القراءة التأويلية وقصدية النّص
توطـئة
توطـئة
لاشك أنّ الكاتب ـ أي كاتب ـ حين يكتب نصّه، لا يكتب من فراغ، بل ينهل من ركام كبير من النصوص التي قرأها واختزنتها ثقافته، وتمتلئ بها ذاكرته، وعندما يباشر النّاص فعل الكتابة، فإنه يتناص مع مخزونه الثقافي، وتحضر تلك النصوص المقروءة سابقا عن زمن الكتابة لحظة الكتابة، وتتزاحم على فكره، تحضر وتمارس حضورها وتأثيرها، وقد يكون تأثير بعضها طاغيا مهيمنا، ولا فكاك للكاتب منها ومن حضورها، رغم أن تلك المؤثرات النصية، بعضها سابق للفعل الإبداعي، وبعضها الآخر مرافق لمرحلة مخاض النص، إلا أن الثابت في كل هذا أن كل تلك النصوص تمارس التأثير وتلقي به كالكابوس الذي يسيطر على ذهن الكتاب، كما عبر عن ذلك كارل ماركس، فلا يستطيع الفكاك من تسلطها، ولا يمكنه الإدعاء أنه ابتعد عنها، بل هي حاضرة مهيمنة بطريقة ما، بأنساقها، بتعابيرها، بأسلبتها، بحقولها المعرفية والدلالية، ومن هنا يحق لنا القول أن وجود مادة إبداعية خالصة جديدة غير مسبوقة ضرب من ضروب الخيال، ومن هنا أيضا يجد القارئ الذي يواجه النّص هديرا من الدلالات، تختلف باختلاف القرّاء، ويختلف القرّاء في توليدها والاهتداء إليها، لأن القراء ليسوا سواءً في أدواتهم التي يواجهون بها المقروء، فمن يواجه نصًّا بترسانة محكمة من النصوص السابقة ـ التي قرأها ـ ليس كمن يقرأ لأول وهلة، دون رصيد نصيّ سابق، ومن هو متمكن ضليع ليس كمن هو مبتدئ هاو، ومن هو ناقد حصيف ليس كمن هو قارئ منتق ذواق، والكاتب حين يكتب النّص، تكون له رؤيته، ويكون له هدفه، ويسجل في النّص موقفه ورأيه برؤيته الخاصة التي تؤطرعمله، ومن هنا، يحق لنا التساؤل، أليس للكاتب مقصدية؟ أليس هو من يحق له حصر دلالة النص لأنه منتجه؟ ولو سلمنا بشرعية هذه الأسئلة سنكون قد قتلنا الإبداع وقضينا على النصوص بموت أصاحبها، وإن سلمنا جدلا بصدقية ذلك، فمَنْ للنص بعد موت صاحبه؟ ومَنْ للأعمال الكبيرة بعد رحيل منتجيها؟ فهل يقبل العقل أن تطمس لوحات بيكاسو مثلاً، لأن صاحبها غادرنا، وهو فقط من يعرف قصديتها، لأنه راسمها وحامل ريشتها، وإن تركنا القصدية في النص أو في الأثر الإبداعي منه تبدأ وإليه تعود وتنتهي، فهل نقبل تعدد التأويلات والقراءات وتعدد الدلالات من النص الواحد، بين قارئ وآخر؟ وهل تنتهي الدلالات والقراء كثر يتعددون جيلا بعد جيل، ولكل جيل ثقافته، وأدواته القرائية/النقدية، فهل القصدية المعتبرة هي للنص؟ أم للقراء؟ أم للمؤلف مولّد النص ومنتجه؟
إن الكاتب حين يكتب نصه، لا يكتب عبثا، ولا يكتب عابثاً، بل هو يصُّفُ الجمل ويرقب تراكيبها وتراكيب كلماتها، ويحرص على قواعدها اللغوية والتعبيرية، فلا يفعل هذا هدراً ومضيعة، إنما هو يريد إرسال رسالة محددة، يخاطب أناسا محددين، يريد أن يقول قولا يراه ملائما، أو يعتقد أنه حق، أو أنه جميل ونافع وغيرها، غير أن المكتوب ينفصل عن مؤلِّفه/كاتبه لحظة ميلاده، مثله في هذا مثل اللوحة التشكيلية، هاته التي وإن نسبت إلى فنان أنتجها إلا أنها تبقى هي من يمارس التأثير في الناظرين/المتلقين، وليس ذلك الفنان، الذي لن يبقى حيًّا دائما، وليس بإمكانه البقاء أمام لوحته يوجّه ويفسر ويشرح للمتابعين طول الوقت، والوقت يختلف بين المنتج قصيرالوقت وبين القارئ الذي يتجدد جيلا بعد جيل، بل أجيالا بعد أجيال، إذا يمرّ الفنّان والنّاص والمبدع ويبقى النّص، يبقى النّص يمارس فتنته، يغري، يمتِع، يمتِّع، يفتن، يمارس كل صنوف الغواية، يجلب إليه القراء كل حين، فثمة ما يعيق قصدية النّاص/المبدع في الاستمرار، بينما لا شيء هناك يعيق قصدية النص وقصدية القارئ، لأنهما الباقيان، أما المنتجون/المبدعون فليس في وسعهم إن ارتحلوا عنا العودة من العالم الآخر لتنوير الأحياء من القراء بمقصديتهم من النصوص التي أنتجوها، فثمة قراء لهم حريتهم الكاملة في قراءة النص على النحو الذي يشاؤون، يؤولون قصدية هذا النّص/المقروء وفق معطيات ثقافتهم الخاصة، والتي هي ليست بالضرورة ثقافة الكاتب، ولا ثقافة عصر الكاتب، ووفق معطيات النص المقروء ضمن الأسيقة التي تفرض على النص، أو يفترضها القارئ، أو هي الشروط الموضوعية التي أحاطت بميلاد النص كالأسيقة الاجتماعية والتاريخية والأيديولوجية وغيرها، وسواء كانت أسيقة لميلاد النص، أو أسيقة لميلاد فعل القراءة الواعي.
هذه مجموعة أسئلة، سنحاول مقاربتها في إشكالية قوامها:
التأويلية وقصدية النص
آملين أن يسعفنا الوقت في إتمامها
تحياتي
يتبع في القريب
تعليق