ذات صيف

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • توفيق بن حنيش
    أديب وكاتب
    • 14-06-2011
    • 490

    ذات صيف

    ذات صيف
    كنت أسرع و ضجيج محرك السيارة ينبئ بأنه على وشك الانفجار ... كانت أمه تستحثّني على الإسراع أكثر ... كان قلبه قذ أخذ في التثاقل و امتقع لونه ولم يعد يرد على توسلاتها بحركات عينيه التي كانت تطمئنها .
    كنت طفلا يترصد العصافير على ماجل الحارة حيث نصبت أنشوطة ... يترقب وصول العصافير العطشى لم يكن يدور في خلدي أنها عصافير مهاجرة من أوروبا فرّت من البرد و أنها تعشق الحرارة التي تستبدّ بها و تسوقها إلى أنشوطتي عطشي فتلقى مني القنصَ .
    ضغطت على دواسة البنزين أكثر و أنا أسأل الأم الباكية المنتحبة و هي تمسح وجه الصبي و تاول فتح عينيه . سألتها "هل مازالت به بقية من حرارة ؟"كان سؤالا غبيا
    لم تجبني ...
    كنت اليافع الذي ثنى سرواله عن ساق و ترك الأخرى ...اليافع الذي يسد عطشه و جوعه أن يمسك بالعصفور ويودعه القفص ... اليافع الذي لم يكن يوما يتمنى أن يرزق أبناء بل لم يكن قد فكر في ذلك البتة . كان الفتى اليافع يدوس على الشوك فيصيب قدمه فيجلس الى ظل ينتزع ما اذى قدمه ثم ينطلق كأن شئا لم يقع.
    كنت أضغط بقدمي على دواسة البنزين متمنيا أن يعترضنا المستشفى وفد غادر وسط المدينة...ستكون حركة نبيلة لو فعل . حركة المرور خانقة و تزداد حدتها في الصيف حين يعود المهاجرون و يتوافد السياح الجزائريون ...
    تصورت المستشفى يلملم بعضه و يزحف بمن فيه من أطباء و ممرضين و يواصل زحفه حتى يوافينا خارج المدينة ... لكن قدمي بدأت تؤلمني...
    خيّل لي يومها أنّ العصفورة المسكينة كانت تتوسّل إليّ لأطلق سراحها فزادني ذلك تمسّكا بها.بدا لي أنّها كانت تنظر إليّ نظرات أحسّها تقع عليّ ولا شيء يؤكّد لي ذلك غير ذلك الإحساس المبهم ... لم اكن استطيع النّظر في عينيها كنت مشغولا بالزينة ,بالريش الناعم ,بزحمة الخيال حول حلّها وترحالها وبما سيكون من تغريدها في مستقبل الأيام حينما تستقرّ في القفص ...باختصار أحببتها لذلك لم أكن قادرا على النّظر في عينيها
    كنت أسير بسرعة جنونيّة جعلت الآخرين من مستعملي الطريق يتهجّمون علي غاضبين وكنت أسمع أطرافا من السّباب .كنت أريد أن أقول لها :"دعيه يموت في سلام فقد ماتت قبله أشياء جميلة وأهمّ منه بكثير ...أشياء فاجأتنا بأوراقها الذّابلة فاجتثثناها من اصولها دون رحمة "لكني لم أجرؤ على قول ذلك لانّي ربّما كنت مشغولا بمسابقة الزّمان لإنقاذ الصّبيّ وفكّرت في ما يمكنني قوله لأخفّف من روعها غير أنّ الأشياء كانت تطلّ من ثقب الزّمان الصّغير وتنكصّ على أعقابها عائدة إلى الكهف المظلم ...بعض الكلمات كانت تولد على شفتي ميّتة ..حينما أهم بها ترتجف ارتجافتها الأخيرة وتموت كما ماتت أشياؤنا الهامة في السابق ...يا لها رفة...
    وضعت عصفورتي في قفص ومكثت أتسلى بقفزاتها الغبية أياما وقد ذهب في ظنّي حينها أن الأيام كفيلة بأن تجعلها تغرّد للمحبس وكنت أمنى النفس بقبولها الواقع الجديد وأنّعا ستنسى الايام الخوالي التي كانت تهاجر فيها من أوروبا الشرقية .أغدقت عليها من المكسّرات ألوانا ...كنت أجشّم نفسي مشقة سرقتها من بيت الجيران دون أن يتفطّن إلى ذلك أحد وكنت أقف أمامها بسروالي المهلهل وقد شمرت عن ساق وتركت الأخرى,أقف أما مها حافيا ,أقف امامها بشعر أشعث مغبرّ وأنا أمنى النفس ان تتذوّق وسامتي وتعجب بفحولتي وتغرّد لي ومن أجلي تملأ الحيّ زقزقة ...
    حينما اقتربنا من المدينة ولاح لي المستشفى ذي الطّوابق من بعيد وقد ضرب في الأفق الرّماديّ المضمّخ برطوبة البحر رجتني أن أسرع أكثر وجعلت تتوسّل إليّ دون أن تذكر اسمي وتبيّن لي أنّها لم تكن تنظر إليّ ولكني أحسست بخدر يدبّ في مفاصلي ومكرت ...جعلت أرفع رجلي عن دواسة البنزين بلطف ليعود للسيارة رشدها وأناتها واستعضت عن الدّوس بسبّ السيارات وسواقها من أولئك الذين يسيرون أمامي ويعطّلون حركة المرور وانتشيت كثيرا وغمرتني سعادة كبرى حينما اشتدّ توسّلها ...لم يعد أمر الصبي يهمني كثيرا ...كلما أتمناه هو أن يفرّ المستشفى ويختفي مراوغا ليزيد توسّلها أكثر وأكثر ..
    تلك العصفورة الصّغيرة الجميلة كانت لغز ذلك الصّيف .لغزي الذي أحببت .:عافت المكسرات والماء والتغريد وجعلت حركتها تهدأ وتهدأ إلى ان بركت في ركن من القفص وصوّبت نحوي عينين يملؤهما العقوق والحقد .بدت لي أنثى تريد ان تقاسمني الحكمة والوقار .وبدون مقدّمات مددت إليها يدي وأخرجتها من وقارها وحدّقت فيها مليا أريد هزيمتها لكنّها صمدت أكثر من المتوقّع ولم يكن لي قبل بسهامها الصماء ... كانت قاب قوسين أو أدنى من الموت ...ساءني أن أراها تموت كما تشتهي ,,أفزعني أن أراها تمضي إلى العالم الآخر وتتركني ...أمسكت برأسها الصّغير وأغمضت عينيّ ولويت رقبتها ...لقد ماتت
    كانت سيارتي تسير ببطء وسط الزّحام وكنت وحيدا وحيدا وحزينا كذلك اليوم الحزين وكنت استعذب أغنية أسمعها تأتي من غابر الدهر والزّمان :"البارح البارح كان في عمري عشرين "
    توفيق بن حنيش 15جوان 2011
    التعديل الأخير تم بواسطة توفيق بن حنيش; الساعة 24-06-2021, 17:32.
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    مراوحة ناجحة و لذيذة بين استحضار مشهد من مشاهد الطّفولة و بين لحظة راهنة مستعجلة ،القاسم المشترك كان النّداء المتوسّل في كلتا الحالتين.
    السّرد رائع و الوصف مؤثّر و صادق.
    و أتساءل أستاذ توفيق لم " هان " عليك نصّك الجميل كي تستعجل له بالقفلة،حتّى أنّي أحسست أنّك انتهيت منه أكثر من كونك أنهيته.
    و يحمل السّطران الأخيران مفاجأة أخرى:حين تفهم أنّ ما اعتقدناه حاضرا راهنا و المقصود هنا حادثة الأمّ و طفلها كانت هي الأخرى في بطن الماضي،لتنتهي القصّة على مكاشفة مضارعة تصوّر كهلا وحيدا حزينا يتذكّر.

    محبّتي و تقديري أستاذ توفيق.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • توفيق بن حنيش
      أديب وكاتب
      • 14-06-2011
      • 490

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
      مراوحة ناجحة و لذيذة بين استحضار مشهد من مشاهد الطّفولة و بين لحظة راهنة مستعجلة ،القاسم المشترك كان النّداء المتوسّل في كلتا الحالتين.
      السّرد رائع و الوصف مؤثّر و صادق.
      و أتساءل أستاذ توفيق لم " هان " عليك نصّك الجميل كي تستعجل له بالقفلة،حتّى أنّي أحسست أنّك انتهيت منه أكثر من كونك أنهيته.
      و يحمل السّطران الأخيران مفاجأة أخرى:حين تفهم أنّ ما اعتقدناه حاضرا راهنا و المقصود هنا حادثة الأمّ و طفلها كانت هي الأخرى في بطن الماضي،لتنتهي القصّة على مكاشفة مضارعة تصوّر كهلا وحيدا حزينا يتذكّر.

      محبّتي و تقديري أستاذ توفيق.
      محبّتي وتقدير استاذ فطومي ...الحقيقة استعذبت ذلكالسّقوط الفجئي في العدم تلك النهاية المفاجأة التي تنعقد عليها الحبكة في القصّة ...دمت لي صديقا وأحمد ربي أن يسّر لي إسعاد أصدقائي

      تعليق

      • عائده محمد نادر
        عضو الملتقى
        • 18-10-2008
        • 12843

        #4
        أسعد كثيرا حين اقرأ لك
        نوستالوجيا الحنين رائعه كما عهدي بك
        حقيقة بن حنيش أنت من الأدباء الذين اقرأ لهم وأفرد من الوقت الكثير كي أدخل قلب عاصفة نصوصك لأني أدري بك لاتكتب من فراغ، وادري أنك تكتب وبقوة .
        أفحمتني الصور التي رشقت عيني بموجة من الزخم والذكريات
        وهل نكتب إلا لأننا نمتلك كل تلك القوة كي نستحضر كل الجراحات
        أنت أديب رائع
        وكل النجوم لن تفي الحق
        أتمنى وبشدة أن أقرأ جديدك أو قديمك لايهم المهم أن أقرأ لك
        محبتي وغابات غاردينيا
        الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

        تعليق

        • أميمة محمد
          مشرف
          • 27-05-2015
          • 4960

          #5
          أعجبت بالسرد، وتلك المراوحة، صحبة أديب واثقة خطاه.
          تحيتي

          تعليق

          • توفيق بن حنيش
            أديب وكاتب
            • 14-06-2011
            • 490

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة أميمة محمد مشاهدة المشاركة
            أعجبت بالسرد، وتلك المراوحة، صحبة أديب واثقة خطاه.
            تحيتي
            لك الشكر أجله
            التعديل الأخير تم بواسطة توفيق بن حنيش; الساعة 26-01-2018, 12:32.

            تعليق

            • توفيق بن حنيش
              أديب وكاتب
              • 14-06-2011
              • 490

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة أميمة محمد مشاهدة المشاركة
              أعجبت بالسرد، وتلك المراوحة، صحبة أديب واثقة خطاه.
              تحيتي
              لك الشكر أجله

              تعليق

              • نورالدين لعوطار
                أديب وكاتب
                • 06-04-2016
                • 712

                #8
                ذات صيف قصة غير نمطية
                منسوبها الإبداعي مرتفع

                دمت على ألق

                تعليق

                • توفيق بن حنيش
                  أديب وكاتب
                  • 14-06-2011
                  • 490

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة نورالدين لعوطار مشاهدة المشاركة
                  ذات صيف قصة غير نمطية
                  منسوبها الإبداعي مرتفع

                  دمت على ألق
                  هذا من حسن قراءتك ...

                  تعليق

                  • سلمى الجابر
                    عضو الملتقى
                    • 28-09-2013
                    • 859

                    #10
                    ابداع و تميز و قصة محبوكة السرد.
                    أعجبني أنني كنت هنا في حضرة الجمال
                    تحيتي للاستاذ توفيق حنيش الذي نتعلم منه

                    تعليق

                    • محمد فطومي
                      رئيس ملتقى فرعي
                      • 05-06-2010
                      • 2433

                      #11
                      نصّ خالد حقّا.
                      تحيّة لك أستاذ توفيق.
                      مدوّنة

                      فلكُ القصّة القصيرة

                      تعليق

                      • توفيق بن حنيش
                        أديب وكاتب
                        • 14-06-2011
                        • 490

                        #12
                        المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
                        نصّ خالد حقّا. تحيّة لك أستاذ توفيق.
                        أحييك صديقي ...شكرا جزيلا...تقبّل هديتي إليك (هي نصّ أنشره الآن)

                        تعليق

                        • محمد فطومي
                          رئيس ملتقى فرعي
                          • 05-06-2010
                          • 2433

                          #13
                          واحدة من أجمل القصص القصيرة التي مرّت من هنا ولم نفيها حقّها
                          إنّها حقّا من ذلك النوع من النصوص الذي تتمنّى أن يشاركك الجميع قراءته.
                          أسوق تحيّة للأستاذ توفيق بن حنيش وأرجو له التّوفيق حيثما كان.
                          مدوّنة

                          فلكُ القصّة القصيرة

                          تعليق

                          • بوجمعة الهذيلي
                            عضو الملتقى
                            • 18-11-2020
                            • 32

                            #14
                            سرد جميل أعجبني
                            دمت الأديب توفيق بن حنيش

                            تعليق

                            • توفيق بن حنيش
                              أديب وكاتب
                              • 14-06-2011
                              • 490

                              #15
                              شكرا للأديب والمترجم محمّد فطومي . هذا من كرمك ورفعة ذوقك. سأنقل شهادتك إلى الفيسبوك. فهي شهادة سأظلّ أفتخر بها.
                              التعديل الأخير تم بواسطة توفيق بن حنيش; الساعة 26-11-2020, 06:29.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X