الجمل وما حمل
دخل رجل أنيق، طويل القامة مطعما، وكان يلبس بدلة سوداء زادت من وسامته ووقاره الطبيعي، وجلس في ركن منعزل، شبه مظلم، يبغي الهدوء، يشرف على باب المطعم، يرى الداخل والخارج، ولا يراه إلاّ من جاء من بيته قاصدا ذلك.
وبعد قليل دخلت امرأة متشحة بالسواد، تضع على عينيها نظارة سوداء واسعة، تبلع ملامح وجهها، وتصعِّب على أقرب الناس إليها التعرف عليها، وتضع على رأسها منديلا أسود، يحاول جاهدا لملمة شعرها الغجري، المتمرد، الرافض للحصار، مخترقا المنديل حيث وجد نقطة ضعف، فوق الجبين، معتديا على النظارة، ليزيد من حيث لا يقصد الغموض غموضا، أومن الخلف يقتحم بغير توظيب كتفيها، ويستفز أعلى ظهرها.
فتشت هي الأخرى عن ركن منعزل شبه مظلم، يشرف على باب المطعم، يرى الداخل والخارج، ولا يراه إلاّ من يقصد ذلك!
وبعدها بقليل دخل رجل متوسط البدانة، ذو شارب كثيف فوضوي متهدل،لم تصله يد حلاق، ولم يصافحه مقصّ، يطغي على معظم فمه، يلبس بدلة خضراء لم تستطع أن توفر له القليل من الوقار، أو الوسامة التي حرمته الطبيعة منهما، حليق الرأس، يعتمر قبعة كقبعات الكاو بوي، رمادية اللون، ويضع هو الآخر نظارة سوداء واسعة على عينيه، تبتلع ما بقي من ملامح وجهه، وتصعّب على أقرب الناس إليه التعرف عليه، يبدو كرجل المخابرات الذي كان يلاحق شباب القرية حتى أُزيح إلى التقاعد بعد فضيحة أخلاقية.
توجه الرجل غير الوقور إلى المكان شبه المظلم الذي يشرف على باب المطعم، يرى الداخل والخارج، ولا يراه إلاّ من جاء من بيته قاصدا ذلك، وانظم إلى المرأة المتشحة بالسواد، بعد أن حيّاها تحية خجلى، لم تستطع أن تعكّر الصمت المخيم على المكان المنعزل، لم تزد عن حركة شديدة التقلّص من حاجبيه الكثيفين كثافة شاربه، جلس معها حول نفس الطاولة وعيناه تتفحص المكان ليتأكد من سلامة تخفّيه،ثم اخذا يتهامسان همسا حادا يدل على أن أمرا مهمّا يشغل حاضرهما، وبين الهمس والهمس يتفحصان المكان حولهما!
لم ينتبها إلى الرجل الوقور ذي البدلة السوداء، الجالس في المكان شبه المظلم، بينما هو استطاع أن يلتقط الكثير من كلامهما الذي تتخلله كلمات بلغة أجنبية تؤكد خوفهما وخطورة المأزق الذي وقعا به:
_ متى سافر زوجك؟
_ قبل أكثر من شهر.
_ هل تذكرين التاريخ بدقة؟
_ لم، ولن أحاول.
_ألم يُجرِ أيّ اتصال؟
_ لا، وقد أحسن صُنعا.
احذري، إذا اتصل لا تتحدثي معه في الموضوع!
_ ألهذا الحدّ أنت خائف؟
_ أظن أن الإنتربول سيعيده، وقد يقبضون عليه في المطار حال وصوله.
_ وكيف عرفت؟
_ لي اتصالاتي، وقد عرفت أنهم وجدوا بصماته على المسدس الذي ارتُكبت به الجريمة.
_ هذه نهاية الرزق الحرام، فإما مصيبة أو سجن، أو كلاهما.
قال"والبسمة الخبيثة تعلو شفتيه":
_ وهل أنتِ أكثر استقامة؟
_ أنتَ كالمنشار، لا تترك مصيبة إلاّ وتستفيد منها!
_ لا تنسي أن لا ناقة لي ولا جمل بالموضوع.
_ صحيح أضحكتني والخوف يتملكني!!! تبدو على وجهك كلّ علامات التقوى والزهد والإيمان، بينما ملكت الناقة والجمل بما حمل.
_ أقول الحقيقة!
_ أيُّ حقيقة تقول، لو خدعت العالم كله لا تستطيع أن تخدعني.
الحقيقة التي تتكلمين عنها دُفِنت مع القتيل...
ومع ارتفاع حرارة نقاشهما، لم يشعرا باقتراب الرجل الأنيق ذو البدلة السوداء منهما وهو يحييهما .
نظر كل منهما بعيني الآخر، كأنهما لا يعرفان بعضهما، وكأن المفاجأة عقدت لسانيهما، لم يتوقعا وجود شخص ثالث في هذا الركن المنعزل، شبه المظلم، يخترق كل هذا الحذر الذي خططا له، المفاجأة غيرت لون وجهيهما، فبدت باهتة، كأنها تشتهي الدم، واتسعت عيونهما واطل الخوف منها،وسال الماء من أنوفهما....
قال الرجل الأنيق:
_ لا عليكما، ستشرق الحقيقة حتى من قبر القتيل...
وقدم نفسه على أنه ضابط شرطة وأنه سمع كل ما دار بينهما من حوار مهموس!!
استرد الرجل ذو البدلة الخضراء أنفاسه، وعاد اللون الطبيعي إلى وجهه، بعد أن كاد قلبه أن يتوقف، وتمالك نفسه وضحك ضحكة حطّمت الصمت المخيم، وأضاءت المكان المنعزل شبه المظلم ....
تعليق