مدى تفاعل الأدب مع قلوب الأطباء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عدنان عبد النبي البلداوي
    أديب و شاعر
    • 30-05-2011
    • 319

    مدى تفاعل الأدب مع قلوب الأطباء

    مدى تفاعل الأدب مع قلوب الأطباء
    عدنان عبد النبي البلداوي

    القلب مستودع العواطف والانفعالات، المختص بممارسة عمليات المودة والبغض والغضب والخوف والبهجة والحزن والتفاؤل والتشاؤم.. وقد استأثر بكل تلك وما يجري مجراها عند جميع الناس في كل زمان ومكان ، فلايهمهم كونه أداة فسلجية لضخ الدم ، أوكونه عضوا مشتركا مع الدماغ في تبادل الوظائف السايكولوجية بفعل روابطهما التشريحية عبر الاعصاب وعن طريق الغدد الصم .. انه الإحساس وحسب ، هكذا القلب عند الناس شاع وعُرف ، ولأن الادب في جميع مجالاته هو واحد من عوامل إثارة الأحاسيس في الدعوة الى الحب والسلام، فإنه بحكم مهمته هذه يحوم في أجواء القلب بمفرداته وصوره ، ليحتل مكانا في مخادع ذلك المستودع الصغير الحجم ،الكبير المهام .. سواء أكان قلب فيلسوف أم قلب مهندس أم قلب فيزيائي ام قلب طبيب ام غير ذلك في اجواء العلم، واذا كان في كل قلب من هذه القلوب نصيب او نسبة ما من تفاعل تلك الومضات الادبية ، فما مدى ذلك التفاعل مع قلب الطبيب..؟
    ان من طبيعة الادب هو البحث عن مستلزمات النهوض بالانسانية ، بغية ان يستكمل بها مهامه على افضل وجه ممكن ، ولما وجد في قلب الطبيب نبضا فاعلا وهدفا مشتركا لإسعاد البشرية فقد دخله بلا استئذان ، فتفاعل مع علمياته حتى اصبحت مُدافة مع الخيال الخصب الموصل الى خدمة الحقيقة ، لأن رسالة الاديب الى الانسانية هي رسالة منمقة قد صاغها في قالب جميل .. فهو لايكتب او يقول رسالته في أي اسلوب الا بعد ان يختار افضل ما في اللغة من كلمات ومضامين الى الانسانية لتجد فيه جميع الاجيال ما يخاطب وجدانها ويشبع حاجة من حاجاتها النفسية والعقلية، فالاديب الذي قرأ كتب الفلسفة مثلا ، يستخدم المصطلحات الفلسفية فيما يسوقه من أدب ، وكذلك الحال بالنسبة للاديب الطبيب او الاديب الذي يصطبغ ادبه بالعلوم الفيزاوية او الكيميائية او غير ذلك من سائر العلوم.. ولايختلف اثنان في ان كل عالم يستأنس بالادب سواء أكان ذلك مصادفة ام اختيارا ، لان الادب ملاذ الوجدان وانيس الولهان ، ولكن لماذا كانت وما زالت صحبة الادب للطبيب صحبة دائمة بتواصلها وتؤكد وجودها نظريا وعمليا..؟
    ان من طبيعة ومن صميم مهنة الطبيب هو الاتصال الدائم بالاجسام والامزجة ، بينما يتصل عالم الفيزياء بحكم معلوماته مع ظواهر الكون ، والمهندس مع المساحات والالات ، وفي ضوء ذلك وغيره من الامثلة ، يمكن ان نقول ان رفقة الادب الذي يمثل المشاعر والاحاسيس ، مع الطبيب الذي يمثل الحفاظ على سلامة تلك الانفعالات ، لتؤدي دورها الانساني في الحياة ، هي رفقة دائمة دوام الحياة ودوام نبضات القلب وايعازات الدماغ،وقد عززت البحوث والتجارب التي قام ويقوم بها الطب النفسي في مجال العقل والامزجة ان الطب رديف الادب في توجهه الانساني الهادف الى تقديم ما هو امتع واجمل واسلم من اجل حياة ترفل بالسرور وعزة النفس وبمجتمع واع يعرف افراده اصول التعامل ، ولما كان اسلوب الطبيب يعتمد على تعامل خاص مع المريض ، بهدف إبعاد الاوهام والوساوس ، بسبب ما اوجده المرض ، فإن رسالة الاديب هي تهذيب النفس ومنحها اجواء رفيعة المستوى ترفدها الوجدانيات لتخلق من الصياغة التعبيرية مضمونا شافيا ومؤنسا للنفوس.
    لقد اراد الادب من الطبيب ان يقف عند علة المرض ، بغية نقل المريض من التعاسة الى السعادة ، ليصبح لديه استعداد نفسي هادئ لإستقبال انفتاحات النص الادبي وما فيه من استكمال بهجة الحياة وسرورها والتي هي في الوقت نفسه انسجام الافراد الموصل في نهاية المطاف الى اجواء من التعامل الانساني الواعي المؤهل للاسهام في بناء صرح الحضارة ومعالم الرقي والازدهار.
    لقد أحس الطبيب الاريب ان مهمته لاتقف عند تشخيص خلل في الكبد مثلا ، بل راح بفضل التفاف عناصر الادب حول مدارات افكاره يبحث عن الدوافع ، وهذا ماجعله يروّض لسانه وقلمه ،ليصوغ عبارات ادبية مطعمة بمصطلحات علمية تسهم في تقديم صورة مؤثرة الى المريض تنقله الى حالة نفسية أفضل، وقد أشار ابو بكر الرازي الى ذلك بقوله :
    (يجب على الطبيب ان يوهم المريض أبدا بالصحة ويرجيه بها ، لأن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس ..)
    ومن المعاصرين يقول الدكتور محمد الخليلي صاحب كتاب معجم ادباء الاطباء( إن كلا من الاديب والطبيب يعتمد على الحدس والمنطق) ومن حديث للدكتورة نوال السعداوي الباحتة الروائية المصرية تقول(ان الادب والقصة والرواية هي تشريح نفسي للناس والمجتمع )
    ومن تحصيل حاصل الممارسة العملية لمهنة الطب التي ترافقها المشاعر الانسانية يقول الطبيب جورج دوهاميل الاديب الفرنسي الشهير:
    ( في مطلع هذا القرن تعرفت على هنري زميلا يدرس الطب والجراحة مثلي ، وادركنا ان معرفة الانسان وطبيعة البشر امثالنا لاتتم بالعمل على سرير المرض والالم ، بل نعايشهم ونراهم في حياتهم يعانون الحب والغيرة والصداقة والطموح ، وبذلك اشتركنا في مشاطرة الناس آلامهم ، وعرفنا ان من واجبنا الكتابة عن الانسان للانسان..)
    اما تراثنا فقد زودنا بضخ متواصل من نتاجات الشعراء والكتاب ، التي تؤكد صلة الانفعالات واثرها في نتائج السلوك وصحة البدن .
    وتقدمت العلوم لتؤكد ان تلك الاستنتاجات لم تكن حصيلة علوم نظرية او مشاهدة احداث وحسب، بل هي حصيلة متابعة علمية لكيفية تأثير تلك الانفعالات في الجسم ، فمما قدمه المختصون بعلم النفس والطب النفسي :
    ( ان المشاعر الايجابية السارة تصحبها تبدلات جسمية ملحوظة ، كقلة الإدرار وتناقص كمية الفوسفات وكلوريد الصوديوم في الجسم ، والمشاعر الايجابية هذه تؤدي عند استمرارها الى السمنة وتنشيط الدماغ والى زيادة طافة الجسم على بذل الجهد المطلوب ،ويحصل العكس في حالة المشاعر السلبية ، اذ يفقد الذهن نشاطه ويتعرض الجسم الى الهزال ويفقد المرء ثقته بنفسه وتطغى عليه حالة القلق والتخاذل كما تزداد كمية الادرار وتزداد كمية كلوريد الصوديوم والفوسفات في الدم ويفقد الدماغ قدرته على مواصلة العمل ويتشتت الانتباه ..)
    وفي ضوء ذلك وغيره تأمل الطبيب الأريب فلم يجد ما يعزز رسالته الهادفة الى النهوض والرقي بالانسان صوب السعادة إلا في الادب ، فتقارب معه بلا نسب وتآلف مع مضامينه الخيّرة بلا شرط او قيد.
    فهنيئا للعلم بالادب وهنيئا للادب بالعلم .
يعمل...
X