جملة فعليّة فقط

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • توفيق بن حنيش
    أديب وكاتب
    • 14-06-2011
    • 490

    جملة فعليّة فقط

    جملة فعليّة فقط
    عدت إلى البيت متعبا ... قد لا أغادره البتّة ... دخلت لا أدري لمَ دخلت ... أخرجت من جيبي بقيّة النّقود ... جعلت ثلاثين دينارا للكفن ... وضعت فوقها عشرين دينارا لأبي لتغطية مصاريف الدّفن وزد ت على المبلغ عشرة دنانير مصروف المأتم ... وزدت دينارين اثنين ثمن منديل لأخي الصّغير ليمسح به لعابه ... حلقت ذقني ومشطت شعري وسوّيت قليلا من شاربي العريض ... تذكّرت ما يمكن يتطرق من غلط في الحساب ... ارتبكت كثيرا ... تشاءمت كثيرا ... اتّجهت صوب الطّاولة وأعدت العدّ ثمّ قسّمته أقساما ... أعدت ترتيب الأمور ثمّ سوّيت من شاربي مرّة أخرى وصعدت على الكرسيّ ... تذكّرت ما سيقوله عنّي الأصدقاء ... نزلت ... تناولت القلم وكتبت وصيّتي في ما أملك وكتبت خطابا للأصدقاء ... رجوتهم أن ينسوا الأمور بسرعة ... خفت أن يكون لي روح ككلّ البشر فأعذّب بأحاديثهم بعد الخروج ... تناولت حلقة الحبل الأبيض الجميل ... تناولتها بكلتي يديّ بدت ناعمة ورقيقة ... أدخلت فيها رأسي ... أعجبني تمريرها أمام عينيّ ... رأيت العالم من خلال عقدة في حبل ... تمنيّت أن أعضّ على الحبل قليلا ... ندمت على كتابة الوصيّة والخطاب ... نزعت الحلقة من عنقي ونزلت لأمزّق الكتاب ... نثرته في أرجاء الغرفة ... قلت في نفسي :" لو كنت مكان الأهل والأصحاب لنثرت على جثّتي رزّا ... تذكّرت بقيّة فهوة في كأس ... عدت إلى حيث الفنجان وكفأته في فمي ... يعجبني أن أموت وفي فمي طعم القهوة ... لم أر سنا الوداع الأخير :"عليّ أن أتخيّر الشّهادة الأخيرة فهي لا تكتب فتٌصلح ...سوّيت من شاربي وأعدت مشط شعري ... ما أجمل أن يموت المرء وسيما ... قفزت في الهواء ...قفزت قفزة وقفزة وقفزة ... تمنّيت أن أحسّ بالتّعب وأن يتصبّب جبيني عرقا ... لم يحدث ذلك ولكنّي أحسست بنشوة الحركة تموت تدريجيّا ... قلت بصوت سمعته بوضوح :"لن يتعلّل النّاس بعدي بعلّة الأبدان والوهن ... اتّجهت نحو الكرسيّ الخشبيّ ...حرّكته مرّتين ... تأكّدت من ثباته على الأرض رغم دورانها ...وثبت وثبة فإذا أنا عليه ...ḏاس෽ويت واقفا ... حاولت تذكّر شيء هام يستحقّ أن يموت في ذاكرتي ويرحل معي ... نسيت كلّ شيء ... شغلني بياض الحبل وصفاء اللون الأصفر في السّقف ... مددت يدي الواثقة إلى الحلقة وجذبتها بكلّ لطف نحو رأسي ... حاولت أن أدخلها في الثّقة فأدخلت رأسي فيها ... نجحت في أن أحافظ على شعري ممشّوطا وعلى شاربي مسوّى ... رأيت جمهورا من المصوّرين يتدافعون وآلاتهم تضيء بشكل يخطف الأبصار ... فكّرت في الانحناء لتحيّتهم لكنّي عذلت عن ذلك حينما تذكّرت أ نّ ذلك قد يسيئ إلى سمعتي وإلى وقار هذا الحبل الأبيض الجميل ... كنت أنتظر أن يسألني أحد عن رأي في الغرفة لكنّ أحدا لم ينبسّ ببنت شفة ... حرّكت عينيّ بلطف ... قلت في نفسي أنا أكثرهم وسامة ... لم يكن في الغرفة أحد غيري ... أطبق الصّمت ... تجمّدت الحركة حتّى خلت أني أبعث من جديد ... ندّت عنّي حركة لم أفهمها ... كانت لفتة رفيقة نحو الباب ... طرق الباب من جديد ... سحبت رأسي من الحلقة البيضاء وقفزت على الأرضيّة ... مشيت نحو الباب وأنا متأكّد من وجوب إعادة مشط شعر رأسي وتسوية شاربي العريض ... فتحت الباب ... مدّ لي ساعي البريد مجموعة من الرّسائل ... نظرت إليها وأنا أمسح على شعري وشاربي العريض قلت له :" شكرا ... تأكّد أنّني أعرف هذه الرّسائل ... لقد أعدت إليّ رسائلي التّي كنت أبعث بها لنفسي ... ليس فيها شيء مهمّ بإمكانك أن تفضّ ختمها ... لا مانع لديّ من أن تقرأها ...مازالت رسالة أخرى في الطّريق ... ستصلك قريبا ... اقرأها فهي من أهمّ رسائلي على الإطلاق ... اقرأها وحدّث بها أصدقائك ... سأكفيك مؤونة إيصالها إلى البيت ... سأكفيك مؤونة تجشّم مشقّة الخوض في البرك التي تخوضها لتضع الرّسائل بين يديّ ... سأكفيك مؤونة التّعرّض لشراسة الكلاب ... افعل مثلي ... اكتب رسائلكَ لنفسك وتخيّر ما يعجبك من المعاني والألفاظ ... لن يكتب إليك أحد كما تكتب أنت لنفسك ...
    أطرق ساعي البريد برهة ثمّ مضى ...عدت إلى الكرسيّ والحبل الأبيض الجميل .أخرجت مشطي من جيبي وقضيت زهاء السّاعة في مشط شعري وتسوية شاربي العريض ... ما أجمل أن أموت سعيدا ...نظرت إلى قطع الورق وقد تناثرت على الأرضيّة ...لم أعد أهتمّ بالشّهادة وشكلها ... كنت وحيدا في الغرفة ... الباب المغلق منذ يومين لا يغري بالنّظر إليه ...كلّ الحسابات مضبوطة ...أحبّ أن أقول شيئا ...أحبّ أن تبدوَ عليّ الفرحة وأنا ألقي بنفسي من على الكرسيّ ...نظرت إلى بعيد ...نظرت إلى بعيد بعيد ... لا أشكّ في أنّ الغرفة بإمكانها أن تخونني ...يجب أن أبحث عن الصّيحة ... لن أقبل بغير صيحة المؤمن الشّجاع ... ذعر برباطة جأش ...لا أعرف غير نمط واحد من الصّياح ... فلتكن صيحة وكفى ... حرّكت يديّ في الفضاء ...ابتسمت ...قهقهت ... صحت ...صحت ...أصلحت الصّيحة مرارا ... ثمّ...ألقيت بنفسي ...ألقيت بنفسي مرّة أخرى ... دفعت الكرسيّ برجليّ ...غاصت سيقان الكرسيّ في الأرضيّة ...نزل السّقف ...تدلّى الحبل حتّى ألقي على الأرضيّة ... جذبت نفسي إلى الخلف ...طال الحبل أكثر ... تولّد الحبل من السّقف ... قهقهت بأعلى صوتي ...بكيت ...قهقهت وصحت ...كنت وسيما وشعري كان ممشوطا وشاربي كان رائعا في نظامه
    نزعت الحلقة من عنقي ... كنت في الوحشة المطلقة ... ألقيت بالحبل الأبيض وقد مُسخ ...بصقت على الأرضيّة وعلى الكرسيّ وعلى الحبل والسّقف ...لعنت البيت ...لا أفق ... مضغت الصّمت ... فتحت الباب الموصد منذ يومين وأسرعت مقتفيا أثر ساعي البريد ... قد أجده يخوض في ماء البركة ... خرجت دون أن أفكّر في إعادة مشط شعري وتسوية شاربي ... فيفري 1992

    موجود هنا :http://www.madarate-alifba.com/forum...%CF%C7%D1-%C7%
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    طاب مساؤك أستاذ توفيق.
    كما انطبع لديّ و دون إطالة أو تفكير: لقد اكتشفت اليوم و من خلال هذا النصّ قاصّا على قدر كبير من البراعة و الذّوق و الخبرة و الثّقافة الأدبيّة ، قليلا ما نصادفها.
    جملتك الفعليّة هذه متعة بحقّ.
    فقط لديّ بشأنها ملاحظة :
    ألا توافقني سيّدي في أنّ القصّة عالجت جانب النّتيجة،أي ما أدّى إلى الشّروع في الانتحار دون إشارة أو تلميح و لو من بعيد عما دفع بالرّاوي إلى هذا القرار،و لعلّ إشارة كهذه في نظري كانت ستصوّب النصّ ناحية قراءة أكثر اتّساعا و قابليّة لاقتسام مأساة الراوي عوض أن تكون مجرّد رواية رائعة لحالة استثنائيّة .
    رأيي أقوله و أمضي،و يظلّ وقر النصّ عالقا في ذهني.
    دمت بخير أستاذي و لك منّي خالص المودّة و التّقدير.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • توفيق بن حنيش
      أديب وكاتب
      • 14-06-2011
      • 490

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
      طاب مساؤك أستاذ توفيق.
      كما انطبع لديّ و دون إطالة أو تفكير: لقد اكتشفت اليوم و من خلال هذا النصّ قاصّا على قدر كبير من البراعة و الذّوق و الخبرة و الثّقافة الأدبيّة ، قليلا ما نصادفها.
      جملتك الفعليّة هذه متعة بحقّ.
      فقط لديّ بشأنها ملاحظة :
      ألا توافقني سيّدي في أنّ القصّة عالجت جانب النّتيجة،أي ما أدّى إلى الشّروع في الانتحار دون إشارة أو تلميح و لو من بعيد عما دفع بالرّاوي إلى هذا القرار،و لعلّ إشارة كهذه في نظري كانت ستصوّب النصّ ناحية قراءة أكثر اتّساعا و قابليّة لاقتسام مأساة الراوي عوض أن تكون مجرّد رواية رائعة لحالة استثنائيّة .
      رأيي أقوله و أمضي،و يظلّ وقر النصّ عالقا في ذهني.
      دمت بخير أستاذي و لك منّي خالص المودّة و التّقدير.
      رأيك تقوله أستاذي وتمضي...هذا من كرمك ولطفك ...غير أنّه رأي تنشدّ إليه نفسي وتتوق إلى قراءته كلما انتهت من قراءته ...شرّفتني أستاذي وصوّبت خطأ وقوّمت اعوجاجا ربّما لو كان صاحب القصّة انتبه إليه لكانت الحبكة أفضل ...تحياتي ومودّتيييييييييييييييييييييييييييي

      تعليق

      • توفيق بن حنيش
        أديب وكاتب
        • 14-06-2011
        • 490

        #4
        المعذرة ...حذف
        التعديل الأخير تم بواسطة توفيق بن حنيش; الساعة 30-01-2015, 17:27.

        تعليق

        • عبدالمنعم حسن محمود
          أديب وكاتب
          • 30-06-2010
          • 299

          #5
          جملة فعليّة فقط

          (فقط)، يا لها من كلمة

          هذه الـ فقط سحبت قدراً من السحر، كان يمكن أن يكون مكتملاً لو كانت العتبة الرئيسة خالية منها

          (جملة فعلية) وبس
          ويا له من انفتاح، ذات الانفتاح الذي عززه الكاتب بعدم التلويح ببوادر ودوافع الانتحار

          وهذا من أكثر الأشياء التي راقت لي في هذا العمل المتميز

          ودهشة السرد المغاير تكمن في إنه لا يلتفت لـ لماذا، وكيف، ومتى، وغيرها من عوامل التحديد الجازمة.

          فـ (فقط) تمسك نسيج القص وتكبله، وتحصرك كقارئ في زواية حادة، كان من المفترض أن تكون منفرجة.

          وزدت دينارين اثنين ثمن منديل لأخي الصّغير ليمسح به لعابه ... حلقت ذقني ومشطت شعري وسوّيت قليلا من شاربي العريض

          ما يسحرك في هذا الشغل ليس ضخامة الحادثة أو ضآلتها، بقدر ما تفعله تفاصيل الأشياء، وسحرية العادي من الأشياء، وما تتركه من أثر فلسفي عميق.

          رأيت العالم من خلال عقدة في حبل ... تمنيّت أن أعضّ على الحبل قليلا

          كنت أنتظر حبكة أكثر تفككاً، تفكك يفرضه سياق الدلالة التي في النص.

          فالحادثة حادثة توقع وتنبؤ، ومداعبة مستمرة للمخيلة،

          أنظر مثلا لكلمة (لعابه) في المقطع أعلاه، وما فعلته

          وما كان له أن يكون لو وضعنا مكانها (دموعه).

          فالباب في الأولى مفتوح على آخره،

          وفي الثانية مجرد نافذة صغيرة لا غير.

          مثال آخر:

          تناولت القلم وكتبت وصيّتي في ما أملك وكتبت خطابا للأصدقاء ... رجوتهم أن ينسوا الأمور بسرعة

          [تناولت القلم وكتبت وصيتي/ تناولت القلم وكتبت شيئاً/

          هذا يبدو أنه أكثر انسجاماً مع تلك الأمور المفتوحة التي يجب على الأصدقاء نسيانها

          وكتبت وصيتي كانت خصما على انفتاح تلك الأمور.

          نص جميل ومحرض للكتابة عنه أكثر
          التواصل الإنساني
          جسرٌ من فراغ .. إذا غادره الصدق


          تعليق

          • توفيق بن حنيش
            أديب وكاتب
            • 14-06-2011
            • 490

            #6
            وتعليقك ,أستاذ عبد المنعم , مبدع ومنه يتولّد النص ويتفاعل ويبشر بثماره ...شكرا جزيلا على هذه الوقفة المتأنية التي تكرمت بها وإني لممنون لمثلك قارئا حصيفا يعيد بناء المقول ويسوقه مساقات طريفة تجدده ..تقبل تحياتي القلبية

            تعليق

            يعمل...
            X