Morocco palace*
صب الزجاجة في الكأس ، صب الكأس في جوفه، وصفق على النادل . استوى في جلسته . ثم، فجأة، لمعت في رأسه فكرة..
استل ورقة مائدة من كأس أمامه وقلم بيك من جيب معطفه ، وشرع يكتب..
ورقــــــــــــــــــة أولــــــــــــــــــــــى:
" صب الزجاجة في الكأس ، صب الكأس في جوفه، وصفق على النادل ..."
من خلفه مرت خديجة خلال عودتها من المرحاض، وداعبته على رأسه:
ــ نزار.
ــ مش تحـ
كانت أسرع . كممت فمه براحة يدها ، وسألته إن كان ما يكتبه من أجلها أم من أجل الأخرى . أشاح عنها ، فقبلته على جبهته ومضت . تأملها من الخلف .. القحبة! تعرف أنه يكره أن يلمس أحد رأسه ، ومع ذلك تفعل بحجة حبها رؤية الغضب في عينيه " أنت أسد حقيقي حين تغضب .. يا قطي اللطيف " كانت تقول له، فيما بعد ، حين يستعيد هدوءه . أما هو فكان يستشعر تحويم الذبابة فوق رأسه . ليس للأمر علاقة بتسريحة شعره ،كما قد يتبادر إلى الذهن، لأنه لا يمشط شعره أصلا.. لا ، لم يكن الأمر كذلك و إنما فقط لأنه كان يتوقع دائما انسحاق دماغه تحت ضربة غادرة...
وقته قصير ، لا مجال لتقليب المواجع . سوف تأتي جميلة بين لحظة و أخرى . في الإنتظار عليه أن يكتب شيئا..
في نفس الموضوع.. ورقة خارج السيــاق
خديجة...
لأني عكر المزاج
ولأنك تسببين لي الإزعاج
غلقت قلبي
بألف مزلاج
و مزلاج
طوى الورقة على اثنين.. على أربعة.. لفها على شكل سيجارة وجعل يمررها تحت أنفه. أخذت أساريره تنقبض وتتشنج، فيما ساقه اليمنى انطلقت تتأرجح ، في حركة بندولية، فوق ساقه اليسرى تحت الطاولة.
جاء النادل، أخذ زجاجة فارغة ، فتح العامرة ووضعها مكان الأولى في حركة دربة ، و كذلك فعل مع الثانية ثم الثالثة و الرابعة و الخامسة. تسلم منه الورقة.. باسمه ،ربت على كتفه وانصرف.
رب الحكاية يعود إلى ورقته
سكب نصف زجاجة في كأسه، عبه و أشعل سيجارة. وضع الولاعة فوق العلبة، دفعها إلى زاوية الطاولة و عاد إلى ورقته الأولى.
" صب الزجاجة في الكأس ،صب الكأس في جوفه ،و صفق على النادل..."
حاول أن يتذكر . سحب نفسا من سيجارته ، تركه يسافر في رئتيه . عب نصف الجعة المتبقي من الزجاجة مباشرة ، ثم نفث على دفقتين سحابة دخان أبيض.عبثا يحاول .. كلمة واحدة فقط ويتواصل النسج.. اللعينة ...!كلمة يحسها على سن القلم ، وفي رأسه تنغل كدودة : دودة صغيرة وبيضاء كتلك التي رآها في رأس خروف ، حين اضطر لشي الرؤوس تحت نافذة حبه الأول (منذ ذات العيد لم يقرب لحم الرأس، و لم يعد يسعفه الشعر)...
تذكر عياد (صديقه الذي جن) وشكواه الدائمة من الأفعى المستوطنة جمجمته والحاكمة عليه بأفظع العذابات . تشتد عليه فتراه يلف ذراعيه حول رقبته ، يتلوى ويعوي كلما زحفت عبر رقبته نحو عموده الفقري... لكن هذا ليس هو الموضوع .
أحس بها في أذنه . حرك رأسه فسقطت في الكأس .. مصيبة أخرى!.. كان النادل بعيدا قرب المرقص، حيث كانت خديجة تتلوى فوق الحلبة. دعك عقب السيجارة في المنفضة . أخذ الكأس وسار بها نحو البارمان:
ــ أريد كأسا أخرى . هذه سقطت فيها دودة
الكأس مترعة حتى حافتها برغوة بيضاء . رفعها البارمان أمام عينيه وتأملها في الضوء ، قبل أن يضعها تحت " الكونطوار" ويعطيه بدلها أخرى نظيفة مغمغما "الدودة فيك"...
عاد " نزار " إلى ورقته :
صب الزجاجة في الكأس ، صب الكأس في جوفه ، وصفق على النادل...
طالما كتب " قصائد " وزعها على العاهرات في " المغرب بلاص" والحانات الأخرى . الآن يود أن يجرب حظه مع القصة.. الفراغ شاسع ، رهيب و قاس . أطرافه ترتجف و أسنانه تصطك.. كأنه منفي وسط صحراء صقيعية.. مساحات شاسعة من البياض ، و لا علامة سوداء واحدة تلوح في الأفق .. ولا كلمة...
بلمسة خفيفة على شعره، من أنامل يتمنى شعب "المغرب بلاص" لحسها ، أضاع الكلمة التي يتوقف عليها مصير هذه القصة . لكنه لن يستسلم . الآلهة لا تنهزم .. هو رب هذه الحكاية وسيبعث فيها الحياة .
صب الزجاجة في الكأس ، صب الكأس في جوفه ،و... و بيد متشنجة مزق الورقة.
ورقـــــــــــــــــــــــة أخـــــــــــرى
صب الزجاجة في الكأس ، صب الكأس في جوفه ، وصفق على النادل. وقته قصير ، لا مجال لتقليب المواجع . جميلة سوف تأتي بين لحظة وأخرى، فليفكر في أشياء جميلة. . ليفكر في جميلة نفسها . طبعا جميلة اليوم لن تكون جميلة الأمس. . عمر بأكمله يفصلهما . " الزمن أوجد لها أسماء بعدد حانات المدينة" قالت له خديجة .
كيف هي الآن ؟ شكلها لايعنيه . قد يكون صادفها في إحدى " الحفر" ونام معها دون أن يعرفها.. احتمال وارد..!
أغمض عينيه ، فإذا بها أمامه تنظر إليه من فوق . جميلة ، كعارضة أزياء . تقف في سروال لاصق على كعب عال . تقدم ساقا و تؤخر أخرى ،و ترفع كأسا نحو الثريا كأنها تمثال الحرية ، بينما يلثم شعر قمحي( كانت سمراء حين أحبها !) فاكهتي صدرها الرحب . سال لعابه شهوة إلى الفاكهة .. مد يده إلى واحدة فانقطفت على أصابعه، مثل " سويهلة" ناضجة . تعفنت في الآن وتحللت دودا أبيض . بينما انهارت جميلة ..انساخ حبه الأول ، وزحف الدود على بلاط " المغرب بلاص" .
نفض يديه وكمي معطفه . أخذ زجاجته المتبقية ، تخطى كتلة الدود وانسحب . كانت خديجة ترتاح على الكنبة أمام المرقص . جلس إليها وأسند رأسه إلى صدرها فولعت له لفافة و دستها له بين شفتيه . ما لبثت السيجارة أن انطفأت ، لانت وسقطت تزحف على فخذه .. وتر إصبعيه الإبهام والوسطى وقصفها ، في اشمئزاز، فاستقرت على ياقة أحدهم . استدار هذا صوبه، حدجه بنظرة متهمة ، متوعدة ، وتقدم نحوه .
أغمض "نزار" ـ وقد شعر بالخطر ـ عينيه و تظاهر بالنوم . لكنه أحس باندلاق سائل بارد على رأسه و رقبته فانتفض مرعوبا ليتفاجأ بخديجة و النادل يقفان عند رأسه ، و بالمغرب بلاص وقد بدأ يخلو من شعبه ، و بالفرقة الموسيقية تعزف المقطع الأخير من النشيد الوطني"الله. الوطن . الملك " و بأوراقه وسجائره و قلمه و زجاجته الأخيرة على الطاولة . طلب دقيقة واحدة ودون أن ينتظر مزق الورقة .
ورقــــــــــــــــــــــــــة أخـــيــــــــــــــــــــــــــــرة
صب الزجاجة في الكأس ، صب الكأس في جوفه ، و صفق النادل.
* مرقص شهير بمدينة طنجة يعزف به النشيد الوطني في ختام السهرة .
تعليق