القارورة
أخذ جميل يلوم نفسه.. كم نصحني المقربون أن أكمل دراستي الجامعية عندما امتزت في تحصيلي الثانوي، على الأقل لربما كنت أعمل بوظيفة تدر مالا أكثر في ساعات دوام أقل وفرص عمل أكثر.
ودار الصراع عميقا داخله، وأسترسل مجددا: المهم ألان هو
توقف جميل عن محاوره ذاته وتنهد عميقا ثم استرسل مجدداً: المهم هو إيجاد فرصة عمل أيا كانت، فحتى هذه غير متوفرة في أيامنا هذه.. "القادمون الجدد" و"العمال الغرباء" احتلوا جميع فرص العمل ولم يبقى لنا نحن أصحاب هذه البلاد الأصليّن الكثير من هذه الفرص.. إنها عملية السلطة المبرمجة بدقة.. يبغون تهجيرنا باختيارنا.. يقودوننا إلى ذلك رويدًا رويدًا..
تنهد ثانية وواصل حديثه : لا.. لا إنهم لا يستطيعون فإصرارنا أقوى منهم.. ولكننا فقدنا الأرض وأصبحنا على كف عفريت.. قد يصمد جيلنا في هذه البلاد ولكن ماذا مع الجيل القادم؟ إن التفكير بهذا أمر مزعج.. يخرج الإنسان عن طوره.. ولكن هل سيلعب القدر إلى جانبهم؟ انه أمر محير؟! لقد تزوجت وأنجبت.. حرثت البلاد طولا وعرضا شمالا وجنوبا من الناقورة حتى أيلة (ايلات) ولم افلح بالحصول على فرصة عمل ملائمة ومع الوقت بدأت أتنازل عن كبريائي وهيأت نفسيتي لقبول أي فرصة أجدها.. اه لو توفرت الإمكانية للعودة إلى الدراسة.. فالموضوع بحاجة إلى الكثير من المال الذي أفتقده اليوم.. لقد أصبحت الدراسة تقتصر على الأغنياء..
ووجد نفسه يتحدث بصوت مسموع:
سأحاول العمل كمساعد لبلاط أو قصار، أو أي عمل أخر، وفي نفس الوقت أقوم بدور مهنية قصيرة تمكنني أن الانطلاق قدماً .
توجه جميل إلى المدينة حيث احد المعاهد وقام بإلقاء نظرة على الدورات المعلن عنها.. تقني مكيف هوائي.. إنها مهنة جيدة ولكن الأوضاع الاقتصادية قد تقف حجر عثرة أمام الناس في هذه الظروف.. وكيل تأمين؟ لا بأس ولكن كيف سأشق طريقي في هذا العمل مع العاملين القدامى في هذا المجال.. مدقق حسابات.. مهنة رائعة جداً ولكنه بحاجة إلى فترة زمنية طويلة.. طباخ.. دورة سريعة.. ستة أشهر.. رائع جداً.. ماذا طباخ؟.. لا ..لا مستحيل.. ولماذا مستحيل إن كل شيء خاضع للظروف الاقتصادية ما عدا الطعام.. الأكل لا يستطيع أن يستغني عنه الإنسان لذلك فهي مهنة مضمونة.. مجتمعنا العربي بدأ يقيم هذه المهنة.. لذلك لا بأس لكن كيف سينظر إليّ الناس.. جاء الطباخ.. ذهب الطباخ.. إنها مهنة غير.... لا.. لا إن العمل أيا كان ليس عارًا.. ووجد نفسه يسجل لهذه الدورة وأخذ خلال فترة دراسته يفتش عن مجال عمل في أطار مهنته العتيدة وما أن أنهى الدورة حتى بداء يعمل في أحد منتزهات الأفراح.. وأخيراً حالفني الحظ..
شرح له صاحب المنتزه طبيعة العمل وأعلمه بان أجرة عملة مرتبطة بالحد الأدنى من الأجور، شأنه شأن جميع الرساميل الأمر الذي لم يرق له ولكن ليس في اليد حيلة.
بداء جميل متحمسًا كي يثبت لصاحب المنتزه جديته وإخلاصه لكن صاحب المنتزه أخذ يستغل ما آل إليه الوضع في سوق العمل ويترك عماله يعملون ساعات إضافية دون أن يمنحهم مستحقاتهم كاملة.. انتظر جميل طويلًا على أمل أن يعرف صاحب المنتزه جديته ونشاطه وإخلاصه فيمنحه حقه نتيجة لذلك ولكن دون جدوى.. فكر في ترك العمل ولكن إلى أين ووجد نفسه يقول: "عصفور في اليد أفضل من عشرة على الشجرة " فكر أن يستغل فرصة يكون فيها صاحب المنتزه في أمس الحاجة إليه ليخرج إلى إجازة (مرضية) وسرعان ما جاءت الفرصة، ولكن فرملة من ضميره جعلته يعدل عن فكرته.. لن أخرج في أحلك الظروف.. سأعمل معىروفا وارميه في البحر.
وكان ذات يوم أن دخل إحدى المقاهي كي يهرب من محنة وجوده وهناك وجد نفسه يدلق أحاسيسه حول ظروف عمله إمام رواد المقهى وصدفة كان من بين الحضور صاحب منتزه منافس الذي انقض على الفرصة: أريدك في أمر هام.. تعال لنتحدث! وجلسا في زاوية بعيدة وهناك اخذ عليه صاحب المنتزه عهدًا بعدم كشف السر وبعد حديث طويل صعق جميل من طلب صاحب المنتزه المنافس وفكر أن يصفعه ولكن صاحب المنتزه المنافس قال له بعد أن أغواه بالمال:
* إنها فرصتك للانتقام من مشغلك، كل ما في الأمر هو أن تأخذ هذه " القارورة" الصغيرة وتسكب منها وقطرات قليلة على الطعام قبل تقديمه، وعندها حالة من الإسهال ستصيب من أكل من الطعام بعد أن يعود إلى بيته .
وفي اليوم الموعود وقف جميل فوق قدر الطعام ووضع يده في جيبه لإخراج " القارورة" وهو يقول: سأصفي حسابي معك أيها الجشع، ولكنه وجد نفسه عاجزًا.. شد علي القارورة بقبضة يده وهو يصر على أسنانه.. لماذا يا جميل لا تجرؤ؟ صاحب المنتزه يضطهدك.. عملك صعب.. مسؤوليتك كبيرة.. تقفز كالقرود كي تستطيع أن توفر الطعام في فترة محددة.. وتعنيف لأتفه الأسباب.. إنها معاملة عبيد.. يجب أن لا تخشى.. أخرج القارورة وأسكب.. أن كل ما في الأمر سيجعل الرواد يتناقصون مما سيسهل عملك ليصبح بحجم المعاش.. ولكن ماذا لو كانت المادة سامة؟!.. فهل إذا أفلت من عقاب القانون سأفلت من عقاب رب العالمين؟! وماذا عن عذاب الضمير؟! لا.. لا انها مادة ضد الإمساك كما تشير البطاقة بوضوح، وهي ما زالت مغلقة بختم الشركة المنتجة.. ولكن ضميري لا يسمح لي.. وماذا مع ضمير صاحب المنتزه؟!.. هل أخرجه إلى إجازة؟!.. سأسكب وليكن ما يكن!!.. لا يا جميل.. إياك والانزلاق!!.. ولكن صاحب العمل يتعامل معي كما يتعاملون مع الحيوانات.. كان جدي يقول لنا لا تعلوا ظهر الحمار اليوم فالحمار قد تعب.. انه أمر مؤلم.. من ناحية تريد أن تنتقم ومن ناحية أخرى تريد أن توفر لقمة الحلال لأسرتك!
القي جميل نظرة من خلال شباك أفقي صغير مرتفع يطل على القاعة.. وشاهد المئات وقد أخذوا أماكنهم فرحين.. داهمته حالة من الارتباك الشديد.. أيقظه صوت صاحب المنتزه:
"ما لك يا جميل اليوم؟.. لماذا أنت متوتر؟"
ووجد نفسه يصرخ بصوت عال: "لا أستطيع.. لا أستطيع.. أنا لا أستطيع.."
فسأله صاحب المنتزه: "ما هو الأمر الذي لا تستطيعه"
اخرج جميل القارورة من جيبه وضربها بالأرض بعنف شديد فانكسرت،
أخذ جميل يلوم نفسه.. كم نصحني المقربون أن أكمل دراستي الجامعية عندما امتزت في تحصيلي الثانوي، على الأقل لربما كنت أعمل بوظيفة تدر مالا أكثر في ساعات دوام أقل وفرص عمل أكثر.
ودار الصراع عميقا داخله، وأسترسل مجددا: المهم ألان هو
توقف جميل عن محاوره ذاته وتنهد عميقا ثم استرسل مجدداً: المهم هو إيجاد فرصة عمل أيا كانت، فحتى هذه غير متوفرة في أيامنا هذه.. "القادمون الجدد" و"العمال الغرباء" احتلوا جميع فرص العمل ولم يبقى لنا نحن أصحاب هذه البلاد الأصليّن الكثير من هذه الفرص.. إنها عملية السلطة المبرمجة بدقة.. يبغون تهجيرنا باختيارنا.. يقودوننا إلى ذلك رويدًا رويدًا..
تنهد ثانية وواصل حديثه : لا.. لا إنهم لا يستطيعون فإصرارنا أقوى منهم.. ولكننا فقدنا الأرض وأصبحنا على كف عفريت.. قد يصمد جيلنا في هذه البلاد ولكن ماذا مع الجيل القادم؟ إن التفكير بهذا أمر مزعج.. يخرج الإنسان عن طوره.. ولكن هل سيلعب القدر إلى جانبهم؟ انه أمر محير؟! لقد تزوجت وأنجبت.. حرثت البلاد طولا وعرضا شمالا وجنوبا من الناقورة حتى أيلة (ايلات) ولم افلح بالحصول على فرصة عمل ملائمة ومع الوقت بدأت أتنازل عن كبريائي وهيأت نفسيتي لقبول أي فرصة أجدها.. اه لو توفرت الإمكانية للعودة إلى الدراسة.. فالموضوع بحاجة إلى الكثير من المال الذي أفتقده اليوم.. لقد أصبحت الدراسة تقتصر على الأغنياء..
ووجد نفسه يتحدث بصوت مسموع:
سأحاول العمل كمساعد لبلاط أو قصار، أو أي عمل أخر، وفي نفس الوقت أقوم بدور مهنية قصيرة تمكنني أن الانطلاق قدماً .
توجه جميل إلى المدينة حيث احد المعاهد وقام بإلقاء نظرة على الدورات المعلن عنها.. تقني مكيف هوائي.. إنها مهنة جيدة ولكن الأوضاع الاقتصادية قد تقف حجر عثرة أمام الناس في هذه الظروف.. وكيل تأمين؟ لا بأس ولكن كيف سأشق طريقي في هذا العمل مع العاملين القدامى في هذا المجال.. مدقق حسابات.. مهنة رائعة جداً ولكنه بحاجة إلى فترة زمنية طويلة.. طباخ.. دورة سريعة.. ستة أشهر.. رائع جداً.. ماذا طباخ؟.. لا ..لا مستحيل.. ولماذا مستحيل إن كل شيء خاضع للظروف الاقتصادية ما عدا الطعام.. الأكل لا يستطيع أن يستغني عنه الإنسان لذلك فهي مهنة مضمونة.. مجتمعنا العربي بدأ يقيم هذه المهنة.. لذلك لا بأس لكن كيف سينظر إليّ الناس.. جاء الطباخ.. ذهب الطباخ.. إنها مهنة غير.... لا.. لا إن العمل أيا كان ليس عارًا.. ووجد نفسه يسجل لهذه الدورة وأخذ خلال فترة دراسته يفتش عن مجال عمل في أطار مهنته العتيدة وما أن أنهى الدورة حتى بداء يعمل في أحد منتزهات الأفراح.. وأخيراً حالفني الحظ..
شرح له صاحب المنتزه طبيعة العمل وأعلمه بان أجرة عملة مرتبطة بالحد الأدنى من الأجور، شأنه شأن جميع الرساميل الأمر الذي لم يرق له ولكن ليس في اليد حيلة.
بداء جميل متحمسًا كي يثبت لصاحب المنتزه جديته وإخلاصه لكن صاحب المنتزه أخذ يستغل ما آل إليه الوضع في سوق العمل ويترك عماله يعملون ساعات إضافية دون أن يمنحهم مستحقاتهم كاملة.. انتظر جميل طويلًا على أمل أن يعرف صاحب المنتزه جديته ونشاطه وإخلاصه فيمنحه حقه نتيجة لذلك ولكن دون جدوى.. فكر في ترك العمل ولكن إلى أين ووجد نفسه يقول: "عصفور في اليد أفضل من عشرة على الشجرة " فكر أن يستغل فرصة يكون فيها صاحب المنتزه في أمس الحاجة إليه ليخرج إلى إجازة (مرضية) وسرعان ما جاءت الفرصة، ولكن فرملة من ضميره جعلته يعدل عن فكرته.. لن أخرج في أحلك الظروف.. سأعمل معىروفا وارميه في البحر.
وكان ذات يوم أن دخل إحدى المقاهي كي يهرب من محنة وجوده وهناك وجد نفسه يدلق أحاسيسه حول ظروف عمله إمام رواد المقهى وصدفة كان من بين الحضور صاحب منتزه منافس الذي انقض على الفرصة: أريدك في أمر هام.. تعال لنتحدث! وجلسا في زاوية بعيدة وهناك اخذ عليه صاحب المنتزه عهدًا بعدم كشف السر وبعد حديث طويل صعق جميل من طلب صاحب المنتزه المنافس وفكر أن يصفعه ولكن صاحب المنتزه المنافس قال له بعد أن أغواه بالمال:
* إنها فرصتك للانتقام من مشغلك، كل ما في الأمر هو أن تأخذ هذه " القارورة" الصغيرة وتسكب منها وقطرات قليلة على الطعام قبل تقديمه، وعندها حالة من الإسهال ستصيب من أكل من الطعام بعد أن يعود إلى بيته .
وفي اليوم الموعود وقف جميل فوق قدر الطعام ووضع يده في جيبه لإخراج " القارورة" وهو يقول: سأصفي حسابي معك أيها الجشع، ولكنه وجد نفسه عاجزًا.. شد علي القارورة بقبضة يده وهو يصر على أسنانه.. لماذا يا جميل لا تجرؤ؟ صاحب المنتزه يضطهدك.. عملك صعب.. مسؤوليتك كبيرة.. تقفز كالقرود كي تستطيع أن توفر الطعام في فترة محددة.. وتعنيف لأتفه الأسباب.. إنها معاملة عبيد.. يجب أن لا تخشى.. أخرج القارورة وأسكب.. أن كل ما في الأمر سيجعل الرواد يتناقصون مما سيسهل عملك ليصبح بحجم المعاش.. ولكن ماذا لو كانت المادة سامة؟!.. فهل إذا أفلت من عقاب القانون سأفلت من عقاب رب العالمين؟! وماذا عن عذاب الضمير؟! لا.. لا انها مادة ضد الإمساك كما تشير البطاقة بوضوح، وهي ما زالت مغلقة بختم الشركة المنتجة.. ولكن ضميري لا يسمح لي.. وماذا مع ضمير صاحب المنتزه؟!.. هل أخرجه إلى إجازة؟!.. سأسكب وليكن ما يكن!!.. لا يا جميل.. إياك والانزلاق!!.. ولكن صاحب العمل يتعامل معي كما يتعاملون مع الحيوانات.. كان جدي يقول لنا لا تعلوا ظهر الحمار اليوم فالحمار قد تعب.. انه أمر مؤلم.. من ناحية تريد أن تنتقم ومن ناحية أخرى تريد أن توفر لقمة الحلال لأسرتك!
القي جميل نظرة من خلال شباك أفقي صغير مرتفع يطل على القاعة.. وشاهد المئات وقد أخذوا أماكنهم فرحين.. داهمته حالة من الارتباك الشديد.. أيقظه صوت صاحب المنتزه:
"ما لك يا جميل اليوم؟.. لماذا أنت متوتر؟"
ووجد نفسه يصرخ بصوت عال: "لا أستطيع.. لا أستطيع.. أنا لا أستطيع.."
فسأله صاحب المنتزه: "ما هو الأمر الذي لا تستطيعه"
اخرج جميل القارورة من جيبه وضربها بالأرض بعنف شديد فانكسرت،
تعليق