امرأة تنبش عمق الليل
الساعة على الحائط تداري وجهها خلف وشاح الظلام الذي يلف المكان، دقاتها تبشر بآذان الفجر، وبانطلاق صوت المؤذن ليرتفع معلنا أن "لا إله إلا الله....."
وهو والنوم مكرّ مفرّ، يظن مرة أنه اقبل، فيفتح عينيه ليحضنه، ومرة يظن أنه أدبر إلى غير رجعة، فيفترسه صقيع الفراش .
كل ما في الغرفة نائم، أمسهُ ويومه، والنار المشتعلة، والضوء والحائط وصورة ابنه الذي رحل قبل سنة، وصورة أمه التي قتلها الحزن، فلحقت بابنها قبل شهر، والتلفزيون والمخرجون والممثلون الذين لا ينامون، وهو وحيد مع أفكاره المتمردة ، تدقّ السقف المسلّح والحيطان التي تحاصرها، لتنطلق بعيدا، تحاول الوصول إلى نصفه الآخر الذي رحل عنه وعن الدنيا، وتركه كُرة ثلج تدحرجها الساعات والأيام والأرق، وتلهو بها زائرات الليل، عبر أسلاك الهاتف، كل تريده لنفسها قبل أن تخطفه غيرها، أو يخطفها قطار العمر، والأفكار التي تضج كالأجراس في رأسه، تعكر ليله وتمزّق أذنيه، تلمع كالبرق في عتمة ذكرياته، ثم تختفي، مخلفة ظلاما على ظلام، يتراقص في فضاء خياله كالبندول، تشعل آمالا انطفأت، أو توشك على التلاشي، تسبح بغير قيود أو حواجز أو أسلاك أو أمواج.... يخترق بعينيه كثافة هذا الظلام، يبحث عن نَفَس أو هَمْس أو لَمْس دافئ، فلا يجد غير ذكريات تكفر بالموت وترفض التلاشي وتتحدى الأيام والنسيان..
أحس هذه المرة، بالذات، أن هذا ألهدوء ملغوم بالأفكار والأحلام، وأستشعر بإحساس غريب، لم يستطع ان ينسبه لأي حاسة، لا السادسة ولا حتى السابعة، لا يعرف لماذا توقّع أن الزائرة هذه الليلة ستختلف عن الكثيرات اللواتي زدنه أرقا على حزن، وأن أحلامه التي تبدو كالنائمة، تخونه، وتتهادن مع الحزن، وتنتظر غفوة، لتطفو على سطح الظلمة، ولتظهر مع أول لمعة تضيء دروب الغد، وتكشف عن قصور بناها في حلم يقظة أو حلم غفوة، وأخفاها عن حزن يملأ أمسه وحواف يومه وأفكاره ودقات نبضه الذي يخشى غده المتجهم.
ظنّ آن الهاتف نام مع النائمين، لكنه- أي الهاتف- كان يتربص لمعة حلم تأتي، وحين لمعت رنّ كالمكبوت الذي طال كبته، او كالأخرس الذي نطق بعد أن فُكّت عقدة لسانه، وقرر أن يعوض ما فاته من ثرثرة أو صراخ أو عويل..
مد يده التي صارت تعرف الطريق إلى الهاتف، رغم الظلمة الكثيفة التي تلف المكان... رفع السماعة، فجاءه من الطرف الثاني صوت أنثوي ناعم ، لم يسمعه من قبل، يختلف عن الأصوات الكثيرة التي اقتحمت لياليه، ومزقت نعاسه وحزنه...
أيمكن أن أقول صباح الخير؟
- لقد قلتها.
-الم تتعب من الأرق وتملّ من الفراش البارد؟
-زمن زرقاء اليمامة غير زمن المسينجر والميل
- لست زرقاء اليمامة، ولا أجيد العزف على المسينجر، لكني قد أتقن دور نصفك الضائع وأمحو حزنك الذي يجعل أيامك ليلا!!!
- -ولم النبش في الماضي وتحت غطاء الليل ؟!
- لترى الحقيقة التي تغطي عين الشمس أن الحي أبقى من الميت، وعلى ضوئها تعيش دنياك كما يجب!!!
وهل أنت معتادة على اقتحام ليالي الناس ؟؟؟؟
ليلك أنت بالذات!
- ولم أنا ؟
- لأنني أعرف كل شيء عنك
- من أين تعرفين ومن أنت
- دع ذلك للزمن، أما من أين؟ فأنت كتاب مفتوح
وحكت له كل شيء عنه،عن حزنه الذي يلتهم أيامه، وعن فرحه الذي ضاع في الموسم الماضي، وعن أعماله التي فقدت نكهة الحياة، ... وعن أحداث طواها النسيان .
- وحين سألها ماذا تريد، قالت:
أريد أن أزرع على شفتيك بسمة الحياة ، وألغي سمفونية الحزن الباهتة من مجاري نبضك والملم بقايا ابتساماتك ،لأجمعها في باقة ارسمها على شفتيك، لتلمع في سواد ليلك الحزين، وأريد أن اقتلع الحزن من ينابيع روحك لأطهرها من درنات الماضي الكئيب.
وهو والنوم مكرّ مفرّ، يظن مرة أنه اقبل، فيفتح عينيه ليحضنه، ومرة يظن أنه أدبر إلى غير رجعة، فيفترسه صقيع الفراش .
كل ما في الغرفة نائم، أمسهُ ويومه، والنار المشتعلة، والضوء والحائط وصورة ابنه الذي رحل قبل سنة، وصورة أمه التي قتلها الحزن، فلحقت بابنها قبل شهر، والتلفزيون والمخرجون والممثلون الذين لا ينامون، وهو وحيد مع أفكاره المتمردة ، تدقّ السقف المسلّح والحيطان التي تحاصرها، لتنطلق بعيدا، تحاول الوصول إلى نصفه الآخر الذي رحل عنه وعن الدنيا، وتركه كُرة ثلج تدحرجها الساعات والأيام والأرق، وتلهو بها زائرات الليل، عبر أسلاك الهاتف، كل تريده لنفسها قبل أن تخطفه غيرها، أو يخطفها قطار العمر، والأفكار التي تضج كالأجراس في رأسه، تعكر ليله وتمزّق أذنيه، تلمع كالبرق في عتمة ذكرياته، ثم تختفي، مخلفة ظلاما على ظلام، يتراقص في فضاء خياله كالبندول، تشعل آمالا انطفأت، أو توشك على التلاشي، تسبح بغير قيود أو حواجز أو أسلاك أو أمواج.... يخترق بعينيه كثافة هذا الظلام، يبحث عن نَفَس أو هَمْس أو لَمْس دافئ، فلا يجد غير ذكريات تكفر بالموت وترفض التلاشي وتتحدى الأيام والنسيان..
أحس هذه المرة، بالذات، أن هذا ألهدوء ملغوم بالأفكار والأحلام، وأستشعر بإحساس غريب، لم يستطع ان ينسبه لأي حاسة، لا السادسة ولا حتى السابعة، لا يعرف لماذا توقّع أن الزائرة هذه الليلة ستختلف عن الكثيرات اللواتي زدنه أرقا على حزن، وأن أحلامه التي تبدو كالنائمة، تخونه، وتتهادن مع الحزن، وتنتظر غفوة، لتطفو على سطح الظلمة، ولتظهر مع أول لمعة تضيء دروب الغد، وتكشف عن قصور بناها في حلم يقظة أو حلم غفوة، وأخفاها عن حزن يملأ أمسه وحواف يومه وأفكاره ودقات نبضه الذي يخشى غده المتجهم.
ظنّ آن الهاتف نام مع النائمين، لكنه- أي الهاتف- كان يتربص لمعة حلم تأتي، وحين لمعت رنّ كالمكبوت الذي طال كبته، او كالأخرس الذي نطق بعد أن فُكّت عقدة لسانه، وقرر أن يعوض ما فاته من ثرثرة أو صراخ أو عويل..
مد يده التي صارت تعرف الطريق إلى الهاتف، رغم الظلمة الكثيفة التي تلف المكان... رفع السماعة، فجاءه من الطرف الثاني صوت أنثوي ناعم ، لم يسمعه من قبل، يختلف عن الأصوات الكثيرة التي اقتحمت لياليه، ومزقت نعاسه وحزنه...
أيمكن أن أقول صباح الخير؟
- لقد قلتها.
-الم تتعب من الأرق وتملّ من الفراش البارد؟
-زمن زرقاء اليمامة غير زمن المسينجر والميل
- لست زرقاء اليمامة، ولا أجيد العزف على المسينجر، لكني قد أتقن دور نصفك الضائع وأمحو حزنك الذي يجعل أيامك ليلا!!!
- -ولم النبش في الماضي وتحت غطاء الليل ؟!
- لترى الحقيقة التي تغطي عين الشمس أن الحي أبقى من الميت، وعلى ضوئها تعيش دنياك كما يجب!!!
وهل أنت معتادة على اقتحام ليالي الناس ؟؟؟؟
ليلك أنت بالذات!
- ولم أنا ؟
- لأنني أعرف كل شيء عنك
- من أين تعرفين ومن أنت
- دع ذلك للزمن، أما من أين؟ فأنت كتاب مفتوح
وحكت له كل شيء عنه،عن حزنه الذي يلتهم أيامه، وعن فرحه الذي ضاع في الموسم الماضي، وعن أعماله التي فقدت نكهة الحياة، ... وعن أحداث طواها النسيان .
- وحين سألها ماذا تريد، قالت:
أريد أن أزرع على شفتيك بسمة الحياة ، وألغي سمفونية الحزن الباهتة من مجاري نبضك والملم بقايا ابتساماتك ،لأجمعها في باقة ارسمها على شفتيك، لتلمع في سواد ليلك الحزين، وأريد أن اقتلع الحزن من ينابيع روحك لأطهرها من درنات الماضي الكئيب.
رغم أنه في العقد السادس من عمره، وعمره ضعف عمرها تقريبا، إلا أنه أحسّ أنها كتلة من الثقافة والحب والتضحية وأنها على استعداد لأن تعيش معه كظله. استطاب حديثها واستأنسه، وصار ينتظرها كمن ينتظر طلوع الصبح وشروق الشمس ليهرب من برودة رماد نار الفراش، ويستظل في ظلال حروفها الدافئة.
- في حديثها نضوج واتزان وحساب للأيام، وفيه فكر وفلسفة وحلاوة ودفء!
وتكررت زياراتها، ولم تعد تتقيد بآخر الليل وإن ظلت تتسلل في ظلّه، كي لا تكشف عن هويتها...
وتشعب الحديث، وتناول الحديث أمورا عائلية وشخصية، واتسعت دائرة الكلام لتقتحم ما يخدش الحياء...
- عندئذ أوقفته،
صارحها أخيرا أنه لا يستطيع تجاوز فارق العمر، ويخاف مطيات الأجيال، وضعف المرأة أمام عنفوان الغريزة ومغامرات الشباب ومطباته، واقترح أن تنسحب من حياته.
أحسّت أنها جُرِحَتْ، وكما يغضب العاقل حين يُهان، غضبت وشتمته وطرقت سماعة الهاتف.
وغابت وراء الأسلاك!
وظلت سرا غامضا، ولغزا بدون حلّ، يتمنى لو يفكّ طلاسم غموضه !
لم يعرف من أين هي، ومن هي...
- لكنها تركت في نفسه احتراما وتقديرا لنضوج تفكيرها وأمنية التعرف بها
وظل ينتظرها كمن ينتظر آذان الفجر، وطلوع الصبح وشروق الشمس.. ويبحث عنها كمن يبحث عن شيء ثمين، سقط من بين يديه، وضاع في متاهات الحياة!!!!
- في حديثها نضوج واتزان وحساب للأيام، وفيه فكر وفلسفة وحلاوة ودفء!
وتكررت زياراتها، ولم تعد تتقيد بآخر الليل وإن ظلت تتسلل في ظلّه، كي لا تكشف عن هويتها...
وتشعب الحديث، وتناول الحديث أمورا عائلية وشخصية، واتسعت دائرة الكلام لتقتحم ما يخدش الحياء...
- عندئذ أوقفته،
صارحها أخيرا أنه لا يستطيع تجاوز فارق العمر، ويخاف مطيات الأجيال، وضعف المرأة أمام عنفوان الغريزة ومغامرات الشباب ومطباته، واقترح أن تنسحب من حياته.
أحسّت أنها جُرِحَتْ، وكما يغضب العاقل حين يُهان، غضبت وشتمته وطرقت سماعة الهاتف.
وغابت وراء الأسلاك!
وظلت سرا غامضا، ولغزا بدون حلّ، يتمنى لو يفكّ طلاسم غموضه !
لم يعرف من أين هي، ومن هي...
- لكنها تركت في نفسه احتراما وتقديرا لنضوج تفكيرها وأمنية التعرف بها
وظل ينتظرها كمن ينتظر آذان الفجر، وطلوع الصبح وشروق الشمس.. ويبحث عنها كمن يبحث عن شيء ثمين، سقط من بين يديه، وضاع في متاهات الحياة!!!!
تعليق