سنواتٌ مضت منذ أن مددتُ يدي وأغمضت لها عينيها الإغماضة الأبدية.
كانت ليلة منتصف شهر رمضان،،، سهرتُ بجانبها حتى تباشير الفجر.
وعندما لاح أولُ خيطٍ من شعاعِ شمس فجرِ اليوم التالي، كانت قد حلَّقتْ بجناحيها، وأستردّ الله أمانته التي أودعها إياها، فغادرتْ دنيانا نفْساً مطمئنة،، راضية مرضية،، تتبعها الدعوات بأن يشملها المولى مع عباده في جنته.
كأنني عرفتُ في قرارة نفسي أنها سترحل بين لحظة وأخرى .
شيءٌ ما سمَّرني على الكرسي طوال الليل رغم الجهد الذي أصابني طيلة الشهر متنقلاً من طبيب لآخر، متأرجحاً بين أجنحة الأمل وأمواج اليأس .
تارة يوسوس لي إبليس بإلحاح يُشِل التفكير بأن الموت لا محالة آتٍ فماذا أنت فاعل ؟
وأرْدَعُ وسواس نفسي وأهَدْهِدُ جزعي تارة أخرى بالركون إلى رحمة الله الواسعة والارتماء في أحضان الإيمان المطلق وفي قضائه وقدره النافذين.
أُحَدِّق في الأجهزة الموصولة بجسدها كشرايين تطفو خارجه.
صبرتْ كثيراً على المرض هذه العزيزة. تردد باستمرار و بابتسامة باهتة : (الحمد لله على كل حال).
شجاعتها أذهلتني، وقوة تحملها كان فوق كل إحتمال.
فرغم الألم،، ما فتئتْ تذكر أهلها، وتسأل عن القريب والبعيد ، وتعتذر لي لأنها أرهقتني كثيراً بمرضها.
أتحدث إليها وهي تنصت وترمقني بنظرات حزينة منكسرة لا حول لها ولا قوة،، فقد طالت الأجهزة الحلق والفم فمنعتها من الكلام،
تكتب بيدها اليسرى ما تود إخباري به.
آخر شيء كتبته كانت عبارة أحتفظ بها داخل دفتر مذكراتها : ( خلي بالك من العيال )
عند هذه الكلمات أدركتُ أنها تودعني وتودع هذه الدنيا الفانية.
سألتُها إن كانت تريد رؤية بنتيها. رفضتْ بشدة وبإلحاح بهزاتٍ من رأسها.
كانت رغبتها أن لا تراها البنتان بهذا الشكل حتى لا تنطبع حالتها في أذهانهن .
رفضتْ حتى أن تسافر لذويها بالقاهرة، قالت أنها لا تحب أن يروها وهي تتألم،
لديها إيمان راسخ بأن مهمتها فقط أن توزع الأمل والابتسامة.
رَبَتَ الطبيب على كتفي وهمس في أذني : لا تفارقها الليلة أبداً. كم قوية هي هذه المرأة،،، فقد قاومتْ المرض بشكل شجاع وعنيف. ربنا معها ومعك.
نظرتُ إليه بتوسل ،،
وددْتُ لو خدعني بكلمات تجعل الأمل يبرق في نفسي ولو كبصيص جذوة نارٍ خابية.
وتمنيتُ أن يرمي إلي ولو بقشة هشة وسط خضم أمواج اليأس العاتية، فقد كانت تكفيني لكي أتشبثبها وأطفو على سطح الرجاء.
هزَّرأسه بأنْ لا أمل ... حتى ولو بصيص منه.
فغاص قلبي بين أضلعي وأحسستُ أن شيئا يطبق على رأسي ويعتصره اعتصارا.. امتدت الدنيا أمامي شارعاً طويلاً خاوياً إلا من جزعي وهلعي.
شارع مشيناه بمحطاته التي توقفنا فيها وانطلقنا منها واسترحنا على جنباته.
انتابني شعور بأنني أسبح في فضاء عريض، وأنني سأهوى من ارتفاع شـاهق دون الارتطام بالأرض لأعـاود السـباحة في فضاء الـيأس والقنوط .
لم أجرؤ على النظر إليها.
شخصتُ ببصري بعيداً أنظر إلى لا شيء.
ثم عاودني الوسواس يطرق دواخلي بقوة، فالفراق قاب قوسين أو أدنى.
فانحنيتُ فوقها ولثمتُ جبينها، وسـارعتُ بمسـح دمعة قبل أن تنزلق وتبلل جبينها.
خفتُ أن ترى ضعفي في موقف تحتاج فيه إلى قوتي واتزاني.
اختلست ُنظرة كسيرة تجاهها.
وجدتها تنظر إلي وهي بالكاد تبتسم ابتسامة ترقد على أطراف شفتيها.
كأنها تشجعني وهي في أشد الحاجة إلى جرعة تشجيع.
أضاء نور غريب كل وجهها، فتوهج، وكأن العافية تتجدد فيها .
إنه هدوء الرحيل الذي يسبق عاصفة الانهيار.
شخصتْ ببصرها نحوي طويلاً كأنها تملأ ناظريها مني لآخر مرة.
جلست جوارها، وهاتف يهتف بي : أهذه هي النهاية ؟
ومر شريط الذكريات أمامي سريعاً ،،
تتزاحم فيه الصور والرؤى.
أهذا الجسـد المُسْـجَى هو جسـد تلك الفتاة التي كانت تملأ الدنيا ضجيجاً وحباً ؟
كانت أمنيتها أن تعيش عيشـة ريفية هادئة بعيداً عن صخب المدن الكبيرة. كانت تسـتمع إلى وصف الأهل القادمين من إجازاتهم بقريتنا فتسرع إليهم وتسألهم عن كل شيء بالقرية .
تستمع إليهم وهي مبهورة.
كنت قد رأيتها أول مرة في مناسبة زواج تتنقل بين المدعوين كفراشة توزع عبق الأزهار، تمازح هذه وتضحك مع تلك وتهمس في أذن أخرى.
رأيتها فتقدمت منها كالمسحور، وألقيت عليها التحية، فردتْ بحرارة كأنها إلتقتْني من قبل.
وجلسنا نتحادث دون أن نشعر بالوقت حتى مغادرة آخر مدعو.
كأننا نعرف بعضنا البعض منذ زمن طويل.
نسينا أننا في مناسبة عامة وأن هناك أناس حولنا.
جلس تُفي حضرتها بكل عفوية، وانطلقتْ هي تحكي وتحكي ، وأنا أبادلها الحكاية بمثلها ،،
وتضحك من لهجتي وتقول : إنت صعيدي على السكين.
شيء ما في دواخلها نفذ إلى أعماقي بروحها الشفافة دون أي تكلّف.
صاحب الدعوة أتانا ليحدثنا بأن كل المدعوين قد انصرفوا.
ضحكنا كثيراً لهذا الحدث الذي صرنا نحكيه كلما سنحتْ فرصة الحديث عن لقائنا الأول..
تعمدتُ زيارتها بمكان عملها بأعذار مختلقة.
ويوماً،، دون مقدمات طلبت يدها للزواج.
تزوجتها في منتصف رمضان ،، ورحلتْ عن الدنيا في نفس اليوم من شهر رمضان بعد خمس سنوات.
توقيت لا يزال يصيبني بالدوار.
تزوجتها في شهر رمضان فأضفى الشهر الكريم قدسية على رباطنا ..
وفارقتني في شهر رمضان فأفاض الشهر على نفسي سكينة التسليم بالقضاء والقدر، أحمد الله عليها كثيراً.
بعد أن تم دفنها عصر ذلك اليوم، قال لي شيخ وقور : لا تغادر مكان قبرها سريعاً لأن الميت يسمع دبيب خطوات أهله وهم يغادرون ،، أجلس وأدعو لها.
جثوتُ على ركبتي طويلاً على حافة قبرها.
لم تسعفني ذاكرتي بشيء أدعو به، فالحزن كان يمسك بتلابيب كياني.
وقفتُ، ثم خطوْتُ بعيداً لأغادر، هاتفني صوتها وكأنه ينساب من قاعٍ سحيق : ( ما تنسانيش من دعواتك )، فعدت ودعوت لها طويلاً ،، أنطلق الدعاء مثل شلال متدفق، سـيل منهمرمن الدعاء النابع من أعماقي، زَخَّات من الدعاء الصادق وأنا أستحضرها أمامي.
ليلتها بالمستشفى ،، أنتفض جسدها،، هرولتُ إليها،، أشارت إلى الورقة والقلم.
كتبتْ ما معناه أنها رأت رجلاً غريباً يمر من أمامها وهو يلبس ثوبا أبيضاً ناصع البياض.
وقفتُ أتلفت حولي، لم يكن هناك أحد غيرنا. شعرت بخوف ورهبة،،، وغرفة الإنعاش تبدو كثلاجة كبيرة، والأجهزة تدق في رأسي بشكل رتيب كموسيقى حزينة، وهي تكتب بتكرار وإصرار أنها رأته يمر من أمامها عدة مرات.
قرأتُ آية الكرسي و اضعاً يدي على جبينها.
شعرتُ أنني أقف على عتبة عالمٍ آخر معها، وأنها ستودعني على بوابة هذا العالم لأعود مرة أخرى إلى دنيانا بدونها وحيداً.
كان قد تكرر لديها حلم واحد كثيراً بعد زواجي منها، في هذا الحلم كانت ترى أنها طائر يقف على غصن شجرة عالية،، يغرد ثم يختفي صوته فيقع هامداً على الأرض.
قرأتُ معظم كتب تفسير الأحلام ،، لم أجد ما يشفي غليلي في تفسير حلمها.
عرفت معناه تماما بعد أن فارقتني سريعاً، كطائر مهاجر يقف على غصن شجرة يتدلى بالقرب من النافذة،، فيغرد ثم ينطلق في رحلة مجهولة،، فتتابعه بنظرك حتى يختفي في الأفق البعيد، فتظل أصداء تغريده تتردد بين جنباتك كموسيقى خلفية لمشهد موغل في الحزن واللوعة والفجيعة.
أشارت لي بيدها أن أذهب لأرتاح.
جلستُ على الكرسي بجانبها،،
غفوتُ قليلاً بسبب الإرهاق جراء السهر المتواصل لعدة ليال ،،
أيقظتني الممرضة قرب الفجر .
كانت أنفاسها تتلاحق،، وعيناها زائغتان ولكن دونما خوف أو وجل،، هرولتْ الممرضة إلى الطبيب،،، اقتربتُ منها،، أمسكتْ بيدي ،، ضغطتْ على يدي بقوة،، عيناها كانتا تقولان الكثير والكثير ،،
ولكنني أجزم بأنها كانت توصيني على إبنتينا للمرة الأخيرة ،،،
صار جسدها بارداً كالثلج،، شخصتْ ببصرها نحوي طويلاً، عرفتُ أنها نظرة مودع،،
وسالت منها دمعة كبيرة منزلقة حتى استقرتْ خلف عنقها،، ارتختْ يدها رويداً رويداً،، وارتسمتْ ابتسامة وادعة على جانب فمها،،
وأشاحت بوجهها مستقبلة الجهة الأخرى،،
وتوقف قلبها الكبير عن الخفقان،،
وكفَّتْ الأجهزة عن الضجيج، وران صمت مهيب على الغرفة.
مددتُ يدي وأغمضت عينيها بحركة آلية،، وسحبت الغطاء عليها،،
وأنا بين مصدق ومكذب،، وكأنني سأغطيها لتنام وتصحو ، لتقول لي : صباح الخير.
لأول مرة أمد يدي وأغمض عيْنَي ميت.
رغم الحزن الجاثم على الصدر،، والرغبة في إطلاق بركان البكاء،، إلا أنني لمحتُ هـالة مضيئة من الاطمئنان على وجهها تدعوني أن أصبر وأحتسب وأن أصمد لأن أمامي أمانة لا بد أن أؤديها لها.
للموت سطوة،، وفي الموت حكمة لا يعلم سرها إلا الملك الجبار.
من التراب إلى التراب، ولله في خلقه شئون.
تداعت هذه الذكرى الأليمة بعد كل هذه السنوات، عندما سألتني صغرى البنات وهي تطيل النظرإلى صورة أمها التي تضعها على طاولتها الصغيرة :
كيف كان صوت أمي ؟
***
جلال داود ( الرياض )
كانت ليلة منتصف شهر رمضان،،، سهرتُ بجانبها حتى تباشير الفجر.
وعندما لاح أولُ خيطٍ من شعاعِ شمس فجرِ اليوم التالي، كانت قد حلَّقتْ بجناحيها، وأستردّ الله أمانته التي أودعها إياها، فغادرتْ دنيانا نفْساً مطمئنة،، راضية مرضية،، تتبعها الدعوات بأن يشملها المولى مع عباده في جنته.
كأنني عرفتُ في قرارة نفسي أنها سترحل بين لحظة وأخرى .
شيءٌ ما سمَّرني على الكرسي طوال الليل رغم الجهد الذي أصابني طيلة الشهر متنقلاً من طبيب لآخر، متأرجحاً بين أجنحة الأمل وأمواج اليأس .
تارة يوسوس لي إبليس بإلحاح يُشِل التفكير بأن الموت لا محالة آتٍ فماذا أنت فاعل ؟
وأرْدَعُ وسواس نفسي وأهَدْهِدُ جزعي تارة أخرى بالركون إلى رحمة الله الواسعة والارتماء في أحضان الإيمان المطلق وفي قضائه وقدره النافذين.
أُحَدِّق في الأجهزة الموصولة بجسدها كشرايين تطفو خارجه.
صبرتْ كثيراً على المرض هذه العزيزة. تردد باستمرار و بابتسامة باهتة : (الحمد لله على كل حال).
شجاعتها أذهلتني، وقوة تحملها كان فوق كل إحتمال.
فرغم الألم،، ما فتئتْ تذكر أهلها، وتسأل عن القريب والبعيد ، وتعتذر لي لأنها أرهقتني كثيراً بمرضها.
أتحدث إليها وهي تنصت وترمقني بنظرات حزينة منكسرة لا حول لها ولا قوة،، فقد طالت الأجهزة الحلق والفم فمنعتها من الكلام،
تكتب بيدها اليسرى ما تود إخباري به.
آخر شيء كتبته كانت عبارة أحتفظ بها داخل دفتر مذكراتها : ( خلي بالك من العيال )
عند هذه الكلمات أدركتُ أنها تودعني وتودع هذه الدنيا الفانية.
سألتُها إن كانت تريد رؤية بنتيها. رفضتْ بشدة وبإلحاح بهزاتٍ من رأسها.
كانت رغبتها أن لا تراها البنتان بهذا الشكل حتى لا تنطبع حالتها في أذهانهن .
رفضتْ حتى أن تسافر لذويها بالقاهرة، قالت أنها لا تحب أن يروها وهي تتألم،
لديها إيمان راسخ بأن مهمتها فقط أن توزع الأمل والابتسامة.
رَبَتَ الطبيب على كتفي وهمس في أذني : لا تفارقها الليلة أبداً. كم قوية هي هذه المرأة،،، فقد قاومتْ المرض بشكل شجاع وعنيف. ربنا معها ومعك.
نظرتُ إليه بتوسل ،،
وددْتُ لو خدعني بكلمات تجعل الأمل يبرق في نفسي ولو كبصيص جذوة نارٍ خابية.
وتمنيتُ أن يرمي إلي ولو بقشة هشة وسط خضم أمواج اليأس العاتية، فقد كانت تكفيني لكي أتشبثبها وأطفو على سطح الرجاء.
هزَّرأسه بأنْ لا أمل ... حتى ولو بصيص منه.
فغاص قلبي بين أضلعي وأحسستُ أن شيئا يطبق على رأسي ويعتصره اعتصارا.. امتدت الدنيا أمامي شارعاً طويلاً خاوياً إلا من جزعي وهلعي.
شارع مشيناه بمحطاته التي توقفنا فيها وانطلقنا منها واسترحنا على جنباته.
انتابني شعور بأنني أسبح في فضاء عريض، وأنني سأهوى من ارتفاع شـاهق دون الارتطام بالأرض لأعـاود السـباحة في فضاء الـيأس والقنوط .
لم أجرؤ على النظر إليها.
شخصتُ ببصري بعيداً أنظر إلى لا شيء.
ثم عاودني الوسواس يطرق دواخلي بقوة، فالفراق قاب قوسين أو أدنى.
فانحنيتُ فوقها ولثمتُ جبينها، وسـارعتُ بمسـح دمعة قبل أن تنزلق وتبلل جبينها.
خفتُ أن ترى ضعفي في موقف تحتاج فيه إلى قوتي واتزاني.
اختلست ُنظرة كسيرة تجاهها.
وجدتها تنظر إلي وهي بالكاد تبتسم ابتسامة ترقد على أطراف شفتيها.
كأنها تشجعني وهي في أشد الحاجة إلى جرعة تشجيع.
أضاء نور غريب كل وجهها، فتوهج، وكأن العافية تتجدد فيها .
إنه هدوء الرحيل الذي يسبق عاصفة الانهيار.
شخصتْ ببصرها نحوي طويلاً كأنها تملأ ناظريها مني لآخر مرة.
جلست جوارها، وهاتف يهتف بي : أهذه هي النهاية ؟
ومر شريط الذكريات أمامي سريعاً ،،
تتزاحم فيه الصور والرؤى.
أهذا الجسـد المُسْـجَى هو جسـد تلك الفتاة التي كانت تملأ الدنيا ضجيجاً وحباً ؟
كانت أمنيتها أن تعيش عيشـة ريفية هادئة بعيداً عن صخب المدن الكبيرة. كانت تسـتمع إلى وصف الأهل القادمين من إجازاتهم بقريتنا فتسرع إليهم وتسألهم عن كل شيء بالقرية .
تستمع إليهم وهي مبهورة.
كنت قد رأيتها أول مرة في مناسبة زواج تتنقل بين المدعوين كفراشة توزع عبق الأزهار، تمازح هذه وتضحك مع تلك وتهمس في أذن أخرى.
رأيتها فتقدمت منها كالمسحور، وألقيت عليها التحية، فردتْ بحرارة كأنها إلتقتْني من قبل.
وجلسنا نتحادث دون أن نشعر بالوقت حتى مغادرة آخر مدعو.
كأننا نعرف بعضنا البعض منذ زمن طويل.
نسينا أننا في مناسبة عامة وأن هناك أناس حولنا.
جلس تُفي حضرتها بكل عفوية، وانطلقتْ هي تحكي وتحكي ، وأنا أبادلها الحكاية بمثلها ،،
وتضحك من لهجتي وتقول : إنت صعيدي على السكين.
شيء ما في دواخلها نفذ إلى أعماقي بروحها الشفافة دون أي تكلّف.
صاحب الدعوة أتانا ليحدثنا بأن كل المدعوين قد انصرفوا.
ضحكنا كثيراً لهذا الحدث الذي صرنا نحكيه كلما سنحتْ فرصة الحديث عن لقائنا الأول..
تعمدتُ زيارتها بمكان عملها بأعذار مختلقة.
ويوماً،، دون مقدمات طلبت يدها للزواج.
تزوجتها في منتصف رمضان ،، ورحلتْ عن الدنيا في نفس اليوم من شهر رمضان بعد خمس سنوات.
توقيت لا يزال يصيبني بالدوار.
تزوجتها في شهر رمضان فأضفى الشهر الكريم قدسية على رباطنا ..
وفارقتني في شهر رمضان فأفاض الشهر على نفسي سكينة التسليم بالقضاء والقدر، أحمد الله عليها كثيراً.
بعد أن تم دفنها عصر ذلك اليوم، قال لي شيخ وقور : لا تغادر مكان قبرها سريعاً لأن الميت يسمع دبيب خطوات أهله وهم يغادرون ،، أجلس وأدعو لها.
جثوتُ على ركبتي طويلاً على حافة قبرها.
لم تسعفني ذاكرتي بشيء أدعو به، فالحزن كان يمسك بتلابيب كياني.
وقفتُ، ثم خطوْتُ بعيداً لأغادر، هاتفني صوتها وكأنه ينساب من قاعٍ سحيق : ( ما تنسانيش من دعواتك )، فعدت ودعوت لها طويلاً ،، أنطلق الدعاء مثل شلال متدفق، سـيل منهمرمن الدعاء النابع من أعماقي، زَخَّات من الدعاء الصادق وأنا أستحضرها أمامي.
ليلتها بالمستشفى ،، أنتفض جسدها،، هرولتُ إليها،، أشارت إلى الورقة والقلم.
كتبتْ ما معناه أنها رأت رجلاً غريباً يمر من أمامها وهو يلبس ثوبا أبيضاً ناصع البياض.
وقفتُ أتلفت حولي، لم يكن هناك أحد غيرنا. شعرت بخوف ورهبة،،، وغرفة الإنعاش تبدو كثلاجة كبيرة، والأجهزة تدق في رأسي بشكل رتيب كموسيقى حزينة، وهي تكتب بتكرار وإصرار أنها رأته يمر من أمامها عدة مرات.
قرأتُ آية الكرسي و اضعاً يدي على جبينها.
شعرتُ أنني أقف على عتبة عالمٍ آخر معها، وأنها ستودعني على بوابة هذا العالم لأعود مرة أخرى إلى دنيانا بدونها وحيداً.
كان قد تكرر لديها حلم واحد كثيراً بعد زواجي منها، في هذا الحلم كانت ترى أنها طائر يقف على غصن شجرة عالية،، يغرد ثم يختفي صوته فيقع هامداً على الأرض.
قرأتُ معظم كتب تفسير الأحلام ،، لم أجد ما يشفي غليلي في تفسير حلمها.
عرفت معناه تماما بعد أن فارقتني سريعاً، كطائر مهاجر يقف على غصن شجرة يتدلى بالقرب من النافذة،، فيغرد ثم ينطلق في رحلة مجهولة،، فتتابعه بنظرك حتى يختفي في الأفق البعيد، فتظل أصداء تغريده تتردد بين جنباتك كموسيقى خلفية لمشهد موغل في الحزن واللوعة والفجيعة.
أشارت لي بيدها أن أذهب لأرتاح.
جلستُ على الكرسي بجانبها،،
غفوتُ قليلاً بسبب الإرهاق جراء السهر المتواصل لعدة ليال ،،
أيقظتني الممرضة قرب الفجر .
كانت أنفاسها تتلاحق،، وعيناها زائغتان ولكن دونما خوف أو وجل،، هرولتْ الممرضة إلى الطبيب،،، اقتربتُ منها،، أمسكتْ بيدي ،، ضغطتْ على يدي بقوة،، عيناها كانتا تقولان الكثير والكثير ،،
ولكنني أجزم بأنها كانت توصيني على إبنتينا للمرة الأخيرة ،،،
صار جسدها بارداً كالثلج،، شخصتْ ببصرها نحوي طويلاً، عرفتُ أنها نظرة مودع،،
وسالت منها دمعة كبيرة منزلقة حتى استقرتْ خلف عنقها،، ارتختْ يدها رويداً رويداً،، وارتسمتْ ابتسامة وادعة على جانب فمها،،
وأشاحت بوجهها مستقبلة الجهة الأخرى،،
وتوقف قلبها الكبير عن الخفقان،،
وكفَّتْ الأجهزة عن الضجيج، وران صمت مهيب على الغرفة.
مددتُ يدي وأغمضت عينيها بحركة آلية،، وسحبت الغطاء عليها،،
وأنا بين مصدق ومكذب،، وكأنني سأغطيها لتنام وتصحو ، لتقول لي : صباح الخير.
لأول مرة أمد يدي وأغمض عيْنَي ميت.
رغم الحزن الجاثم على الصدر،، والرغبة في إطلاق بركان البكاء،، إلا أنني لمحتُ هـالة مضيئة من الاطمئنان على وجهها تدعوني أن أصبر وأحتسب وأن أصمد لأن أمامي أمانة لا بد أن أؤديها لها.
للموت سطوة،، وفي الموت حكمة لا يعلم سرها إلا الملك الجبار.
من التراب إلى التراب، ولله في خلقه شئون.
تداعت هذه الذكرى الأليمة بعد كل هذه السنوات، عندما سألتني صغرى البنات وهي تطيل النظرإلى صورة أمها التي تضعها على طاولتها الصغيرة :
كيف كان صوت أمي ؟
***
جلال داود ( الرياض )
تعليق