ليل فارغ.....الشاعر محمد ثلجي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • منجية بن صالح
    عضو الملتقى
    • 03-11-2009
    • 2119

    ليل فارغ.....الشاعر محمد ثلجي

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

    ليــــــــــــــــــــــــلٌ فــــــــــــــــــــــــارغ

    إلى روح أمــــــــــــــــــــــي الطاهــــــــــــــــــــــرة
    الشاعــــــــــــــــر محمــــــــــد ثلجـــــــــــــــي

    تَحنُّ إليك يا أمّي الفصولُ
    وليلٌ فارغٌ وصدىً قليلُ

    وأوقات قضيناها سوياً
    نجرِّبُ أن نقولَ فلا نقولُ

    نظلُ على التباسٍ كيفَ أنّا
    تشَرّبْنا الحنينَ إذا يسيلُ

    هنالك ثَمّ من يخفي دموعاً
    وآخرَ في مواجعه يجولُ

    على ريب المنون رضيت فيما
    قضتْ ، لكأنَّه الريبُ الجميلُ

    وبتُّ مسهّداً أروي لنفسي
    حكاياتٍ يراودها الذبولُ

    مع الذكرى وفي قلقٍ غريبٍ
    أراقبُ كيف ينكمشُ الأصيلُ

    كأنَّ ليَ اعترافاً حين مرََّت
    وأُتْربَ وجهها الغضُّ العليلُ

    فذرني يا حبيبي إن دمعي
    على ما فيه من هطلٍ بخيلُ

    أعود لغرفتي وسياج صمتٍ
    وجدرانٍ يحفُّهما أفولُ

    كأنَّ وجيبَ صورتها تداعى
    ولوَّحَهُ الترنُّحُ والخمولُ

    أودِّعها وأشرقُ في حنينٍ
    إلى تسعٍ وأيامٍ تطولُ

    أودِّعها وفي صمتٍ أواري
    دموع العين من لبْسٍ يحولُ

    أيمكن أن تموت الأم يوماً
    ويحيا بعدها الأملُ الظليلُ

    وهل تصفو الحياة بقلبِ طفلٍ
    يتيم الأمّ يقتله الفضولُ

    لحضنٍ دافئٍ ويد حنونٍ
    وعبرتها إذا حان الرحيلُ

    سلاماً كنت من قبلٍ وبعدٍ
    كأنك قرصُ شمسٍ لا تزولُ

    وبدرٍ في عناقٍ مستمرٍ
    لليل الحالمينَ إذا يطولُ

    سلاماً كنت في أوج اغترابٍ
    تغصّ به الحنايا والطلول

    وكنت حبيبة في كلَّ يومٍ
    وكل مدينةٍ معها أميلُ
    يتبع
  • منجية بن صالح
    عضو الملتقى
    • 03-11-2009
    • 2119

    #2
    قــــــــــــراءة منجيـــــــــــــة بن صــــــــــالح

    لقصيـــــــــــــــــــــدة
    ليــــــــــــــــــــــلٌ فــــــــــــــــارغ

    الشــــــــاعر محمــــــــد ثلجـــــــــي

    تَأخذنا الحياة في طَياتها لنعيش مُفرداتها المُزدحمة طِوال أيام و ليالي ,لا ننتبه أنها تمر بنا كقطار مسافر, لا يعرف التَّوقف, نألف المَشاهد التي نمر بها و نَنسى تفاصيلها بمرور الوقت, لنكون كمتصوف يُنجز رقصة الوجود ليس له وعي به و لا هو مُدرك مفرداته التي يَلُفها الغيب.
    هكذا هي حياتنا رَقصة نقوم فيها بحركات تَستجيب لحياتنا اليومية فإذا بها تُشبه رَكض فَارس في صحراء خَيال لا يَدري لماذا يَركض و لا إلى أين هو ذاهب.... وَعْيه يقول له كلما أسرعت كلما وصلت إلى مُبتغاك في وقت وجيز... ما هو مبتغاه ؟ و ما هو هدفه المنشود ؟ لا أحد يعرف سوى أننا لا نتوقف عن الدوران على أرض الزمان و التاريخ نتواجد في محيط نألفه لننتبه بعد مدة أن تفاصيله تتغير في كل لحظة ليكون المَشهد غيره و الناس أُخر و الفِكر آخر....


    هل ما زلنا كما كنا أم أننا تَغيرنا ؟ هناك من يعترف بهذا التغيير و هُناك من يَتشبث بقديمه ليُصبح كَأَهل كهف يَتقلبون في نَومهم دون أن تتغير مَلامحهم و لا أفكارهم .هي الحياة تُقلبنا كما تشاء و كما يشاء المحيط الذي يَحتوينا بثقافته و فكره, نتشبه به و نتعامل مع مفرداته, لنستطيع التَّعايش معه حتى لا تَحتوينا الغربة و لا تُرهقنا الحِيرة .
    الانصِهار في المُحيط العائلي و الاجتماعي يُفقدنا الوعي بوجودنا الشَّخصي لنتكيف مع المَجموعة و نَتبنى مُفرداتها, أفكارها و نَمط حَياتها الاجتماعي و الفِكري ,هذا المَنطق يُخفف عنا وِزر الحياة و لا يَجعلنا نُفكر في مَسائل أعمق تتعلق بوجود الإنسان... مَاهيته؟ رِسالته؟ لماذا خُلق و إلى أين هو ذَاهب ؟ ما جدوى كل ما يقوم به في حياته؟ هي أسئلة تُجهض كل أعمالنا إذا نحن فَكرنا فيها بعمق و تَنْحَى بنا مَنْحى آخر ,يمكن أن يبعدنا عن الواقع لأن اهتماماتنا سوف تكون أُخرى يتغير مَنطق الأشياء و التَفكير لنخرج عن المألوف نعيش الغُربة و الحِيرة التي تُرهق الإنسان فتَسكنه العُزلة والحُزن...

    كل الأسئلة ذات الطابع الوجودي, يَشعر الإنسان نحوها بالرهبة, لا يقترب منها و لا يفكر فيها بِجدية, و كَأنه يخاف من مَجهول أو لعلها تذكرنا بموت, نريد أن نتناسى وجوده رغم أنه يعيش معنا و فينا و ينتظر لحظة الإفصاح عن نفسه .ليُذكرنا أنه حَق, نَصطدم به عندما نفقد عزيزا , لنتوقف عن رقصة الأيام ,التي أخذتنا في طواف أسكرنا, أَفْقدنا في كثير من الأحيان الوعي بمعنى الحياة و الموت... نتوقف و نطرق بابه لعله يفتح و يعيد لنا ما أُخذ منا ,عزيزا ترك مكانه و كأنه لم يَكُن أخَذ زَمانه و تَاريخه و راح بدون رِجعة و تَبقَى للذكريات صورة , للصَوت نَبرة و للجَسد عِطر يفوح في أَرجاء المكان, لتكون الذكرى حبيبة إلى النفس, لا تفارقنا رغم الحزن , ودمعة تترقرق لتروي عطش الأرض لِحَنان حبيبة أو أم, يبكي القلب في صَمت ليتواصل الدمع مع بحر حُزن هو نفسه بحر حُب مُترامي الأطراف, تَحملنا أمواجه كَمَركب لا يعرف وجهته , بل يسير بمشيئة الخَالق و قدره, لِنَسأَلَ النَّفس عن سِرِّ الوُجود , الحياة , الموت , الحُب , الحُزن و السَّعادة, مُفردات عَرفناها في كَنف عَائلة و في حضن أُمّ ,عَلمتنا أَرْحامُها كَيف يَنبِضُ القَلب حُبا, و كيف يكون للحياة مَذَاق و للعُمر أيَّام سعادة و لَيَالي فَراغ , تَكتبها الكَلمة أو بالأَحْرى تَرسُم مَلامِحها لنَعِيشَها, نَحتار أمَامَها و لا يُجيبنا السُّؤال أو بالأحْرى يَكون الجَواب في ثَنايا السُّؤال لأَقُول هَل يُمكِن أن يَكون اللَّيل فَارغا ؟ هل تَستطيع الكَلمة أن تَكتب عن الفَراغ ؟
    تُجِيب عن هذه الأسئلة و أُخرى, قَصيدة للشَّاعر القدير محمد ثلجي, وهي بعنوان "ليل فارغ" ,نَسجتها القَوافي , لتكون هَديّة ودَاع لغِياب و حُضور أمّ, فارقت الحَياة بِجَسدها لكنها لم تُفارق أحَبَّ النَّاس ,لأنه قطعة منها اختزل فيه كيانها المَادي ,المعنوي و الفِكري, ليكون الابْن المُحِب و البَار , يفترش الشَّوق و يلتَحف بحُزن يُذكيه فَقْد إلى دِفء مَشاعر حُب و حَنان تَخَلَّق فيها ليتخَلَّق بها و يَحتضِنَها وِجْدانه.... و يقول الشَّاعر:

    تَحنُّ إليك يا أمّي الفصولُ
    وليلٌ فارغٌ وصدىً قليلُ
    وأوقات قضيناها سوياً
    نجرِّبُ أن نقولَ فلا نقولُ
    نظلُّ على التباسٍ كيفَ أنّا
    تشَرّبْنا الحنينَ إذا يسيلُ

    للشاعر فُصُول تَحن إلى حُضور غَاب عنه, و كأن حَاله المُتقلِّب هو نفسه تقلب فُصول السَّنة تَواصُل رَائع يَرسُمُه الشَّاعر على أرض القٌصيدة ليكون الزَّمن و الإنسان و المَشاعر انصهار في كون أكبر, ليُصبح نُقطة في بحر الوُجود صُورة تُعَبِّر عن حَنين و حُبّ يَسكن المَدى لا يُفنِيه القِدم يَتوقَّف الزَّمان و يُلازم ذِكرى و صُورة إنتقشت في الذَّاكرة لها نَبرة صوت حَالِمَة حامِلة لِأَرقِّ المَشاعر و أعْذَبها و لِدفء تَعْجُز الطَّبيعة على تَوفِيره هي المَرأة الحَبيبة و الأُمُّ العَاشِقة لِطِفل يَكبُر في الزَّمان و المَكان لكنه يَبقى دائما جَنينا في أرْحامِها تَستشعر نَبض قلبه و مَشاعره و حَركته على أرضِها أرض الأُمُومة و الخَصَوبة المَادِّية و العَاطفية الفِكرية و الشُّعورية لها فَيض حَنان يُغرق أرضها ليحتوي كل من حولها .هي الأمُّ التي تَعيش داخلنا , عند غيابها يَختفي الجَسد ليبقَى فينا وجود آخر لم نَتعود عليه وتَختفي الصُّورة لتَمتَد جُسور تَواصل من نوع آخر, ربما هو الحَنين أو أنه الحُب الذي هو في حد ذاته مَشاعِر تُغرق قَلبا له بُكاء بدون دَمع ليصبح كَبحر نَجلس على شَاطئه نغوص في أعماقه , كلما أضْنانا الفَقد, تُعاودنا صُورة وجُود ألفْناه و نحن في رَحِم الأُمّ ,لنجد أنفسنا في رَحِم أرض , لها بَحر لا يَحُده أُفق, صورة يُعبر بها الشَّاعر عن مُحيط تَفقد الجَاذبية الأرْضية فيه وجُودَها , ليَكون مُحاصرا بفراغ حِسِّي تَحتله صورة و ذكرى و ذكريات .... غِياب الأُم يُفقد الوُجُود الحَركة و كأن الموت أستوطنه و جعل له سكونا يشبهها , ليكون الفراغ عالما له حضور في وجدان و محيط الشاعر ... يختفى الصدى و معه عالم الحِسِّ لتبقى المَشاعر و الذِّكريات لها احتواء يَستلهم منها الشاعر وجُودا آخر يُعوِّضُه عن فقد تأبى نفسه المُحبة و التي ألهبها الشوق والحنين قَبوله.


    تعاود الذكريات الشَّاعر, يَسترجع لَحظات زَمن أنقضى ,و كأنه لم يَكن, لِيتذكر كَلاما بدون كَلمات, و كَأنه تَواصل أمّ بِجَنينَها, وهي حَقيقة يَعيشها الشَّاعر, يعود به الزَّمان لِيسترجع من الذَّاكرة لحظة كان فيها جَنينا وأخرى وُجُودِيَّة تَطغى على شِعره و كأنه يقول من حملتني في رَحمها هي الآن في رَحم الأرض.. فهي الأمُّ و الجنين. الحضور و الغياب, الحياة و الموت... مُفارقات نَعيشها بِكل تَفاصيلها , لَكننا لا نَعي وُجُودَها و لا نَستطيع التَّفرس في مَلامِحها رُبَّما لأننا تَعودنا على عالم الواقع الحِسِّي, لتفقد هذه المفارقات و التي من المفروض أن تتكامل مَعنى وُجودها لِزَحمة مَشاكل تَحتَوينا نحن السَّبب المُباشر و الغَير مُباشر في تَخلقها على الأرض فلا نستطيع التَّخلص منها لأنها أصْبحَت جُزءا من حَياتنا .

    لَحظة الفَقد تَهتز الأرض من تَحت أقْدامنا, لِينهار عَالم الحِسِّ, نَغرق في بحر مشاعر تَتلاطم أمْواجه, ليكون فيه الحُبُّ والحُزن و الحَنين تَيارات جَارفة , و مُتداخلة تَأخُذنا في طَواف مُتسارع الحَركة, لتَفقد المَحسُوسَات وُجُودها ويَكون اللَّيل فَارغا . فالظُّلمة في حَدِّ ذاتها فَراغ , تفقد العناصر الحسية وجودها ليَختَفي منها حتى الصَّدى ,يكون السُّكون مُطبقا على مَشاعر و وجدان الشَّاعر ليعيش في عالم مُتَخيل, في مُحاولة منه التَّعرف على مَلامحه, وهو الحَامل في ثَناياه كل عناصر أمّ تَخلق فيها و منها .
    يَسيل الحنين, ليكون كفرات منبعه أرض تروي عطش أخرى, هي امتداد لها, ليكون الابن مقيما عليها و فيها صورة برع الشاعر في رسمها, لنقول أن للحظات الحزن جمال آسر يكمن في مفارقات نعيشها, و لا نعي وجودها لحظة الكتابة لتكون القراءة لوحة فنية بديعة تَرسم نَفسها على شاشة خَيال المُتلقى, فَيتذوق جمال لحظة الكتابة و التي رُبما لا يشعر بها الشاعر لأنه يكون كَمركب في بحر حزن الذكريات ليقول:


    هنالك ثَمّ من يخفي دموعاً
    وآخرَ في مواجعه يجولُ

    يَخرج الشَّاعر من حالة خاصة, ليعمم شعورا بالحزن يحاصره, ليقول أن اختفاء الدُّموع ليس سببا لإختفاء الوجع, فلكل إنسان تعبير خاص عن حس شعوري يعيشه , و يفصح عنه بطريقة يتفرد بها عن غيره ,فاختفاء الدموع من العين لا يمنع القلب من بكاء يشق على الإنسان تجاهله و يقول الشاعر:

    على ريب المنون رضيت فيما
    قضتْ ، لكأنَّه الريبُ الجميلُ
    وبتُّ مسهّداً أروي لنفسي
    حكاياتٍ يراودها الذبولُ
    مع الذكرى وفي قلقٍ غريبٍ
    أراقبُ كيف ينكمشُ الأصيلُ
    كأنَّ ليَ اعترافاً حين مرَّت
    وأُتْربَ وجهها الغضُّ العليلُ
    فذرني يا حبيبي إن دمعي
    على ما فيه من هطلٍ بخيلُ

    تعليق

    • منجية بن صالح
      عضو الملتقى
      • 03-11-2009
      • 2119

      #3


      للرضاء بالقدر تَسليم جميل يُحاول الشَّاعر أن يُقنع به نفسه حتى يُخَفف من ثِقل حُزن يَحتويه يَطغى على مَشاعره و يرهقه, ليكون لسُهده ذِكريات و حَكايا يراودها الذُّبول, قلق و حُزن و غُربة فَراغ, تَحتوي الشَّاعر ليكون للأصيل انكماش يُعَمِّق فيه الإحساس بالفراغ لِيتجذر الليل بظلمته ,و كأن لهذه الحبيبة التي إختفت نور كان يشرق على حياته فأفل عند رحيلها.
      للذكرى ذبول يترافق مع صُورة وجه أمّ غَض عليل. تواريه تربة خُلقت منها لتعود إليها, حُزن يريد الشاعر أن يدفنه مع أحب الناس إليه ,لكنه يأبى أن يَختفىَ من حياته, ليكون للحب جمال حضور و حزن فقد, تتقابل المشاعر في فكر يَأبى أن يَتعامل معها بصيغة التَّكامل, بل يُفرق بينها ليجعل منها كيانا أُحاديا لا يقبل الشَّريك, هذا المنطق الذي نتعامل به مع مَشاعرنا يجعلنا نَعيش التَّطرف المُرهق لأرض الإنسان و المحيط , يجعل للبيان عُقما يفقده الفاعلية في واقع الحياة , و جدوى نحن في أمس الحاجة إليها لأن لها حجة و قدرة إقناع يتضمنها المنطق الإنساني .

      رغم عدم اعتراف الشاعر بتكامل مشاعر الحُب و الحُزن, فإنه يعيشه على أرض القصيدة, لتفصح عن ذلك كلماته فيترافق وجود الحبيبة مع دمع يأبى الهطول , و في ذلك إيحاء لمطر هو رحمة الخالق على أرض الطبيعة التي تخصب و تعطي ثمارها, كما أن الدُّموع هي رحمة للإنسان لأنها تُخلصه من إفرازات سلبية ترهق جسده و عقله , و تُأثر على كل خلاياه سلبا, نتخلص منها بالدمع حتى نتجاوز لحظة الحزن و لا يبقى فينا غير حلاوة الذكرى ,وحضن حبدافئ ,لا يتعامل مع الحس بل مع المعنى و الخيال ليكون للقرب حضور و مذاق آخر, له سعادة لحظة حُب يعطينا قدرة هائلة على الاستمرار و التَّخلص من كل مشاعر الحزن التي تُقعدنا عن الحركة, لنتشابه مع سكون المَوت, فللحياة حركة تفاعلية على المستوى الفكري الوجودي , و آخر حِسي على أرض الواقع و إن فقدت هذه الحركة فَقد الإنسان حياة الأحياء لتصبح له حياة الأموات.
      و يقول الشاعر:

      أعود لغرفتي وسياج صمتٍ
      وجدرانٍ يحفُّهما أفولُ
      كأنَّ وجيبَ صورتها تداعى
      ولوَّحَهُ الترنُّحُ والخمولُ
      أودِّعها وأشرقُ في حنينٍ
      إلى تسعٍ وأيامٍ تطولُ
      أودِّعها وفي صمتٍ أواري
      دموع العين من لبْسٍ يحولُ

      يَستسلم الشاعر للأمر الواقع ,و تتوارى من أمامه الجُدران يكتنفه صمت الفراغ, ليتداعى وَجيب صُورة أُمّ يحتضنه التَرنح و الأفُول فلوداعها شُروق الحنين إلى تِسع قضاها في رحم ينعم فيه بسعادة وجود ليس لها حدود, و كأنه يعيش المُطلق و يتذوق حلاوة غيب يتنعم فيه بريح جنة خُلد لا يريد مفارقتها , يسترجع لحظات عاشها الجنين الذي مَازال فيه.
      يعيش الشَّاعر فقد حبيبة و شوق حَنين لوجود كان منه مأتاه , يذكره أن للغياب حُضور آخر لا بد لنا أن نتعامل معه برضا و تسليم, فللصَمت دُموع تتوارى حتى لا يكون لنا اعتراض على حكمة الخالق, و الذي هو أدرى بخلق يعيش الحياة و الموت,على أرض الواقع و التي هي تختلف كليا عن الحقيقة الربانية لهذا كان لا بد لنا من التسليم لغيب لا ندرك حقيقة حِكمته.... و يسائل الشاعر نفسه ليقول:

      أيمكن أن تموت الأم يوماً
      ويحيا بعدها الأملُ الظليلُ
      وهل تصفو الحياة بقلبِ طفلٍ
      يتيم الأمّ يقتله الفضولُ
      لحضنٍ دافئٍ ويد حنونٍ
      وعبرتها إذا حان الرحيلُ

      تكتنف الشاعر حيرة وجودية ,بعد أن أسهب في وصف وجع الفقد و ألم الحزن الذي أحتضن كيانه ومشاعره ,و كان لها مظاهرا و تفاعلا وجداني, يتساءل و كأنه لا يصدق هذا الغياب الذي له استرسال في الواقع و وقع على تتالي الأيام التي تطوى و لا تعود, ليقول هل بعد غياب الأُمِّ يمكن أن يعيش الأمل؟ و كأنها لم تكن أُمّا فقط لها خصوبة أرض و مشاعر نابضة بالحياة , بل أيضا أملا يحدو الشاعر يجعله يستمر في حياة يملأها الطموح لوجود أجمل يشكل من الحب و السعادة مفردات أيامه و لحظات لها إشراق على ظلمة ليالي يحتضن فراغها فرح و رقة مشاعر الأمومة, و حنان دافق يحتوي طفولة لم تفارق كهولة الشاعر, يشعر بيُتم يَسكن قَلب الطِّفل الذي لم يفارقه مذ كان جنينا, يضنيه الفقد و الفضول, لدفء حضن و يد حنون و عبرة تنتقش في ذاكرة لحظة الرحيل...
      هو الوجع و حُزن لحظة الفراق, التي يَلُفها المدى في ثناياه, ليكون لها حضور الغياب و حزن المُحب و شوق العاشق و دمعة سعادة الذكرى الجميلة في حياتنا و يقول الشاعر:

      سلاماً كنت من قبلٍ وبعدٍ
      كأنك قرصُ شمسٍ لا تزولُ
      وبدرٍ في عناقٍ مستمرٍ
      لليل الحالمينَ إذا يطولُ
      سلاماً كنت في أوج اغترابٍ
      تغصّ به الحنايا والطلول
      وكنت حبيبة في كلَّ يومٍ
      وكل مدينةٍ معها أميلُ

      في آخر مطاف رحلة الشاعر على أرض القصيدة و على مركب بحر من المشاعر المتلاطم الأمواج تارة الساكن أخرى, يلقى الشاعر سلاما هو في حد ذاته تسليم لأمر رباني يغمر روح أم و حبيبة, هو سلام أبدي يسعدها في دار خلود تكون فيها نفسها مطمئنة و راضية مرضية بإذنه تعالى, وهي التي كانت كقرص شمس لا يزول رغم وجود ليل الإنسان و الأرض, لكن شمس الشاعر ليس لها زوال, لأنها أخذت من قلبه مستقرا, فهي منه إليه, تواصل لا ينقطع حتى و إن كان للفراق مذاق مرارة الموت , وهي البدر الذي يعانق ليل الحالمين عندما يطول, صورة تستلهم من الكون إشراقاته النورانية, لتجعل من الأم مشكاة وجود الشاعر, تتقد شعلتها في قلب عرف الحب في فطرة تغذت من رحيق الأمومة و فيض حنانها الذي يترك عمق بصمته, في الذاكرة لا تزول بل تبقى دائمة الوجود .
      يلقي الشاعر سلاما آخر, على روح عاشت الاغتراب وهي التي خُلقت من فيض جمال و حُب , تصطدم بواقع حياة له في كثير من الأحيان مرارة سلبياتنا الطاغية على حس الأمِّ المُرهف و الذي تترقرق له الدموع رقة و خشوعا ,فهي الحبيبة وهي مدينة آهلة بأروع عطاء, وهي عالم الشاعر الذي يُشكِّل حياته بكل تفاصيل مفرداتها, فهي ميوله و مشاعر حب يُغدق على أرض وجوده جمالا آخر, تختفي يَد الإنسان من أمَامه ليكون الخَالق وحده من يصوغ مفرداته الجَمالية الشَّاعرة بمشاعر الحُب لحياة أخرى, و سعادة لحظة خَالدة الوجود ليس لها أفول و لا انقضاء .

      يعيش الإنسان في حياته مع مشاعر تشكله , و تضفي عليه من وجودها لتكون سالبة أو موجبة, ترسم الأحداث حياة واقع خيال أو خيال واقع ,تختفي الحقيقة من أمام سلبياتنا لتكون العَتمة ملامحها و الأفول وجُودها , فالحب هو الحقيقة الوحيدة على وجه البسيطة, و الذي يكون كَكوكَب يطُوف حول نفسه و حول كيان الإنسان, ليجعلنا نقرأ مفرداته’ و نعيش رَوعة جَماله, والتي لها إشراقة على قلب طفا حبا ,وهي الشَّمس التي لا تَعرف الأُفول و لا الكُسوف .....
      نَبْعُ هذا الحُب الرَباني و الذي خلقنا به و فيه, يترقرق من عين رَحم أُمّ لها خُصوبة أرض لا ينقطع عَطاءَها, لأنها خُلقت مِنها لتكون نَفسها ,فهي الحاملة في ثناياها أمانة وجود و رسالة خُلقت من أجلها, ينتشر الخلق من أرحامها الولادَة, ليكون في خلاياهم حب دافق, يحتضن الكون و الإنسان و بيانه , فللكلمة عطاء آخر, له خصوبة أرض الأمومة في فكر الكاتب كما المتلقي, ليولد الحب من بين سطور الكلمات, له جمال آسر ,نقع في شِراكه بسهولة, لأننا خُلقنا به و معه , فيكون الحبيب النِّصف الآخر الذي تَهفوا إليه النفس و يُضنيها الشَّوق لوجوده, أو يكون وطنا نقيم على أرضه فيُقيم فينا حُبه, وهو أيضا أمّا خلقنا من ترابه فنحن به , معه منه و إليه فالحُب وطنا حبيبا و حبيبة ..... ينصهر في تُربة الخَلق لتكون حِكمة الخالق هي المُهيمنة على الوُجود ..... الأمُّ أرض و خُصوبة عَطاء و مَشاعر رائعة الجمال تُقوِّم الفِكر كما السُّلوك فمن خُلق بحب لا يمكن أن يُقَوِّمَه غيره.


      هي مشاعر الحُب التي تأخذ شتى المَظاهر , نَتفاعل معها لنكون الفَاعل و المَفعول به و لا يَكون الفعل إلا من خَالق خَلقنا بحُب لتكون الأمُّ نَبعه و عَينه التي لا ينقطع عَطاءها و نُورها المُضيء لحَياتنا , فيكون لصوتها رقة الماء, و لمَلمَسها حَنان آسر , لحضنها دفء غامر و دائم , لقُبلتها نور ملائكي يُشرق على الوجود, لنَفَسِها حياة و عِطر تعرفه الجَنَّة, لأنها تحت أقدامها و التي مهما احتضنتها قُبلاتنا , لا نُوفي حق أُمّ كَانت و لا تزال مقيمة على عَرش القلب و الوجود كُلِّه ,لأن مشاعر الحب فيها هي عطاء الكريم ونبع رحمة تَنَزلت على أرض ليكون فيها اسمه رَحمن و رَحيم ,بعباد اشتق لهم اسم الرَّحِم من اسمه ....

      منجية بن صالح و قراءة لقصيدة "ليل فارغ" للشاعر محمد ثلجي
      رحم الله أموات المسلمين و أسكنهم فسيح جناته

      تعليق

      • منجية بن صالح
        عضو الملتقى
        • 03-11-2009
        • 2119

        #4

        ليــــــــــــــــــــــــلٌ فــــــــــــــــــــــــارغ



        إلى روح أمــــــــــــــــــــــي الطاهــــــــــــــــــــــرة
        الشاعــــــــــــــــر محمــــــــــد ثلجـــــــــــــــي

        تَحنُّ إليك يا أمّي الفصولُ
        وليلٌ فارغٌ وصدىً قليلُ

        وأوقات قضيناها سوياً
        نجرِّبُ أن نقولَ فلا نقولُ

        نظلُ على التباسٍ كيفَ أنّا
        تشَرّبْنا الحنينَ إذا يسيلُ


        هنالك ثَمّ من يخفي دموعاً
        وآخرَ في مواجعه يجولُ

        على ريب المنون رضيت فيما
        قضتْ ، لكأنَّه الريبُ الجميلُ

        وبتُّ مسهّداً أروي لنفسي
        حكاياتٍ يراودها الذبولُ

        مع الذكرى وفي قلقٍ غريبٍ
        أراقبُ كيف ينكمشُ الأصيلُ

        كأنَّ ليَ اعترافاً حين مرََّت
        وأُتْربَ وجهها الغضُّ العليلُ

        فذرني يا حبيبي إن دمعي
        على ما فيه من هطلٍ بخيلُ

        أعود لغرفتي وسياج صمتٍ
        وجدرانٍ يحفُّهما أفولُ

        كأنَّ وجيبَ صورتها تداعى
        ولوَّحَهُ الترنُّحُ والخمولُ

        أودِّعها وأشرقُ في حنينٍ
        إلى تسعٍ وأيامٍ تطولُ

        أودِّعها وفي صمتٍ أواري
        دموع العين من لبْسٍ يحولُ

        أيمكن أن تموت الأم يوماً
        ويحيا بعدها الأملُ الظليلُ

        وهل تصفو الحياة بقلبِ طفلٍ
        يتيم الأمّ يقتله الفضولُ

        لحضنٍ دافئٍ ويد حنونٍ
        وعبرتها إذا حان الرحيلُ

        سلاماً كنت من قبلٍ وبعدٍ
        كأنك قرصُ شمسٍ لا تزولُ

        وبدرٍ في عناقٍ مستمرٍ
        لليل الحالمينَ إذا يطولُ

        سلاماً كنت في أوج اغترابٍ
        تغصّ به الحنايا والطلول

        وكنت حبيبة في كلَّ يومٍ
        وكل مدينةٍ معها أميلُ

        تعليق

        • محمد ثلجي
          أديب وكاتب
          • 01-04-2008
          • 1607

          #5
          الأستاذة الأديبة الناقدة منجية بن صالح
          لا أجد الكلمات الملائمة للتعبير عمّا اعتراني حين قرأت ما تفضلت به من قراءة عميقة
          أشكرك كل الشكر على وجودك المهم وأدبك الرفيع وعلمك الكبير واستنادك على ثقافة ضمنت لك الحكمة والجرأة والقوّة .

          تحياتي الكبيرة
          التعديل الأخير تم بواسطة محمد ثلجي; الساعة 24-05-2011, 00:45.
          ***
          إنه الغيبُ يا ضيّق الصدرِِ
          يا أيها الراسخ اليومَ في الوهمِ والجهلِ
          كم يلزمُ الأمرَ حتى يعلّمك الطينُ أنك منهُ
          أتيت وحيدًا , هبطت غريبًا
          وأنت كذلك أثقلت كاهلك الغضّ بالأمنياتِ
          قتلت أخاك وأسلمته للغرابِ
          يساوى قتيلاً بقابرهِ

          تعليق

          • منجية بن صالح
            عضو الملتقى
            • 03-11-2009
            • 2119

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة محمد ثلجي مشاهدة المشاركة
            الأستاذة الأديبة الناقدة منجية بن صالح
            لا أجد الكلمات الملائمة للتعبير عمّا اعتراني حين قرأت ما تفضلت به من قراءة عميقة
            أشكرك كل الشكر على وجودك المهم وأدبك الرفيع وعلمك الكبير واستنادك على ثقافة ضمنت لك الحكمة والجرأة والقوّة .

            تحياتي الكبيرة
            الشاعر القدير محمد ثلجي

            شكرا على الرد الجميل و ما قمت به هو خدمة للأدب و الكلمة الصادقة الراقية و المقال هو مرآة عاكسة لشعر يستحق من القراء التفاتة نفيد و نستفيد منها و الفضل لله وحده هو الواهب وهو المانح
            شكرا لحضرتك على ما تفضلت به شهادة أعتز بها حقا

            تعليق

            يعمل...
            X