروس في اللغة الشعرية والبنيويون الفرنسيون أيضاً. ومن هنا يذهب إلى أن اللغة لا تقول الواقع وإنما تصورنا عن الواقع، تخيلاً ما عن الواقع، أي أنها لا تقول في النهاية إلا ذاتها(78). وتأكيد أدونيس للخيال يعني أن علاقة الشاعر باللغة غير علاقة الإنسان العادي بها. فالأول مرتبط بتصور مخيل والثاني مرتبط بالشيء في الواقع أو بصورته في ذهنه، الأول ينطلق من الذات والثاني من الموضوع. لهذا يقول: "إن اللغة الشعرية إذاً لا تعبر عن علاقة موضوعية بالأشياء، بل عن علاقة ذاتية. وهذه علاقة احتمال وتخييل. والأشياء فيها لا تنفد إلى الوعي وإنما تنفد إليه صورة احتمالية عنها. وهكذا تكون اللغة الشعرية جوهرياً لغة مجاز لا حقيقة"(79). ومن هنا فإذا كانت اللغة العادية تبتعد عن الأشياء الواقعية وترتبط بالصورة الذهنية فإن اللغة الشعرية تبتعد عن الصورة الذهنية إلى صور احتمالية شتى، هي الصورة الفنية.‏
    ويؤكد حجازي رمزية اللغة الشعرية فيذهب إلى أن "طلل الشعر القديم وناقته وفرسه وحبيبته وسحابه وسيفه وخمره وكأسه كلها رموز شعرية لا تشير في القصيدة إلى عالم غير عالم القصيدة"(80). فاللغة الشعرية لا تنسخ الواقع وإنما تعيد تشكيله فنياً من خلال رؤية خاصة للعالم. وهي لا تستخدم مفردات اللغة لما وضعت لـه، بل "تنقل المفردات من عالم المعجم إلى عالم السحر والأسطورة بالمعنى العميق الشامل حيث تصبح المفردات بذاتها كائنات"(81). ويبدو تأثر حجازي بسارتر واضحاً في اعتبار المفردات كائنات حية في الشعر وفي كون هذه الكائنات وسيلة إلى كشف العالم والنفاذ إلى جوهره(82). فالمفردات وسيلة وغاية في الشعر عند حجازي. فهي وسيلة لبناء عالم أسطوري ولكنها تصبح غاية لا تحيل إلى عالم خارجي بل بحيل إلى ذاتها. فاللغة الشعرية غير لغة الحياة اليومية لأنها رمزية لا تربط بمكان أو زمان.‏
    ونجد هذه الأفكار عند خليل حاوي والبياتي، فاللغة الشعرية عند الأول تتجاوز الواقع إلى ما فوق الواقع وما دونه لأنها لغة شاملة(83). إنها تتجاوز الظاهر إلى الباطن والمحدود إلى اللامحدود. وهي عند الثاني كائنات كما هي الحال عند سارتر تجمع عوالم ورؤى وذكريات، بل تعبر أحياناً عن أشياء لا وجود لها في هذا العالم(84). وهذا يؤكد رمزية اللغة الشعرية وعدم ارتباطها بمكان أو زمان وارتباطها بالإنسان في رحلته في هذا العالم. فالشاعر يعيش الماضي الحاضر والمستقبل ويعبر عن الكلي بهذه اللغة الكلية(85). على أن اللغة وإن لم تكن صورة للواقع العيني فهي غير منفصلة عنه لأنها أداة اجتماعية في الأساس، وإن حاول الشعر والأدب بصورة عامة استخدامها بطريقة خاصة "ذلك أن مادة الأدب (اللغة) ليست خالصة للتعبير الجمالي كالألوان والخطوط والأشكال في الفنون التشكيلية والأصوات المحضة في الموسيقى، بل الصفة الغالبة عليها هي استعمالها في أمور عملية ومعرفية"(86). فاللغة أداة يشترك فيها الأدب وغيره من العلوم التي تعتمد اللغة وسيلة، ولكنه يختلف عنها في أنه يحرر اللغة من النفعي للوصول إلى الجمالي. أمَّا الفنون الأخرى فهي تستعمل أدوات تخصها من خطوط وألوان وأشكال وأصوات وحجر، وهي مادة غفل لا تحمل بعداً اجتماعياً مسبقاً أو إيديولولجياً حتّى يحول الفنان هذه المادة إلى لوحة أو تمثل أو مقطع موسيقي. وهذا بخلاف اللغة التي هي مادة اجتماعية في الأصل يحاول الشاعر الانطلاق منها للوصول إلى الفني(87).‏
    وهذا ما يقره معظم رواد الشعر العربي الحر وبخاصة حجازي الذي يكرر دائماً أن اللغة الشعرية متصلة باللغة الاجتماعية، وأن الشاعر مهما خرج عن العام إلى الخاص يبقى مرتبطاً بالعام لأنَّه يتعامل مع لغة الآخرين. فالإبداع الشعري عنده "لغة مختلفة لكنه لغة من اللغة، فمادام الشاعر مضطراً لأنَّ يستخدم المفردات وقواعد التركيب التي يستخدمها البائع والصحفي والمتحدث فلا بد أن تحتفظ قصيدته بعناصر مشتركة بينها وبين لغة هؤلاء"(88).‏
    ولكنها في الوقت نفسه تحتفظ بخصوصية فردية من حيث أنها توظيف خاص لمفردات اللغة ضمن رؤية خاصة. فاللغة الشعرية لها جانبها لمقيد وجانبها لحر ما دامت تستعمل هذه الأداة الاجتماعية التي هي اللغة. إن حريتها "حرية مشروطة بقواعد وتراث وعبقرية خاصة في الأداء، فضلاً عن القارئ متعين أو متخيل يتجه إليه الشاعر... والعمل الشعري هو بالتحديد صراع بين هذه الطبيعة الاجتماعية في اللغة وبين طاقاتها الخفية المستورة التي هي بغية الشاعر. هذا الصراع لا ينتهي بانتصار الشاعر كاملاً لأنَّ انتصاره الكامل هو مقتله، أي خروجه تماماً من حدود اللغة، وبالتالي عزلته وموته"(89).‏
    من هنا فالإبداع الشعري هو نتيجة صراع بين الجمعي في الشاعر والفردي فيه، بين الوظيفة الشعرية وبقية الوظائف الأخرى ومحاولة السيطرة عليها في النص الشعري. ومهما طغت الوظيفة الشعرية على الوظائف الأخرى فإنها لا تستطيع تغييبها كلياً. ومن هنا فالنص الشعري إنَّما يقوم على هذه العلاقة الموجودة بين الوظائف المختلفة فيه. لهذا يقول ياكبسون: "لا يمكن للتحليل اللساني للشعر أن يقتصر على الوظيفة الشعرية، فخصوصيات الأجناس المختلفة تستلزم مساهمة الوظائف الأخرى بجانب الوظيفة الشعرية المهيمنة، وذلك في نظام هرمي متنوع"(90).‏
    لا يستطيع الشاعر أن يغسل اللغة من آثار القدامى كما يريد أدونيس. ففي الشعر شيء من النثر، بقية من لغة التواصل التي لا يمكن أن تختفي إلا باختفاء اللغة ذاتها. فاللغة الشعرية فيما يرى حجازي ليست كلها قائمة على المجاز بل فيها شيء من التقرير. ثمَّ ليس كل مجاز شعراً بالضرورة إذ قد يكون المجاز زينة خارجية ويضرب مثالاً لذلك قول ابن المعتز:‏
    انظر إليه كزورق من فضة * * * قد أثقلته حمولة من عنبر‏
    وقول الوأواء الدمشقي:‏
    فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت * * * ورداً وعضَّت على العنَّاب بالبرد(91)‏
    إن الشعر ليس مجرد انزياح أو عدول كما يذهب إلى ذلك بعض النقاد قديماً وحديثاً، إنَّما قد يكون تعبيراً خالياً من الصور ولـه تأثير في النفس. فالشعر جوهر وليس مجرد استعمال خاص للغة أو حشو الألوان البيان والبديع. فهذه بعض الوسائل التي يستعملها الشعر في تشكيل عالمه وليست الوسائل الوحيدة الممكنة. لهذا يرى حجازي أن الاستعارة ليست الوسيلة الوحيدة لتحقيق اللغة الشعرية، فالتشبيه القريب والجملة التقريرية البسيطة وسيلتان لبلوغ هذه اللغة إذا تمَّ استخدامها بإتقان عضوي(92). واللغة الشعرية بهذا تشمل المجاز وغيره ولكن بطريقة خاصة.‏
    ويذهب الحيدري إلى أن اللغة الشعرية (لغة ضمن اللغة) كما يعبر فاليري، أي لغة خاصة ضمن لغة عامة(93). فالشاعر لا يأتي بمفردات جديدة وإنما يستعمل ما يعرفه الناس بطرائق خاصة. لكل شاعر لغته المتميزة ولكنها ذات صلة بلغة الآخرين(94). فاللغة وسيلة قبل كل شيء "والوسيلة لا يمكن أن تؤدي مهمتها ما لم نستوعبها من خلال ممارسة الآخرين لها لتظل على شيء من صلة بين المبدع ورديفه في المتلقي"(95). ولكن الشاعر يستعمل هذه الوسيلة بشكل مختلف ليصل إلى الشعر، إنه يتعامل مع العام بطريقة خاصة ليحقق نظاماً لغوياً متميزاً.‏
    وإذا كان حجازي والحيدري قد ركزا على اللغة الشعرية من حيث أنها لقاء الخاص بالعام فإن أدونيس قد ركز على الخاص دون العام. فاللغة الشعرية عند كلام خاص يختلف عن اللغة العامة. حقا إن اللغة سابقة على الشاعر لكنه سابق على القصيدة، لذلك يختار كلامه بطريقته الخاصة. فإذا كانت اللغة عامة ومعروفة فالكلام إبداع غير معروف. اللغة جاهزة سلفاً لكن الكلام ليس جاهزاً لأنَّه مرتبط بالفردي لا العام. واللغة ثبات أمَّا الكلام فحركة دائمة للخروج عن القاعدة(96). إن أدونيس لا يهتم إلا بالخاص لأنَّ الشاعر يستخدم اللسان استخداماً خلاقاً فيكون الكلام الشعري ابتداءً أو ولادة جديدة من رحم اللسان(97). الكلام الشعري عنده تجاوز للثقافة السائدة والكلام السائد الموروث أيضا. لهذا يرى ما كتبه شوقي شعر استعادة من حيث أنه كلام جماعي مشترك تغيب فيه الذات. فالمتكلم ليس شوقي وإنما التقليد(98). إن اللغة الشعرية خلق وابتكار لا إعادة إنتاج المألوف أو الموروث فهي تعبير خاص عن علاقة خاصة بما في العالم من أحداث وأفكار وقضايا‏
    إن اللغة الشعرية مرتبطة بالإنسان الشاعر في علاقته بالحياة وليست مجرد خلق علاقات جديدة بين مفردات اللغة. فاللغة مرتبطة بتجربة الشاعر في الواقع عند البياتي وهو لا يستطيع أن يبدع ما لم يحط علما بشروط الحياة التي يعيشها. فاللغة الشعرية لا تقول ذاتها وإنما تقول رؤية الشاعر للحياة والواقع. إنها ليست مجرد أصوات بل هي إحساس وانفعال وفكر. فهي امتداد للشاعر ومتعدية للآخر(99). اللغة الشعرية وسيلة يكتشف بها الشاعر ما يحيد به، وقد اكتشف بها المتنبي آفاقاً جديدة للعقل، وكذلك فعل أبو نواس والمعري(100). ومن ثمَّ فهي ليست غاية في ذاتها منبتة الصلة عن معاناة الشاعر وعلاقته بالعالم.‏
    عن الدكتور فاتح علاق

يعمل...
X