تقديم:
يفيض كيل الشجون، و تتدفق أنهار اللوعة، وتمتلئ سنابل الالتياع بحبات الشوق.وهاهو القلب يرزح تحت وطأة التنقل من حال إلى حال، حتى فاق الليل في تحمل الأسرار والأوزار.
أحياناً أخاطب نفسي قائلا : من يدلني قائلا بأن ذاك أيها الرجل هو اتجاهك، وتلك هي وجهتك، فاغتسل من ذنوبك وتطهر، وهناك هي قِبْلتك، فولٍ وجهك شطرها،، وقف خاشعا ذليلا،، وتبتَّل راميا خلف ظهرك كل الدنس الآدمي وكل حصيلتك من الوسواس الخناس، وتحلل من كل خطاياك،،وارمِ نواياك البشرية في بئر توبتك الأبدية.
***
نقف كأصحاب الأعراف،، فقد تساوت حسنات المُهَج وسيئاتها،، وتساوت أرتال أحزان القلوب وقناديل الفرح التي منحتنا إياها،، فوقفنا في حضرة الحياة ( بين بين ) لا هنا ولا هناك،، لا بالسعداء ولا بالحزانى، لا هذا ولا ذاك..
نقطف زهرة فرح وقبل أن ننعم بعبق شذاها،، نفاجأ بشوكة أكبر وأقوى من الزهرة تنغرس في الأصابع فتدميها، فيسيل الدم الأحمر القاني فيضيع بهاء الزهرة في خضم لون الدم الطاغي وتنكسر براعمها تحت طعنات نصل الشوكة.
نهيم مستمعين إلى لحن،، يتدفق شجيا عذبا،، ينساب عبر أوردتنا وشراييننا،، فيهدهد أرواحنا المتعبة المثقلة، ينقلنا إلى حالة من انعدام الوزن فنغدو كريشة تتقاذفه االرياح،، فيأتي النشاز كإعصار مدمر لا يُبقي ولا يَذَر، يملأ ضجيجه المكان فيضيع في زحمته هدوء الأرواح وتهرب سكينة الأفئدة.
نشْخص بأبصارنا نحو السماء،، تتلألأ نجمة بنور وضاح،، نقف مأخوذين بسحرها وببهائها،، ولكن سرعان ما يحتويها كوكب في مداره فتختفي،، فنرجع البصر كسيفا و لسان الحال يردد :نحن لا نحب الآفلين.
نقف في مفترق طرق وبلا مرشد وبلا دليل،، حتى بوصلة المشاعر تخذلنا كثيرا عندما نلجأ إليها، فنتجه شرقا ووُجْهَتنا الغرب، ونرنو شمالا ونحن نطلب الجنوب، فيختلط حابل الحب الصادق بنابل الرغبة الجامحة ..
القلب لا يشيخ،، ونهر العواطف لا يجف،، ومعين الأحاسيس لا ينضب، ولكن نظرتنا السلبية للحياة وعدم اكتشاف ما فيها من جمال ورونق وزخم هو الذي يعطل تروس القلب والمشاعر والأحاسيس ويصيبها بالصدأ والتلف.
نتعلق ذات ضياع بحبل نراه متدليا أمامنا، يبدو لنا لأول وهلة مفتولا ومجدولا بقوة وتماسك، وتبدو لنا خيوطه صلبة التكوين،، فنتشبث به،، وننطلق نتسلق سور الحياة على ذلكم الحبل،، فإذا هي تتراخى وتتضعضع أوصاله عند احتكاكه بأول نتوء،، فنهوي للسفح مجندلين ونقبع في القاع مندهشين،، ولسان حالنا يقول : ليس كل مفتول قويا يصلح للتسلق وليس كل ما يلمع من معدن الذهب.
وذات عاصفة ونحن على شفير الغرق، نبحر على متن سفينة، متينة الصنع،، ذات سعة ورحابة،،أشرعتها تناطح الريح وتأتي به قسرا إلى أحضانها لتنتفخ أوداجها وتمتلئ وتشق عباب البحر،، وما إن تشق صفحة الماء منسابة بأمر ربها ذي المرْسَى والمجرى،، يخرقها رجل( لا يمت لصاحب موسى ) بأي صِلة ولا يملك كراماته وعلمه،، يخرقها وهو يعلم بأنه ليس هناك ملك أو سلطان يأخذ ما حَوَتْه قسرا وعنوة من أصحابها الذين لا حول لهم ولا قوة،، يخرقها فيغرقها وأهلها وركابها وينام ملء جفونه قرير العين.
عندما تمتلئ صفحة السماء بالغيوم الداكنة،، ويتلبد وجهها بالسحب الكثيفة،، ويكركر الرعدويتبسم البرق وهاجا ينشر لوحاته السريالية من بين فرجات السحاب والغمام فتنطبع على أديم الأرض نورا يبهر الأبصار،، والليل البهيم يلف المكان بظلام دامس تكاد لا ترى بياض ظفرك ولا تميز وقع خطواتك،، هي نفس لوحة الحياة أحيانا،، بل تكون لوحة الحياة أشد قتامة وضيقا في بعض الأحايين،، وفي غمرة تململ الروح الوجلة المرتجفة من كل هذا وذاك،، يطل أمل كجذوة نار في أتون خامد،، تلمع ثم تختفي،، كطفلة خجلى ترنو بطرفها مترددةخلف باب موارب،، يطل أمل كزنبقة مبللة بقطرات الماء تطفو على مقربة من غريق وسط أمواج متلاطمة، فيفرح بها أيما فرح، ويتشبث بها وهو موقن في قرارة نفسه أنها لن تنجو به متعلقا بها،، ولا هو ناجٍ بها،، ولكن الأمل يفعل في النفوس الأعاجيب. وكأن الزنبقة تقدم نفسها وتخاطر بحياتها وتضحي بها من أجل هذا الغريق،، بمعجزة إلهية تصل به إلى بر الأمان سالما في رحلة قصيرة تقطعها مبهورة الأنفاس بين خضم البحر وأطراف اليابسة،، ولكن ما إن تصل إلى بر الأمان،، تلفظ أنفاسها وكأنها قد كرستْ حياتها ونذرتْ نفسها فداء لهذا الغريق الحبيب،، فيستفيق من غفوته فيجدها ذابلة دون حياة ولكنها ترقد بجانبه مطمئنة لأنها أدَتْ رسالتها تجاهه. لم يعرف الحزن طريقا إلى نفسه،، فقد تيقن أن الدنيا لا زالت تقدم من يؤمن بتقديم نفسه قربانا (للإخلاص والوفاء) وأن الدنيا لاتزال زاخرة بمن يؤمن إيمانا حد اليقين بما يعتقد وأن الموت في سبيل ما يؤمن به هو قمة الحياة الدنيا ورفيقه في البرزخ وفي الآخرة.
فتعود الحياة للصفحة الأولى من كتاب سيرتها وسِفْرها،، أو كآلة زمن تعود القهقرى وتتراجع للوراء لتقول لك بأن كل ماضيك قد انمحت آثاره وانهال عليه تراب النسيان وغطاه غبارالعدم.
فيا أيتها المسالك التي نقف عند عتباتها ونحن نُحْني هاماتنا وجلا وطمعا ، تاركين حبالنا على غاربك ...
وياأيها النفق الطويل الحالك الذي نتلمس طريقنا عبر سراديبه و دهاليزه ...
أذاك نجم في عتمة الليل ساطع.... أم خيال يتراءى ؟
***
جلال داود
تعليق