الحبّ الخالد
"خالد" شاب أعزب في منتصف العشرينات يعمل مبرمج لغات حاسوب في إحدى الشركات الكبرى، طبيعة عمله تتطلّب التفكير المتواصل والتحديق طويلا في شاشة الحاسوب، تعامله مع أجهزة صمّاء دون أحاسيس جعله يجد متعة خاصّة لدى الجلوس في إحدى الحدائق العامة، قرب شقّته الصغيرة، مكتفيا بمراقبة المتنزّهين وسماع ضحكات الأطفال المجلجلة على أرجوحاتهم في السماء.
أصبح من المألوف لديه وجود زوجين عجوزين اعتادا الجلوس مقابله على مقعد مجاور. الزّوج يطعم الطيور والبطّ من كيس حبوب يحمله، أمّا زوجته الأضعف صحيّا، فكانت تضع رأسها على كتفه والاكتفاء يعلو وجهها.
ذات يوم ضوّعت الأجواء رائحة عطر منعشة ونفّاذة، فجال بعينيه باحثا عن المصدر، كانت فتاة في أوائل العشرينات، تركض خلف طفل صغير يعدو أمامها. والطفل يناديها بحبور: هيّا يا عمتي نادية إلحقيني إن استطعت. ياه ما أجملها ضحكتها
مقطوعة موسيقيّة صدّاحة تمكّنت من اختراق عالمه التأمليّ. تابعها بنظراته، تركض وثوبها الأخضر الواسع المتوائم مع لون عينيها اللامعتين، يعلو ويهبط بالهواء كاشفا ساقين متناسقتين رائعتين. شعرها الطويل الحرير يتطاير مبتعدا عن
وجهها الوضّاء. أنعشته أنوثتها، وحبورها تلاعب الطّفل الجميل أبهجه، وكأنّه ينظر إلى لوحة جميلة أبدعها الخالق سبحانه. تعوّد على حضورها اليوميّ، يرقبها من بعيد دون أن يجرؤ على الاقتراب منها أو تخريب جوّها السحريّ الخاصّ
بها وطفلها. لكنّ المرأة العجوز لم تدعها وشأنها، تبادلت معها أطراف الحديث، وهيّأت الفرصة له لإصاخة السمع جيّدا للحديث، فهم منها أنّ الطفل ابن أخيها المسافر مع زوجته في بعثة دراسيّة، ولقد تركه تحت رعايتهم إلى حين العودة،
لهذا ارتأت أن تجلبه إلى هنا يوميّا للتسلية والّلعب. غمره شعور الفرح لمجرد وجودها بالحديقة، بقي العامل المشترك بينهما هذان العجوزان صديقا الجميع من مرتادي الحديقة. على الرغم من أنّهما لم يتبادلا أية أحاديث مباشرة فيما بينهما،
إلا أنّه كان مرتاحا لوجودها القويّ الجميل، بل صار يترقّب قدومها بشوق ولهفة، يتساءل فيما إذا كانت تبادله نفس الأحاسيس نحوه.
استمرّا على نفس الوضع طيلة شهور الصيف والخريف. ثمّ قدم فصل الشتاء ببرده القارس، اختفت الفتاة ولم تعد، غيابها لم يمنعه من الحضور يوميّا، والجلوس على مقعده رغم البرد القارس، مترقّبا حضورها، آملا أن يجلبها شوقها إليه
مثلما جذبه لرؤيتها. نادما أنّه لم يحاول مصارحتها، لكن مضى فصل الشتاء دون طائل ولم تحضر.
جاء الربيع، ومازال يترقّبها لم يفقد الأمل بعد، فجأة نفذت إليه نفس رائحة العطر، فقفز قلبه جذلا، والتفت:
- نعم هاهي ذي قادمة نحوي، يا الله مالذي جرى لها؟! لماذا هي شاحبة واهنة، أكاد أرى عظامها البارزة، لقد نحل جسدها وضوى؟!
أقبلت تتهادى بمشيتها كبجعة بيضاء لكن يبدو عليها المرض. قبل أن تصل قربه ترنّحت وتمايلت دون أن تستطيع حفظ توازنها، لا يدري كيف قفز ليلتقطها قبل وقوعها مغشيا عليها. لم يشعر إلّا وهي بين يديه. حملها بسهولة أصبحت
بوزن الريشة، تعاني صعوبة تنفّّس تكاد أن تختنق.
مدّدها على المقعد الطويل راكعا قرب رأسها، وضع فمه فوق فمها يهبها من أنفاسه لعلّه يستطيع أن يعيد لها أنفاسها المقطوعة، مصرّا على إنعاشها بالفم رغم محاولاته الفاشلة، تبادر لذهنه "هذا الجسد الذي كان يتوق إلى أن يضمّه ويحتويه،"
أصبح الآن بين يديه لكنّه يكافح من أجل الحياة، وقد يفارقه بين لحظة وأخرى. الفكرة بحدّ ذاتها أرعبته مخافة فقدانه لها، استمرّ محاولا إنقاذها يمنحها قبلة الحياة، على التوالي مع الضغط على صدرها، حسبما قرأ ذات مرّة في موضوع عن
الإسعافات الأوّلية. قبل اليأس شهقت وأخذت نفسا عميقا، ثمّ فتحت عينيها لتجد نفسها بين يديه، وفمه على فمها، لمّا استعادت رشدها، بخفر وحياء أشارت عليه أن يعدّل جلوسها تطمئنه أنّها بخير. فأجلسها وجلس قربها محاولا تدفئتها بحرارة
أنفاسه والنفخ في يديها المثلجتين. بتلقائيّة ودون تفكير وضعت رأسها على كتفه لكي تستريح وتستمد من قوّته قوّتها، ومن حرارة جسده الدفء الى أوصالها المرتعشة من شدّة البرد، وكأنّ شمس الربيع غير كافية لتدفئة جسمها الواهن الضعيف.
بعد أن ارتاحت تماما وعادت إلى طبيعتها، بدأت توضّح له:
- لقد أصبت بمرض شديد ألزمني الفراش لمدة طويلة، أوشكت على الموت لكنّني تشبثت بالحياة، هل تدري أن وجهك المبتسم كان معي؟ كنت تطلّ عليّ وسط معاناتي الحمّى والحرارة العالية، تحثّني على المقاومة والبقاء. وتابعت:
لقد شفيت من أجلك، فأنا أحبّك منذ مدّة، لكنّني خجلت من مصارحتك. وأرى ضرورة أن أطلعك على شعوري لأنّ العمر قصير، أنا أدري أنّك تبادلني نفس الشعور من نظاراتك وأنت تتابعني، اليس كذلك؟
سألت وعادت إلى وجهها حيويته وقد تضرّج بحمرة الخجل، عاد للركوع في مواجهتها مقبّلا يديها، وأفصح بدوره عن مشاعر الحبّ تجاهها، وعن انتظاره لها دون أن يشعر باليأس من عودتها. ثمّ ودّعته على أمل اللقاء في اليوم التالي،
ووعدها أنّه سوف يفعل المستحيل من أجل ألّا يفترقا مرّة أخرى على مدى العمر.
رأى العجوزين قادمين صوبه مبتسميْن، في تلك الّلحظة فهم سرّ الحبّ الخالد الذي يجمعهما معا سنين طويلة. قفز من مقعده لتحيّتهما مبتسما يودّ معانقتهما، وضمّ أطفال الحديقة كلّهم إليه. ما أسعده!
تمّت مع التحيّة.
ريما ريماوي.
"خالد" شاب أعزب في منتصف العشرينات يعمل مبرمج لغات حاسوب في إحدى الشركات الكبرى، طبيعة عمله تتطلّب التفكير المتواصل والتحديق طويلا في شاشة الحاسوب، تعامله مع أجهزة صمّاء دون أحاسيس جعله يجد متعة خاصّة لدى الجلوس في إحدى الحدائق العامة، قرب شقّته الصغيرة، مكتفيا بمراقبة المتنزّهين وسماع ضحكات الأطفال المجلجلة على أرجوحاتهم في السماء.
أصبح من المألوف لديه وجود زوجين عجوزين اعتادا الجلوس مقابله على مقعد مجاور. الزّوج يطعم الطيور والبطّ من كيس حبوب يحمله، أمّا زوجته الأضعف صحيّا، فكانت تضع رأسها على كتفه والاكتفاء يعلو وجهها.
ذات يوم ضوّعت الأجواء رائحة عطر منعشة ونفّاذة، فجال بعينيه باحثا عن المصدر، كانت فتاة في أوائل العشرينات، تركض خلف طفل صغير يعدو أمامها. والطفل يناديها بحبور: هيّا يا عمتي نادية إلحقيني إن استطعت. ياه ما أجملها ضحكتها
مقطوعة موسيقيّة صدّاحة تمكّنت من اختراق عالمه التأمليّ. تابعها بنظراته، تركض وثوبها الأخضر الواسع المتوائم مع لون عينيها اللامعتين، يعلو ويهبط بالهواء كاشفا ساقين متناسقتين رائعتين. شعرها الطويل الحرير يتطاير مبتعدا عن
وجهها الوضّاء. أنعشته أنوثتها، وحبورها تلاعب الطّفل الجميل أبهجه، وكأنّه ينظر إلى لوحة جميلة أبدعها الخالق سبحانه. تعوّد على حضورها اليوميّ، يرقبها من بعيد دون أن يجرؤ على الاقتراب منها أو تخريب جوّها السحريّ الخاصّ
بها وطفلها. لكنّ المرأة العجوز لم تدعها وشأنها، تبادلت معها أطراف الحديث، وهيّأت الفرصة له لإصاخة السمع جيّدا للحديث، فهم منها أنّ الطفل ابن أخيها المسافر مع زوجته في بعثة دراسيّة، ولقد تركه تحت رعايتهم إلى حين العودة،
لهذا ارتأت أن تجلبه إلى هنا يوميّا للتسلية والّلعب. غمره شعور الفرح لمجرد وجودها بالحديقة، بقي العامل المشترك بينهما هذان العجوزان صديقا الجميع من مرتادي الحديقة. على الرغم من أنّهما لم يتبادلا أية أحاديث مباشرة فيما بينهما،
إلا أنّه كان مرتاحا لوجودها القويّ الجميل، بل صار يترقّب قدومها بشوق ولهفة، يتساءل فيما إذا كانت تبادله نفس الأحاسيس نحوه.
استمرّا على نفس الوضع طيلة شهور الصيف والخريف. ثمّ قدم فصل الشتاء ببرده القارس، اختفت الفتاة ولم تعد، غيابها لم يمنعه من الحضور يوميّا، والجلوس على مقعده رغم البرد القارس، مترقّبا حضورها، آملا أن يجلبها شوقها إليه
مثلما جذبه لرؤيتها. نادما أنّه لم يحاول مصارحتها، لكن مضى فصل الشتاء دون طائل ولم تحضر.
جاء الربيع، ومازال يترقّبها لم يفقد الأمل بعد، فجأة نفذت إليه نفس رائحة العطر، فقفز قلبه جذلا، والتفت:
- نعم هاهي ذي قادمة نحوي، يا الله مالذي جرى لها؟! لماذا هي شاحبة واهنة، أكاد أرى عظامها البارزة، لقد نحل جسدها وضوى؟!
أقبلت تتهادى بمشيتها كبجعة بيضاء لكن يبدو عليها المرض. قبل أن تصل قربه ترنّحت وتمايلت دون أن تستطيع حفظ توازنها، لا يدري كيف قفز ليلتقطها قبل وقوعها مغشيا عليها. لم يشعر إلّا وهي بين يديه. حملها بسهولة أصبحت
بوزن الريشة، تعاني صعوبة تنفّّس تكاد أن تختنق.
مدّدها على المقعد الطويل راكعا قرب رأسها، وضع فمه فوق فمها يهبها من أنفاسه لعلّه يستطيع أن يعيد لها أنفاسها المقطوعة، مصرّا على إنعاشها بالفم رغم محاولاته الفاشلة، تبادر لذهنه "هذا الجسد الذي كان يتوق إلى أن يضمّه ويحتويه،"
أصبح الآن بين يديه لكنّه يكافح من أجل الحياة، وقد يفارقه بين لحظة وأخرى. الفكرة بحدّ ذاتها أرعبته مخافة فقدانه لها، استمرّ محاولا إنقاذها يمنحها قبلة الحياة، على التوالي مع الضغط على صدرها، حسبما قرأ ذات مرّة في موضوع عن
الإسعافات الأوّلية. قبل اليأس شهقت وأخذت نفسا عميقا، ثمّ فتحت عينيها لتجد نفسها بين يديه، وفمه على فمها، لمّا استعادت رشدها، بخفر وحياء أشارت عليه أن يعدّل جلوسها تطمئنه أنّها بخير. فأجلسها وجلس قربها محاولا تدفئتها بحرارة
أنفاسه والنفخ في يديها المثلجتين. بتلقائيّة ودون تفكير وضعت رأسها على كتفه لكي تستريح وتستمد من قوّته قوّتها، ومن حرارة جسده الدفء الى أوصالها المرتعشة من شدّة البرد، وكأنّ شمس الربيع غير كافية لتدفئة جسمها الواهن الضعيف.
بعد أن ارتاحت تماما وعادت إلى طبيعتها، بدأت توضّح له:
- لقد أصبت بمرض شديد ألزمني الفراش لمدة طويلة، أوشكت على الموت لكنّني تشبثت بالحياة، هل تدري أن وجهك المبتسم كان معي؟ كنت تطلّ عليّ وسط معاناتي الحمّى والحرارة العالية، تحثّني على المقاومة والبقاء. وتابعت:
لقد شفيت من أجلك، فأنا أحبّك منذ مدّة، لكنّني خجلت من مصارحتك. وأرى ضرورة أن أطلعك على شعوري لأنّ العمر قصير، أنا أدري أنّك تبادلني نفس الشعور من نظاراتك وأنت تتابعني، اليس كذلك؟
سألت وعادت إلى وجهها حيويته وقد تضرّج بحمرة الخجل، عاد للركوع في مواجهتها مقبّلا يديها، وأفصح بدوره عن مشاعر الحبّ تجاهها، وعن انتظاره لها دون أن يشعر باليأس من عودتها. ثمّ ودّعته على أمل اللقاء في اليوم التالي،
ووعدها أنّه سوف يفعل المستحيل من أجل ألّا يفترقا مرّة أخرى على مدى العمر.
رأى العجوزين قادمين صوبه مبتسميْن، في تلك الّلحظة فهم سرّ الحبّ الخالد الذي يجمعهما معا سنين طويلة. قفز من مقعده لتحيّتهما مبتسما يودّ معانقتهما، وضمّ أطفال الحديقة كلّهم إليه. ما أسعده!
تمّت مع التحيّة.
ريما ريماوي.
تعليق