غفلة ألوان وعطور

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حيزي منجية
    أديب وكاتب
    • 23-09-2010
    • 50

    غفلة ألوان وعطور


    هي عصفورة صغيرة ، جميلة تطير من غصن إلى غصن . تحطَ حينا تمشَط ريشها . ثمَ تطير لتحطَ قرب جدول ترشرش نفسها بمياهه العذبة . وتعطَر ريشها برحيق ما طاب لها من الزَهور البرَيَة . وتعود من جديد إلى غصنها . تمسَد كساءها الرَيشي وتنطله بزيتها ، وتسوَيه ريشة ريشة دون كلل أو ملل . زادها الأحلام . تنحت على مدى الأيام ملامح عصفور أحلامها . تناجيه بألحان عذبة هادئة ، مليئة بالوعود والأماني .
    ذات يوم ، بينما استراحت على غصن تصفَف ريشها وتغلغل بينه ما تشبَث به من الشّذى والعطور ، توغله عميقا ، ليناله الزَغب ، فلا تسلبه النَسائم . شعرت بنبض يغزو ريشها ، وبعطر غير عطرها ، يتبنَاه المكان ، وسمعت شدوا غير شدوها تردَد في الأفق ، هفت له روحها فتسارع نبض قلبها . واستجابت له حنجرتها بوابل من الزقزقة ...
    أهي أحلامها قد اكتظت في الرَوح ، فطفا بعضها يلتمس اتَساع الأفق ؟؟؟ أم هو خيالها قد بلغ ذروته ، فنافس الواقع وصار يفوقه واقعيَة ؟؟؟
    اهتزَ الغصن تحتها فاهتزَت ، وإذا المكان يضطرم حركة ، ويعجَ جمالا ، وإذا العصفور الحلم الذي نحتت ملامحه في خيالها تُبعث فيه الرَوح ، فينطَ فوق الخطَ الرَفيع الَذي فصل دوما واقعها عن الحلم ليحطَ بجانبها ، قريبا ، قريبا جدَا ، يكاد يلامسها ...
    طارت بعيدا هاربة من فوضى تخميناتها كأنَما تخشى أن يكون الحلم قد استبدَ بها والْتهم في جنون واقعها . ولم تحاول أن تلتفت ...
    تبعها مشهد الحلم مصرَا على واقعيَته . دنا منها العصفور مرجَحا كفَة الواقع إلاَ أنَها طارت مرتبكة ، أبعد فأبعد ، تحاول أن تستعيد السَيطرة على أفكارها ومشاعرها الشَتات . غير أنَ العصفور ـ محبطا بتمنَعها ـ ظلَ على غصن يرقبها وهي تبتعد ، مترنَما بما جادت به قريحته من الغزل محاولا أن يشدَها ...
    استقرَت على غصن ، ترمقه من بعيد ، بينما راح يرقص مرفرفا بجناحيه ، يهزَ ذيله ، يتَخذ من ريشه الطَويل ، الملوّن سهاما يسدَدها عميقا في قلبها . ظلَت كذلك حينا ترقب عروض تودَده . ولمَا شعرت به يتراجع لصدَها بعد طول إلحاح ، خشيت أن يتوارى في الحلم ثانية . فطارت وحطَت على غصن أقرب ، فأقرب ، وهي تنشد لحنا عذبا ، حالما ، وخجولا . أجَج حركته من جديد ، مستعرضا كساءه الرّيشي البهيَ الزَاهي ، وهو يخطر أمامها . يحطَ ويطير . يقترب ، ويبتعد . يمسك بقائمتيه غصنا ، ويميل حتَى يتأرجح ويتدلَى ريشه ويظهر جماله من كلَ الزَوايا . دنا ودنا ، حتَى حطَ على غصنها . وبدأ يقفز ويغنَي ويدنو في تسارع ، إلى أن لامس ريشه ريشها ، وعنقه عنقها ، ومنقاره منقارها .
    كانا غاية في الجمال . إذ تعدَدت الألوان في تكامل أخَاذ ، ولم يغب منها إلَا السَواد . أحمره ، وأزرقه ، وأصفره وما انجرَ عن التَجاور . وأحمرها ، وأصفرها ، وأبيضها وما نتج عن التَمازج . وسط خضرة متموجَة ، متدرَجة على الشَجرة ، يشوبها بنفسجيَ لذيذ ، أحدثته أزهارها في تناثر عبثيَ ، أضفى توزَعا جذَابا للألوان وتوازنا ساحرا ، وانسجاما حميميَا ، في لوحة ارتسمت على خلفيَة من المساحات الزَرقاء الملطَخة بالبياض في الأفق .
    فاضت اللَوحة حياة بانسجام هزجهما ، إذ شدا كلَ منهما شدوا ساحرا، صمت له الأفق مصغيا حينا ، ثمَ انساق مردَدا صداه وأغدق نسائم ، تمايلت لها الأزهار وتراقصت معها الأشجار ، فصفَقت أوراقها حفيفا موزونا ، ضبط إيقاعه احتكاك عيدان الأغصان ، في سنفونيَة رائعة . رقصا متعانقين، منسجمين، شاديين ، مرفرفين بأجنحتهما في فوضى لذيذة . يحسبها الجاهل معركة قد احتدمت بينهما ...
    مرَت أيام ، وهما متعانقان ، لا ينفصلان ولا ينقطعان عن الغناء . إلَا أنَ ضرورة بناء عشَ الاستقرار ، فرض ابتعاده للحظات قليلة ، يطير فيها يبحث عن بعض القشَ ، بينما تحوك هي بمهارة قطع العشب لتمكين العشَ فلا يتداعى . وتزيَنه بأكاليل من الزَهور والأصداف التي يختارها بعناية ، دون أن يختلَ تناسق شدوهما. ودون أن ينفكَ يغازلها متغنَيا بحسنها وجمال ألوان ريشها الرَيَان عطرا .

    أمَا حين أقعدها حضن البيض ، فقد اضطرَ عصفورها الى الابتعاد ليقتات ويعود إليها محمَلا بما تشتهي . وحين فقس البيض ، وصار عليه أن يوفَر ما يملأ الأفواه الفاغرة الزَاعقة جوعا ، أصبح يغيب طويلا يجوب الغابة ، ليعود مساء مثقلا ، مكدودا، مهدودا، صامتا ، فيرتمي قرب العشَ وقد أهلكه التَجوال .
    أمَا العصفورة ، فقد كانت تمضي أغلب وقتها تناغم وتناغي و تلاغي صغارها ، معجبة بلون مناقيدها الفاقع الصَفرة ، وقد فتحتها على مداها ، تمدَ أعناقها إلى علُ لتزقَها وتطالب بمزيد من العناية والاهتمام ، تستنزف كلَ وقتها ، تدفَئها وتحميها وتحافظ على نظافتها ...
    مرَ الوقت سريعا ، والعصفورة منكبَة على فراخها تلاعبهم وتداعبهم وتستعجل نموَهم . ذات يوم ، أفاقت وإذا عصفورها ما عاد يغنَي . وما عاد يأتي إلى العشَ إلا ليصبَ ما حواه جرابه ، أو لينام . آلمها انقطاع خيوط غزله الحرير التي كانت تنسج ملامح أنوثتها وتملأها حياة . غير أنَها طفقت تصوغ الذَرائع : " إنَه منشغل بنا ومن أجلنا ، يفني جسده ووقته يهبش لي ولعيالي ... ثمَ كيف عساها تلومه ؟ وهي نفسها لم تعد تنشد إلَا هدهدات لصغارها ."
    بهتت قليلا وقد سكنت تسترجع ذاكرة الألوان والعطور في حنين . ثمَ نظرت إلى ريشها الذي كان يلهم غناءه ويلهب غزله . فصعقها منظره ... لقد اطَرح أغلبه ، بل هي من تعمَدت طرحه . تسدَ به فوهة برد وصقيع . أو تعوَض به ألوان زهرة ذبلت أو يبست فتهاوت من أكاليل عشَها . وما تبقَى منه ذوى لونه وبهت لمعانه وانشقَت سطوح نصله ، فتباعدت أسلاتُه فانتفش في قبح ، وقد نكشته مناقير الصَغار . أخجلها قبحها . وآلمتها غفلتها وهي التي لم تعد تمشَط ريشها أو تمسَده أو تنطله كما كانت تفعل في الأيَام الخوالي ...
    رفعت جناحها ، تبحث عن عطورها . فإذا هي مفعمة برائحة الزَقَ . هدأت قليلا تستوعب واقعها الجديد . ثمَ رفرفت بجناحيها تُذهب عنهما الخمول . وتستعدَ لرحلة الألوان والعطور . وإذا هي تسمع شدو عصفورها ، وقد استرجع بدوره ذاكرة الغزل . سمَرت جناحيها في وضع التَحليق فلا يحدثان صوتا . وقد وجف قلبها لتماثل الخواطر . أنصتت شغوفة حينا لهذا الصَوت الذي زفَته النَسائم . وإذا الشَدو شدوان . وإذا أغصان شجرة مجاورة خلفها تصفًق لرقص آخر . وإذا رئة مكانها تكرع من عطر دخيل . يخنقها . تلتفت ، فترى عصفورها الحلم ، وقد استبدَ به حلم آخر في غفلتها ، فتاه وراء عطر جديد ، وطيف مشحون بحزم ألوان خطفت أضواءها . وأغرقت لوحتها في السَواد ...
    التعديل الأخير تم بواسطة حيزي منجية; الساعة 08-06-2011, 22:50.
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    أمَا العصفورة ، فقد كانت تمضي أغلب وقتها تناغم وتناغي و تلاغي صغارها ، معجبة بلون مناقيدها الفاقع الصَفرة ، وقد فتحتها على مداها ، تمدَ أعناقها إلى علُ لتزقَها وتطالب بمزيد من العناية والاهتمام ، تستنزف كلَ وقتها ، تدفَئها وتحميها وتحافظ على نظافتها ...
    مرَ الوقت سريعا ، والعصفورة منكبَة على فراخها تلاعبهم وتداعبهم وتستعجل نموَهم . ذات يوم ، أفاقت وإذا عصفورها ما عاد يغنَي . وما عاد يأتي إلى العشَ إلا ليصبَ ما حواه جرابه ، أو لينام . آلمها انقطاع خيوط غزله الحرير التي كانت تنسج ملامح أنوثتها وتملأها حياة . غير أنَها طفقت تصوغ الذَرائع : " إنَه منشغل بنا ومن أجلنا ، يفني جسده ووقته يهبش لي ولعيالي ... ثمَ كيف عساها تلومه ؟ وهي نفسها لم تعد تنشد إلَا هدهدات لصغارها ."
    بهتت قليلا وقد سكنت تسترجع ذاكرة الألوان والعطور في حنين . ثمَ نظرت إلى ريشها الذي كان يلهم غناءه ويلهب غزله . فصعقها منظره ... لقد اطَرح أغلبه ، بل هي من تعمَدت طرحه . تسدَ به فوهة برد وصقيع . أو تعوَض به ألوان زهرة ذبلت أو يبست فتهاوت من أكاليل عشَها . وما تبقَى منه ذوى لونه وبهت لمعانه وانشقَت سطوح نصله ، فتباعدت أسلاتُه فانتفش في قبح ، وقد نكشته مناقير الصَغار . أخجلها قبحها . وآلمتها غفلتها وهي التي لم تعد تمشَط ريشها أو تمسَده أو تنطله كما كانت تفعل في الأيَام الخوالي ...
    رفعت جناحها ، تبحث عن عطورها . فإذا هي مفعمة برائحة الزَقَ . هدأت قليلا تستوعب واقعها الجديد . ثمَ رفرفت بجناحيها تُذهب عنهما الخمول . وتستعدَ لرحلة الألوان والعطور . وإذا هي تسمع شدو عصفورها ، وقد استرجع بدوره ذاكرة الغزل . سمَرت جناحيها في وضع التَحليق فلا يحدثان صوتا . وقد وجف قلبها لتماثل الخواطر . أنصتت شغوفة حينا لهذا الصَوت الذي زفَته النَسائم . وإذا الشَدو شدوان . وإذا أغصان شجرة مجاورة خلفها تصفًق لرقص آخر . وإذا رئة مكانها تكرع من عطر دخيل . يخنقها . تلتفت ، فترى عصفورها الحلم ، وقد استبدَ به حلم آخر في غفلتها ، فتاه وراء عطر جديد ، وطيف مشحون بحزم ألوان خطفت أضواءها . وأغرقت لوحتها في السَواد ...

    اقتطعت هذه لأنك هنا كنت تحكين ، و لا أدرى لم حدث هذا .. كان الرحيل معك مبهرا بتلك اللغة الشاعرية الشفافة ، و القص يسير على نغمة الجمال الصافى و الحميم ، و إذا بالحكاية تأخذك منى ، و تحول القص إلى حكى ، و هذا يتنافى مع ما قررت سلفا !!

    المسألة فقط تحتاج منك إلى ابعاد بعض الغعبارات و الجمل التى حاولت سلب روح القص من عملك الرائع و المدهش !

    رأيتك هنا تؤنسنين الطير ، و حين انهيت القراءة حمدت لك هذا كثيرا .. نعم عشت مستويين من الحديث .. مع الطير ( العصفور و العصفورة ) ، و أيضا مع رحلة حياة بين رجل و أنثى .. و انتهيت إلى ما انتهى إليه القص
    إن كان طيرا أم بشرا !!

    لغتك رائعة و مدهشة حيزى
    سلم قلبك و قلمك الجميلان

    احترامي و تقديري
    sigpic

    تعليق

    • محمد فطومي
      رئيس ملتقى فرعي
      • 05-06-2010
      • 2433

      #3
      أقف معجبا بلوحة قصّ صاغتها صاحبتها ببراعة و حرفيّة و نفاذ و حثّ للخيال.
      تواز مبهر بين المخلوقين :العصفور و الرّجل.و العصفور أكثر وفاء من الرّجل.
      و لو لا فطرة الإطلال على ما وراء الرّبوة اللّعينة التي تجعل كليهما يتّخذ طريقا عكس صاحبه لصرنا عصافير.
      فخورون بك بيننا أستاذة منجيّة.
      تحيّة إكبار و مودّة لك أختي.
      مدوّنة

      فلكُ القصّة القصيرة

      تعليق

      • حيزي منجية
        أديب وكاتب
        • 23-09-2010
        • 50

        #4
        تحياتي واحترامي أستاذي محمد الفطومي .
        أعتزّ أيما اعتزاز بهذا التنويه الذي ملأني رغبة في مزيد العطاء .
        سيظل قلمي يكتب ويكتب ما دام في العمر حبر .
        سيظل عشقي للكتابة في ازدياد ما دام هناك من يقدر قلمي .
        لا تتصور مدى غبطتي وأنا أراني في كلماتكم الجميلة تنقشون إطار مرآة شفافة جميلة أطل من خلالها على عبق روحي . فأعشق عطاءها وأدعوها لتستمر في إنتاج ما يدغدغ وجدانكم فتجودوا علينا بمثل هذا الكلام الجميل .

        تعليق

        • حيزي منجية
          أديب وكاتب
          • 23-09-2010
          • 50

          #5
          أستاذي ربيع عقب الباب كل الاحترام ومنتهى التقدير .
          لا تتصور مدى تأثير كلماتكم في نفسي .
          تقديركم ذاك جعلني أمتلئ رغبة في الكتابة . كما أنّه بصدق ملأني خوفا . لأنّ تلك الكلمات التي تلقيتها بفرح الطفلة ، جعلتني أشعر بالمسؤولية . فلا بد أن أستمر في الكتابة وأن يكون ما أنتجه في مستوى تلك الأوصاف : قاصة مبدعة ، روائية عملاقة ، قص مدهش ... لا يسعني إلا أن أقول شكرا . وأنتظر أن تتابعوا إنتاجي الذي سيصلكم تباعا .

          تعليق

          يعمل...
          X