حتى يجف من الماء...

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نبيل عودة
    كاتب وناقد واعلامي
    • 03-12-2008
    • 543

    حتى يجف من الماء...

    حتى يجف من الماء...
    قصة نبيل عودة

    كثرت الأقاويل حول ابنة حارتنا جانيت، لوهلة تبدو فتاة جميلة الوجه، سمارها الداكن يعطيها جاذبية خاصة، وشعرها الأسود الطويل المجدل بجدولين يضفي عليها مسحة جمالية تشد الأبصار.
    ولكنها فتاة لا تحب عمل البيت، وتجلس وحيدة معظم ساعات النهار.
    كنا صغارا نتفاجأ من وحدتها ومن عبوسها الدائم في وجوهنا. أهلنا نبهونا ان لا نتعرض لها، لأن الله يحب كل ابنائه مهما كانوا مختلفين .
    لم نفهم مسألة حب الله لأبنائه رغم اختلافهم ، فنحن لم نطرح تساؤلات عن هذا الموضوع. ولم نفهم بالتالي تخوف أهلنا من مضايقتنا لابنة حارتنا جانيت.
    في الحقيقة كنا نسخر منها، ونحاول اثارة غضبها لتلحقنا بفردة حذائها وهي تنط مثل الجندب. هذا الأمر كان يملأنا ضحكا.
    في جيل المراهقة صرنا ننظر الى جانيت نظرات فيها شهوة غريبة لم نعرفها سابقا. كانت حين تحرك ساقيها لتغيير زاوية جلوسها ينكشف بعض فخذها فوق الركبة ، فنهلل بسعادة ونبدأ بإشارات لإثارتها وجعلها دائمة الحركة فوق كرسيها.
    كانت تمضي الأيام على شقونتنا وسؤال واحد يقلقنا ، لماذا لا تشارك جانيت بنات الحارة في العابهن؟ انها فتاة جميلة، بل أجمل من الكثير من بنات الحارة، عاقلة جدا وصموتة جدا الا حين ننجح باخراجها من صمتها وهدوئها.
    قالوا لنا أنها مصابة بلطف الله. لم نفهم لطف الله الا بأنه أضفى عليها حسنة نفتقدها.في فجر أحد الأيام انفجر غضبها على أهلها.. علت شتائمها وطار الزبد من شفتيها، وبصعوبة أمسكوا بها،وهي تقاوم بشراسة بكل قوتها، لم نكن نعرفها بهذه الشراسة والعدوانية.
    ومن يومها غابت جانيت عن حارتنا وغابت عن كرسيها في زاوية بلكون بيتها وبدأنا ننسى جانيت ، وحين نسال عنها يقال انها في مصحة عقلية، وبعضنا قال انها في العصفورية، وتعلمنا ان العصفورية هي مصحة عقلية لمن يصابون بلطف الله وان لطف الله يعني الجنون، وليس حسنة تضاف للشخص الذي يختاره الله للطفه.
    هل حقا كانت جانيت مجنونة، ام انها جنت فجاة في فجر ذلك اليوم؟ نحن نعرف المجانين مشردين في الشوارع ، ثيابهم رثة ووسخة،ويكلمون انفسهم ، ونلحقهم لنضحك على كلماتهم وحركاتهم، ولكن جانيت كانت فتاة مرتبة الثياب ، شعرها دائما بجدولية يتدلى على ظهرها طويلا جميلا تتمناه كل فتاة. رغم شقوتنا ومحاولاتنا لاستفزازها كانت قليلا ما تغضب وتلحقنا بشتائمها. واذا فعلت تعود بعد دقائق الى مقعدها هادئة وكأن شيئا لم يحدث ، مما يجعلنا حقا نلوم انفسنا على ما سببناه لها، ونتعهد ان لا نكرر فعلتنا، وكثيرا ما وصلت شكاوي والدتها لأهلنا، فتعرضنا للعقاب الشديد بسبب تطاولنا على جانيت.
    الشيء الغريب في قصة جانيت انها كانت تحب السباحة وتجيدها، وفي ايام الصيف ترافقها والدتها الى بركة السباحة ، حيث تسبح ولا تخرج من الماء الا بعد رجاء والدتها الطويل . ترى هل هي مجنونة حقا، ام بها مرض آخر ؟ لا تبدو مثل مجانين البلد . بل منعزلة وهادئة، فهل هذا يعتبر جنونا؟ ام مرضا يعالج بسهولة.
    صرنا شبابا ومعظمنا تزوج وصار أبا لأولاد ، وصارت جانيت نسيا منسيا من الماضي، توفيت والدتها وظل والدها العاجز حيا لفترة أطول قليلا، ولكن أختها العانس ظلت في البيت، لم تكن جميلة،بل بشعة الوجه بشكل لا يريح النظر لوجهها، وكثيرا ما قالت والدتي لو ان الله عدل لأعطى وجه جانيت وشعرها الجميل لأختها ليرزقها الله بعريس، وأعطى جانيت الهبلة وجه أختها. وكنت اسمع وقتها تعبير "الهبلة" لأول مرة.
    في فجر أحد الأيام سمعنا حركة سيارات قرب منزل جانيت، وشاهدنا اختها تخرج راكضة لتعانق امراة تنزل من احدى السيارات ، ولولا شعرها المجدل الطويل لما عرفنا انها جانيت. جمالها لم يتغير. تعانقت الأختان، كانت الحارة تبصبص من الشبابيك والبلاكين على هذا اللقاء الذي لم يتوقعه أحد.
    ترى هل عادت جانيت الى وعيها وعقلها؟
    هذا الأسئلة ترددت كثيرا في الأيام الأخيرة. لم تعد جانيت تجلس على كرسيها في البلكون. كانت تتحرك داخل البيت، أحيانا نراها تكنس أو تمسح الأرض، واحيانا تنشر بعض الغسيل. ترى هل اكتمل علاجها؟ هل أعفاها الله من لطفه ؟!
    وبدأت تتجمع الحكايات عن جانيت، قالوا أن تحريرها جاء بعد أثبتت أنها امرأة عاقلة ومسئولة.
    وكيف جرى ذلك؟
    يقال ان احد المرضى في نفس العصفورية، سقط في بركة مياه عميقة، بعد ان تسلق الحاجز، الذي يفصل ساحة المستشفى عن البركة ، وقام ضجيج قوي من الممرضات المرعوبات ، فما كان من جانيت إلا أن ركضت وقفزت فوق الحاجز ، وغاصت وراءه إلى قعر البركة وسحبته إلى سطح البركة وأنقذته من الموت غرقا.. وعليه قرر الأطباء أنها فتاة عاقلة تستطيع أن تعيش وسط الناس بدون مشاكل.
    وبما اننا أقرب الجيران فقد دعونا جانيت وأختها للعشاء في أحدى الأمسيات.
    وبصراحة تصرفت جانيت بشكل طبيعي ، وشكرتنا على الوجبة الشهية، وعندما عرضنا عليها فنجان قهوة اعتذرت بقولها انها لا تشرب الا الشاي فاعدت لها والدتي فنجان شاي.
    كانت صموتة، وترد على التساؤلات بكلمات مقتضبة. وحدثتنا اختها بفخر كبير عن جانيت كيف أنقذت شابا من الغرق،الأمر الذي حدا بأطباء المستشفى أن يحرروها إلى بيتها. وها هي حقا هادئة تتجاوب مع الناس، لا يبدو عليها أمر غريب ، أو غير عادي عن أي شخص لم يصيبه الله بلطفه.
    سالتها ونحن نجلس في الصالون بعد العشاء:
    - وهل ما زلت تحبين السباحة يا جانيت؟
    - السباحه اجمل ما في الحياة.
    ولم تخافي من الغرق عندما قفزت لإنقاذ زميلك المريض؟
    هزت رأسها مبتسمة :
    - ولماذا أخاف ، أنا سباحة ماهرة؟
    - وهو هل تحسنت حالته ؟
    - للأسف لا .
    قالتها بحزن شديد.
    - هل مات متأثرا من غرقه؟
    - مات معلقا من رقبته في الحمام؟
    - هل انتحر؟
    - لا لم ينتحر.
    - ولماذا شنق نفسه في الحمام؟
    - لم ينتحر. أنا علقته ليجف من الماء...
    nabiloudeh@gmail.com





  • ريما ريماوي
    عضو الملتقى
    • 07-05-2011
    • 8501

    #2
    قفلة رهيبة عجيبة
    تمتعني قراءتك دائما استاذي العزيز
    لك مودتي وتقديري, احلى تحياتي.


    أنين ناي
    يبث الحنين لأصله
    غصن مورّق صغير.

    تعليق

    • سالم وريوش الحميد
      مستشار أدبي
      • 01-07-2011
      • 1173

      #3
      الأستاذ الأديب تبيل عوده
      حين قرأت قصتك أحسست وكأني أطالع تقريراً عن فتاة أسمها جانيت ، أُجبرت على تتبع الأحداث ، لالالشئ لكني كنت مقاد عنوة الى معرفة ما سيأول اليه الحدث مالذي يريده الكاتب في هذا التعاقب الزماني من الطفولة وحتى الشباب في قصة لاتتجاوز الصفحتين ، ضربة المعلم كانت في النهاية وهذا التسلسل كان مقصودا ، ولم يكن مجرد حشو لامبرر له ،وهذه حسنة القصة القصيره فرغم قصرها وتقليصها للأحداث ، الاأنها تعطي مساحات من التفكير والأحتمالات ، كل سطر منها يجعل القارئ يغير استنتاج اوفكرة طرأت، أنها تحرك العقل والوجدان معاً ، النهاية هي المعنية بكشف مايريد أن يصل أليه الكاتب فكانت بحق ضربة معلم أستطاع أن يحرك الشخوص بتركيبة غريبة ، فالراوي يرى جانيت بعدة أشكال عند الطفوله ، كان يرى في جانيت البراءة والطفوله والجمال وفي فترة المراهقة تغيرت نظرته اليها جعلت من الدوافع الغريزيه موضوع آخريحرك شكل نظرته منها، وحين يصل الى فترة الشباب ينظر الى جانيت من جانب أكثر عقلانيه، أن عملية التغير الفسيولوجي والنفسي عند الأنسان تعطيه هذا الأختلاف بالرؤيا هذا ماأراد أن يثبته الكاتب ، انا حين أقرأ للأستاذ نبيل تتبدل أفكاري كهذا التغير الذي يحدث في نمو الأنسان ، فتقودني أفكاري الى تحليلات سيكلوجية تتعامل مع الكاتب بحيث إني اريد الغوص في دفائن مكنوناته ، ومعرفة مايخبئه من قصدية .. شكرأ لك
      ( مزحه ) هل لديك جانيت تنقذني من غرقي الدائم في بحور القص هذا.............!
      على الإنسانية أن تضع حدا للحرب وإلا فسوف تضع الحرب حدا للإنسانية.
      جون كنيدي

      الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية

      تعليق

      • مرام اياتي
        أديب وكاتب
        • 19-06-2011
        • 61

        #4
        قصة رائعه
        قفلة اروع
        شكرا لك استاذي
        تقبل مروري المتواضع
        دمت بخير

        تعليق

        • نبيل عودة
          كاتب وناقد واعلامي
          • 03-12-2008
          • 543

          #5
          شكرا للزملاء الثلاثة على مرورهم لزيارة جانيت ..
          حقا يا ريما ما يصنع القصة ليس بدايتها وسردها ، بل قفلتها.. القفلة هي طرح الرؤية العامة الشاملة للكاتب ، من نفس المنطلق تؤكد مرام على نفس النقطة، بل ومعظم القراء الذين وردتني تعليقاتهم يعتبرون النهايات في قصصي هي الأبرز ..الأستاذ سالم يسترسل بشكل جميل وراء لعبة الكاتب ويطرح رؤية واعية صحيحة للعبتي الفنية في هذا النص. السرد عادي، وصفي اخباري بطريقة ما، ولكنه تمهيد ، يشد القارئ بليونة ليعرف اشكالية جانيت، اما غير المتوقع ان اقوده الى عمق جنون جانيت.الجنون ليس فقدان القدرة على التواصل مع الناس ، انما فقدان القدرة على التمييز بين ما يجور وما لا يجوز، ما هو سليم وما هو غير سليم، ما يمكن ان نقوم به لتجفيف قطعة قماش وما لا يمكن ان نقوم به لتجفيف انسان ..

          تعليق

          • الهويمل أبو فهد
            مستشار أدبي
            • 22-07-2011
            • 1475

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة نبيل عودة مشاهدة المشاركة
            شكرا للزملاء الثلاثة على مرورهم لزيارة جانيت ..
            حقا يا ريما ما يصنع القصة ليس بدايتها وسردها ، بل قفلتها.. القفلة هي طرح الرؤية العامة الشاملة للكاتب ، من نفس المنطلق تؤكد مرام على نفس النقطة، بل ومعظم القراء الذين وردتني تعليقاتهم يعتبرون النهايات في قصصي هي الأبرز ..الأستاذ سالم يسترسل بشكل جميل وراء لعبة الكاتب ويطرح رؤية واعية صحيحة للعبتي الفنية في هذا النص. السرد عادي، وصفي اخباري بطريقة ما، ولكنه تمهيد ، يشد القارئ بليونة ليعرف اشكالية جانيت، اما غير المتوقع ان اقوده الى عمق جنون جانيت.الجنون ليس فقدان القدرة على التواصل مع الناس ، انما فقدان القدرة على التمييز بين ما يجور وما لا يجوز، ما هو سليم وما هو غير سليم، ما يمكن ان نقوم به لتجفيف قطعة قماش وما لا يمكن ان نقوم به لتجفيف انسان ..
            الاستاذ نبيل عودة

            تحية طيبة

            القصة جميلة ورائعة بقفلتها. لكن ربما يكون السؤال ما الذي جعل القفلة جميلة وغير متوقعه؟ أعتقد أن البساطة في السرد، والعادية في نقل التفاصيل، هي التي شحنت القفلة بتأثيرها. فتصرفات جانيت كانت شبه عادية وردات فعلها على شيطنة الصبيان متوقعه ومقبولة إلى حد كبير، رغم ايحاء القصة بشيئ من الغموض الذي ليس له ما يبرره غير ما ينقله لنا الراوي. التهيئة الوحيدة للتجفيف وما هو غير مألوف هي قدرتها على السباحة. ثم ان اختفاءها تحت "لطف الله" لمدة هيأ القارئ لعملية الأنقاذ وهو أمر متوقع ومقبول. حتى صرفها من المصحة بعد هذه العملية البطولية أمر مقبول، ولربما متوقع. فالقارئ لا يعلم عنها غير ما هو شبه مقبول وعادي. بل أن المرء ليستغرب لماذا هي في المصحة، ولماذ "لطف الله" يقتضي مثل هذه الحالة! ما هو غير مقبول وغير متوقع هو القفلة فقط بعد تراكم هذا الكم الهائل مما هو مقبول وشبه عادي جدا. فالقفلة لا تؤكد وحسب على عدم سلامتها الذهنية بل على أيضا عدم سلامة قرار الأطباء الذين ربما هم أحوج من غيرهم لوصوف "لطف الله"!

            ولك التحية والتقدير

            تعليق

            • نبيل عودة
              كاتب وناقد واعلامي
              • 03-12-2008
              • 543

              #7
              مداخلة جميلة تحاكي منطق الأشياء ..القصة هي كذبة متفق عليها بين الكاتب والقارئ ، حسب تشيخوف، وانا أميل لهذه الفكرة ، لأننا ندمج بين الواقع وبين التخيل.. أي بين جزء من الحقيقة وبين ما نختلقه لبناء الصورة الجديدة.
              من تجربتي توصلت لقناعة ان افضل اسلوب للصياغة القصصية هو الأبسط لغويا.. بدون فذلكات وتلاعب لابراز القدرات.. اللغة الأقرب للمحكية، أي الفصحى البسيطة، هي الأكثر اندماجا بالمناخ الثقافي السائد في اوسع اوساط فئات مجتمعنا..
              القصة بالطبع لها شروطها، ولا أعني ما يطرحه المنظرون. انما شروط معرفة صياغة لغة درامية، وكيف تبدأ النص، ما هو المهم، وكيف تنهي النص.. ودائما الكاتب يجب ان يفحص كاول ناقد لنصه، هل نجح باثارة عنصر الدهشة ؟ وهل قدم عملا يستحق القراءة واثارة المفاجأة؟ اللغة دورها هام. وأهميتها بمعرفة الكاتب قراتها التعبيرية ، والتحكم بكل المقاطع ، وفهم دقيق لعقلية أبطاله بحيث يطلقهم أحرارا وليسوا دمى يحركها.
              التعديل الأخير تم بواسطة نبيل عودة; الساعة 09-08-2011, 15:35.

              تعليق

              يعمل...
              X