صمود امرأة؛
- لا.. لا تقل لي هذا.. ولدي حبيبي، هل حقا هنت عليك وغادرتني؟
وجّهت حديثها إلى أخيها وبعض الأقارب:
- ابن بطني الذي حملته حزنا على حزن، وادخرته بهجة لأيامي القادمه وسلوى
أحزاني الدفينه، أحزان الفقد التي ما أخطأت دربي يوما؛ أمّي يوم مولدي، أبوه الذي لم
أهنأ معه وقضى شابا قبل أن يعلم بحملي لابنه. والآن فقدت أملي الوحيد الباقي... آه يا
يا حبيبي لمن تركتني؟!
صمتت هنيهات وقالت:
- أخي انصرفوا عنّي إن تكرّمتم، سأبقى في غرفتي بمفردي إلى حين.
كانت الصدمة قوية فبكت وأبكت، عازلة نفسها عن الجميع تجترّ ذكرى باسل.. صوره
تترى صغيرا مع صديقه أحمد ابن الجيران الذي يقاربه في العمر، وكانا يلعبان
ويمضيان أوقاتهما معا، ودخلا المدرسة في صفّ واحد، حين كبرا التحقا بنفس
الجامعة لكن درسا في كليتين مختلفتين. وكان شابا مرضيّا هادئا يقدّر تضحيات أمّه
الجليلة من أجله وأنّها لم تتزوّج رغم جمالها وكثرة طلّبات الزّواج. لكنّها فضّلت البقاء
مع ولدها وتربيته، بأطباعه كان عكس أحمد المتمرّد المتهوّر الجريء ولا يهاب شيئا.
لم ينصع باسل لرغبتها في عدم الانضمام إلى أحمد القائد حين شبّت الثورة ضد الحاكم
الجائر، وأدّى به حماسه إلى أن يتصدّى لإحدى المدرعات المصفّّحة واقفا أمامها
بجسده الطريّ، فدعسته وأسلم الروح مباشرة. نقلوا الخبر إلى أمه فلم تحتمل واستمرّت
بالأنين والعويل، ثمّ صمتت مقرّرة اعتزال الحياة.
اعتكفت في غرفتها تدعو أن يضمّها الموت إليه، فما جدوى الحياة بعد أن فقدت أحبّتها،
ولم تعد تتناول الطعام إلاّ بعد أيّام ما يقيم أودها.
إلى حين جاء أحمد عندهم طالبا رؤيتها، وركع عند قدميها يقبّل يديها، يواسيها
ويحادثها بصوت هادئ عذب:
- تأكدي يا أمّي أنني أفتقد أخي وصديقي مثلك تماما، لكن عزاءنا أنه صار خالدا مع
الشهداء والأبرار. لن أتخلّى عنك أبدا طلباتك منّي أوامر.
ثم استأذن أن تسمح له عرض شريط مشاهد حقيقيّة للمظاهرات القائمة ضد الاضّطهاد
والفقر والتعسف.
وافقت على مضض لكنها أطرقت برأسها، ثم بدأت تتابعه حين سمعت المتظاهرين
يردّدون اسم باسل ابنها، حاملين صوره في مواجهة المدرّعة في لحظاته الأخيرة. وفي
صورة أخرى طفلا يضجّ حياة وسعادة.
تدريجيا بدأت أساريرها تنفرج، والغشاوة من أمام عينيها تنقشع، تهتف في قرارة
نفسها: " أوّاه يا بنيّ، أثبتّ شجاعتك للجميع، وأصبحت رمز الثورة والتحدّي. "
طلبت من أحمد المغادرة على أن يعود بعد قليل بغية مرافقته. قامت فاغتسلت وقضت
صلواتها. ثمّ ارتدت جلبابها، ورافقت أحمد إلى الميدان.
حملت مثل الباقين صورة ابنها، تهتف بصوت تقشعرّ له الأبدان:
- بالروح بالدم نفديك يا باسل، أنا أم الشهيد فهلّلوا معي وكبروا، الله أكبر.
تحمّس الجمهور، يردّد بصوت يهزّ المكان:
-لا اله إلا الله، الله أكبر، باسل، باسل بالروح بالدم نفديك يا شهيد..
لقد استيقظت أم باسل من غيبوبة طويلة عاشتها منذ وفاة زوجها.
تعليق