عصا البرواق
ـ ماذا ألمّ بك يا كبد أمّك ؟
ـ لقد ناداني أبناء " الحومة " يا ابن أمّك ! يا ابن الفاجرة ! هل أنت فاجرة يا ماما ؟ وما معنى فاجرة ؟
اغرورقت عيناها . غير أنّها ابتلعت الدّمع ، فغصّ الحلق بالصّوت ، ورسمت الشّفتان المرتجفتان شفقة ، ابتسامة تحاول أن تقنع العينين البريئتين الغريقتين في الدّموع ، ألاّ أهمّيّة للأمر .
ماذا عساها تقول له ؟ أيّة كلمات تلك التي تستطيع أن تشرح الأمر لابن الخمس سنوات ؟ لم تتحضّر كفاية لمثل هذه المواقف .
احتضنته ، ضمّته الى صدرها خجلا من براءة عينيه ، وهربا من اكتشاف الطّفل لعدم التّناسق الفاضح بين الصّوت المفعم بالقوّة ، والملامح المهزومة خوفا وحزنا .
ـ لا عليك يا بني لا تهتمّ لكلامهم ... ثمّ ... هل من العار أن ينادى الطّفل باسم أمّه التي تحبّه ...؟
أبعدته قليلا وقد تداركت ملامحها الهزيمة ، ثمّ رفعت ذقنه بسبّابتها تواجهه بالسّؤال :
ـ هل تخجل باسم أمّك يا حبيبي ؟
احتضنها خجلا :
ـ كلاّ يا ماما هيا لا تغضبي منّي أرجوك ... لن أخجل من اسمك ثانية ... أبدا أبدا ... حتّى ان اسمك جميل جدّا ويعجبني .
كرهت ضعفها الذي ابتزّ مشاعره البريئة وجعله يحاول إرضاءها بتجنّب اللعب مع الصّبية .
ماذا عليها أن تفعل ؟ هل ترتحل ثانية ؟ هل تهرب من جديد ؟ أعياها التّرحال دون فائدة . نفس النّظرات، نفس الشكّ والإنكار ، نفس الذّلّ ، نفس الغربة ، نفس العدوى تصحبها أينما حلّت ...
ـ في كلّ مكان أقيم به يُلحقون بي العار ... ينعتونني بالفجور ، بمجرّد أن تمضي أيّام ، ولا يدخل من بابي رجل . يلاحظون وجودي مع ابني دون زوج ، دون أهل يتردّدون علي . يناقشون أمري بينهم ، دون أن يسألوني . يفترضون ... يحلّلون ... يستنتجون ... ويصدرون أحكاما ، يعلنون عنها في نظراتهم ، وعلى شفاه أطفالهم ودموع ابني .
ـ إذا لم أرتحل ثانية ، ماذا عساني أفعل ؟ كيف أخرس أبناء السّفلة الذين يقصون ابني ...؟ أطرق كلّ القلوب والأبواب الموصدة في وجهه .لأشرح أمري ، وأبرّئ نفسي وابني من العار الذي يقذفوننا به على ألسنة أبنائهم . وأقسم لهم بما شاءوا ألاّ عار أخفيه بين جنباتي ولا في ثنايا ماضيّ . وانّي لست سوى امرأة تأبى الذّلّ ...
من سيسمح لي بالوقوف أمام بابه ؟ وهم لا شكّ يخشون على أعراضهم منّي . الحاج مسعود إمام الجامع؟؟؟ لن يسمعني فكلّما اعترضته قال وهو يشيح بنظره عنّي : أعوذ بالله ... أهل النّارسيماهم على وجوههم ..." عمْ علي لحلايبي " يرفض أن يبيعني حليبه المغشوش فكيف سيسمعني ؟ من ؟ ... من ؟ حتّى عمّار " العايب " بائع الخمر ، وزوجته النّمّامة ، لن يسمحا لي بالتّحدّث إليهما .
ـ ما الحلّ ؟ ما العمل ؟ أعود إليه محاصرة بنظراتهم ذليلة ، خاضعة ، بعد أن غادرته قويّة ، متحدّية ؟؟؟
هذه المرّة ، لن يكتفي بأن يثمل بعصارة عرقي ، ولن يتّخذ من مشاعري جسرا لمآربه الدّنيئة . بل سيجعل منّي سلعة رخيصة في سوق لياليه الحمراء . عندها فقط أخرج من دائرة الاتّهام . مرفوعة الرّأس ، وأنقذ ابني من الإقصاء . كيف لا ؟ وأنا امرأة متزوّجة وبيتي يؤمّه رجل يتأرجح ثملا .
آسفة يا بني . لن أعود إليه . أهون عندي أن أضرب في الأرض كلّما أقمت في مكان بارد النّظرات ، إلى أن أجد من ينصفني أو أن تصير أنت رجلا ينصفونني لأجله .
ـ أبوك يا ولدي كعصا " البرواق " في يد الرّاعي يهشّ بها القطيع فينصاع لها ، أمّا إذا أعياه المشوار ، وخوّلت له نفسه أن يتّخذ منها سندا ، تداعت ضعيفة فخذلته .
ذات يوم ستكبر يا أملي . وسأحاول أن أبرّئ نفسي أمامك . إن وجدت سمائي مغشّاة بالعار ، سأعود بذاكرتك إلى سنوات التّرحال . سأشرح لك كم كان الاختيار صعبا . إمّا أن أعيش في ظلّ أبيك المترع بالوحل ، أتّخذ منه ـ قسرا ـ عصا " برواق " يعفّر أنفي مجاملا بي من يهديه قنيّنة خمر رخيصة ، فيتمرّغ على جسدي ، يفرغ فيه شهوة حيوانيّة عفنة . أو أن أخرج من ظلّ أبيك أواجه القطيع دون عصا "البرواق" وتدفع أنت ثمن تذكرة خروجي دموعا وإقصاء .
لقد رفضت الانصياع لأنانيته المسعورة بنيْ . ذات ليلة ، دفع باب غرفتي مترنّحا ، يقود كلبا مسعورا من ندمائه كما كان يفعل دائما . وكنت شعرت بنبض قلبك في أحشائي يصفّق للحياة ، ويدعوني لأصفّق معه . رفضت أن يدنّس العفن والفجور فرحتك بالحياة . شدّني ليلتها من شعري وضربني حتّى كاد يجهضك.غبت عن الوعي لا أدري كم من الوقت ، وعندما أفقت كان الوقت فجرا . وقفت أتفقّد طهارتك من وحل أبيك غير عابئة بثقل الكدمات . وكان ذلك آخر عهدي به .
ولمّا خرَجْتَ إلى الدّنيا ، وملأت رئتيك هواء نقيّا كسريرتك ، غير معفّر بتبغ أبيك المفعم بنفسه الكريه ، ولا برائحة خمر ندمائه الأوباش ، كرهت لك أن تحمل نسب أبيك " البرواق " وأهديتك نسبي . لكن ... ماذا لو كبرت وصرت مجرّد فرد في القطيع ، وكنت أوّل كراع ترفسني في مقتل ؟؟؟
استوت واقفة قبالته وهي تجهر بالقول :
ـ من أجلك يا ولدي سأعود إليه . سأرجوه أن يغفر لي . علّه يعترف بك ويسعفك بكنيته . لأجلك سأعود طوعا إلى عصا " البرواق " . سألتقطها ، لألوّح بها للقطيع ، لأيّام عمري ، فتمضي سراعا ، سأسند نفسي إلى الحلم . أو ... حتّى ... إلى الوهم ، إن استبدّ بي الإعياء . وسأظل أنحت منك عصا عرعر ، متين ، لا ينهكه الزّمن ... علّك تقيني ونفسك شرّ أبيك ، وشرّ القطيع . مادام لابدّ من العصا .
عصا البرواق : قصبة سميكة ، تظهر للعين متينة لكنّهاهشّة جدّا .
وقد وردذكرها في مثل شعبيّ تونسي .
تعليق