سليمى والفراشات لا تغضب
قالت سليمى :
لا تبحث حبيبي عن هدايا العيد
فكل الهدايا أنا
وأنا وحدي الدليل .
وهذه أنت هنا هدية الجمال وحرفك هنا الدليل.
لم تكن رحلة عادية تلك التي عشتها هنا ، ولم يكن سهلا علي عبورها ، وزادي قليل ووجلي منها كبير لأنني أنطلق من ذوق خاص وقراءة ذاتية وهواية تدفعني لنبش ما وراء الحرف وتفكيك الصور .
فعذرا من أرباب النقد إن تطفلت على صنعتهم .
فعذرا من أرباب النقد إن تطفلت على صنعتهم .
كانت دعوةً من فراشة هذا الحرف لأطير في حديقتها وها أنا فيها كطفل حديث الخطو يتعرف على الأشياء ، فعذرا إن لم تبلغ قراءتي جمال ما قرأتُ في هذا النص .
نص يأخذك منذ العنوان وحتى النهاية في حكاية فراشة انتصرت على الألم .
فراشة عنيدة وإن أثخنتها الطعنات وأحرقت منديل عصفورها بما تساقط عليه من دموعها . فراشة أخذتنا معها إلى حيث القصيدة والحكاية ، إلى حديقة تثور فيها الريح ويتسرب البرد ويعلو الغبار ، فتضحك وتصب نفسها على سلم الموسيقى .....
معها سأبحر اليوم ومع :
بداية وقوفي كانت هنا وكان العنوان !!
الفراشة رمز الرقة ، والحرية ، والانطلاق ، رمز الجمال ، والربيع ، جاءت لتقول لنا هنا نص يمتد في تفاصيل الربيع ، بدأته قائلة :
تجوب في غربةٍ تفاصيل القصيدة،
النقاط في مكانها...الفواصلُ كعادتها تجعل لها متنفّسا بين الكلمات..
أرهقها قليلا احتباس الأمنيات، فتسرّب لها البردُ من مكمن في حديقة اعتبترها الجنّة الصغيرة .
فجاءت البداية تمسك بيد خيالك لتقول له جهز نفسك للرحلة .
ثلاث كلمات عليك السير باحثا عنها :
تجوب ، غربة ، قصيدة
فـ [ تجوب]
فعل يستمر معه الحدث في الحاضر وينطلق بك إلى المستقبل ليقول لك إنك هنا في رحلة مع الحكاية .....
لم يكن فعلا ماضيا ليقرر أمام خيالك انتهاءً لحدث ولا فعلَ أمر ليطلب منك البداية قسرا إلى الحدث ، هو فعل ينساب معك يأخذك برفق والفراشة تدعوك إليها من خلال أسلوب القص والحكاية ، وهو الأسلوب الذي أراها تأخذ فيه منحى جديدا يبهرنا فيه تواصل خيط القص منذ لحظة العنوان وحتى النهاية ، هذه النهاية التي جاءت بقفلة صادمة بهية رائعة .
ولنبدأ معها الحكاية حين ينساب بنا الفعل [ تجوب ] شاحذا خيالنا مهيئا إيانا لنجوب معها في مسافات رحلة هذه المشاعر التي عزفتها على أنغام تَردُّدِ جناحِ فراشة .
والقصة كما قلت تعطينا عناصرها بثلاث كلمات ، تجوب ، وهو الدعوة إلى الرحلة ، غربة ، وهو العقدة التي سيدور حولها خيط القص وتأخذنا الشاعرة فيها إلى تفاصيل غربة وألم ترسمه لنا من خلال العنصر الثالث وهو القصيدة التي سيكون رمزها ذلك العصفور الشاعر والذي سيلفها في منديله ويكون عنده هو سر الأمل.
فهاهي
تجوب في غربةٍ تفاصيل القصيدة،
لتجد الصمت والثبات والجمود
فـ
النقاط في مكانها...
الفواصلُ كعادتها تجعل لها متنفّساً بين الكلمات
جملتان اسميتان ترسمان لك حقيقة المشهد وتعطيك صدمة الموقف .
فالنقاط في مكانها ، لا تسمح بالكلام . تقف أمام عينيها سدا لا يسمح لها بالتجاوز ، والفواصل بين الجمل تقف
[ كعادتها ] تترك فسحة بين المشاعر لتنطلق بين الكلمات ، وقد جاءت هنا كلمة [ كعادتها ]
لتضيف بعدا معنويا كبيرا يوحي بمزيد من اصطفاف الرتابة في نفسها وبرودة المشهد الذي يهبها كثيرا من الإرهاق ،
[ كعادتها ] تترك فسحة بين المشاعر لتنطلق بين الكلمات ، وقد جاءت هنا كلمة [ كعادتها ]
لتضيف بعدا معنويا كبيرا يوحي بمزيد من اصطفاف الرتابة في نفسها وبرودة المشهد الذي يهبها كثيرا من الإرهاق ،
وتدخل بك إلى عالمها الداخلي وما ألقاه هذا السكون عليها لتقول :
أرهقها [ قليلا ] احتباس الأمنيات
وهذا الإرهاق وإن كان قليلا إلا أنه سمح للبرد أن يتسرب إليها من [ مكمن في الحديقة ]
أرهقها قليلا احتباس الأمنيات، فتسرّب لها البردُ من مكمن في حديقة اعتبترها الجنّة الصغيرة
يخيل إلي أن كل حرف هنا وُظف توظيفا رائعا في هذه القصة ـ وأُصر على أنها قصة برغم اختيار الكاتبة للخاطرة مكانا لها ـ ، حتى حروف الربط المستخدمة هنا من حروف العطف والجر لم تكن عبثية الحضور .
فالبرد لم يتسرب من الحديقة ، بل من مكْمنٍ فيها ، شيء ما في هذه الحديقة سرب البرد بدايةً إليها ولا ننسى أن هذه الحديقة هي ما تراه جنتها الصغيرة .
الليلة أُعْلِنَ على الشريط الملوّن، أعراس اللغة.
شعرتْ بانّها تريد الغناء.... عفواً، عزف صوتها. جهّزت شهوتها، واحصت بصمت مريحٍ عدد الدمعات التي بلّلت غيوم غرفتها وهي تجهّزُ الفلك لتبحر في حفنة ماء بين يديه
نقلة خفيفة تضيء لنا امتداد الحدث في ذهنها حين أخذتنا إلى عالم الحلم الذي صدمه سكون الفواصل ورتابة المكان .
هاهي تعلن عن ذلك الحدث الذي جهزت له شهوتها وصوتها للغناء في عرسه وحلمت لأجله بالإبحار في حفنة ماء بين يديه .
حقيقةً ، أذهلني هذا التصوير ، كيف تبحر في حفنة ماء ؟!! وليس أي حفنة ، بل بين يديه ، وهل تكفي الحفنة للإبحار ؟؟ وما أروع حميمية المشهد حين يكون بين يديه .
حلم يراودها ، تجهز له صوتها ليصدح بالغناء وتشاركه الحدث
الليلُ هنا بلون النبيذ...والانتظار مرهق، يحفرُ ثورته في الغبطة المُرّة.
تواصلت مع قارئها بسحبه برفق إلى حيث هي من الداخل ،
ومن خلال جمل متلاحقة التصوير زرعت كمّا كبيرا من الألم الذي أجبرتنا على مشاركتها فيه بلذة .
الليل بلون النبيذ
الانتظار مرهق
يحفر ثورته في الغبطة المرة
صور متلاحقة وظفت فيها كل كلمة توظيفا رائعا ، لا زيادة في ولا نقصان ، مفردات جيء بها بقدر حتى عندما صورت ذلك الانتظار وهبته صورة خارج نطاق الوقت ومفرداته ، بل جاءت بمفردات توحي إيحاء أعمق بأثر الانتظار في نفسها حين صوّرتْه يحفر ثورةً في الغبطةِ المرة ، ففِعْل يحفر بحد ذاته يهبك القسوة والتعب ومواصلة الحدث ، ولكنه لا يحفر شيئا عاديا بل يحفر ثورة ، صورة مركبة غاية في الجمال والقدرة على إيصال المعنى لقسوة مرور الوقت الذي حرمها غبطتها وسعادتها المكسوة بالمرار ، صورة فوق صورة وروعة تقودك إلى أخرى .
ظلّت تتشمّس في نفسها، فراشة ضاحكة تعرك حيرتها من صلصال القصيدة ثم تعجنها بالندى والمطر والعسل الفذ، فتصعد منها بين الفينة والأخرى تنهيدة مليئة بالحمام وهي تصبّ صوتها على سلّم الموسيقى.
وهنا يأتيك الحدث رهوا ، ينتقل المشهد وبسلاسة جميلة إلى حركاتها الخارجية بعد أن دخلنا معها عالم الشعور ؛ فهاهي من الخارج ضاحكة متماسكة تعرك حيرتها من صلصال القصيدة ،
وتأتيك هذه اللفظة المدهشة واللقطة المتفردة في قولها
[ تعرك حيرتها من صلصال القصيدة ]
[ تعرك حيرتها من صلصال القصيدة ]
كيف جاهدت نفسها كيف قاومت حيرتها كيف جعلت من هذه الصورة في عرْكِ الحيرة والصلصال ومضةً ترينا حركة المقاومة ، الفعل ورد الفعل والقدرة على التشكيل كما يشكل الصلصال .
ولا ننسى الضحكة التي تعلو المحيا وكأنها رمز للأمل الذي تسعى به طرد شبح الخيبة المرة .
فهاهي تتشمس في نفسها فراشة ضاحكة .
ولا ننسى الضحكة التي تعلو المحيا وكأنها رمز للأمل الذي تسعى به طرد شبح الخيبة المرة .
فهاهي تتشمس في نفسها فراشة ضاحكة .
***
وها أنا معها كلما حاولت المضي إلى فقرة وجدت ما قبلها يشدني إليه يعاتبني على عدم المرور عليه .
***
كيف جمعَت هنا بين خلقِ الفرح ورسمِ الصورة للقلق ؟؟ !!
هل تسمعها الحديقة يا ترى؟؟
تسال نفسها فجاة ثم تطرق لتداعب اجنحتها الملوّنة
سؤال فيه من الأمل الكثير والرغبة الكثير والقلق الكثير ، تقف عند شرفة الانتظار غير عابئة بالبرد المتسرّب إليها من بين شقوق أرض ،
تريد أن ترى السماء
يأتيك هذا السؤال ليربط بين عالمين عالم الشعور في الداخل وهذه الوقفة المتأملة للخارج ،
لتدخل عالم الأمل أكثر وتربطنا بذلك البرد الذي تسرب إليها في بداية المشهد لتعلن هنا موقفها منه ، إنها غير عابئة بتسربه ،
فهذا البرد موطنه الأرض أما هي فتريد أن ترى السماء .
يا الله ، رحلة رائعة راقية بين مجاهل اليأس والأمل وقدرة بهية من الكاتب أن يأخذك بسلاسة ونشوة إلى عالمه .
واصلت الفراشة عشقها بصمت، بعدما اكتشفت أن الحديقة باردة جدّاً جدّاً وقد تهاطل الغيم وتصاعد صرير الرماد.
داهمتها ريح عارية وطيور عجاف، فأصبح المدى جثثاً بيضاء
طافت بذات القصيدة.
لمحت في البعد لذّة العشق تطير على جناح اللحظة الهاربة.
نادت صوتها الهارب هو أيضاً منها خلف القصيدة، فضاع في الريح وازداد الغبار اتّساعاً....
هناك في الطرف الآخر من مكان الاحتفال، الحديقة
تصعد منها قسوة غريبة مبطّنة بطبقات سميكة من
اللاّمبالاة ، والفراشة تفكّ ضفائرها بالزغاريد لأجراس الغيوم.
ما أروع الريح تدخل مناطق الهدوء في ذاتها..
لم أستطع هنا أن أقتلع مقطعا أو أتصرف بمشهد ، هنا تأتيك عقدة القصة تتوالى بمشاهد سريعة متلاحقة .
فهاهي بين برد يشتد ومواصلة بصمت أمام هذا البرد أصبحت تراه على حقيقته شديدا
بل داهمتها معه الغيوم والريح واتسع الغبار ومع ذلك نجدها تفك ضفائرها بالزغاريد لأجراس الغيوم ،
كيف اهتدت الكاتبة لهذه الصورة ؟؟
كيف تفك الفراشة ضفائرها ؟؟ صورة أخرى تحمل جمال الاستعارة والتخييل فلم يكن فكها عاديا بل بالزغاريد ، كيف يكون للصوت يد تفك الضفائر وكيف يكون للغيوم أجراس .
إصرار رائع على الفرح ، تماسك نعجب له حين يكون من فراشة !
ولن نعجب ، لن نستغرب كل هذه القوة وهذا الأمل حين نقرأ :
فهاهي بين برد يشتد ومواصلة بصمت أمام هذا البرد أصبحت تراه على حقيقته شديدا
بل داهمتها معه الغيوم والريح واتسع الغبار ومع ذلك نجدها تفك ضفائرها بالزغاريد لأجراس الغيوم ،
كيف اهتدت الكاتبة لهذه الصورة ؟؟
كيف تفك الفراشة ضفائرها ؟؟ صورة أخرى تحمل جمال الاستعارة والتخييل فلم يكن فكها عاديا بل بالزغاريد ، كيف يكون للصوت يد تفك الضفائر وكيف يكون للغيوم أجراس .
إصرار رائع على الفرح ، تماسك نعجب له حين يكون من فراشة !
ولن نعجب ، لن نستغرب كل هذه القوة وهذا الأمل حين نقرأ :
ما أروع الريح تدخل مناطق الهدوء في ذاتها..
نعم فهاهي الريح تدخل مناطق السكون في ذاتها ، رائع هذا الانتصار وهذا الهدوء والذي سنجد سببه الآن :
قد تهتدي كلّ القصائد إلى صوتها، قد يتلعثم الشاعر حين يكبر في السّفر عبر صوتها....
هي الفراشة إذن، تهوي على كفّ الحرف لولا عصفور إكتمل في المشهد الأخير لعرس الكلمات.
استدلّ بقلبه عليها ، كان هناك يعزف لحنه الفضيّ.....
هناك على خزائن الجمان
طارت إليه فالتقيا عند نقطة القصيدة.
مدّ لها منديله فثقبته دموعها وجسدها الرقيق حاضن حفل الطعنات
إنه العصفور ، الذي اهتدى إليها ، فطارت إليه ليلتقيا عند نقطة القصيدة ،
شاعر يحتضن في كفه شاعرة ، هاهي الآن تبحر في حفنة ماء بين يديه استدل عليها بقلبه مد لها منديله الذي لم يحتمل لرقته هو الآخر حرارة دمعها والألم وقسوة مشهد جسدها المثقل بالطعنات ،
مشهد درامي رائع لم يكن لتتم له الروعة عند التقاء هذه الفراشة بذلك العصفور وهي بين يدي منديله وقد ثقبت حرارة دمعها المنديل ، لم تكن لينتصر الجمال هنا لولا تلك الدهشة التي عقلت لسان القارئ حين انتصر الأمل ، وهمس بأذنها قائلا :
الفراشات لا تغضب .
ما أروع هذا اللقاء ، وهذا الحنان ، وهذه المواساة وطرد كل آثار الألم لتبقى فراشة محلقة في سماء الأمل والجمال.
الفراشات لا تغضب .
ما أروع هذا اللقاء ، وهذا الحنان ، وهذه المواساة وطرد كل آثار الألم لتبقى فراشة محلقة في سماء الأمل والجمال.
رائع أيتها الراقية وأكثر .
ولن أجد بعد ذلك ما أضيف .
ولن أجد بعد ذلك ما أضيف .
وإن كان هناك الكثير الكثير ، والذي يعجز عنه مداي .
تحياتي وكل الود .
تعليق