دندنة وقت الاصيل " قراءة في قصيدة غريب على الخليج "

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • منتظر السوادي
    تلميذ
    • 23-12-2010
    • 732

    دندنة وقت الاصيل " قراءة في قصيدة غريب على الخليج "

    متن القصيدة
    غريب على الخليج لبدر شاكر السياب
    ا
    الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيل
    و على القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل
    زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار
    من كل حاف نصف عاري
    و على الرمال ، على الخليج
    جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج
    و يهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج
    أعلي من العبّاب يهدر رغوه و من الضجيج"
    صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق
    كالمدّ يصعد ، كالسحابة ، كالدموع إلى العيون
    الريح تصرخ بي عراق
    و الموج يعول بي عراق ، عراق ، ليس سوى عراق ‍‍
    البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون
    و البحر دونك يا عراق
    بالأمس حين مررت بالمقهى ، سمعتك يا عراق
    وكنت دورة أسطوانة
    هي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانه
    في لحظتين من الأمان ، و إن تكن فقدت مكانه
    هي وجه أمي في الظلام
    وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
    و هي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب
    فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب
    من الدروب
    وهي المفليّة العجوز وما توشوش عن حزام
    وكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلة
    فاحتازها .. إلا جديله
    زهراء أنت .. أتذكرين
    تنّورنا الوهّاج تزحمه أكف المصطلين ؟
    وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين ؟
    ووراء باب كالقضاء
    قد أوصدته على النساء
    أبد تطاع بما تشاء، لأنها أيدي الرجال
    كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال
    أفتذكرين ؟ أتذكرين ؟
    سعداء كنا قانعين
    بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء
    حشد من الحيوات و الأزمان، كنا عنفوانه
    كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه
    أفليس ذاك سوى هباء ؟
    حلم ودورة أسطوانه ؟
    ان كان هذا كلّ ما يبقى فأين هو العزاء ؟
    أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه
    يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء
    و الليل أطبق ، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه
    لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء
    الملتقى بك و العراق على يديّ .. هو اللقاء
    شوق يخضّ دمي إليه ، كأن كل دمي اشتهاء
    جوع إليه .. كجوع كلّ دم الغريق إلى الهواء
    شوق الجنين إذا اشرأبّ من الظلام إلى الولادة
    إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
    أيخون إنسان بلاده؟
    إن خان معنى أن يكون ، فكيف يمكن أن يكون ؟
    الشمس أجمل في بلادي من سواها ، و الظلام
    حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
    واحسرتاه ، متى أنام
    فأحسّ أن على الوساده
    من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق ؟
    بين القرى المتهيّبات خطاي و المدن الغريبة
    غنيت تربتك الحبيبة
    وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه ،
    فسمعت وقع خطى الجياع تسير ، تدمي من عثار
    فتذر في عيني ، منك ومن مناسمها ، غبار
    ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب
    تحت الشموس الأجنبية
    متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديّه
    صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب
    بين العيون الأجنبية
    بين احتقار ، و انتهار ، و ازورار .. أو ( خطيّه)
    و الموت أهون من خطّيه
    من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبيه
    قطرات ماء ..معدنيّه
    فلتنطفئ ، يا أنت ، يا قطرات ، يا دم ، يا .. نقود
    يا ريح ، يا إبرا تخيط لي الشراع ، متى أعود
    إلى العراق ؟ متى أعود ؟
    يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود
    بي الخليج ، ويا كواكبه الكبيرة .. يا نقود
    ليت السفائن لا تقاضي راكبيها من سفار
    أو ليت أن الأرض كالأفق العريض ، بلا بحار
    ما زلت أحسب يا نقود ، أعدكنّ و استزيد ،
    ما زلت أنقض ، يا نقود ، بكنّ من مدد اغترابي
    ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي و بابي
    في الضفّة الأخرى هناك . فحدثيني يا نقود
    متى أعود ، متى أعود ؟
    أتراه يأزف ، قبل موتي ، ذلك اليوم السعيد ؟
    سأفيق في ذاك الصباح ، و في السماء من السحاب
    كسر، وفي النسمات برد مشبع بعطور آب
    و أزيح بالثؤباء بقيا من نعاسي كالحجاب
    من الحرير ، يشف عما لا يبين وما يبين
    عما نسيت وكدت لا أنسى ، وشكّ في يقين
    ويضئ لي _ وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي-
    ما كنت ابحث عنه في عتمات نفسي من جواب
    لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب ؟
    اليوم _ و اندفق السرور عليّ يفجأني- أعود
    واحسرتاه .. فلن أعود إلى العراق
    وهل يعود
    من كان تعوزه النقود ؟ وكيف تدّخر النقود
    و أنت تأكل إذ تجوع ؟ و أنت تنفق ما تجود
    به الكرام ، على الطعام ؟
    لبكينّ على العراق
    فما لديك سوى الدموع
    وسوى انتظارك ، دون جدوى ، للرياح وللقلوع
    الدمع أصدق أنباء من الضحك
  • منتظر السوادي
    تلميذ
    • 23-12-2010
    • 732

    #2
    دندنة غريب وقت الأصيل
    أجواء نسيمها الحزن , أُنشودة تعزف نغمها الشجي , على أوتار نفسٍ لفَّتها عتماتٌ من الأسى ودياجير الفقر , و تعبث بجمرها ريحُ الغربةِ فتتقدُ آلامُ النفسِ جمراً ... , وانكسار نفسي عميق , ينثر كلماته في القصيدة , ويغتال نسمة الأمل التي تنبعث في ذيل القصيدة , فيعود اليأسُ حلة رثة تغشى الغريب , وكأنَّ أزرارها لا تُحلُّ , هموم تنبع من نهر الدموع لغريب قد أثكله الزمن , ونجده في أُوائل قصائده قائلاً :
    أبي منه قد جردتني النساء و أمي طواها الردى المعجل
    فهجره الفرح مع رحيل حنان أُمه , وألبسه الدهر ثوباً من جمر الذكريات , فهاجرت نوارس الفرح من مرافئه , فعاش غريباً عائماً مع خلجات غربته النفسية , وحديثه الصامت مع روحه الغارقة بدمعة معتمة , والمتراقصة على أَلحانٍ من الآهات , وتنثُ الأملَ ثم سرعان ما تنقض عليه , وتنكره وتذيبه بجرارٍ من اليأس . بحر لجّيّ وغريب عالم السياب الشعري , القلق له تواجده مع حشد الألفاظ الرمادية التي تهاوت إليه من معجم الحزن والأسى , لتسبح في شواطئ معتمة من حكايةٍ تتشحُ أَلماً , يدندن بها ذلك الغريب , على شاطئ رملٍ بين مياه غريبة , وعيونٍ أجنبية , و حتَّى ذلك الشعاع - كأَنَّه شرارة من نارٍ – يريد أن يلتهم الأفق , ويسفك دمه , ممّا يثير الشجن في النفس الغريبة , لأَنَّ هذا الشعاع ليس كذاك الخيط الذهبي في أُمسياتٍ تزينُ وجهها همهمات الأَحبة وهمساتهم - من أهل وأصدقاء –
    في قوله : تنّورنا الوهّاج تزحمه أكف المصطلين
    وتحت أفياء جدائل النخيل المتراقصة كـــــــهزَّةِ المهد مع نسيم الريح وهو يحمل عطر مياه بويب في شهر آب , ذلك الغريب الذي نأى به زورق الحياة , وألقاه على رمال عارية من الأهل , وبين وجوه لم تألفها نفسه , وشمسٍ حتَّى ضياءها مختلف عمَّا ألفه جلده الأسمر , ونسيم البحر يلفح ذكراه فتتقد فيه حكايات عتيقة , حكايات مؤلمة , حكايات الأحبّة , وحكايات الأم الودود , والوطن البعيد , وعالم الطفولة البريء الذي رحل عنه , عالم السلامة الراحل , وهو بين أُناس أبسط ما يقال فيهم أَنَّه غريب بينهم , هذه الحكايات يسردها لنا ذلك الغريب , مبتدأ بسفره وتركه لبلاده ذلك السفر المشؤوم , واستذكار أمه , وحبيبته والأمسيات الجميلة معها , ثم يستذكر وطنه وتلك التربة الغالية التي غذته من ثدييها – دجلة والفرات - الحبّ والحنان , وفي الختام يحدثنا عن نفسه وأمله في العودة إلى بلاده التي تقطن فيها سعادته , وفيها يشهر سيفاً على غربته الروحية بعناقه لحبيبته , وكركرة صوتها في روحه العطشى , ويصور لنا يأسه من ذلك لشدة حبِّه .
    قبل البدء هذه بعض المفاتيح بماذا يحسُّ الغريب في غربته ؟
    1. يتذكر سفره , وكيفية سفره , والمعارضة التي حصلت له[1] .
    2. يتذكر الأهل , من أُمٍ وأحباب .
    3. المال , انطلاقاً من المقولة : المال في الغربة وطن .
    4. باستحالة العودة إلى بلاده .
    فــــــ " غريب على الخليج " قصة في قصيدة تحكي لنا ما مرّ به ذلك الغريب من حكايات , و تصور لنا في البدء المكان والزمان الذي يحتضن ذلك الغريب , فيرسمه لنا في هجيرة يوم شامس , سفن ترحل وأُخرى ترسو[2] , فيبدأ الغريب – وهو جالس على رمالٍ عارية من الألفة , والمحبَّة , والودِّ , شواطئ الوحدة تلفه بأمواجٍ ثقيلةٍ معتمة , فيغرق في سعير الذكريات – فيبدأ الغريب يسرد لنا حكايته مذ خروجه من بلاده , وكيف تعلقت بأَعطافه الأمواج رافضة سفره , والريح مسكت ثيابه , متعلقة به وتصيح بوجهه , وحتى البحر علت منه صيحات عدم الرضا والتذمر من سفره .
    ولابدَّ للسرد من أحداث , تصور وتصف ما تقوم به الأشخاص وعلاقتها بالزمكان , والأحداث هي جوهر العمل السردي , وتعمل على شدِّ انتباه المتلقي , وتجعله مندمجاً ومتأثراً مع النص المسرود .
    الحدث المركزي الذي تبنى عليه القصيدة هو " جلس الغريب " , في البدء الراوي يتحدث لنا عن غريب , وأسند له الأحداث " الأفعال " التالية " يسرّحُ البصر " , و " يهدّ أعمدة الضياء " , و " يصعّد من نشيج " , هنا الراوي يتحدث ويصور لنا حركة وحيرة هذا الغريب بضمير الغائب , ودلالة الأفعال المستخدمة هي الماضي في " جلس " , ثم يتقرب الراوي أكثر من هذا الشخص , فيروي لنا عنه عن قرب فقال : " يسرح البصر " فالراوي كان على مقربةٍ من الشخصية , حيث وصف لنا حيرتها وتقلب عيناها في سماءِ وموجِ ذلك الخليج , ويقترب أكثر فيصور لنا نشيجها وحركة ذلك النشيج , وجاء التصوير عن قرب باستخدام الفعل المضارع للدلالة على استمرارية الحدث .
    فهو بدأ بسرد الأحداث , ووصف المكان والزمان , من غير ظهور أي غير ممسرح , من ريح وهجيرة وأصيل وقلوع , ويروي لنا بذلك عن الغريب الجالس المنكسر , إلى أن تحدث انتقالة عندما يصرح الراوي عن نفسه , وهذا التحول بصيغة وأسلوب الروي من الضمير الغائب إلى ضمير المتكلم - فينتهي صوت ضمير الغائب , وكأنّه أراد أن يسترعي الانتباه ويكون موضوعياً في البدء ولا يسند الإحداث إلى نفسه - رغم إِنَّه هو البطل " الشخصية الرئيسة " في هذا النصّ , في قوله : " صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق " . إذ جاء ضمير المتكلم ليعلمنا هوية الغريب , ولفظة " عراق " أعطتنا تصور عن هذا الغريب , الذي أُبعد عن بلده , أما لفظة " الثكلى " فتنبئ عن الانكسار والغربة الحقيقية وهي الغربة النفسية , في نفس ثكلى , وقد غرقت هذه النفس في رمال غريبة أيضاً , فغربتان جعلت بطل النصّ لا يقوى على النهوض لذا كان جالساً , ونحن نعرف كيف يستمتع الزائرون بشواطئ البحار , بل وحتَّى الغرباء , من سباحة , ولهو لا جلوس على الرمال , وانفجارات لذكريات لموطئ حلمه البعيد , ويبقى صوت الراوي طاغياً ظاهراً ممسرحاً , ويسرد لنا أَحداثاً شتى ويرسم لنا ملامحه النفسية في ثنايا قصته .
    فتأتي الأفعال تصور لنا الراوي ؛ بطل هذا النصِّ , وكانتِ الأفعالُ مضارعةً ؛ وهي " تفجَّر , يصعَّدُ , تصرخُ , يعولُ " , هذه الأحداث تجعل المتلقي يعيش الحال النفسية التي يمرُّ بها البطل لأنَّ التصوير كان عن قرب , وعند التمعن في دلالة هذه الأفعال , تتضح لنا دلالتها السلبية , وكلّها تصور الحالة النفسية التي يعيشها البطل , دالةً على الحالِ القلقة التي يمرُّ بها .
    يعود البطلُ يستردُ الذكريات , ويسردها لنا بأسلوب منطقي , وقد استخدم الفعل الماضي دالاً على تلك الذكريات , والأفعال هي " مررتُ , سمعتُكَ , تكوَّرَ , فقدتُ " . السارد يأتي بجملة " بالأمس حين مررتُ بالمقهى " كي تكونَ عتبةً منطقية ومفتتحاً للولوج إلى عالمِ الماضي ويسترد تلكَ الذكريات , وقبل أن يغادر من هذا السرد يفتتح مقطعاً آخر بنفس الأسلوب المنطقي وهو في جملة " في لحظتين من الأمان وإن تكن فقدت مكانه " ونلاحظ لا يزال السارد يتحدث بالدلالة السلبية للأفعال " تكوَّر , فقدت " فكلا الفعلين يدلان على النهاية والفناء .
    يسرد الشاعر لنا غربته بتسلسل المنطقي إذ يبدأ بالحديث عن خروجه من بلاده , ويصف لنا ذلك الخروج , ومآسيه أثناء الخروج , في قوله :
    الريح تصرخ بي عراق
    و الموج يعول بي عراق
    فالغريب يصرح ببلاده لما له من وقع وأثر نفسي عليه , فالتكرار هنا لغرض الاستلذاذ بذكر موطنه " عراق " , فيكرره سبع مرات في المقدمة , لكنَّه لم يشفِ غليله , وإنّما بقي الوطن يسعر في مخيلته , فيعود ليذكره في منتصف وفي نهاية القصيدة , إذ قال :
    فهو يحتضن العراق
    ....
    من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق ؟
    وفي نهاية قال :
    فلن أعود إلى العراق
    ......
    لبكينّ على العراق
    فالوطن هو الأرض , والوطن هو الأم , والوطن هو الحبيبة , ونراه قد مزج بينهما في قوله : " أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه
    يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء
    و الليل أطبق ، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه "
    فلا غرو أن يستولي ذلك الوطن على نفس الشاعر , وهو يعيش معاناة الغربة و آلامها , فيبدأ القصيدة بحديثه عن الوطن " العراق " , لأَنَّ الغريب أول ما يتذكر في غربته بلاده ؛ أرضه التي تربى وعاش فيها , لكنَّ الغريب هنا لم يسرد لنا عن جمالية بلاده بل صور تعلقه النفسي والروحي فيه إذ قال : " صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق " ثم يذكر شيئاً من ملازمات بيئته , تعلق بنفسه إلا وهو المدّ , في قوله : " كالمدِّ يصعد " , ثم يردفه بذكر شيئاً آخر : والموج يعول بي عراق " , فالمدُّ والموج من خصائص مدينته , التي قضى فيها شطراً لذيذاً من حياته , وبقيت نفسه متعلقة بها , ورافضة للمدينة ورافضة كلّ شيء سوى جيكور , فنراه يردد : " عراق عراق ليس سوى العراق " , علّه مع هذا الترديد يخفف من آلام غربته , ووحشته على الشاطئ البعيد , فالمدّ والأمواج يمثلان ذكرياته في جيكور حيث أيام الطفولة واللهو والبراءة , هذا المشهد جعل الشاعر يستعيد الزمن إلى بلاده , وإِنَّ الذي أثار هذه الذكريات انه يجلس على شاطئ بالقرب من الموج الذي لا يشبه بيئته بالتأكيد , لكنَّه يثير في النفس حكايات الوطن المبعد خلف قضبان المسافات , فراح الحاذق إلى مدّ جسوراً من الخيال إلى بويب موطن أحلامه , وشرد ذهنه إلى تلك الأمسيات التي تحتشد فيها النفوس حول قطب ينضح الطيب والحكمة " وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين ؟ / بذلك القصص الحزين لأنَّه قصص النساء " , الراوي بدأ لنا بوصفٍ دقيق لحركية المكان والزمان الذي يضم ذلك الغريب , وبعدها يقترب من الغريب , ومن جلسته الحزينة التي تستعطف القلوب , ومن ثمة يتحول صوت الراوي إلى البطل نفسه " صوتٌ تفجر في قرارة نفسي الثكلى " ثم يسرد لنا البطل قصته فتبدأ أحداثها من ذلك السفر المشؤوم , وبين لنا كيف بقت روحه ونفسه متعلقة بوطنه , وكيف عارضته كلّ من النفس والريح والموج إذ قال : " الريح تصرخ بي عراق / و الموج يعول بي عراق / صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق " , فالنفس أولاً ثم الريح ثم الموج ترفض السفر لكنّه قد حصل .
    ومن الطبيعي أن يتذكر الغريب في غربته بعد أن ذكر الوطن أن يستذكر أَقرب الناس له , وأقرب الناس له بالتأكيد هي الأم , ولما كانت الأم هي منبع الحنان وقد طوى الموت حنانها وخلع ثوب الأمن الذي كان يُسدل عليه إذ ادلهم الغروب , وكيف تناغيه حتى النوم بين يديها في دفء وأمان " هي وجه أمي في الظلام / وصوتها، ينزلقان مع الرؤى حتى أنام " فالبطل يذكر أمه ويتذكر أيام طفولتــــــه معها , وما أحلى الحياة مع الأم ! وما أحلى الطفولة ! , ويتذكر شيئاً من عقائد طفولته , وكيف الأشباح تخطف الأطفال عند المساء .
    الشاعرُ بعد أن ذكر أمه ذكر حبيبته , ويخاطبها وكأنَّها معه وتسمعه , ويطيل الحديث معها , ولمّا كان هو في غربته يستذكر تلك الذكريات الجميلة , راح يطالب حبيبته بأَن تعيد ذاكرتها إِلى ذلك الماضي الجميل الذي صرعته عربة الزمن الزاحفة من غير تمهل , " زهراء أنت .. أتذكرين / تنّورنا الوهّاج تزحمه أكف المصطلين ؟ / وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين ؟ / أفتذكرين ؟ أتذكرين ؟ / سعداء كنا قانعين / بذلك القصص الحزين لأنَّه قصص النساء / حشد من الحيوات و الأزمان، كنا عنفوانه " فبعد أن يسرد لنا تلك الذكريات التي أقتات عليها الزمن , ومطالبته الحبيبة بأَن تستذكر ذلك , ليقول : كلّ ذلك كان مجرد حلم أو هو مجرد دورة اسطوانة , وكأَنَّ البطل هنا يريد أن يقول : إنَّ الدنيا يومان ؛ يوم تطوى فيه الحياة ويوم تنشر كما في مطلع القصيدة , وبعد ذلك يعود ويدمج بين الحبيبة والوطن فكلاهما واحد ولا يمكن تفرقتهما , " أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه / يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء " .
    بعدما ذكر أمه حبيبته , بدا يصور لواعجه الداخلية , وعلاقة نفسه بالعودة إلى بلاده , واشتياقه إلى الشمس , غريب أن يقول أَحد الشمس مختلفة من مكان إلى آخر لكن هذا البطل أقنع متلقيه عندما قال : " الشمس أجمل في بلادي من سواها ، و الظلام / حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق " وفي هذه الأسطر والتي قبلها نعتقد أن الشاعر يخاطب حبيبته , ويجعلها متلقية لهذا المقطع من قوله " و الليل أطبق ، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه ... إلى قوله .... قطرات ماء ..معدنيّة " , يصف لها شوقه إلى الوطن وإِنَّ الوطن هو الحبيبة ذاتها , فمن الطبيعي أَن تكون هي المخاطب , ثم يصور لها حاله في الغربة , ويرسم هذا الانكسار النفسي الذي يظلّه أينما حلّ , كي يستعطف حبيبته لأنّها ما أحبته وما بادلته الحبّ كما قال : و ما من عادتي نكران ماضي الذي كانا / و لكن كل ممن أحببت قلبك ما أحبوني " , لعلَّهيستميل إليه القلوب في حاله السيء هذا " ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب / تحت الشموس الأجنبية / متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديّة / صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب / بين العيون الأجنبية / بين احتقار ، و انتهار ، و ازورار .. أو ( خطيّة) / و الموت أهون من خطّية / من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية " رسام بل روائي ينقل لنا نقلاً جميلاً غربته , إذ لا بيت يؤويه بل في دروب تائهٍ حافٍ , وذليل , أطماره ممزقة , الغربة سلبت منه كلّ شيء , هذا الوصف المادي , ثم يتحول إلى الوصف النفسي غربة نفسية بين عيون أجنبية , فالعيون عيون أَينما حلت , لكنَّه غريب النفس واليد وحتَّى العيون [3], اليد التي يبسطها صفراء لذلِّها وانكسارها , وجريان دماء الموت فيها , الاحتقار والانتهار والازورار و الإشفاق , والكلمة السامة التي نفذت منفذ الإبر هي " خطيَّة " .
    ما الذي يجبره على البقاء على هكذا حال ؟
    لم يتأخر البطل قائلاً ومخاطباً - نظنُّ أَنَّه يخاطب الحبيبة القروية - بصورة غير مباشرة لإِنَّه يكلم النقود , ويشخص النقود وكأنَّها بشر , ثم يريد من النقود أن ترجعه إلى العراق , ذلك البلد الذي يضم حبيبته , والملتقى معها على بويب وعطره هناك مع رجة المجداف , في المساء العاطر .
    الغريب بعد أن ذكر الأحبَّة وذكر غربته ووصف حاله في الغربة , شرع وبشكل منطقي إلى التفكير بالعودة " متى أعود ، متى أعود ؟ " وهنا خطابه للنقود , ويصور العوز الذي أصابه , ثم يقول لا لن يعود من تعوزه النقود , نعم لن يعود , فالبطل بعث الأمل عندما خاطب النقود , قائلا " ما زلت أنقض ، يا نقود ، بكنّ من مدد اغترابي / ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي و بابي " ولشدة غربته و ولعه المتوهج نراه لليأس أقرب وغابت عن عينيه كلّ نسمات الأمل , فقال : " واحسرتاه .. فلن أعود إلى العراق / وهل يعود / من كان تعوزه النقود ؟ وكيف تدّخر النقود " ونرى مجيء لن دون لم لليأس فنعرف أن لم تفيد النفي , ولن تفيد النفي مع التأبيد أي النفي المطلق , وتنتهي قصة الغريب باليأس من عودته إلى أهله وأحبته .
    ويبقى العراق حلماً لذلك الغريب الذي طواه الموت غريباً , فلن تعود أيُّها الفقير , بل جاء المجد لبويب , وراح بويب يدخل خارطة العالم من أوسع الأبواب , وفي أمواجه التي لا تغرق البعوض أضحت اليوم تَغرق فيه أساطيل كبار الشعراء .

    قبل الختام هناك بعض التساؤلات نضعها بين يدي القارئ ليتمعن ويبحث عن إجابة لها , رغم إنا أعطينا وجهة نظر , ونتمنى من القارئ أن يشاركنا رأيه ولا يضنّ به .
    س / هل نجح الشاعر في توظيف القصة في هذه القصيدة ؟
    ج / بعدما تعايشنا مع هذه القصيدة , نرى أنَّ موضوع الغربة يحتاج إلى سرد للأحداث لاسيما الأحداث الماضية , وكذا تصوير الحال التي يعيشها الغريب في الوقت الحالي , حيث أشبه ما تكون هناك مقارنة بين الحالين الماضي الجميل , والحاضر التعيس , وجاءت القصة في هذه القصيدة بصورة واقعية منطقية , بتسلسل جميل , فالشاعر كان موفق في أسلوبه إذ مزج بين القصِّ والشعر , فنجد متعة السرد ومتعة الشعر[4] .
    س / لماذا الشاعر ذكر أمه مرة واحدة , وذكر "زهراء" الحبيبة ومناجاتها في مقطع طويل ؟
    ج / ربَّما الشاعر قد علم وأستيقن برحيل أُمه , إِذ قال : " أمي طواها الردى طواها الردى المعجل" , أما الحبيبة فهي البطل الخفي من وراء هذه الغربة , وهي من تنتظره هناك في بلاده , وهو في غربته بحاجة إلى حكايات من حبيبته حكايات عطف وحبٍّ في أمسيات رملية شاطئية , على اعتبار أَنَّه يشاهد على ساحل البحر كلّ وحبيبته .
    س / لماذا ذكر البطل شيئاً من عقائده القديمة ؟ في قوله : " و هي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب / فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب / من الدروب " ؟؟
    ج / ربَّما لأَنَّه الآن وحيداً في الدروب وقد جاء الغروب , فالأشباح ستخطفه , وينبغي عليه العودة , لكن هيهات ... فيريد أن يصور لنا قلقه وخوفه من المساء , والخوف هنا نفسي مرتبط بالتراث العقائدي , فهو جمع بين ماضيه وحاضره .
    س / على أي شيء تدلُّ عبارة : هي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانه ؟
    ج / نقول : دارت الدنيا إذا تغير حالها , فالشاعر هنا يقول : الماضي انتهى كما دورة الأُسطوانة , والدنيا تدور بأهلها , فهي دارت به وأخذت أمه , وأبعدته عن أهله وألقته بعيداً عارياً ذليلاً على الرمال , فلجمال ذلك الزمان انتهى بسرعة كالحلم .
    س / ما دلالة الخيانة في منتصف القصة ؟ إذا كان الغريب يسرد لنا واقعه بين زمنين فما دخل الخيانة هنا , في قوله: إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون / أيخون إنسان بلاده؟ " ؟
    ج / ربَّما أراد أن يذمَّ السياسة الحاكمة , وكيف جعلت أبناء البلاد مشردين جائعين , وقد عمَّ البلاد الأسى والبلى , والفقر والفاقة , وهو يستغرب من خيانتهم لوطنهم , فجاءت هنا إشارة إلى ذلك النظام الحاكم في ثنايا قصته .

    التلميذ منتظر السوادي 30 / 5 / 2011

    [1] - كما هي العادة دوما هناك لائمة تعارض السفر لننظر إلى قول ابن زريق البغدادي :
    لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ ....قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ , لكن هنا العاذل ليس من جنس البشر , الموج , الريح , ربما لأَنَّ الشاعر أعطى لنفسه مكانة متعالية عامة وليس خاصة به فهو ذو رسالة للجميع , أو يريد ان يعطي لسفره الشؤم المحقق إذ ترفض حتى الطبيعة سفره .

    [2] ربما أراد أن يصور لنا المجيء إلى الحياة الدنيا فهناك من يولد أي يأتي وهناك من يرحل تاركاً الدنيا , وهو غريب الآن لأنَّه على الرمال كما يلقى المتوفى في تلك الحفرة غريباً وحيداً , فأراد أن يقرب غربته من غربة الموت , الرحيل المحتوم الذي لا مفر منه .

    [3] - يبدو ذكر العيون لشدة الإهمال الذي أصابه , فهو ملقى في الطرقات وتعصره وتضغطه العيون المنعمة التي تمر عليه وهو قد تشبثت به الفاقة وسمَّرته إلى الأرض , ويحور قول أَبي الطيب : ناسٌ ولكنَّ لا أنيس بهم ومدينة لكنَّها قفرُ

    [4] - ينظر : السرد العربي القديم الأنواع والوظائف والبنيات , إبراهيم صحراوي ؛ 238.
    الدمع أصدق أنباء من الضحك

    تعليق

    يعمل...
    X