صديقتي الوفية نادية :
أرجومن كل قلبي أن تكوني و زوجك و أطفالك بخير و رد الله غربتكم قريباً .. آمين.
أما عن أحوالي هنا ، فيسعدني أن أزف إليك أخباراً ستسعدك كثيراً.
فقد استلمت وظيفتي في شركة محترمة و كبيرة و براتب مغرٍ.
أهم من الراتب هو أنني كسرت رتابة أيامي و الملل الذي كان يعشعش بدواخلي ،،
وسأرفع عن كاهل أبي الحبيب قليلاً من أعبائه المالية ..
سعيدة أنا هذه الأيام سعادة لا توصف ،، لا أدري من أين أبدأ.
استلمت العمل قبل ثلاثة أشهر ،،
ولكنها أشهر مليئة بأحداث جسام سأحاول أن أكتبها لك في كلمات مختصرة حتى عودتك.
يرتبط عملي يا عزيزتي مباشرة بمدير عام الشركة ( و هي شركة والده ) ،
طبيعة عملي أن أقوم بتلخيص التقارير له في مجال معين ، و أنا التي أدخل بها عليه ، فيقرؤها و يستدعيني إن لزم الأمر لمناقشة بند من بنود التقرير.
دخلت مكتبه أول مرة .. وجدته واضعاً كلتا يديه على جبينه و يجلس مطرقاً مستغرقاً في تفكير عميق لم يستفق منه إلا بعد أن سمع صوتي يقول له ( صباح الخير ) ..
رفع رأسه و نظر إلي ...
كل حزن الدنيا كان يرقد جلياً على عينيه ...
حزن يستجدي المواساة ... و التعزية
نظر إليَّ مطولاً ثم تناول التقرير ...
سكنتْ نظرته في حدقات عيوني ... ثم إستقرتْ هناك متشبثة بالقاع.
يلفه غموض محبب و إلفة تحتويك بين عبائتها ...
يقولون عنه أنه رجل في منتهى الذكاء ... و لكنه قليل الكلام ..
يحفظ عن ظهر قلب كل شاردة و واردة في الشركة ، حتى أرقام الميزانية.
سألتُ زميلة لي : هل هو متزوج ؟
قالت: هذا ما لا نعرفه عنه ، فهو شخص كتوم و لا يختلط بحميمية بالموظفين و لا ندري أين يسكن، حتى سائقه الخاص سألناه عنه فلم يرد بإجابة مقنعة ، البعض يقول أنه متزوج ، والبعض يقول أنه عاش تجربة حب فاشلة لذا لم يتزوج و يقولون أنه طلق زوجته.
عزيزتي نادية :
لسبب لا أدري كنهه ،، صرت أستعجل إنهاء التقارير و جمع معلوماتها لكى أدخل مكتبه.
أستعجل دخولي عليه حتى ألقي عليه التحية فقط ، فيرد متمتماً بصوت خافت لا يكاد يُسْمع.
يرميني بتلك النظرة التي تكاد تنطق بعشرات الكلمات.
غاظني هدوءه الصاخب.
صمته أكبر من الصراخ ..
شيءما يقول لي فضي شرنقة حياته و اكتشفي دواخله...
في أعماقي مُنادٍ ينادي بأن أهتك ستر صمته وأقشع الضباب عن حُجُب حزنه الدفين...
يملأالشعر الأبيض فوديه فيزيده وقاراً و هيبة ،،
هيئته تجبرك على إحترامه و السكوت في حضرته.
نظراته تجبرني على أن لا أجاريها طويلاً .
كأنها تلقي عليك سؤالاً بإلحاح و إصرار منتظرةً الإجابة بتوسل.
هذه النظرة هي نفسها التي تجعلني أخطو خطوة نحوه ثم أتراجع خطوات ،، ففيها إستجداء ولكن بكبرياء و شموخ.
فيها رجاء و إستعطاف ،، و لكن بإباء و شمم.
وفيها سحر يغوص بداخلك و يحثـك على التفاوض معه ،، ثم ينقلب هذا كله في لحظة و كأنه يقول لك : قفي عند حدودك و لا تتمادي بأكثرمن السلام و الكلام في أمور العمل.
أليس هذا كله مزيج غريب بين أضداد ؟؟؟
عزيزتي:
عذراً إن أطلت عليك ،، و لكن أنت الوحيدة التي أفتح لها قلبي ،، فدعيني أخرج مافي دواخلي لك .. فقصتي تستحق منك الإستماع إليها قبل حضورك.
ثم ماذا ؟
وجدت يوماً ثغرة ضيقة للدخول معه في حديث خارج شئون العمل.
فقد لاحظت أن قلمه قد سال و ملأ الحبر جيب قميصه الأنيق، فنبهته لذلك ،، ( إنها القشة في خضم الأمواج )
و لكنه لم يعلق ،، حتى أنه لم يحاول أن ينظر للمكان ،، كأنني لم أتحدث معه.
إرتفع الدم إلى رأسـي ، و بصوت يملؤه الغضب المحكوم بالأدب و اللباقة كررت له ملاحظتي .
نظرإلي ثم قال : لقد سمعتك جيداً ،، و لاعلاج لهذا هنا بالطبع ،، أليس كذلك ؟
فوجدت الفرصة قد سنحت لي تماماً لكى أفتح معه حديثاً عادياً ،، فأقترحت عليه أن أرسل سائقه للبيت ليأتي بقميص آخر.
فشكرني متمتماً بأنه سيخرج لزيارة أحد زملائه في شـركة أخرى و ربما يعود للبيت لعمل اللازم.
ليلتها لم أنم ،، فقد حققت تقدماً لا يستهان به ،،
وها هي أولى الخطوات نحو حصن هذا الرجل و نحو قلعة قلبه المليئة بالأسرار.
زميلتي لاحظتْ إهتمامي و إندلاقتي ،،
فقالت لي : لا تستمري فيما تحاولين الوصول إليه ،، فهذا الرجل من برج عالٍ و من طبقة أرستقراطية ،، و لا شك أنه ينظر إلينا كلنا بمنظار آخر و ليس بمنظار المفاضلة و لايضعنا في ميزان الحب و الزواج ،، فلا تتعبي نفسك.
إعتبرتُ ملاحظتها نوعاً من الحسد. و أنا أشد إصراراً على مواصلة ما بدأته ..
حاصرته بإهتمامي حصاراً لصيقاً ..
نصبتُ شراكي في كل أرجائه ...
قد تقولين أنني قد فرضتُ نفسي عليه ..
ولكن يا عزيزتي كانت لدي قناعة بأنه ينتظر قشة ليتعلق بها ،،
كان كالغريق فعلاً ،،لذا طوقته بفيض من الإهتمام الزائد و رميت له بطوق في خضمه هذا...
مديرة مكتبه ، أظنها غارت من تقربي إليه و نبهتني مراراً أنني أتدخل في عملها ،،
وعندما وجدتْني لم أرْعَوِ و تماديتُ أكثر ، شكتْني إليه ،، و لكننه لم يعلق بتاتاً ... و كأن الأمر لا يعنيه ..
وبدأ صراع خافت بيني و بينها ..
بالنسبة لي كان صراعاً من أجل نيْل شيء إعتبرته حقاً من حقوقي ..(لا أدري كيف )
ولم لا ؟ فالقلب و ما يأمر .. ألم نتفق على هذا المبدأ يا نادية ؟ ..
ثم علا صوت الصراع فإمتدتْ سُحُب دخانه إلى بقية الشركة ..
فبدأ الزملاء و الزميلات في تتبع أخبارنا اليومية و إطلاق شائعات و أخبار مختلقة كنت أسمعها و لا أعلق عليها أيضا..
صرنا طبق الأخبار الدسم كل صباح ..
وهو في صمته يسمع و لا يتجاوب ..
وبدأ حصاري له في طرح ثماره ..
فقد بدأ يطلبني حتى و إن لم تكن هناك تقارير و يناقشني في أمور لا تصب في مجال عملي.
وبحدس الأنثى الذي لا يخطيء ،، شعرت أن شيئا ما قد خالط نظراته تلك.
هو شيءتعرفه الأنثى فقط ( أليس كذلك ؟ ) .
التقطت إشارته بمجرد أن إنطلقتْ ..
شيء ما قد تلاشى و حلت محله نظرات مستكينة ترنو إليَ بإمتنان.
ولم أدع الفرصة تفوت دون إغتنامها ..
فبادرت بالهجوم الأخير ..
وسألته و أنا أعبث ببعض الأوراق و كأنني غير مبالية : أنت متزوج ؟
فقالو هو يتنهد تنهيدة طويلة : كنت متزوجاً ،، تزوجت نزولاً عند رغبة والدي ،، ثم سافرتُ لأمريكا بحجة الدراسة و مكثت فيها ستة سنوات متواصلة و أنا أماطل بحجة الدراسات العليا إلى أن طلقتني هي عن طريق المحكمة،، أبي لا زال مـصراً على تزويجي بإخـتياره و إلا سيحرمني من ثروته الكبيرة.
فقلت له : معنى هذا أنك ستتزوج مرة أخرى ثم تغادرنا لمدة ستة سنوات أخرى ؟
لأول مرة أراه يضحك بصوت مسموع . وددتُ لو تطول ضحكته .. فقد أعطتني شعورا بأولى بشائرالنصر ..
وقال بين ضحكاته : ما رأيك أنت ؟
قلت له : السعادة الزوجية ،، ألا تسوى عندك ثروات الدنيا ؟
قال: بعض الناس يعتقدون أن المال يصنع السعادة.
قلت له : و أنت ؟
قال: السعادة هي زوجة أحبها ..
قلت: ألم تقع في الحب بعد ؟
فوجئتُ بسؤالي هذا الذي أنطلق مني بعفوية ، لكنه نظر إلي طويلاً و قال بلهجة حذرة : أظنني وقعتُ في شباكه ..
فقلت و أنا أزدرد ريقي و أنا ما زلت أعبث ببعض الأوراق: ستفقد أبوك و ثروتك و عملك ..
قال: لا يهمني الآن ... لا يهمني بتاتاً ..
مسكين هذا الرجل ،، أظنه كان سـيعيش في رحاب حزنه و حيرته و تخبطه لولا أن كسرتُ صفحة بحيرته الساكنة و إنتشلته من وَهْدة ضياعه.
غريب أمر بعض الرجال ... أليس كذلك عزيزتي ؟
نادية..
لاأريد أن أخوض في تفاصيل مصارحته لي بحبه الذي زاد من قامتي و أضاء فسحة كبيرة في دواخلي ،، و لكنني وجدت نفسي أمام معركة كبيرة مع والده ،، الذي أرْغى و أزْبد لمجرد أن عرف أنني إبنة عامل بسيط متقاعد يعتمد على معاشه المتواضع ،، و أننا ليس من أرباب الحسب و النسب. و أنا بالطبع أعذر العجوز في ذلك .. فتلك هي موروثاته و ثوابته ..
أرسل لي والده شيكاً بمبلغ كبير لكى أتنازل عنه ،،
هل لك أن تتصوري عجرفة هذا العجوز ،، يريد أن يشتري مشاعري بشيك.
يريدأن يزوج إبنه من إبنة أحد أساطين المال وكأنه لم يكتف بأمواله التي سيرثها إبنه الوحيد هذا ..
أرجعت له الشيك و كتبت له :
أيهاالرجل المحترم : خذ أموالك و جاهك و يكفيني أن أحظى بحب إبنك و إحترامه .. أنا لاأسعى إلى المال و لا هو هدفي ..
فهددإ بنه بحرمانه من الميراث و التبرؤ منه ..
فلم يتزحزح الإبن قيد أنملة ..
سقط الرجل العجوز مغشياً عليه من شدة الغضب.
ولم يتزحزح فارسي النبيل.
إنقسمتْ أسرتي إلى مؤيد و معارض.
وإنقسمت أسرته إلى مساند له و إلى مطبل لرأى العجوز و آخرون يقفون في صفي و لكن في صمت مريب.
ترك حبيبي الشركة و البيت و سكن فندقاً متواضعاً.
تدهورت حالة الأب.
وتأزم الموقف ... و كدتُ أن أضعف ..
قلتُ له واجفة : ( لا تجعل لعنة أبيك تطاردك إن حدث له شيء بسبب موقفك منه بسببي ) ..
ولكنه طلب مني أن لا أكرر مثل هذا القول مرة أخرى ..
جاءني من يقول أن الأب يريدني في المستشفى ...
رفضت الذهاب ،، فربما جرح مشاعري بحفنة من أمواله مرة أخرى محاولاً شراء كرامتي و حبي..
أصرتْ أمي على ذهابي ..
ذهبت و أنا متأهبة ،، أنتقي كلماتي التي سأرد بها عليه..
دخلت غرفته بالمستشفى ،، فوجدتها مليئة بأفراد من أسرته ،،
حدجوني بنظرات و كأنني لصة قُبِض عليها متلبسة بجرم السرقة ،،
لم أُبالِ ،، تقدمت نحوه و ألقيت عليه التحية و وقفت متحفزة أنقل بصري بينهم بتحدٍ سافر،،
وبإيماءة من رأسه خرجوا كلهم و وقفت وحيدة قربه .
طلب مني الجلوس في طرف سريره فجلست .. لم يخيفني وقاره و لا نظراته الحادة ..
قال بصوت عميق : أتحبينه لهذه الدرجة ؟
قلت بثقة : نعم ...
فقال بتحفُّز : إذن خذيه دون مليم أحمر ،،سأجرده من كل شيء ..
قلت بعناد : لا يهمني هذا أبداً و سأكون سعيدة معه و سنبدأ من الصفر..
قال في تحدٍ : لن يعمل هو أو أنت في شركتي ..
قلت بنفاد صبر : الرزق على الله.
قال في إذعان : من علمك هذا العناد ؟
قلت في إعتداد : حبي
قال بعصبية و توتر : الحب لن يأتِ لكم بالخبز ..
قلت بسرعة : و المال لن يأتينا بسعادة و هداوة بال ..
نظرإلي طويلاً ،، ثم طلب مني أن أقترب منه ،،فأمسك بيدي.
و قال: حبي لإبني الوحيد يجعلني أنقاد وراء سعادته هو و ليس وراء قناعاتي ..قد فازعنادك على كل ما كنت أخطط له لسنوات طوال ،، مبروك عليك إبني ..
ثم قال بصوت متهدج و كأنه يغالب البكاء : أرجوك ،، حافظي عليه و أملأي له البيت أطفالاً فنحن لم ننجب غيره ..
ثم أمسك بيدي و قبلها طويلاً ،، فأنحنيت و قبلت جبينه ،، فرأيت دمعة فرح في مآقي العجوز ،، فعدت و عانقته طويلاً و أنا أشكر الله في سري و جسدي ينتفض ..
فرح يشوبه زهو الإنتصار ..
وهرولتُ لأبشر حبيبي فوجدته قد عرف من أبوه الذي خابره بالهاتف قبل وصولي إليه.
كان مسروراً كطفل تعلو شفتيه إبتسامة عريضة..
عزيزتي نادية..
لن أتمم زواجي قبل أن تأتي في إجازة الصيف حتى تري بنفسك كل ما قلته لك و أحكي لك تفاصيل أخرى.
نسيت أن أخبرك شيئاً ،، ( طلبت منه أن ينقل مديرة مكتبه إلى قسم آخر بنفس مرتبها الكبير..).
تحياتي لزوجك و أولادك و في إنتظار حضوركم ،، أرجو أن تكتبي لي
***
جلال داود (الرياض)
من مجموعتي القصصية الثانية (مراسيل)
أرجومن كل قلبي أن تكوني و زوجك و أطفالك بخير و رد الله غربتكم قريباً .. آمين.
أما عن أحوالي هنا ، فيسعدني أن أزف إليك أخباراً ستسعدك كثيراً.
فقد استلمت وظيفتي في شركة محترمة و كبيرة و براتب مغرٍ.
أهم من الراتب هو أنني كسرت رتابة أيامي و الملل الذي كان يعشعش بدواخلي ،،
وسأرفع عن كاهل أبي الحبيب قليلاً من أعبائه المالية ..
سعيدة أنا هذه الأيام سعادة لا توصف ،، لا أدري من أين أبدأ.
استلمت العمل قبل ثلاثة أشهر ،،
ولكنها أشهر مليئة بأحداث جسام سأحاول أن أكتبها لك في كلمات مختصرة حتى عودتك.
يرتبط عملي يا عزيزتي مباشرة بمدير عام الشركة ( و هي شركة والده ) ،
طبيعة عملي أن أقوم بتلخيص التقارير له في مجال معين ، و أنا التي أدخل بها عليه ، فيقرؤها و يستدعيني إن لزم الأمر لمناقشة بند من بنود التقرير.
دخلت مكتبه أول مرة .. وجدته واضعاً كلتا يديه على جبينه و يجلس مطرقاً مستغرقاً في تفكير عميق لم يستفق منه إلا بعد أن سمع صوتي يقول له ( صباح الخير ) ..
رفع رأسه و نظر إلي ...
كل حزن الدنيا كان يرقد جلياً على عينيه ...
حزن يستجدي المواساة ... و التعزية
نظر إليَّ مطولاً ثم تناول التقرير ...
سكنتْ نظرته في حدقات عيوني ... ثم إستقرتْ هناك متشبثة بالقاع.
يلفه غموض محبب و إلفة تحتويك بين عبائتها ...
يقولون عنه أنه رجل في منتهى الذكاء ... و لكنه قليل الكلام ..
يحفظ عن ظهر قلب كل شاردة و واردة في الشركة ، حتى أرقام الميزانية.
سألتُ زميلة لي : هل هو متزوج ؟
قالت: هذا ما لا نعرفه عنه ، فهو شخص كتوم و لا يختلط بحميمية بالموظفين و لا ندري أين يسكن، حتى سائقه الخاص سألناه عنه فلم يرد بإجابة مقنعة ، البعض يقول أنه متزوج ، والبعض يقول أنه عاش تجربة حب فاشلة لذا لم يتزوج و يقولون أنه طلق زوجته.
عزيزتي نادية :
لسبب لا أدري كنهه ،، صرت أستعجل إنهاء التقارير و جمع معلوماتها لكى أدخل مكتبه.
أستعجل دخولي عليه حتى ألقي عليه التحية فقط ، فيرد متمتماً بصوت خافت لا يكاد يُسْمع.
يرميني بتلك النظرة التي تكاد تنطق بعشرات الكلمات.
غاظني هدوءه الصاخب.
صمته أكبر من الصراخ ..
شيءما يقول لي فضي شرنقة حياته و اكتشفي دواخله...
في أعماقي مُنادٍ ينادي بأن أهتك ستر صمته وأقشع الضباب عن حُجُب حزنه الدفين...
يملأالشعر الأبيض فوديه فيزيده وقاراً و هيبة ،،
هيئته تجبرك على إحترامه و السكوت في حضرته.
نظراته تجبرني على أن لا أجاريها طويلاً .
كأنها تلقي عليك سؤالاً بإلحاح و إصرار منتظرةً الإجابة بتوسل.
هذه النظرة هي نفسها التي تجعلني أخطو خطوة نحوه ثم أتراجع خطوات ،، ففيها إستجداء ولكن بكبرياء و شموخ.
فيها رجاء و إستعطاف ،، و لكن بإباء و شمم.
وفيها سحر يغوص بداخلك و يحثـك على التفاوض معه ،، ثم ينقلب هذا كله في لحظة و كأنه يقول لك : قفي عند حدودك و لا تتمادي بأكثرمن السلام و الكلام في أمور العمل.
أليس هذا كله مزيج غريب بين أضداد ؟؟؟
عزيزتي:
عذراً إن أطلت عليك ،، و لكن أنت الوحيدة التي أفتح لها قلبي ،، فدعيني أخرج مافي دواخلي لك .. فقصتي تستحق منك الإستماع إليها قبل حضورك.
ثم ماذا ؟
وجدت يوماً ثغرة ضيقة للدخول معه في حديث خارج شئون العمل.
فقد لاحظت أن قلمه قد سال و ملأ الحبر جيب قميصه الأنيق، فنبهته لذلك ،، ( إنها القشة في خضم الأمواج )
و لكنه لم يعلق ،، حتى أنه لم يحاول أن ينظر للمكان ،، كأنني لم أتحدث معه.
إرتفع الدم إلى رأسـي ، و بصوت يملؤه الغضب المحكوم بالأدب و اللباقة كررت له ملاحظتي .
نظرإلي ثم قال : لقد سمعتك جيداً ،، و لاعلاج لهذا هنا بالطبع ،، أليس كذلك ؟
فوجدت الفرصة قد سنحت لي تماماً لكى أفتح معه حديثاً عادياً ،، فأقترحت عليه أن أرسل سائقه للبيت ليأتي بقميص آخر.
فشكرني متمتماً بأنه سيخرج لزيارة أحد زملائه في شـركة أخرى و ربما يعود للبيت لعمل اللازم.
ليلتها لم أنم ،، فقد حققت تقدماً لا يستهان به ،،
وها هي أولى الخطوات نحو حصن هذا الرجل و نحو قلعة قلبه المليئة بالأسرار.
زميلتي لاحظتْ إهتمامي و إندلاقتي ،،
فقالت لي : لا تستمري فيما تحاولين الوصول إليه ،، فهذا الرجل من برج عالٍ و من طبقة أرستقراطية ،، و لا شك أنه ينظر إلينا كلنا بمنظار آخر و ليس بمنظار المفاضلة و لايضعنا في ميزان الحب و الزواج ،، فلا تتعبي نفسك.
إعتبرتُ ملاحظتها نوعاً من الحسد. و أنا أشد إصراراً على مواصلة ما بدأته ..
حاصرته بإهتمامي حصاراً لصيقاً ..
نصبتُ شراكي في كل أرجائه ...
قد تقولين أنني قد فرضتُ نفسي عليه ..
ولكن يا عزيزتي كانت لدي قناعة بأنه ينتظر قشة ليتعلق بها ،،
كان كالغريق فعلاً ،،لذا طوقته بفيض من الإهتمام الزائد و رميت له بطوق في خضمه هذا...
مديرة مكتبه ، أظنها غارت من تقربي إليه و نبهتني مراراً أنني أتدخل في عملها ،،
وعندما وجدتْني لم أرْعَوِ و تماديتُ أكثر ، شكتْني إليه ،، و لكننه لم يعلق بتاتاً ... و كأن الأمر لا يعنيه ..
وبدأ صراع خافت بيني و بينها ..
بالنسبة لي كان صراعاً من أجل نيْل شيء إعتبرته حقاً من حقوقي ..(لا أدري كيف )
ولم لا ؟ فالقلب و ما يأمر .. ألم نتفق على هذا المبدأ يا نادية ؟ ..
ثم علا صوت الصراع فإمتدتْ سُحُب دخانه إلى بقية الشركة ..
فبدأ الزملاء و الزميلات في تتبع أخبارنا اليومية و إطلاق شائعات و أخبار مختلقة كنت أسمعها و لا أعلق عليها أيضا..
صرنا طبق الأخبار الدسم كل صباح ..
وهو في صمته يسمع و لا يتجاوب ..
وبدأ حصاري له في طرح ثماره ..
فقد بدأ يطلبني حتى و إن لم تكن هناك تقارير و يناقشني في أمور لا تصب في مجال عملي.
وبحدس الأنثى الذي لا يخطيء ،، شعرت أن شيئا ما قد خالط نظراته تلك.
هو شيءتعرفه الأنثى فقط ( أليس كذلك ؟ ) .
التقطت إشارته بمجرد أن إنطلقتْ ..
شيء ما قد تلاشى و حلت محله نظرات مستكينة ترنو إليَ بإمتنان.
ولم أدع الفرصة تفوت دون إغتنامها ..
فبادرت بالهجوم الأخير ..
وسألته و أنا أعبث ببعض الأوراق و كأنني غير مبالية : أنت متزوج ؟
فقالو هو يتنهد تنهيدة طويلة : كنت متزوجاً ،، تزوجت نزولاً عند رغبة والدي ،، ثم سافرتُ لأمريكا بحجة الدراسة و مكثت فيها ستة سنوات متواصلة و أنا أماطل بحجة الدراسات العليا إلى أن طلقتني هي عن طريق المحكمة،، أبي لا زال مـصراً على تزويجي بإخـتياره و إلا سيحرمني من ثروته الكبيرة.
فقلت له : معنى هذا أنك ستتزوج مرة أخرى ثم تغادرنا لمدة ستة سنوات أخرى ؟
لأول مرة أراه يضحك بصوت مسموع . وددتُ لو تطول ضحكته .. فقد أعطتني شعورا بأولى بشائرالنصر ..
وقال بين ضحكاته : ما رأيك أنت ؟
قلت له : السعادة الزوجية ،، ألا تسوى عندك ثروات الدنيا ؟
قال: بعض الناس يعتقدون أن المال يصنع السعادة.
قلت له : و أنت ؟
قال: السعادة هي زوجة أحبها ..
قلت: ألم تقع في الحب بعد ؟
فوجئتُ بسؤالي هذا الذي أنطلق مني بعفوية ، لكنه نظر إلي طويلاً و قال بلهجة حذرة : أظنني وقعتُ في شباكه ..
فقلت و أنا أزدرد ريقي و أنا ما زلت أعبث ببعض الأوراق: ستفقد أبوك و ثروتك و عملك ..
قال: لا يهمني الآن ... لا يهمني بتاتاً ..
مسكين هذا الرجل ،، أظنه كان سـيعيش في رحاب حزنه و حيرته و تخبطه لولا أن كسرتُ صفحة بحيرته الساكنة و إنتشلته من وَهْدة ضياعه.
غريب أمر بعض الرجال ... أليس كذلك عزيزتي ؟
نادية..
لاأريد أن أخوض في تفاصيل مصارحته لي بحبه الذي زاد من قامتي و أضاء فسحة كبيرة في دواخلي ،، و لكنني وجدت نفسي أمام معركة كبيرة مع والده ،، الذي أرْغى و أزْبد لمجرد أن عرف أنني إبنة عامل بسيط متقاعد يعتمد على معاشه المتواضع ،، و أننا ليس من أرباب الحسب و النسب. و أنا بالطبع أعذر العجوز في ذلك .. فتلك هي موروثاته و ثوابته ..
أرسل لي والده شيكاً بمبلغ كبير لكى أتنازل عنه ،،
هل لك أن تتصوري عجرفة هذا العجوز ،، يريد أن يشتري مشاعري بشيك.
يريدأن يزوج إبنه من إبنة أحد أساطين المال وكأنه لم يكتف بأمواله التي سيرثها إبنه الوحيد هذا ..
أرجعت له الشيك و كتبت له :
أيهاالرجل المحترم : خذ أموالك و جاهك و يكفيني أن أحظى بحب إبنك و إحترامه .. أنا لاأسعى إلى المال و لا هو هدفي ..
فهددإ بنه بحرمانه من الميراث و التبرؤ منه ..
فلم يتزحزح الإبن قيد أنملة ..
سقط الرجل العجوز مغشياً عليه من شدة الغضب.
ولم يتزحزح فارسي النبيل.
إنقسمتْ أسرتي إلى مؤيد و معارض.
وإنقسمت أسرته إلى مساند له و إلى مطبل لرأى العجوز و آخرون يقفون في صفي و لكن في صمت مريب.
ترك حبيبي الشركة و البيت و سكن فندقاً متواضعاً.
تدهورت حالة الأب.
وتأزم الموقف ... و كدتُ أن أضعف ..
قلتُ له واجفة : ( لا تجعل لعنة أبيك تطاردك إن حدث له شيء بسبب موقفك منه بسببي ) ..
ولكنه طلب مني أن لا أكرر مثل هذا القول مرة أخرى ..
جاءني من يقول أن الأب يريدني في المستشفى ...
رفضت الذهاب ،، فربما جرح مشاعري بحفنة من أمواله مرة أخرى محاولاً شراء كرامتي و حبي..
أصرتْ أمي على ذهابي ..
ذهبت و أنا متأهبة ،، أنتقي كلماتي التي سأرد بها عليه..
دخلت غرفته بالمستشفى ،، فوجدتها مليئة بأفراد من أسرته ،،
حدجوني بنظرات و كأنني لصة قُبِض عليها متلبسة بجرم السرقة ،،
لم أُبالِ ،، تقدمت نحوه و ألقيت عليه التحية و وقفت متحفزة أنقل بصري بينهم بتحدٍ سافر،،
وبإيماءة من رأسه خرجوا كلهم و وقفت وحيدة قربه .
طلب مني الجلوس في طرف سريره فجلست .. لم يخيفني وقاره و لا نظراته الحادة ..
قال بصوت عميق : أتحبينه لهذه الدرجة ؟
قلت بثقة : نعم ...
فقال بتحفُّز : إذن خذيه دون مليم أحمر ،،سأجرده من كل شيء ..
قلت بعناد : لا يهمني هذا أبداً و سأكون سعيدة معه و سنبدأ من الصفر..
قال في تحدٍ : لن يعمل هو أو أنت في شركتي ..
قلت بنفاد صبر : الرزق على الله.
قال في إذعان : من علمك هذا العناد ؟
قلت في إعتداد : حبي
قال بعصبية و توتر : الحب لن يأتِ لكم بالخبز ..
قلت بسرعة : و المال لن يأتينا بسعادة و هداوة بال ..
نظرإلي طويلاً ،، ثم طلب مني أن أقترب منه ،،فأمسك بيدي.
و قال: حبي لإبني الوحيد يجعلني أنقاد وراء سعادته هو و ليس وراء قناعاتي ..قد فازعنادك على كل ما كنت أخطط له لسنوات طوال ،، مبروك عليك إبني ..
ثم قال بصوت متهدج و كأنه يغالب البكاء : أرجوك ،، حافظي عليه و أملأي له البيت أطفالاً فنحن لم ننجب غيره ..
ثم أمسك بيدي و قبلها طويلاً ،، فأنحنيت و قبلت جبينه ،، فرأيت دمعة فرح في مآقي العجوز ،، فعدت و عانقته طويلاً و أنا أشكر الله في سري و جسدي ينتفض ..
فرح يشوبه زهو الإنتصار ..
وهرولتُ لأبشر حبيبي فوجدته قد عرف من أبوه الذي خابره بالهاتف قبل وصولي إليه.
كان مسروراً كطفل تعلو شفتيه إبتسامة عريضة..
عزيزتي نادية..
لن أتمم زواجي قبل أن تأتي في إجازة الصيف حتى تري بنفسك كل ما قلته لك و أحكي لك تفاصيل أخرى.
نسيت أن أخبرك شيئاً ،، ( طلبت منه أن ينقل مديرة مكتبه إلى قسم آخر بنفس مرتبها الكبير..).
تحياتي لزوجك و أولادك و في إنتظار حضوركم ،، أرجو أن تكتبي لي
***
جلال داود (الرياض)
من مجموعتي القصصية الثانية (مراسيل)
تعليق