إلى تلك الضريرة، التي لا تعرف كم هي فاتنة، ولا ترى نظرات الإعجاب التي تحدق فيها، ولتسمح لي بأن أحكي عنها بعضا من خلجاتها :
***
***
أنامل أمي التي تتحسس جسدي، هي كل صلتي بهذا العالم الذي لا أعرف له شكلا أو لونا.
تحادثني بصوتها الحنون وتغني لي، فكان كل ما أود سماعه كل يوم دون ملل أوكلل.
ترعرعت، ونموت، وكبرت، والدفء والأمان يعنيان حضن أمي.
صوتها يعني أنني أتمتع بحاسة عوَضني الله بها عن بصري.
إن ابتعدتْ عني كنت أحس وكأنني أسبح في فضاء عريض، وأن شيئا سيتلقفني ويطير بي إلى مالا نهاية، ولكن ما أن تلامسني يداها، أحس بمعنى وجودي.
ترى، كيف شكل أمي؟ تساؤل كان يضج بدواخلي بشكل رتيب.
بل كيف شكلي؟ وشكل إخوتي وأبي كل هؤلاء الذين أسمع أصواتهم وأعرفهم .
أتحسس أطرافي، وأتخيلها كما لمستها.
أمرر أصابعي بين خصلات شعري وأردد : كيف هو هذا الناعم المسترسل والمجدول حتى خاصرتي ؟
منذ نعومة أظافري وأنا أسمع من حولي : كم هي جميلة هذه الطفلة ، ولكن خسارة ......
لا يكملون العبارة. لم أكن أفهم معنى أن أبصر أو لا أبصر.
خالتي كانت تأتي من القرية، أعرفها من رائحتها المميزة الممزوجة بعرق السفر الطويل في عناقها الحار.
أناديها وأنا أبحث عن مصدر صوتها، مهرولة أتعثر في ملابسي، ويداى الصغيرتان تمتدان بلهفة نحو مصدر رائحتها وصوتها وصراخي يسبقني :
خالتي سميحة.... خالتي سميحة
أرتمي بين ذراعيها المفتوحتين، فترفعني لتقبلني، فأحس بدموعها تبلل خدي.
كانت تحبني بجنون، لا ترضى أن يغضبني أحد.
عاهتي كانت سببا في أن يدللني الجميع، ولكن خالتي كانت تحبني لدرجة كبيرة.
كل ما تجنيه من ثمن محصول أرضها بالقرية، كان يتحول إلى هدايا لي وحدي.
عندما تسافر عائدة إلى القرية، كنت أنام ليلتها في حضنها وأنا أبكي طوال الليل، أنتفض مذعورة من النوم وكأنها ذهبت وتركتني دون وداع.
عندما كبرت، وصرت فتاة ناضجة، كنت أسمع كلمات الإطراء من الجميع : سبحان الخالق، كل شيء فيها جميل وفاتن، ولكن لله في خلقه شئون.
يقولون أن جمالي منقطع النظير، وربما أضفتْ عيناى اللتان لا تريان شيئا، أضفتا سحرا خاصا على تقاطيع وجهي، يقولون أنه كلما سمعت صوت أحد، لا تستقر عيناى على هدف محدد في محاولة يائسة للمشاهدة، فتجولان في غير ما هدف، وتستقر ساكنة قانعة في محجريهما في هذا الظلام السرمدي.
يقولون أن هذه الحركة والإستكانة لهما فعل السحر في كل من هم حولي
بنيت عالما خاصا بي، عالما لا أستطيع أن أصفه لأي أحد، إلا لخالتي سميحة. لاأدري سر ارتباطي الوثيق بها، ولكن يبدو أن السبب هو أنها كانت بجوار أمي المريضة طوال أشهر حملها بي وحتى الولادة، حيث مكثتْ معنا حتى تماثلت أمي للشفاء. لذا كانت يدا خالتي أيضا هما أول شكل من أشكال عالمي الخاص الذي بنيته في خيالي الغائص في هذا الظلام الدامس.
أمي كانت تعني لي شيئا يحيط بي من كل جانب، تماما كالجدران التي أتحسسها، صوتها كان يأتيني فينتشلني من تفكيري المستمر عن العالم من حولي.
أبي، كان كلما اقتربت منه، يقبلني على رأسي، و أحس أنه لا يريد أن يتحدث عن مشكلتي. ولكنني كنت أحس أنه كالجدران التي أتحسسها يوميا، قوي ومتين مثلها.
إخوتي كانوا دائما في عراك مستمر معي بسبب تدليل الكل لي، لذا كانوا يعطونني شعورا دائما بالتحفز والاستعداد للملاسنة.
كبرت، ويقولون أنني صرت مكتملة الأنوثة وجميلة لحد بعيد. لا أدري ماذا يقصدون بهذه الصفات. لاأعرف الفرق بين أن أكون جميلة أو غير ذلك.
ما عكس صفة جميلة؟ لا أدري.
من بين كل الذين يترددون على بيتنا من أهل وجيران ومعارف، كان هناك صوتا واحدا يجعلني أرهف السمع وأتابعه. ألتقط نبرات صوته من بين عدة أصوات مجتمعة. فيدق قلبي بشدة، وأتلعثم في الرد على تحيته التي أحس أنه ينتقي كلماتها بعناية.
تمنيت أن يصافحني يوما، فلديَ مقدرة على معرفة مشاعر الناس أحيانا من حرارة أياديهم ودفئها.
يا ترى، كيف تبدو يا خالد؟
هل أنت جميل كما يقولون عني؟ كنت أعرف أنه لا فرق عندي، ولكن صوته يقتحم روحي الغائصة في جسدي.
كنت أحس بأنه يكمل نقصا في روحي الهائمة في بحر متلاطم من ليل بهيم.
يفرهد الفرح في دواخلي، فأبتسم وأنا مطمأنة ومرتاحة البال.
أتخيله شيئا يومض داخل حناياى عندما يسألني ( كيف أصبحت ؟ ) و( كيف أمسيت ؟)
أسئلة كهذه كانت تجرحني إن سألني إياها الآخرون، لأنني متأكدة من أنهم يدرون أن مسائي وصباحي سيان، إلا أنني أنتظر أسئلته هذه منه فقط، وأتعمد الإطالة في الرد عليه :
خالد ؟ الحمدلله أنا في أحسن حال. كيف حالك؟
وأطرح عليه أسئلة متقطعة ومكررة، حتى أحظى بأطول وقت ممكن من صوته الذي يهدهد كياني المتعب.
شكل آخر( لخالد ) جسَدته في مخيلتي الجرداء. هذه المخيلة الراقدة فيني تنتظر أن أعبئها بتجاربي المحدودة.
كنت في صغري، أرهق عقلي في بناء عالم خاص بي.
عالم أبني كل ما فيه بتصوري الخاص.
كلمات كنت أسمعها من إخوتي وأولاد وبنات الجيران، فأسألهم عن مكنوناتها، فيصفونها، فأرسمها في خيالي وتظل محفورة لفترة طويلة، أجلس أشكلها بحدس لا أدري إن كان صائبا أم مخطئا.
فأضع أمي في خانة البيوت والحجرات.
وأبي، أتخيله مصدرا للأكل والشرب، و كأنه يحملها بين يديه طوال الوقت ويعطينا إياها عند الطلب والحاجة إليهما.
وخالتي سميحة، أتخيلها دائما حفل صاخب مملوء بالفرح والزغاريد و شيء كبير مملوء بالمال و الهدايا.
وإخوتي أتخيلهم أشجارا لاأسمع حفيفها، ولكنني أرتطم بهم في مماحكات يومية.
ولكن بعدأن كبرت، صار(خالد) هو همي الذي أنام عليه، وشغلي الشاغل إن أصبح الصباح.
فاجأتني أمي ذات يوم : ابتسامتك الحلوة هذي لانراها إلا إن حضر (خالد)، تُرى ما السر؟
فاجأني السؤال ، ليتني كنت أستطيع أن أرى وجه أمي لأرى تعابير وجهها ، وبالرغم من أن صوتها كان يغلفه المزاح، فقد ران صمت طويل بيننا، قطعته أمي قائلة :
أنت حلوة حتى بدون ابتسامة يا ابنتي.
قفزت عدة أسئلة إلى رأسي : هل لاحظوا شيئا؟ معنى ذلك أنهم يعرفون، وربما يتحدثون في غيابي عن مشاعري نحو (خالد) ....
وا خجلتاه.
كأنهم فاجئوني في غرفة نومي عارية.
لا أدري إن كانوا يتغامزون عندما كانت أساريري تنطلق بالفرح وتفرهد بالحبورعند حضوره.
انزويت في ركن قصي، لم أعد أختلط بأسرتي أو بالزوار من الأهل والجيران.
لم يأت (خالد) ليسأل عن سبب احتجابي.
هل مشاعري نحوه من طرفي فقط ؟
ثم فاجأني تساؤل أخافني : هل تظنين أنه سيحب فتاة عمياء ؟
تسليتي الوحيدة قبل هذا الحدث كانت أن أجلس وسطهم وأستمع إليهم وأحفظ عن ظهر قلب كل ما يقولون.
ولكني اعتكفت واحتجبت.
حاولوا مرارا أن يعرفوا سبب اكتئابي.
أمي بلا شك عرفت السبب، ولكنها خافت أن تعيد الكرة وتنطق بأسمه أمامي، مسكينة أمي، أنا أعرف أنها لم تقصد أن تجرحني.
ذات صباح، جاءني صوته : صباح الخير
أجفلت، ثم هببت واقفة، لم أرد عليه، وأوليته ظهري.
وضع يده على كتفي.
لأول مرة يضع شخص غريب عني يده على كتفي.
شعرت وكأن شحنة من طاقة قد هزت كياني. وخرجتْ مني شهقة عفوية وتقدمت عنه خطوات مبتعدة.
تصبب العرق باردا يبلل عنقي.
قال : لم هذه الجفوة؟
أردت أن ألتفت وأجعله يتفرس ويتمعن في وجهي، ولكني خفت أن يكون أفراد أسرتي ينظرون إلينا من كل أركان البيت.
قال : أين أهل البيت؟
عندها ألتفت إليه، وأنفاسي تتلاحق، ووجهي مشحون بالانفعال.
قلت له :هل يعرفون؟
قال :يعرفون ماذا ؟
تمتمت في سري : هل يصطنع الغباء أم أنه بالفعل لا يدري ؟
قلت : إذن أنت أيضا لا تدري ؟
قال : أنا أدري شيئا واحدا، هو أنك إنسانة فاضلة تستحق كل خير.
قلت وأنا أزدرد ريقي وبشجاعة لا أدري من أين أتيت بها : الخير في داخلي لايكتمل بي وحدي. أشعر بأن هناك من يكمل لي ذاتي.
ران صمت عميق.
انتظرت إجابته والأمل شعلة تتقد وتفرهد في داخلي.
قال وكأنه يعاني صعوبة في النطق : جئت أدعوكم لزفافي الأسبوع المقبل.
لأول مرة أحس أن شيئا يخبو داخل صدري، تماما كهذه الإنطفاءة التي في عيني.
أنكمش جسدي كله.
أحسست أن كل ما بنيته في وجداني قد أنكسر و تناثر قطعا مسنونة و مدببة إنغرستْ في كل أنحاء جسدي.
انهارت كل الصور التي جمعتها خلال هذه السنوات، أصبح رأسي فارغا من كل ما تصورته و بنيته.
بدا صوته كأنه دبيب أقدام على الأرض تبتعد رويدا رويدا.
أسرعت إلى غرفتي وأنا أصطدم بكل شيء في طريقي إلى غرفتي، وهو طريق كنت أحفظ كل تفاصيله ومنحنياته عن ظهر قلب قبل هذا اليوم.
أحسست أنني غريبة حتى عن نفسي.
بكيت كمالم أبك من قبل. حتى دموعي عاندتني، فكانت وكانها تتسرب إلى جوفي ولا تخرج.
خيل إلي أن رائحة خالتي البعيدة عني في القرية قد عادت لتعبق جو البيت وتملأ أنفي..
وددت لوأنها الآن هنا، لأهرول نحوها فاتحة ذراعي وأقفز إلى حضنها لأعود أحس بذلك الشعور الذي أحسسته في طفولتي، عالما تملؤه هي و أمي فقط.
تحادثني بصوتها الحنون وتغني لي، فكان كل ما أود سماعه كل يوم دون ملل أوكلل.
ترعرعت، ونموت، وكبرت، والدفء والأمان يعنيان حضن أمي.
صوتها يعني أنني أتمتع بحاسة عوَضني الله بها عن بصري.
إن ابتعدتْ عني كنت أحس وكأنني أسبح في فضاء عريض، وأن شيئا سيتلقفني ويطير بي إلى مالا نهاية، ولكن ما أن تلامسني يداها، أحس بمعنى وجودي.
ترى، كيف شكل أمي؟ تساؤل كان يضج بدواخلي بشكل رتيب.
بل كيف شكلي؟ وشكل إخوتي وأبي كل هؤلاء الذين أسمع أصواتهم وأعرفهم .
أتحسس أطرافي، وأتخيلها كما لمستها.
أمرر أصابعي بين خصلات شعري وأردد : كيف هو هذا الناعم المسترسل والمجدول حتى خاصرتي ؟
منذ نعومة أظافري وأنا أسمع من حولي : كم هي جميلة هذه الطفلة ، ولكن خسارة ......
لا يكملون العبارة. لم أكن أفهم معنى أن أبصر أو لا أبصر.
خالتي كانت تأتي من القرية، أعرفها من رائحتها المميزة الممزوجة بعرق السفر الطويل في عناقها الحار.
أناديها وأنا أبحث عن مصدر صوتها، مهرولة أتعثر في ملابسي، ويداى الصغيرتان تمتدان بلهفة نحو مصدر رائحتها وصوتها وصراخي يسبقني :
خالتي سميحة.... خالتي سميحة
أرتمي بين ذراعيها المفتوحتين، فترفعني لتقبلني، فأحس بدموعها تبلل خدي.
كانت تحبني بجنون، لا ترضى أن يغضبني أحد.
عاهتي كانت سببا في أن يدللني الجميع، ولكن خالتي كانت تحبني لدرجة كبيرة.
كل ما تجنيه من ثمن محصول أرضها بالقرية، كان يتحول إلى هدايا لي وحدي.
عندما تسافر عائدة إلى القرية، كنت أنام ليلتها في حضنها وأنا أبكي طوال الليل، أنتفض مذعورة من النوم وكأنها ذهبت وتركتني دون وداع.
عندما كبرت، وصرت فتاة ناضجة، كنت أسمع كلمات الإطراء من الجميع : سبحان الخالق، كل شيء فيها جميل وفاتن، ولكن لله في خلقه شئون.
يقولون أن جمالي منقطع النظير، وربما أضفتْ عيناى اللتان لا تريان شيئا، أضفتا سحرا خاصا على تقاطيع وجهي، يقولون أنه كلما سمعت صوت أحد، لا تستقر عيناى على هدف محدد في محاولة يائسة للمشاهدة، فتجولان في غير ما هدف، وتستقر ساكنة قانعة في محجريهما في هذا الظلام السرمدي.
يقولون أن هذه الحركة والإستكانة لهما فعل السحر في كل من هم حولي
بنيت عالما خاصا بي، عالما لا أستطيع أن أصفه لأي أحد، إلا لخالتي سميحة. لاأدري سر ارتباطي الوثيق بها، ولكن يبدو أن السبب هو أنها كانت بجوار أمي المريضة طوال أشهر حملها بي وحتى الولادة، حيث مكثتْ معنا حتى تماثلت أمي للشفاء. لذا كانت يدا خالتي أيضا هما أول شكل من أشكال عالمي الخاص الذي بنيته في خيالي الغائص في هذا الظلام الدامس.
أمي كانت تعني لي شيئا يحيط بي من كل جانب، تماما كالجدران التي أتحسسها، صوتها كان يأتيني فينتشلني من تفكيري المستمر عن العالم من حولي.
أبي، كان كلما اقتربت منه، يقبلني على رأسي، و أحس أنه لا يريد أن يتحدث عن مشكلتي. ولكنني كنت أحس أنه كالجدران التي أتحسسها يوميا، قوي ومتين مثلها.
إخوتي كانوا دائما في عراك مستمر معي بسبب تدليل الكل لي، لذا كانوا يعطونني شعورا دائما بالتحفز والاستعداد للملاسنة.
كبرت، ويقولون أنني صرت مكتملة الأنوثة وجميلة لحد بعيد. لا أدري ماذا يقصدون بهذه الصفات. لاأعرف الفرق بين أن أكون جميلة أو غير ذلك.
ما عكس صفة جميلة؟ لا أدري.
من بين كل الذين يترددون على بيتنا من أهل وجيران ومعارف، كان هناك صوتا واحدا يجعلني أرهف السمع وأتابعه. ألتقط نبرات صوته من بين عدة أصوات مجتمعة. فيدق قلبي بشدة، وأتلعثم في الرد على تحيته التي أحس أنه ينتقي كلماتها بعناية.
تمنيت أن يصافحني يوما، فلديَ مقدرة على معرفة مشاعر الناس أحيانا من حرارة أياديهم ودفئها.
يا ترى، كيف تبدو يا خالد؟
هل أنت جميل كما يقولون عني؟ كنت أعرف أنه لا فرق عندي، ولكن صوته يقتحم روحي الغائصة في جسدي.
كنت أحس بأنه يكمل نقصا في روحي الهائمة في بحر متلاطم من ليل بهيم.
يفرهد الفرح في دواخلي، فأبتسم وأنا مطمأنة ومرتاحة البال.
أتخيله شيئا يومض داخل حناياى عندما يسألني ( كيف أصبحت ؟ ) و( كيف أمسيت ؟)
أسئلة كهذه كانت تجرحني إن سألني إياها الآخرون، لأنني متأكدة من أنهم يدرون أن مسائي وصباحي سيان، إلا أنني أنتظر أسئلته هذه منه فقط، وأتعمد الإطالة في الرد عليه :
خالد ؟ الحمدلله أنا في أحسن حال. كيف حالك؟
وأطرح عليه أسئلة متقطعة ومكررة، حتى أحظى بأطول وقت ممكن من صوته الذي يهدهد كياني المتعب.
شكل آخر( لخالد ) جسَدته في مخيلتي الجرداء. هذه المخيلة الراقدة فيني تنتظر أن أعبئها بتجاربي المحدودة.
كنت في صغري، أرهق عقلي في بناء عالم خاص بي.
عالم أبني كل ما فيه بتصوري الخاص.
كلمات كنت أسمعها من إخوتي وأولاد وبنات الجيران، فأسألهم عن مكنوناتها، فيصفونها، فأرسمها في خيالي وتظل محفورة لفترة طويلة، أجلس أشكلها بحدس لا أدري إن كان صائبا أم مخطئا.
فأضع أمي في خانة البيوت والحجرات.
وأبي، أتخيله مصدرا للأكل والشرب، و كأنه يحملها بين يديه طوال الوقت ويعطينا إياها عند الطلب والحاجة إليهما.
وخالتي سميحة، أتخيلها دائما حفل صاخب مملوء بالفرح والزغاريد و شيء كبير مملوء بالمال و الهدايا.
وإخوتي أتخيلهم أشجارا لاأسمع حفيفها، ولكنني أرتطم بهم في مماحكات يومية.
ولكن بعدأن كبرت، صار(خالد) هو همي الذي أنام عليه، وشغلي الشاغل إن أصبح الصباح.
فاجأتني أمي ذات يوم : ابتسامتك الحلوة هذي لانراها إلا إن حضر (خالد)، تُرى ما السر؟
فاجأني السؤال ، ليتني كنت أستطيع أن أرى وجه أمي لأرى تعابير وجهها ، وبالرغم من أن صوتها كان يغلفه المزاح، فقد ران صمت طويل بيننا، قطعته أمي قائلة :
أنت حلوة حتى بدون ابتسامة يا ابنتي.
قفزت عدة أسئلة إلى رأسي : هل لاحظوا شيئا؟ معنى ذلك أنهم يعرفون، وربما يتحدثون في غيابي عن مشاعري نحو (خالد) ....
وا خجلتاه.
كأنهم فاجئوني في غرفة نومي عارية.
لا أدري إن كانوا يتغامزون عندما كانت أساريري تنطلق بالفرح وتفرهد بالحبورعند حضوره.
انزويت في ركن قصي، لم أعد أختلط بأسرتي أو بالزوار من الأهل والجيران.
لم يأت (خالد) ليسأل عن سبب احتجابي.
هل مشاعري نحوه من طرفي فقط ؟
ثم فاجأني تساؤل أخافني : هل تظنين أنه سيحب فتاة عمياء ؟
تسليتي الوحيدة قبل هذا الحدث كانت أن أجلس وسطهم وأستمع إليهم وأحفظ عن ظهر قلب كل ما يقولون.
ولكني اعتكفت واحتجبت.
حاولوا مرارا أن يعرفوا سبب اكتئابي.
أمي بلا شك عرفت السبب، ولكنها خافت أن تعيد الكرة وتنطق بأسمه أمامي، مسكينة أمي، أنا أعرف أنها لم تقصد أن تجرحني.
ذات صباح، جاءني صوته : صباح الخير
أجفلت، ثم هببت واقفة، لم أرد عليه، وأوليته ظهري.
وضع يده على كتفي.
لأول مرة يضع شخص غريب عني يده على كتفي.
شعرت وكأن شحنة من طاقة قد هزت كياني. وخرجتْ مني شهقة عفوية وتقدمت عنه خطوات مبتعدة.
تصبب العرق باردا يبلل عنقي.
قال : لم هذه الجفوة؟
أردت أن ألتفت وأجعله يتفرس ويتمعن في وجهي، ولكني خفت أن يكون أفراد أسرتي ينظرون إلينا من كل أركان البيت.
قال : أين أهل البيت؟
عندها ألتفت إليه، وأنفاسي تتلاحق، ووجهي مشحون بالانفعال.
قلت له :هل يعرفون؟
قال :يعرفون ماذا ؟
تمتمت في سري : هل يصطنع الغباء أم أنه بالفعل لا يدري ؟
قلت : إذن أنت أيضا لا تدري ؟
قال : أنا أدري شيئا واحدا، هو أنك إنسانة فاضلة تستحق كل خير.
قلت وأنا أزدرد ريقي وبشجاعة لا أدري من أين أتيت بها : الخير في داخلي لايكتمل بي وحدي. أشعر بأن هناك من يكمل لي ذاتي.
ران صمت عميق.
انتظرت إجابته والأمل شعلة تتقد وتفرهد في داخلي.
قال وكأنه يعاني صعوبة في النطق : جئت أدعوكم لزفافي الأسبوع المقبل.
لأول مرة أحس أن شيئا يخبو داخل صدري، تماما كهذه الإنطفاءة التي في عيني.
أنكمش جسدي كله.
أحسست أن كل ما بنيته في وجداني قد أنكسر و تناثر قطعا مسنونة و مدببة إنغرستْ في كل أنحاء جسدي.
انهارت كل الصور التي جمعتها خلال هذه السنوات، أصبح رأسي فارغا من كل ما تصورته و بنيته.
بدا صوته كأنه دبيب أقدام على الأرض تبتعد رويدا رويدا.
أسرعت إلى غرفتي وأنا أصطدم بكل شيء في طريقي إلى غرفتي، وهو طريق كنت أحفظ كل تفاصيله ومنحنياته عن ظهر قلب قبل هذا اليوم.
أحسست أنني غريبة حتى عن نفسي.
بكيت كمالم أبك من قبل. حتى دموعي عاندتني، فكانت وكانها تتسرب إلى جوفي ولا تخرج.
خيل إلي أن رائحة خالتي البعيدة عني في القرية قد عادت لتعبق جو البيت وتملأ أنفي..
وددت لوأنها الآن هنا، لأهرول نحوها فاتحة ذراعي وأقفز إلى حضنها لأعود أحس بذلك الشعور الذي أحسسته في طفولتي، عالما تملؤه هي و أمي فقط.
***
جلال داود
تعليق